मा बाद हदाथा: मुकद्दिमा क़सीरा जिदा
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
शैलियों
اعتبارهم أن التحقيق العلمي الذي يقومون به مسعى نزيه لاكتشاف حقائق حول عالم الواقع، يمكن تطبيقها تطبيقا عالميا؛ أي إنها صحيحة في كل مكان، ومستقلة تماما عن أي قيود ثقافية محلية، ومستقلة على وجه التحديد عن أي من الدوافع الأيديولوجية أو الأخلاقية الخفية نوعا ما، التي ربما أوحت إليهم باكتشافاتهم.
يرى أتباع ما بعد الحداثة - النسبيين إلى حد كبير - أن العلماء لا يسعهم التمتع بتلك الامتيازات؛ فهم لا يروجون إلا ل «قصة واحدة بين قصص كثيرة»، فضلا عن أن حججهم لا يمكن الاستدلال عليها؛ فهم لا «يكتشفون» طبيعة الواقع بقدر ما «يصوغونها»؛ ومن ثم فإن عملهم معرض لشتى أنواع التحيزات والمجازات الخفية التي شهدنا كيف كشف عنها التحليل ما بعد الحداثي في الفلسفة واللغة العادية المألوفة. كذلك ينبغي ألا تكتفي الأسئلة الرئيسية المطروحة حول العلم بالتركيز على مزاعمه المبالغ فيها (والمتمركزة حول اللغة) بامتلاك الحقيقة، بل ينبغي أن تركز أيضا على الأسئلة السياسية التي تثيرها مكانته وتطبيقه المؤسسي، اللذان تشكلهما المخططات الأيديولوجية لدى النخب المهيمنة. تعكس هذه الرؤية صورة متطرفة من النسبية التي واجهناها من قبل؛ إذ إن الهجوم على العلم لا ينصب فقط على التفسيرات الفلسفية للعالم - التي طالما ظلت محل نزاع - بل يشمل كذلك التحليلات المثبتة تجريبيا حول طبيعة العالم (سواء في مجال الطب وتطوير الكمبيوتر أو في علم الطيران وصناعة القنابل) التي نجحت في إثبات «صحتها» على ما يبدو.
سنحتاج عند دراسة هذا الهجوم ما بعد الحداثي إلى مراعاة الفصل قدر الإمكان بين القضية المعرفية والقضية الأيديولوجية لدواعي الوضوح. وبالطبع، فإن النقطة التي يرغب من أتباع ما بعد الحداثة التفكيكيون وأتباعهم في إثباتها هي أن هاتين القضيتين - من منظورهم - لا يمكن الفصل بينهما على الإطلاق. لكني أرفض ببساطة افتراض كونهم على حق؛ فمن الواضح تماما وقطعا أن «دوافع» الاكتشاف العلمي وعواقبه عرضة للنقد السياسي والأخلاقي، وهو أمر ليس بجديد، فالكثير ممن عملوا في مشروع صنع القنبلة الذرية - لا سيما روبرت أوبنهايمر - كانوا يدركون ذلك تمام الإدراك. أما ميكانيكا الكم والهندسة الوراثية ومعلوماتنا العلمية حول المناخ العالمي، فتربطها بالتأكيد علاقات مختلفة إلى حد مثير للاهتمام مع تمويل الأهداف العسكرية والسياسية الغربية ومساعي تحقيقها. لكننا نستطيع قبول تلك الأحكام السياقية دون أن نزعم بناء عليها فشل أنشطة العلماء الرئيسية، بطريقة أو أخرى، في الوصول إلى أكثر طريقة مضمونة في وسعنا استخدامها لتحليل الطبيعة. يوجد قطعا شيء عجيب للغاية في الاعتقاد بأن أنشطة العلماء أثناء البحث - على سبيل المثال - عن قوانين سببية أو نظرية موحدة، أو عند التساؤل عما إذا كانت الذرات تذعن حقا لقوانين ميكانيكا الكم؛ هي بطريقة ما أنشطة «برجوازية بطبيعتها»، أو «ذات توجه أوروبي»، أو «ذكورية»، أو حتى «مشبعة بالروح العسكرية».
