تقديم
أستاذ التاريخ القديم
حديث الأحد ... وحديث الأربعاء
أستاذ الأدب العربي
العميد
حديث المساء
الأستاذ والعميد من جديد
أحاديث الحرب
المراقب والمستشار
جامعة الإسكندرية
الكاتب المصري
الوزير
الثورة
الجمهورية
في اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية
في مدينة الرسول
رامتان!
قبيل الغروب
النفس المطمئنة
ختام
طه حسين
تقديم
أستاذ التاريخ القديم
حديث الأحد ... وحديث الأربعاء
أستاذ الأدب العربي
العميد
حديث المساء
الأستاذ والعميد من جديد
أحاديث الحرب
المراقب والمستشار
جامعة الإسكندرية
الكاتب المصري
الوزير
الثورة
الجمهورية
في اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية
في مدينة الرسول
رامتان!
قبيل الغروب
النفس المطمئنة
ختام
طه حسين
ما بعد الأيام
ما بعد الأيام
تأليف
محمد حسن الزيات
تقديم
رأيت طه حسين لأول مرة في صيف 1934، ورأيته لآخر مرة في خريف 1973، وبين هاتين المرتين تسعة وثلاثون عاما، راقبت فيها كفاحه الطويل الذي حاولت أن أسجل صورا منه في هذه الفصول.
لجأت إليه في عام 1934 وأنا على عتبة الحياة الجامعية، أعاني ما يعانيه الشباب في تلك السن من حيرة وقلق.
ورأيته آخر مرة في خريف 1973 وأنا وزير لخارجية مصر، أعاني ما كانت شعوب العرب تعانيه من الأسى والضيق والغضب الشديد.
في المرة الأولى تركت طه حسين وقد ألقى في نفسي السكينة، وملأ قلبي بالأمل والطموح، وأنار لي طريق المستقبل بحديثه عما يجدر بالشباب أن يتطلع إليه من غايات تتجاوز مطامع الناس عادة في اتساع الرزق وارتفاع الجاه.
وشهدته في المرة الأخيرة راسخ العقيدة في أن النصر مكتوب لمن آمن بحقه وبنفسه وجاهد جهاد الصادقين المخلصين ليخلص أمته مما أخضعت له من القيود، وليستخلص لها حقها من غاصبيه.
تركته في مقابلتي الأولى له خلف مكتبة في «جريدة الوادي» يجلس مهيبا مرتفع الرأس، لضحكته العريضة في الغرفة رنين وصدى، وإني لأعلم الآن أن الذي ألقى في نفسي السكينة وملأ قلبي بالأمل وأنار لي طريق المستقبل، كان في ذلك الوقت نفسه «يستقبل الحزن مع ضوء الشمس ويعاشره طوال النهار، ثم يستقبل الهم مع ظلمة الليل ويقضي معه ساعة الأحلام، يضطرب بين بيت حزين وبين دار للعمل - هي دار جريدة الوادي - يريد اليأس أن يتخذها مسكنا ومستقرا، لا يعرف كيف المخرج ويكاد يستسلم لكيد الكائدين ومكر الماكرين.»
1
وعندما تركته آخر مرة في غرفة نومه في خريف سنة 1973 كان المرض قد ألح على جسمه فأضعفه وأضناه، ولكنه كان مشغول الضمير بأزمة بلاده، مهموما بهموم شعبه، قوي الثقة والإيمان بأن العدوان لا بد مهزوم.
تسعة وثلاثون عاما عرفت فيها طه حسين، رأيته يناضل طوالها لغايتين، لا يرضى حتى يصل إليهما ويصل إليهما معه كل الناس؛ الغاية الأولى هي الحرية، وهي عنده أساس الكرامة والمسئولية للأمة والفرد، والغاية الثانية هي العلم، وهو عنده أساس النهضة في ميدان الثقافة وميدان السياسة وميدان الاجتماع وميدان الاقتصاد.
في غرفة نومه، في صيف 73، كان يسألني عن عدد متخرجي الجامعات الذين انضموا إلى زملائهم المجندين في جيش مصر، لأنه - فيما يظهر - كان يرى أن العلم هو أساس النهضة العسكرية أيضا.
ولم تفارق جسده الروح، كما قال توفيق الحكيم، حتى فارق اليأس روح مصر، حتى اقتحم شبابنا ما أقيم في وجه بلادهم من عقبات.
