ثم جاءت النهضة الثالثة أو الحركة البشرية الثالثة في منتصف القرن الماضي حين ظهر كتاب داروين «أصل الأنواع» سنة 1859، فجعل التفكير في الأصل والحال والمصير للإنسان تفكيرا بشريا، وهنا يجب أن نلتفت إلى سمات النهضة أو النهضات الإنجليزية، فإنها كانت في الأغلب تنزع نحو العلم وليس نحو الدين أو الأدب، فقد ظهر فيها روجر بيكون قبل 700 سنة فتنبأ بالميكانيات، حتى الطائرات، وذكر قيمة التجربة المتكررة كأنها الأساس الذي يجب أن تنبني عليه المعارف، ثم جاء سميه اللورد بيكون في بداية القرن السادس عشر فوضع برنامجا للنهضة العلمية، ثم بعد ذلك جاء نيوتن فصبغ الذهن صبغة ميكانية «آلية» وهو الأصل في هذه الأزمة الحاضرة؛ لأنه هو الذي أوجد النزعة إلى اختراع الآلات، هذه الآلات التي طردت وما زالت تطرد العمال من المصانع وتحدث العطل.
وهذا العطل هو في نظر العالم فراغ ونعمة، وهو في نظر الجاهل فاقة ونقمة، ولكن رويدا رويدا سيعرف السياسيون أن الإنسان يمكنه أن يحيل على الحديد والنار أو على البترول والفحم والقوة الكهربائية الكد والعناء للإنتاج، وأنه يمكنه أن يستمتع بالفراغ دون أن يشعر بهوان العطل.
ولكن داروين أحدث نهضة جديدة تختلف من النهضة التي أحدثها نيوتن، وإن كانت كلتا النهضتين علمية، ولكن الأولى للميكانيات والثانية للبيولوجيات، الأولى تعالج الحديد وتؤثر بذلك في مقدار الإنتاج من المحصولات الزراعية والإنتاج الصناعي. أما الثانية فتعالج، أو سوف تعالج، الجسم البشري لا بل الذهن البشري، وموضوع كتاب داروين يتلخص في أن الإنسان والحيوان يرجعان إلى أصل واحد، والموضوع يبدو بسيطا لنا الآن، ولكن الحرب القلمية التي قامت بين رجال الدين وبين الداروينيين مدة أربعين سنة تقريبا في جميع أنحاء أوروبا تدل على أن القرون الوسطى لم تكن قد ماتت حتى في نهاية القرن الماضي.
ونحن الآن في غمرة هذه النهضة، وفي أوروبا الآن بدايات فجة للانتفاع بها، ولكنها مع فجاجتها تومئ إلى مستقبل حافل بالاحتمالات التي قد ترفع السلالات البشرية إلى مستويات من السعادة والكفاءة الصحية والاجتماعية لم نحلم بها من قبل.
فما هو إن استفاض المذهب القائل بأن الإنسان والحيوان من أصل واحد حتى أخذت الأبحاث تنتشر عن مصيره في المستقبل؛ لأن منطق النظرية في الماضي يجب أن تكون له دلالته في المستقبل، وما دام الإنسان كان حيوانا ثم ارتقى، فلماذا يقف عن الارتقاء، ولماذا لا ندرس الوسائل التي استخدمت لهذا الارتقاء في الماضي وننتفع بها في المستقبل؟
ومن هنا رأينا الخياليين الذين يدعون إلى «السوبرمان» أو الإنسان الذي يرجى أن نستنتجه، فيكون منا كما نحن من القردة مثلا، كما رأينا العلميين الذين اخترعوا علما أو فنا جديدا هو «اليوجنية» وهو البحث عن الوسائل السلبية والإيجابية التي تعمل لرقي الذريات القادمة وحمايتها من الأمراض وزيادة كفاياتها.
ومن هنا أيضا نشأ الرأي القائل بالتعقيم، فصارت الحكومة تعقم الرجل أو المرأة إذا اعتقدت أن بهما مرضا جسميا أو عصبيا قد يرثه نسلهما، بل بعض الحكومات استعملت التعقيم لحسم المنازعات الإجرامية في بعض الأفراد الذين يثبت عليهم العجز عن السلوك الحسن.
وواضح أن هذا المنطق الجديد، منطق ترقية النسل واليوجنية والتعقيم، يرجع إلى نظرية التطور التي قال بها داروين؛ لأن هذه النظرية جعلتنا ننظر نظرا «بشريا» لمصير الإنسان، ونأخذ بيدنا معالجة ذهنه وجسمه، وتخيل الأخيلة عنهما، لا بل تعيين صفاتهما في المستقبل، وقد أصبحنا نجرب التجربة السيكلوجية في الكلب لكي نستنتج منها النتيجة في تلميذ المدرسة، ونلقح الحيوان بالأمصال لكي نستخرج منها العقاقير للإنسان.
ونحن من هذه «الحركة لبشرية الثالثة» في خلط واضطراب، نتخبط في الموازنة في الموازنة بين الوراثة والوسط، أو نقسو بدعوى تنازع البقاء، أو نكسب العصبية السياسة لونا بيولوجيا، أو نقف موقف الحيرة بين المادية والحيوية، وكل هذا لأننا ما زلنا في غمرة هذه النهضة الجديدة.
ولكنا عندما نؤرخ يجب ألا نتعامى عن التجانس في هذه النهضات المتوالية في أوروبا منذ القرن الخامس عشر، فإنها جميعا تتسم بسمة البشرية.
अज्ञात पृष्ठ