يرجع هذا - على الأقل جزئيا - إلى أن حقائق العلم تبدو في واقع الأمر حقائق قاطعة لدى الاشتراكيين، والأفريقيين، والنسويين، والعلماء دعاة السلام على حد سواء (رغم أن بعض الأفراد في تلك الفئات ينكرون ذلك)، على عكس حقائق السياسة أو الدين؛ إذ لا يقبل العلماء التجريبيون سوى الحقائق التي تتسم بإمكانية التطبيق الشامل، مثل أن الأسبرين يجدي في جميع الحالات، فتلك إحدى الحقائق التي لا يقبلون النظر إليها من منظور نسبي (سياسيا أو ثقافيا). وعلى الرغم من أن في وسع أي عالم ذكر حالات أدى فيها الضغط السياسي إلى أبحاث علمية عديمة الفائدة (مثلما حدث عندما فرض الاتحاد السوفييتي وجهة نظره الرسمية في علم وراثة النباتات، والتي عرفت باسم الليسينكووية)، وأخرى مفيدة (كما حدث في أثناء دراسة مرض الإيدز)؛ فإن نتائج تلك الأبحاث ستظل على المدى الطويل محصورة ضمن جماعة العلماء فحسب إذا التزموا بالاختبارات المعتادة، المنفصلة عن أي سياق سياسي.
يقوض أستاذا الفيزياء، آلان سوكال وجان بريكمو، مزاعم نقاد علم ما بعد الحداثة؛ حيث يشيرون إلى أنهم غالبا ما يبدون فشلا ذريعا في فهم مزاعم العلم التجريبية وطرق تطبيق المصطلحات النظرية الرئيسية، وكثيرا ما يستبدلونها - عندما يطبقون أنماط الفكر العلمية على العالم السياسي - بعدد كبير من المجازات المضللة والغامضة والمتحيزة. يترتب على ذلك - حسب كلمات سوكال وبريكمو - «غموض وحيرة، ولغة مبهمة عن قصد، وتفكير مشوش، وإساءة استخدام للمفاهيم العلمية.» على سبيل المثال، يزعم جان بودريار أن في حرب الخليج «أصبح فضاء الحدث فضاء فوقيا ذا انكسارات ضوئية متعددة، وأصبح «مجال الحرب دون شك نطاقا لا إقليديا».» يعلق سوكال وبريكمو على هذا زاعمين أن مفهوم «الفضاء الفوقي» المطروح هنا «لا يوجد ببساطة في الفيزياء أو الرياضيات»، وأنه لا جدوى من التساؤل عن ماهية مجال الحرب الإقليدي، فضلا عن وضع نظرية تفسر نوع الفضاء الذي «اختلقه» بودريار توا عن طريق فهمه الخاطئ للمصطلحات العلمية وسوء استخدامه لها.
إذن أحد ردود العلماء على أتباع ما بعد الحداثة تسلم بأنهم قد يبدون اهتماما ذا قيمة حقيقية في مجالات علم الاجتماع وتسييس العلم، لكنهم ببساطة لا يفهمون آليات عملها الفعلية وطبيعة الحقائق التي تحاول تلك المجالات إثباتها فهما جيدا. يتشابه هذا الرد اللاذع مع مأخذ الفلاسفة المنتمين للاتجاه الأنجلو أمريكي على بعد الحداثيين، الذي يزعم عدم فهمهم كذلك لآليات عمل الفلسفة المتمركزة حول اللغة وإنجازاتها، وأن هذا قد يرجع إلى أن معظم منظري ما بعد الحداثة المرموقين لا يهتمون كثيرا على ما يبدو بإجراء حوار بناء مع أحد باستثناء بعضهم البعض؛ إذ إن تلهفهم على اتخاذ المواقف التي تبدو «مقبولة اجتماعيا وثقافيا» قد أدى بهم غالبا إلى التعبير عن أوصاف غاية في الغرابة وقائمة على معلومات خاطئة - إن لم تكن متحيزة اجتماعيا وثقافيا - لما يقوم به العلماء. تتمحور كتب سوكال وغيره حول هذه الفكرة الرئيسية (لا سيما بعدما اكتشف سوكال عام 1994 تقريرا ملفقا حول نشاطه العلمي - يعج بالأخطاء العلمية الفادحة والاستنتاجات المتناقضة - منشورا في مجلة ما بعد حداثية تدعى «سوشال تيكست»).
إن الكثير من هجمات أتباع ما بعد الحداثة على العلم - التي تحاول إظهار السمات السياسية المتأصلة في النشاط العلمي الغربي التجريبي - ليست مبنية على معلومات خاطئة فحسب، بل تتسم بنوع غريب من إساءة الفهم؛ إذ تكتفي عادة بفرض مجازات أو مقارنات على الاكتشافات العلمية حتى تبدو كأنها - تحت تأثير التحليل التفكيكي الموضح أعلاه - تتضمن تصريحا أو موقفا سياسيا ما غير ذي صلة تماما وفعليا بالحقائق التي تحاول تلك الاكتشافات إثباتها.