اختار الله طه حسين إلى جواره في الثامن والعشرين من أكتوبر 1973 ولنا في ذلك الوقت شباب محارب في الصحراء، سمعوا نعيه وهم لا يزالون يرابطون في خنادق سيناء، فكتب واحد منهم وهو المقاتل «عبد الصبور منير» أبياتا «إلى طه حسين من سيناء»، يقول فيها:
بين يدي والصدر
تقول قطعة السلاح
إن الذي علمها الكفاح
يستشهد اليوم هناك
وهكذا يرى المقاتل عبد الصبور منير أن العالم الضرير الذي كان قد لزم بيته قبل حرب أكتوبر بسنوات، هو الذي علم الكفاح لقطعة السلاح، كما يرى أنه هو الذي كان جديرا أن يبارك ما قامت به أيدي المحاربين من حمل للسلاح، وما كانت تضمره قلوبهم من العمل بعد النصر لإعادة بناء البلاد.
يقول عبد الصبور منير: «إن كل شيء في سماء الوطن الجميل، محمل بما منح طه حسين الجيل، من الأصالة والعزة والفكر.» وإذا كان طه حسين قد أعطى لبلده هذا العطاء، فإن قصة حياته نفسها كانت أيضا من أجمل ما خلف لهذا الجيل من أجيال العرب ولمن يليه من الأجيال، لما فيها من مثل عليا تحتذى في تحدي أصعب العقبات وتحقيق أبعد الأهداف.
وقد عرض التليفزيون المصري جانبا من قصة حياة طه حسين كما رواها هو في كتاب «الأيام»، لم يكد عرضها ينتهي حتى انهالت الرسائل من أرجاء الوطن العربي تطلب أن يعرض التليفزيون بقية قصة حياة طه حسين، فطلب التليفزيون مني أن أعد فصولا يمكن له على أساسها إخراج السلسلة الجديدة المطلوبة، فكتبت هذه الصفحات التي قرأها الأستاذ رئيس مجلس إدارة دار الهلال فأراد أن ينشرها كما هي في مجلة «المصور»، وهو يعيد نشرها الآن في هذا الكتاب دون إعادة صياغتها، وهي محتاجة إلى إعادة الصياغة في بعض المواضع، ودون الإضافة إليها، وهي محتاجة إلى هذه الإضافة في كثير من الأحيان.
وأنا أرجو أن تكون المواقف التي تخيلتها والأحاديث التي أدرتها بين العميد وبين أفراد أسرته، وبينه وبين زملائه ومعاصريه، قد حققت - إلى جانب ما نقلته مما كتب العميد إلى أصدقائه من الرسائل، وما رفعه إلى المسئولين من المذكرات - بعض ما يستهدفه هذا الكتاب من تصور لحياة العميد وحياة مصر الثقافية في الخمسين عاما التالية للسنوات التي سجل أحداثها العميد الفقيد في الأجزاء الثلاثة من كتاب «الأيام».
وقد اطلع على هذه الفصول أساتذة أصدقاء نظروا فيها وأبدوا عليها من الملاحظات ما انتفعت به، فأنا أهديهم هنا أحسن الشكر وأصدقه دون أن يحملهم ذلك شيئا من التبعة عما في هذه الصفحات من تقصير وقصور ... أذكر منهم السادة الوزير أحمد نجيب هاشم والأستاذة الدكتورة سهير القلماوي والأستاذ مصطفى أمين والأستاذ محمد فتحي والأستاذ يحيي العلمي، وأخيرا وليس آخرا كما يقال الأستاذ مكرم محمد أحمد الذي أخصه بالشكر لأنه - وقد رأى التعجيل بنشر هذه الفصول كما هي - قد دفعني إلى العمل لإعداد دراسة شاملة لحياة طه حسين وعمله، أرجو أن يتفضل بالمساعدة على إعدادها كل أصدقاء طه حسين من زملاء وتلاميذ وقراء.
ويهمني أخيرا أن أذكر أن أسرة العميد قد اطلعت على هذه الصفحات وهي تأمل - وأنا أشاركها هذا الأمل - أن تجلو هذه الصفحات للمشاهدين وللقراء صورة أمينة للرجل الذي لم يزل يتعرض حتى اليوم للإساءة الظالمة والذي تكن له الملايين من قومه العرب، في نفس الوقت، أصدق مشاعر الحب والإجلال والعرفان بالجميل.
م. ح. ز
أستاذ التاريخ القديم
أخذت معالم الإسكندرية تتضح مع ارتفاع شمس الصباح واقتراب الباخرة «لوتس» من الميناء، ووقف الركاب يتطلعون إلى المدينة، ومن بينهم «الدكتور» طه حسين عائدا من البعثة في فرنسا، وقد وقف بجوار زوجته التي كانت تحيطه بذراعها اليسرى وتحمل ابنتها الطفلة باليمنى، تمد بصرها إلى الأرض التي ستصبح وطنها منذ اليوم؛ إلى أرض مصر التي لا تعرف عنها إلا ما قرأت في كتب الجغرافيا والتاريخ من جهة، وما جعل زوجها يحدثها به من جهة أخرى، منذ عامين وشهرين، منذ زواجهما في أغسطس عام 1917.
