ومن الأقوال المألوفة إن أرازموس حضن البيضة التي فقسها «لوثر» المصلح الألماني وزعيم البروتستنتية، وذلك بما كان يؤلفه عن الفضائح في الديورة، وعن جهل القسوس وتعصبهم، وعن سخافات الرهبان ونحو ذلك، حتى إذا جاء لوثر وجد الحنق عاما في قلوب الجماهير، فاستطاع أن يعمم بينهم دعوته على البابا والكهان، وكل من أرازموس ولوثر هو في حقيقته داعية إلى الديمقراطية الدينية.
فالعلم الذي عاش فيه أرازموس هو عالم الكتب القديمة، والموضوع الذي اختاره للتأليف هو الإصلاح الديني، وتقويم الأخلاق في أسلوب يلهي ويسلي، ولا يزال لأرازموس سلالة تنتمي إليه بصلة الثقافة وتعيش على طريقته وتهتم لهمومه.
أما الطراز الثاني فهو طراز دافينشي الذي لم يؤلف كتابا، ولعله أيضا لم يقرأ كتابا قديما، ولكنه كان موسوعي الثقافة فيما عدا ذلك، يرسم وينحت ويبحث الرياضيات ويخترع، فقد اخترع طواحين تدور رحاها بتيار الماء، واخترع دبابات حربية ومدافع، وبحث عن البارود وكيف يؤلف، وحاول أن يستعمل قوة البخار للسفن، وفكر في خرق نفق تحت الجبال، وأوشك أن يهتدي إلى نظام الدورة الدموية في الإنسان، واخترع طيارة وجربها بالفعل ثم كف عن هذه المحاولة الخطرة بعد أن أصيب منها أحد تلاميذه، واستطاع أن يقسم المملكة الحيوانية إلى فقاريات وغير فقاريات، وبحث واهتدى قبل «كوبرنيكوس» إلى حركة الأرض.
هذان هما طرازان بارزان لرجال النهضة: أحدهما رجل الأدب والكتب، والتاريخ والسمر والقصص، والوعظ والنظر إلى الماضي، والآخر رجل العلم الذي لا يقرأ إلا قليلا ولا ينظر إلا إلى المستقبل، وهو دائب في الاختراع، والعالم بالطبع في حاجة إلى الاثنين، وإن كان أبناء المستقبل سيبالون رجل العلم أكثر جدا مما يبالون رجل الآداب.
من موضوعية بيكون إلى مادية هوبز
إذا ذكرنا النهضة الأوروبية مثل للذهن رجلان، كلاهما يعرف باسم بيكون وكلاهما إنجليزي: الأول هو «روجر بيكون» الذي ولد في 1214 وهلك في 1294. والثاني هو «فرانسيس بيكون» الذي ولد في 1561 وهلك في 1626.
ومع الزمن الطويل الذي يفصل بين الاثنين نجد تشابها في النزعة أو اشتراكا في الطريقة يوهمنا الاتصال الذهني بينهما، وقد كان هذا الاتصال توهما فقط لا يزيد عن الرجم والظن، ولكن اتضح من الأبحاث التاريخية الحديثة أن بيكون الثاني قد عرف سميه الأول، وقرأ مؤلفاته على استاذه «جلبرت». وأولئك الذين يؤمنون بتسلسل الثقافة يجدون في هذا الاتصال دليلا جديدا يؤيد نظريتهم في هذا التسلسل، فإنه قلما يحدث أن يشترك اثنان في اكتشاف أو اختراع، فإذا وجدنا مثل هذا الاشتراك وجب علينا أن ننظر إليه نظرة الريبة والشبهة.
ونحن عندما نتكلم عن النهضة الأوروبية نقصد إلى تلك الثورة التي أصابت الذهن الأوروبي فوقف فجأة عن متابعة السير في ثقافته، وأخذ يتساءل هذا السؤال المؤلم: هل الطريقة التي أتبعها في الدرس حسنة أم سيئة؟
هذا هو الموضوع الذي شغل أذهان رجال النهضة من الأدباء والعلماء، فإن الشك فشى على أذهانهم فشرعوا ينتقصون من قيمة ما يدرسونه من المعارف ويصرحون لأنفسهم بأن طريقة جمع المعارف التي ألفوها منذ الصغر هي طريقة مخطئة، وأنه يجب ابتكار طريقة جديدة.
وقبل أن نبسط الكلام في الطريقة الجديدة، التي هي أساس النهضة، بل أساس الثقافة الحديثة، يجب أن نشرح في كلمة مختصرة تلك الطريقة القديمة التي ثار عليها رجال النهضة.
अज्ञात पृष्ठ