मा वारा अडयान
ما وراء الأديان: أخلاقيات لعالم كامل
शैलियों
إنني أتذكر جيدا الاستجابة العالمية لإعصار تسونامي الآسيوي الذي حدث في ديسمبر من عام 2004. لقد فاجأني فيض الاهتمام العام الذي أعقب تلك الكارثة، ورأيت أنه تمثيل قوي لوحدتنا كعائلة بشرية. ولم تكن تلك حالة منفردة. ذلك أن هذه الاستجابة قد تبعتها استجابات عالمية مشابهة من الرعاية والاهتمام بالمآسي الأخيرة. ففي عصر تنتقل فيه الأخبار بسرعة كبيرة في جميع أنحاء العالم، نما إحساسنا بالمجتمع واهتمامنا بمن يبعدون كثيرا عنا، على نحو هائل. في أوائل القرن العشرين، كانت المشاعر القومية قوية للغاية، بينما كان الوعي بإنسانيتنا ككل ضعيفا للغاية. ففي تلك الأيام، كان الناس أقل وعيا بما يحدث في مناطق أخرى أو قارات أخرى. أما الآن، فمع نقل وسائل الإعلام العالمية للأخبار بهذه السرعة، أصبح لدينا وعي أعمق بالترابط بين الناس في كل مكان. وإلى جانب هذا، يبدو أن اهتمام الناس بالبشرية جمعاء، وإدراكهم لقيمة حقوق الإنسان الأساسية يتعمق أيضا . وبالنسبة إلي، فإن هذا التوجه مصدر كبير للتفاؤل بشأن المستقبل.
إن التحلي بهذا النوع من الاهتمام بجميع إخواننا من البشر لا يتطلب منا أن نكون أشخاصا مميزين من أي نوع أو قديسين. فعلى العكس من ذلك، تكمن هذه الرأفة الشاملة لدى كل منا. خلال الديكتاتورية النازية مثلا، بذل بعض الألمان كل ما في وسعهم لحماية اليهود وإنقاذهم، مع تعريض حياتهم نفسها لخطر جسيم. وعندما سئلوا عن سبب قيامهم بذلك، أجاب معظمهم بأنهم شعروا بأنه واجب عليهم، وأن أي شخص كان ليفعل مثلما فعلوا لو كان في موقفهم. وقد كان هؤلاء الأشخاص عاديين تماما، مثلي ومثلك. فمن خلال التعاطف؛ ذلك الاهتمام بإخواننا من البشر، يصبح الجميع قادرين على القيام بأعمال بطولية مماثلة.
ربما لا يزال بعض القراء يشعرون بشيء من الرفض لفكرة الرأفة العالمية. فبينما يروق لهم هذا التوجه حين يتبناه الآخرون، قد يشعرون بأن تحليهم به سوف يستلزم منهم تحمل مسئولية «ويلات العالم»، وأنه ليس لديهم متسع لكل هذه المعاناة الإضافية في حياتهم. وبمعنى محدود، فمن الصحيح أن الاهتمام بالآخرين ينطوي على المشاركة في مصاعب لا تخصنا. رغم ذلك، فإن التعب النابع من مشاركة ألم الآخرين يختلف تماما عن اختبار معاناتنا الشخصية على نحو مباشر. عندما تتعاطف مع شخص في ضائقة، قد تشعر في البداية ببعض الإرهاق النفسي. لكن اختيارك الطوعي بالانفتاح على صعوبات ذلك الشخص الآخر يظهر شجاعة، والشجاعة تمنح الثقة. وعلى النقيض من ذلك، عندما يكون الألم ألمك، فأنت لا تمتلك مثل هذه الحرية أو الاختيار. الفرق بين الحالتين واضح إذن.