وتلتفت السيدة سوزان إلى الرجل الذي من أجله جاءت إلى هذه البلاد، فتراه غارقا في أفكاره كما اعتادت أن تراه في كثير من الأحيان، إنها تدرك أنه يفكر في مصر التي يعود إليها بعد غياب أربع سنوات، ويفكر في شعبها الذي ثار هذا العام يطالب بحريته واستقلاله، ولا شك أنه يفكر أيضا في الجامعة التي يعود الآن ليقف من طلابه فيها موقف أساتذتها منه، عندما كان يسعى إليها كل مساء من بيته المتواضع في «حوش عطا» في حي الأزهر عطشان إلى العلم لا يرتوي، وهو أخيرا يفكر في تلك المدينة من مدن الصعيد التي يعمل فيها أبوه، يتخيل لقاء أبويه له فيها بعد قليل، كما يتخيل لقاءهما لزوجته ولابنته لأول مرة.
كان طه حسين يفكر في ذلك كله فعلا، ويفكر أيضا في حياتهم التي ستبدأ حين يتركون الباخرة إلى الشاطئ؛ في الطريق الذي سوف يسلكه هو ليحقق ما يملأ صدره من الآمال، وفي زوجته التي سوف تبدأ في مصر حياة جديدة في بلد غريب عليها، وفي ابنته «أمينة» التي ستنطق في بلدها العزيز بأول كلماتها، فقد أتمت الآن شهرها السادس عشر.
وتخرجه زوجته من أفكاره في رفق، لتصف له ما تراه، كما تفعل دائما، تصف له السماء والماء وعمارة الأرض في الإسكندرية، وتذكر له أن الباخرة قد هدأت، وأخذ ركابها يستعدون لمغادرتها.
وأخيرا تسأله في قلق لا تستطيع إخفاءه إن كان متأكدا من أنهم سيجدون من يستقبلهم في الميناء، وهو يؤكد لها أنه قد كتب إلى محافظ المدينة بموعد وصولهم، ويكرر أن المحافظ، حسن باشا عبد الرازق، هو من مواطنيه في مديرية المنيا، يعرفه ويعرف أهله، ولا شك أنه سيرسل إلى الميناء من يستقبلهم.
وقد صعد حسن باشا عبد الرازق بنفسه إلى الباخرة ليلقاهم عليها، وأصر على أن يستضيف الأستاذ العائد من فرنسا وأسرته الصغيرة في منزله الجميل في حي الرمل بالإسكندرية، وطه حسين سعيد بهذه الحفاوة التي اطمأنت بها زوجته، غير أنه متلهف إلى معرفة أحوال البلاد، يقول إنه قد تلقى هو وزملاؤه المصريون في باريس النبأ العظيم، نبأ ثورة مصر، «فإذا الوجود كله إشراق، وإذا السكون حركة، وإذا الجمود نشاط، وإذا نحن سرور كلنا وابتهاج كلنا، يسعى بعضنا إلى بعض، ماذا أقول؟ يسرع بعضنا إلى بعض ... وتجري على هذه الوجوه المشرقة دموع حارة، ولكن في حرارتها برد الأمل والرجاء ... مصر ثائرة، مصر تقاوم الإنجليز، مصر تنهض في وجه المستعمر ... رحم الله شهداء 1919! لقد صغرت حياتهم في نفوسهم لنكبر نحن في نفوسنا، لقد ماتوا فأحيانا موتهم»، وهو الآن يصل الإسكندرية فخورا ببلاده، معتزا بشعبه الذي وقف صامدا، مستندا إلى مساجده وكنائسه، من خلف زعيمه سعد زغلول، ولكنه قلق في نفس الوقت على مواطنيه؛ لأنه يدرك أن سلاح الاحتلال الغاشم مسلط على شعب أعزل.
يسأل المحافظ في قلق عن الأحوال ... ويقول المحافظ إن أهم أخبار الإسكندرية الأخيرة هي أن شابا قد ألقى في محطة الرمل قنبلة على سعيد باشا رئيس الوزراء في الشهر الماضي، وقد انفجرت القنبلة ولكن رئيس الوزراء لم يصب بسوء، وطلب سعيد باشا إلى السلطات أن تعامل الجاني بالرأفة لأنه يقدر كيف تغلي نفوس الشباب في هذه الأوقات.
أما أهم أخبار مصر فهي أن بريطانيا ما زالت مصممة على إرسال بعثة برئاسة وزير المستعمرات «لورد ملنر» إلى مصر رغم اعتراض رئيس الوزراء سعيد باشا واستقالته. وبريطانيا تعلن أن مهمة البعثة هي «بحث أسباب الاضطراب وعدم الاستقرار في مصر، واقتراح الأنظمة التي من شأنها أن تهدئ الحالة فيها»، وذلك كله في ظل الحماية البريطانية التي فرضت على البلاد منذ نوفمبر 1914.