نذكر هنا - على سبيل المثال - مقال عالمة الأجناس البشرية إيميلي مارتن «البويضة والحيوان المنوي» الذي كثيرا ما يشار إليه، والذي يزعم أن «صورة البويضة والحيوان المنوي المستخدمة في التقارير الشائعة والعلمية على حد سواء عن علم الأحياء التناسلي؛ تعتمد على قوالب نمطية تلعب دورا حيويا في تعريفاتنا الثقافية للذكر والأنثى.» «لا تشير تلك القوالب النمطية إلى أن العمليات البيولوجية لدى النساء تقل في قيمتها عن مثيلتها لدى الرجال فحسب، بل تشير كذلك إلى كون النساء أدنى قيمة من الرجال.» يؤكد ذلك النوع من الأدبيات على مفهوم البويضة الأنثوية «السلبية» و«البريئة والخجولة» في مقابل الحيوان المنوي الذكوري «المسيطر» و«النشط»، وبالتأكيد تستخدم بعض تقارير المقررات الدراسية هذا التشبيه المتحيز بالفعل. لا تنتهي القضية عند هذا الحد، بل يتصور النقاد ما بعد الحداثيين أن هؤلاء العلماء الذكوريين - نتيجة لافتراضاتهم الذاتية التي أفسدتها التأثيرات السياسية - قد أخطئوا فهم القواعد العلمية التي تحدد العلاقة بين البويضة والحيوان المنوي؛ حيث يسود الآن الاعتقاد بأن البويضة (الأنثوية) هي التي تنشط و«تقبض على الحيوان المنوي (الذكوري)» (الذي سبح مسافة طويلة قبل حدوث ذلك). لكن، ترى هل تسببت الافتراضات الأيديولوجية الذكورية حول تفوق الذكر وعدوانيته في تعطيل هذه الرؤية الجديدة أو الحيلولة دون ظهورها بالفعل؟ هل يعقل - عند وصف النشاط العلمي - أن نزعم أن مثل تلك الافتراضات قد تؤدي إلى مثل هذا النوع من التعطيل؟ (لا يعني ذلك إنكار أن الانشغال بالذكر قد أسفر بالتأكيد عن تعطيل دراسة علم وظائف الأعضاء الأنثوي دراسة دقيقة.)
يعكس هذا المثال قضيتين؛ تتمحور القضية الأولى حول الارتباطات المجازية بين الأوصاف المتنوعة للبويضة والحيوان المنوي وبين قوالب النوع الاجتماعي النمطية. على سبيل المثال، يبني سكوت جيلبرت على هذه الارتباطات ليكتب (بأسلوب مبتذل) عن «التخصيب كنوع من الاغتصاب الجماعي العسكري؛ فالبويضة هي العاهرة التي تجذب الجنود مثل المغناطيس»، وهلم جرا. لكن هذا الارتباط في جميع الأحوال ليس سوى مبالغة فجة؛ فمثل تلك التعبيرات لا تظهر في الواقع في الدراسات العلمية الجادة حول هذا الموضوع. فضلا عن أن هذا التفسير المجازي بالكامل - الذي يتوافق تماما رغم ذلك مع اهتمامات أتباع ما بعد الحداثة - يبدو في رأيي تافها وسخيفا نسبيا، وبلا أفق؛ لأن أي شخص يرغب في تعميم أي من الرؤيتين حول العلاقات بين الحيوان المنوي والبويضة، كي يبرر أو يفسر طبيعة أي تفاعلات أوسع نطاقا بين الذكر والأنثى، سيطرح بالتأكيد قاعدة تبسيطية مضحكة مثل: «لطالما كان الوضع هكذا منذ مرحلة البويضة والحيوان المنوي!» إن مثل هذا الزعم يغفل إلى حد كبير القضية المتعلقة بإمكانية تعديل العلاقات الأنثوية الذكورية، فضلا عن طرحه استنتاجا ضمنيا آخر أكثر ضررا بمراحل حول العلم يدعي أنه أخفق في مراعاة الموضوعية في هذه الحالة، وأن الاكتشاف «الجديد» صحح التحيز الذكوري في الأبحاث العلمية. لكن من الكذب البين الزعم بأن العلماء الذكور ظلوا يتجاهلون دور البويضة الأنثوية الفعال إلى أن استحثهم النسويون على الاعتراف به، كما يوضح بول جروس. فقد أشار عالم الأحياء جست عام 1919 (الذي استشهد كذلك ببحث علمي صادر عام 1878) أن البويضة «تقبض على» الحيوان المنوي أو «تبتلعه»، ويضيف جروس أن وجهة النظر تلك كانت شائعة في المقررات الدراسية منذ عشرينيات القرن العشرين فصاعدا.
تخضع مجادلات ما بعد الحداثة المتطرفة تلك لهجوم شديد حاليا، لكنها غيرت إلى حد كبير الطريقة التي ينظر بها إلى المجالات العلمية في الثقافة الأوروبية والأمريكية، لتصبح أكثر تشككا وتسييسا.
अज्ञात पृष्ठ