هي درس الكتب التي لا تتصل بالدين، كأن الإنسان قد يشعر في النهضة أن آفاق الذهن تتسع لغير الدين، وأنه يجب عليه أن يحقق السعادة في هذه الدنيا، وهذه الحركة تسمى «الحركة البشرية»؛ لأن الناهضين اعتمدوا فيها على درس المؤلفات البشرية زيادة على درس المؤلفات الدينية. (3)
أما النزعة الثالثة:
فهي الحركة العلمية، وهذه لقيت بذرتها الأولى في الأندلس عند العرب، وتكاد تكون اكتشافا جديدا للدنيا؛ لأنها اعتمدت على التجربة.
والقرون الوسطى لم تنته بتاريخ معين، فإن سنة 1453 هي حد عرفي لنهايتها، ولكنها كانت في الحقيقة تنزاح عن الأذهان كما ينزاح الليل رويدا رويدا؛ ولذلك نجد بعد القرن الحادي عشر اضطرابات ذهنية، كأنها ارتكاض الجنين في الرحم، تنذر بالميلاد القادم، ونحن نذكر هنا رجلين عاش كلاهما في القرون الوسطى ونزع كلاهما نحو النهضة.
وأولهما هو أربيلا (1079-1142) فإنه كان رجل دين قبل كل شيء، ولكنه دعا إلى الشك وجعل منه أساسا للإيمان الصحيح، وعنده إننا إذا اصطدمنا بشيء لا يتفق مع العقل وجب علينا أن نعود للضمير، وهو يعتقد أنه ليس شيء في الدين لا يتفق والعقل، ولكن إذا استبهم علينا شيء من ذلك فإن علينا أن نلجأ إلى ضميرنا، ومع أنه قال ذلك في حذر، بل في اعتذار، فإن مؤلفاته حرمت بأمر من البابا.
وأما الثاني فهو توماس الاكويني (1225-1274) فإنه ألف في التوفيق بين العقل والدين، وهذا التوفيق هو في النظر الحديث تلفيق.
ولكنه مع ذلك محاولة من المحاولات الأولى للخروج من قيود الجزم إلى ميدان الرجم أو الخروج من النقل إلى العقل، فهو مثلا يعصر ذهنه كي يصل إلى استنتاجات منطقية تثبت وجود الله، ثم يبرر وجود الدين بأثره في الأخلاق، بما فيه من زواجر تزجر عن الشر والعدوان.
ففي كلا الرجلين نرى جراءة على التفكير، ولكنا نرى ما هو أحسن من الجراءة في ذلك الزمن، وهو الرغبة في درس الكتب الأخرى التي لا تمت إلى الدين، فكلاهما يدعو إلى الثقافة البشرية وإلى درس الكتب الوثنية القديمة.
وهنا إذن نوى بذرة هذه الحركة البشرية التي ترى على أقواها في النهضة، وخلاصتها أن الثقافة يجب ألا تقتصر على درس الدين بل يجب أن تتجاوز ذلك إلى ما ألفه الناس أيضا، وأن الإنسان يجب عليه أن ينشد السعادة الدنيوية بدرس الثقافة البشرية، كما عليه أن ينشد السعادة الأخروية بدرس الثقافة الإلهية.
وكما كانت «الغيبيات» مزاج المثقفين في القرون الوسطى أصبحت «البشرية» مزاج المثقفين في أيام النهضة، ومن هنا هذه الحركة، بل هذه الحمى، التي أصابت العقول في أيام النهضة، فإن المدارس والمجامع والأفراد نهضوا فجأة يبحثون عن الكتب القديمة بين مخلفات الإغريق والرومان، ويدأبون في درسها ومناقشة آرائها لا يبالون بما فيها من كفر أو وثنية. •••
अज्ञात पृष्ठ