وطه حسين يقول إن بريطانيا تتجاهل أسباب السخط والثورة، وتدعي أنها تبحث عنها لتهدئ الأحوال في ظل نظام الحماية، ونظام الحماية هو نفسه سبب السخط، ووجود بريطانيا في مصر هو نفسه سبب الثورة واضطراب الأحوال. على أنه متأكد من أنه لن يحال بين مصر وبين أهدافها الوطنية ما دام الشعب قد نهض كريما عنيدا يطالب بحريته وبحقوقه. •••
ويسأل طه حسين عن حالة المواصلات وقطارات السكة الحديد، فهو يريد السفر إلى القاهرة، ومن هناك إلى كوم امبو ليرى والديه الذين لم ينقطع عن التفكير فيهما طيلة السنوات الأربع الماضية، والمحافظ يطمئنه، فقد استفسر وتأكد من سلامة المواصلات بين الإسكندرية والقاهرة، وكذلك بين القاهرة وكوم امبو.
وفي محطة القاهرة يستقبل الأسرة الصغيرة العائدة بعض الأقارب والأصدقاء، منهم صديق قديم عزيز هو الأستاذ محمد رمضان المحامي الذي اشترك مع طه حسين في ترجمة كتاب «الواجب» للكاتب الفرنسي جول سيمون قبل سفره إلى البعثة عام 1914، ومنهم زميلا الأزهر القديمان محمود الزناتي وأحمد حسن الزيات، ومنهم صديق آخر هو الأستاذ محمد المرصفي، الذي يسرع ويحمل الطفلة الصغيرة «أمينة» عاليا فوق رءوس المسافرين والمودعين والمستقبلين ليخرج بها من المحطة، وأمها من خلفه وخلفها قلقة، تريد أن تسرع لتلحق بابنتها، لكنها مضطرة إلى الإبطاء لتسير مع زوجها ومع صحبه، وهم يشقون زحمة المسافرين والمستقبلين في محطة القاهرة.
وفي القطار إلى كوم امبو يتحدث طه حسين مع زوجته عن والديه اللذين يعود إليهما الآن وقد بلغ الثلاثين، وله زوجة وبنت، ومعه درجة الدكتوراه وقد عين أستاذا في الجامعة الأهلية، يقول لها إن والده كان يتمنى لو أصبح يوما شيخا في الأزهر الشريف له عمود يتجمع حوله الدارسون، وكان ذلك أقصى ما يتمناه له.
وعندما يصل إلى كوم امبو، وتتلقاه الأسرة بالفرح والترحيب، يتركه أبوه مع أمه، ويترك ابنته لجدتها، ويخرج هو مع زوجة ابنه ليريها معالم المدينة، وفيها آثار الانتعاش الاقتصادي الناشئ عن قيام شركة السكر فيها، يسيران معا، هو بملابسه بالعمامة والجبة والقفطان، وهي بملابسها الأوربية، يسألها - بالإشارة - عن رأيها فيما تراه، وعن طلباتها إن كانت لها طلبات، وتشكره هي بالابتسامة سعيدة كل السعادة باستقبال أسرة زوجها لها. •••
وتمر أيام الزيارة سريعة، سعيدة، على أنه لا بد من العودة إلى القاهرة فإن الجامعة ستفتح أبوابها عن قريب، ولا بد من أن يبدأ طه حسين عمله فيها.
وفي السابع من ديسمبر عام 1919، في تمام الساعة السادسة مساء، يقبل أعضاء مجلس إدارة الجامعة المصرية على قاعة المحاضرات فيها، يتقدمهم عبد الخالق باشا ثروت وكيل الجامعة، وإسماعيل حسين باشا وكيل وزارة المعارف، ومرقص بك حنا المحامي، وعلي بك بهجت مدير الآثار العربية، وشكري باشا وكيل وزارة الحقانية، وحسين سعيد باشا، ويجلسون في القاعة إلى جانب الأستاذ الشاب طه حسين، ثم ينهض الأستاذ إسماعيل رأفت بك فيقدم الأستاذ الشاب إلى ثروت باشا الذي يسير معه إلى منصة التدريس، ويقدمه للطلاب ولغيرهم ممن توافدوا على الجامعة ذلك المساء يلخص لهم حياته العملية وجهاده فيها، ثم يقول: «هذا هو مختصر لحياة الطالب طه حسين،
1
تلك الحياة العملية التي كان فيها خير مثال للشبيبة المصرية، وأصدق دليل على الذكاء المصري والنبوغ المصري، وأقطع برهان على ما يثمر الجد والثبات والعزم.»