علاوة على ذلك، على الرغم من أن الرأفة تنشأ من التعاطف، فإن الاثنين ليسا سواء. يتميز التعاطف بكونه نوعا من الرنين العاطفي؛ أي مشاركة مشاعر الشخص الآخر. أما الرأفة، فهي لا تقتصر على مشاركة الخبرات مع الآخرين، بل تنطوي أيضا على الرغبة في رؤيتهم وقد ارتاحوا من معاناتهم. إن التحلي بالرأفة لا يعني أنك ستظل على مستوى الشعور بالكامل، وهو الأمر الذي قد يكون مستنزفا للغاية. فبالرغم من كل شيء، لم يكن الأطباء المتحلون بالرأفة ليصبحوا فعالين بقدر كبير إذا ظلوا منهمكين على الدوام في مشاركة مرضاهم في آلامهم. فالرأفة تعني الرغبة في القيام بشيء ما للتخفيف من مصاعب الآخرين، وهذه الرغبة في المساعدة، بعيدة كل البعد عن جذبنا أكثر إلى الشعور نحن أنفسنا بالمعاناة، بل هي تمنحنا في واقع الأمر الطاقة والإحساس بالغاية والاتجاه. وعندما نتصرف بناء على هذا الدافع، فإننا نستفيد أكثر، نحن ومن حولنا.
بالرغم من ذلك، بما أن الرأفة الشاملة تنطوي على توسع تدريجي لدائرة اهتمام المرء بحيث تشمل في النهاية البشرية كلها، فإنها تحتاج إلى تنمية مستمرة. ومن خلال توظيف ذكائنا وقناعتنا بضرورتها وقيمتها، نتعلم تدريجيا كيفية تمديد نطاق اهتمامنا وتوسيعه، نبدأ بعائلتنا القريبة أولا، ثم نضمن كل من نتعامل معهم، بما في ذلك أعداؤنا بصفة خاصة، ثم عائلتنا البشرية بأكملها، وحتى جميع الكائنات. (3) التدريب على الرأفة
أولئك الذين يؤمنون بالأديان لديهم موارد غنية لتنمية الرأفة، ويمكن للنهج الدينية أن تقدم موارد عظيمة للإنسانية بأكملها. لكن الدين ليس ضروريا لتنمية الرأفة. فثمة أساليب علمانية للتدريب على الرأفة تستخدم بالفعل، بل إن فعاليتها قد أثبتت علميا أيضا. يبدو أن تنمية القيم الداخلية تشبه التمارين البدنية إلى حد كبير. كلما دربنا قدراتنا بدرجة أكبر، أصبحت أكثر قوة. فعلى سبيل المثال، أظهرت أبحاث علم الأعصاب التي أجراها صديقي القديم البروفيسور ريتشارد ديفيدسون أنه حتى الفترات القصيرة من التدريب على الرأفة، حتى وإن كانت بقصر أسبوعين فحسب، يمكن أن تؤدي إلى تغييرات يمكن ملاحظتها في أنماط الدماغ، إضافة إلى زيادة النزعة تجاه العطاء الخيري. إنني آمل أن يمهد مثل هذا البحث الطريق لإدخال التدريب على الرأفة في المدارس، وهو أمر قد يكون مفيدا للغاية. ذلك أن التعليم الحديث يرتكز بدرجة كبيرة على القيم المادية. لكن مثلما أشير في كثير من الأحيان، من الضروري ألا نهمل تثقيف قلوب أطفالنا بينما نثقف عقولهم، وتغذية طبيعة الرأفة لديهم من العناصر الأساسية في تثقيف القلوب. وسوف أعود إلى مناقشة هذا الموضوع فيما بعد.
الفصل الخامس
الرأفة ومسألة العدالة
(1) مسألة العدالة
في عدد من المناسبات الأخيرة، اعترض أشخاص مفكرون من المتعاطفين مع فكرة الأخلاق العلمانية على اقتراحي بأن الرأفة يمكن أن تكون الأساس لمثل هذا النظام العلماني. ذلك أن كثيرين على ما يبدو، يجدون تضاربا بين مبدأ الرأفة الذي ينطوي على العفو، وبين ممارسة العدالة التي تتطلب معاقبة المخالفين. وهم يرون أن مبدأ العدل أو الإنصاف هو المبدأ الذي ينبغي أن يدعم أي نهج إنساني للأخلاق، وليس مبدأ الرأفة. تتمثل حجتهم في ذلك في أن إعطاء الأولوية للرأفة والعفو من شأنه أن يسمح للمجرمين بالفرار من العقاب وينصر المعتدين. ويقولون إن أخلاق الرأفة لا تختلف كثيرا عن أخلاق الضحية، التي ينتصر العدوان فيها دائما، وتغفر الاعتداءات على الدوام، ويصبح الضعفاء عاجزين دون دفاع.
अज्ञात पृष्ठ