ثم يختم حديثه بقوله: «أستاذنا الدكتور طه حسين يبدأ الآن حياة جديدة، يبدأ حياة الإفادة بعد الاستفادة، وإني باسم الله وبالنيابة عن أعضاء مجلس الإدارة أفتتح الدرس الأول للأستاذ الدكتور طه حسين.» •••
ويحضر الطلبة درس التاريخ القديم متثاقلين، على أنهم بعد سماعهم الأستاذ الشاب قد جعلوا يقبلون عليه وعلى مادته شيئا فشيئا، فقد تبين لهم أن دروسه لن تكون سردا لأسماء الأباطرة وللمعارك التي خاضوها، بل ستكون دراسة للحضارة القديمة ونظمها السياسية والاجتماعية وثمارها الثقافية ولتاريخ الفكر الإنساني وتطوره في الزمن القديم.
والأستاذ يشرك طلابه في البحث
2
ويطالبهم بأن تكون مشاركتهم إيجابية، يتحدث عن واحد من هؤلاء الطلبة اسمه عبد الوهاب عزام،
3
طالب في مدرسة القضاء الشرعي، يعد نفسه ليكون قاضيا، يقبل على دروسه في تلك المدرسة وجه النهار، ثم يسعى آخر النهار إلى الجامعة، يقول الأستاذ طه حسين: «عندما أريد أن أدرب طلاب الجامعة على قراءة نص من النصوص التي تتصل بتاريخ الحضارة اليونانية أو الرومانية أو بالأدبين اليوناني واللاتيني، فإنني أكلفه هو بالقراءة والتفسير وأقوم منه مقام الأستاذ الذي يعلم تلاميذه كيف يفقهون»، ويضيف: «إن زملاء عزام يألفونه ويعجبون به، وأنا محب له ومعجب به كزملائه.»
وهكذا كانت طريقة الأستاذ الشاب؛ يكلف تلاميذه قراءة بعض النصوص الأصلية المتصلة بدراسة الحضارتين اليونانية والرومانية، ويكلفهم شرحها تحت إشرافه ومراجعته، كما يطلب إليهم قراءة بعض النصوص في الأدب اليوناني والأدب اللاتيني، وهو حريص على ألا يقل مستوى التدريس في جامعة مصر عن مستواه في أوروبا، فهو يطلب إلى طلابه دراسة كتاب من تأليف أرسطوطاليس اسمه «نظام الأثينيين»، يقول لهم إنه قد عرف هذا الكتاب بطريق الصدفة في باريس، «أحالنا عليه أحد أساتذتنا في السوربون، فلما رجعت إليه عرفت أنه استكشف في مصر في عام 1891، فنقله الإنجليز إلى لندن، ونشرت صورته الفوتوغرافية ثم طبع في لندن وباريس وبرلين وغيرها من مدن أوروبا، ثم نقل إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها من اللغات الحديثة، ثم نقد وفسر في جميع اللغات، ثم درس في جامعات أوروبا، انتفع به مؤرخو الأوروبيين فأصلحوا ما كان في تاريخ أثينا من خطأ وأكملوا ما كان فيه من نقص، ثم مضت على ذلك ثلاثون سنة والمصريون لا يعلمون من أمره شيئا، وإذ كنت أدرس لكم تاريخ اليونان، وكنت قد أخذت نفسي بأن أفسر لكم من حين إلى حين بعض الأصول التاريخية القديمة لتعتادوا قراءة كتب التاريخ والاستفادة منها؛ فقد اخترت في هذه السنة هذا الكتاب.»
الأستاذ يريد من طلابه أن يتعودوا قراءة النصوص القديمة، ويريد أن يدربهم على نقد المراجع الهامة، وعلى ألا يدعوهم قدمها أو كون مؤلفها عملاقا مثل أرسطو إلى التسليم بكل ما يجيء فيها وتصديقه بغير تمحيص، فإنه حريص على أن يقف وأن يقف تلاميذه من كل ما يقرءون موقف الدارس الناقد والمفكر الواعي.
ويقبل شهر ديسمبر 1919 فتصل لجنة اللورد ملنر إلى القاهرة، ولكن مصر كلها تقاطعها، فقد اختارت الوفد ورئيسه «سعد باشا زغلول» وكيلا عنها للمطالبة بحريتها واستقلالها، وهي تريد أن ترغم دولة الاحتلال على احترام هذه الوكالة والتعامل مع وكيلها وحده لتحقيق الهدف الذي وكلته لتحقيقه، فلا تستطيع اللجنة الاتصال بأحد، وتحاول زيارة طنطا «موطن المظاهرات في العام الماضي» فتقوم مظاهرات جديدة ضدها، ويعلن علماء الأزهر أنهم يطالبون مع الشعب كله بالجلاء والاستقلال في نداء يوقعونه بأسمائهم ويوجهونه إلى دار المندوب السامي، ولأول مرة في تاريخ مصر تخرج السيدات مؤيدات للحركة الوطنية في مظاهرة في القاهرة تتحدى الرصاص.
ويتحدث طه حسين إلى أستاذه وصديقه القديم أحمد لطفي السيد عن سعادته بيقظة الشعب المصري وتصميمه على أن يحصل على استقلاله، ولكن لطفي السيد يتساءل وماذا بعد الاستقلال؟ إنه يرى أن على المواطنين أن يفكروا منذ الآن في طبيعة الحكم الوطني بعد الاستقلال. هذا الحكم في رأيه لا يجوز أن يكون حكم الخديو المطلق؛ لأنه يرفض حكم الفرد الذي يلغي الحرية كل الرفض، ولا بد أن يكون الحكم هو حكم الشعب لنفسه بنفسه، أي الحكم الديمقراطي.
وداخل الجامعة يدرس طه حسين نظم الديمقراطية الأثينية في كتاب أرسطوطاليس، وهو يدرك أنه ليس بين الطلاب من يعرف لغة الكتاب وهي اليونانية، وإذن فلا بد من قراءة ترجمة فرنسية أو إنجليزية للكتاب، ويسأل نفسه لماذا لا يترجم الكتاب إلى اللغة العربية كما ترجم إلى اللغات الأوروبية الحية، ويتساءل: «لماذا لا أفسر للطلاب ترجمة الكتاب بالعربية؟ فإذا كان الشقاء قد قضى علينا ألا نعنى باللغات القديمة ولا نحفل بدراستها، فإني أستطيع أن أترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وأنا مدين لمصر بهذه الترجمة؛ لأني لم أتعلم لأنتفع وحدي بما تعلمت، ولأن من الحق على كل مصري أن يبذل ما يملك من قوة لإصلاح ما أصاب مصر من فساد.»
ويقول طه حسين إن الكتاب هام، لا لقيمته التاريخية فحسب، بل لقيمته المعاصرة أيضا، فإن أرسطوطاليس «لم يكن يشخص عصره الذي عاش فيه فحسب، وإنما كان يشخص الرقي الإنساني بوجه عام.»
وأرسطو يستعرض صور الحكومات ويختار منها حكومة وسطا، تمثل طبقات الشعب تمثيلا صحيحا معقولا، ويرفض صور كل الحكومات الاستبدادية؛ استبداد الملوك، أو استبداد الأقليات، أو استبداد العامة.
وإذن فإن هذا الدرس «الأكاديمي» الذي اختار الأستاذ الشاب طه حسين أن يلقيه على طلابه في العام الجامعي 1919-1920 لم يكن منقطع الصلة بما يجري خارج الجامعة، بل كان شديد الاتصال بما يشغل باله هو وبال غيره من المفكرين، أي بطبيعة حياة مصر السياسية بعد الاستقلال. •••
وتنتقل أسرة طه حسين من السكاكيني إلى «شقة» في شارع الحواياتي على ناصية شارع الخديو إسماعيل، وقد وصلت سجادة عجمية من الوالد الذي كان قد أرسل أيضا حوالة بريدية اشترت السيدة سوزان بقيمتها عربة للطفلة أمينة، ووصلت سجادة أخرى من الشيخ أحمد شقيق طه حسين الكبير، وكان عبد المجيد الشقيق الذي يصغره بخمسة عشر عاما يساعد في إعداد «الشقة»، إنه يتابع دراسته الثانوية ويريد أن يدخل بعد ذلك مدرسة الهندسة العليا، وهو الآن يداعب ابنة أخيه في عربتها، وهي تضحك له سعيدة بمداعبته، ولكن عبد المجيد ينصرف عن هذه المداعبة بعد قليل ليحدث شقيقه الكبير بما يحس به الشباب - حتى من كان منهم في مثل سنه الصغيرة - من غضب على المحتلين ورغبة في العمل لإنهاء الاحتلال واستعداد للتضحية في سبيل تحرير البلاد.
طه حسين يقول لشقيقه إن زعماء البلد يبذلون جهودا جدية للوصول إلى هذا الهدف، وقد عاد ملنر وبعثته إلى بريطانيا في مارس 1920 مقتنعين بضرورة التفاوض مع الوفد المصري وكيل الأمة، ومن المنتظر أن تبدأ المباحثات قريبا بين الوفد المصري والإنجليز وهو يرجو لها النجاح. ثم يذكر طه لأخيه أن نهاية العام المدرسي قد اقتربت، وقد يحسن بأخيه وبزملائه أن يهتموا الآن بدروسهم وامتحاناتهم، ولكن عبد المجيد يحتج بأن الإنجليز لا ينوون الخير لمصر، فقد نقلت الصحف أن ونستون تشرشل قد صرح أخيرا بأن مصر جزء من الإمبراطورية البريطانية، وبأنه ينوي أن يزورها قريبا بهذه الصفة، وطه حسين يرد عليه بأن هذا الهراء يجب ألا يحمل أحدا على اليأس، ويقول له إنه هو قد قال لسعد زغلول عندما قابله في باريس منذ عامين: «كيف نيأس وقد أيقظتم الشعب فاستيقظ ودعوتموه فاستجاب؟» ويكرر أنه ما دام الشعب يقظا فإن مطالبه العادلة ستتحقق دون شك.
لا يتذكر طه حسين زيارته هو لسعد زغلول في باريس فحسب، بل يتذكر أيضا زيارة أحمد لطفي السيد له في «شقته» ذات الغرفة الواحدة في باريس، لقد حضر ومعه صديق عزيز عليه هو عبد العزيز فهمي باشا، الذي حاول أن يحمل الطفلة أمينة بين يديه فصرخت في وجهه باكية، وصرخ هو فيها ينهرها لبكائها قائلا لها: «اسكتي أيتها الأفريقية!» وتركها ليحدث أباها فيطيل الحديث وتطول الزيارة ساعة يكتشف طه حسين أثناءها أن عبد العزيز فهمي ليس وطنيا عظيما ولا قانونيا فقيها متميزا فحسب، بل إنه كذلك عالم شغوف باللغة العربية أسلوبه فيها جميل ناصع قوي الأداء، وهو أيضا شاعر رصين مجيد مطيل.
4
عبد العزيز فهمي هو الذي ذهب مع سعد زغلول ومع علي شعراوي باشا فواجهوا ممثل بريطانيا في مصر يوم 13 نوفمبر 1918، يطالبونه بالاستقلال بعد أن انتهت الحرب العالمية التي تحملت فيها مصر ما تحملت، وهو الآن في باريس مع سعد مستمرين في الجهاد رغم كل العقبات التي تضعها إنجلترا، وأوروبا معها للأسف، في طريق الحركة الوطنية المصرية.
طه حسين إذن يعرف سعدا ويعرف عبد العزيز فهمي عن قرب، وهو يعرف أيضا من زعماء الحركة الوطنية عبد الخالق ثروت وكيل الجامعة، وآل عبد الرازق ومنهم حسن باشا محافظ الإسكندرية، وعلي ومصطفى صديق أخيه الشيخ أحمد وصديقه منذ أيام الأزهر، وهو واثق أن هؤلاء الرجال الكرام على أنفسهم وعلى شعبهم سيصلون باتحادهم وبصمود الشعب من خلفهم إلى تحقيق أهداف البلاد، وهو يدعو الله أن يظل الشعب متحدا صامدا خلف زعمائه، ويدعو الله أن يستمر هؤلاء الزعماء في جهادهم متحدين متآزرين.
ويحضر أخوه الشيخ أحمد لزيارته في شارع الحواياتي، ويدور الحديث عن دور الأزهر ودور الجامعة وأساتذتهما في الحركة الوطنية. يقول طه حسين إن الفيلسوف الفرنسي «سان سيمون» الذي درس مذهبه عندما كان يعد رسالته للدكتوراه في باريس، يرى أن أمور الحكم الذي يحقق العدل ويكفل رقي الشعب يجب أن تصير إلى العلماء، ومع أن طه حسين يشك في أن العلماء يمكن أن يتولوا أمور الحكم في مصر أو في غيرها من البلاد في هذا العصر الحديث، فإنه يقول إنه لمعرفته بشخصيات كثير من الزعماء يخشى أن يختلفوا في المستقبل، ويرى أن العلماء المصريين هم الذين ينبغي أن يقضوا بين الزعماء في مصر عندما يختلفون، ولذلك فإنه لا ينبغي لهم أن ينحازوا إلى زعيم من الزعماء أو إلى حزب من الأحزاب. •••
الأستاذ الشاب يدرس النظم السياسية القديمة لطلابه، وهو لا يكتفي بالتاريخ السياسي والدستوري بل يهتم كذلك بالتاريخ الثقافي،
5
فهو يعرف طلابه بما أنتجه اليونان للمسرح من روائع، يعرفهم بمسرح سوفوكليس وإيسكولوس، ويوضح لهم أن المسرح اليوناني لم يكن مسرح تسلية فارغة وإنما كان مسرح فكر، له خطره الأدبي والاجتماعي والسياسي أيضا، ويتوقف بهم عند فقرة في قصة «أنتيجون» التي ألفها سوفوكليس، يتحدث فيها عن طبيعة الإنسان، ويترجم لهم منها هذه الأبيات:
لقد ملئ العالم بالمعجزات
ولكن لا أشد إعجازا من الإنسان
هو الذي يستعين بالهواء العاصف على أن يطير ... بعد أن اتخذ للسفن أجنحة
فيعبر البحر المتلاطم وهو يبيض من حوله
هو الذي يستخدم الخيل والمحراث ليمزق في كل سنة جوف الأرض
هو الإنسان
يوقع في ثنايا شباكه أنواع الطير الهوج، وأنواع الحيوان المفترس، وبنات البحر
يذلل بمهارته أشد سكان الغابات وحشية
ويستخدم لسلطانه السوابق ذات الأعراف العراض ... تأبى على من يريد تذليلها
تعلم المنطق، وعرف مذاهب الريح، أدرك سلطان القوانين على المدن
عرف كيف يقي مساكنه سهام البرد والرطوبة
ستر كل شيء بتجربته، ووجد من الحيل ما يتقي به أحداث الزمان
واستكشف ما يحول بينه وبين أشد العلل قسوة وأعظمها فتكا
الموت وحده هو العلة التي لم يستطع أن يجد منها محيصا ...
والأستاذ يتوقف معهم - في نفس القصة - عند الأبيات التي ترد على لسان «الملك كريون»
6
عن شخصية الحاكم، يقول: «ليس من سبيل إلى أن تعرف نفس الرجل وذكاءه وأخلاقه إذا لم يجلس مجلس الحكم، ولم يوكل إليه تدبير الدولة وحماية قوانينها ... أما أنا فأعتقد أن ذلك الرجل الذي يكلف الحكومة وحماية القوانين فلا يقف نفسه على النصح للدولة والتضحية بكل شيء في سبيلها، بل يمنعه الخوف من ذلك، أعتقد أن هذا الرجل شرير ممقوت، ولا أستطيع إلا أن أزدري ذلك الذي يؤثر منفعة الصديق على منفعة الوطن.»
كما يتوقف الأستاذ طه بتلاميذه عند الصفحات المثيرة التي يدور فيها الحوار بين الملك كريون وولده هيمون، يقول فيها الفتى لوالده: إنه لا طاعة للحاكم إن هو حاد عن حكم العدل والرحمة، ولا طاعة للأب على ولده «الذي يحبه بل يتفانى في حبه» إذا ترك الأب طريق العدل إلى طريق الاستبداد. •••
وفي أول سبتمبر 1920 يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق - الذي أصبح أستاذا للفلسفة في الجامعة - لطه حسين: إن الأخبار الواردة من لندن تفيد أن المباحثات قد انتهت إلى مذكرة بقواعد اتفاق بين مصر وبريطانيا، وأن الوفد المصري رأى «أخذا بالأحوط واستمساكا بنص الوكالة على إطلاقه ألا يبت في الموضوع برفضه أو بقبوله ... حتى يعرض الأمر على البلاد ...» ولذلك فإنهم قد بعثوا أربعة منهم إلى مصر للتشاور، وطه حسين سعيد بهذا الخبر كل السعادة لما فيه من دلالة، أولا: على أن الإنجليز قدموا عرضا يقبل المناقشة، وثانيا: لما فيه من دلالة على أن سعد باشا والزعماء المصريين حريصون على مبدأ التشاور وعلى الرجوع دائما إلى الأمة.
وهناك خبر آخر مفرح، وهو أن طلعت حرب باشا شارع في إنشاء بنك لمصر، وهو حريص على أن يجمع ثمن الأسهم كلها من المصريين من جميع الطبقات بمن في ذلك الأساتذة وطلاب الجامعة، بل إن بنك مصر قد باع سهما لأخيه عبد المجيد، أي أن البنك يجمع قيمة الأسهم حتى من تلاميذ المدارس لإشعارهم بأهمية إنشاء هذا البنك المصري بأيدي المصريين. طه حسين يقول إن الاستقلال، على أهميته وخطره، هو عمل سلبي ينحسر به سلطان الأجنبي عنا، ولكن العمل الإيجابي هو الذي يبني البلاد، إن البلاد إنما تبنى بالعلم والعمل في كل ميدان.
وخبر آخر يدل على امتداد اليقظة إلى كل أفراد شعب مصر: إن السيدة هدى شعراوي وعضوات الاتحاد النسائي المصري الذي ترأسه غاضبات لأن الوفد المصري لم يطلب رأيهن في مشروع المعاهدة المعروض من الإنجليز، وهن مع ذلك يدرسن المشروع ويبرزن فيه عيوبا يحددنها ويقررن إعلانها.
7
وتطلب مجلة الهلال إلى طه حسين أن ينشر فيها فصولا عن «قادة الفكر»، فيوافق مسرورا لأنه يريد دائما أن يشرك عامة القراء في دراساته وبحوثه كلما استطاع، وهو سيحدث قراء الهلال إذن عن سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس والإسكندر ويوليوس قيصر، ولكنه سيحدثهم أيضا عن الشاعر هوميروس فإنه يرى للشعر أهمية كبرى، وهو يسأل: «هل كانت توجد الحضارة اليونانية لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر هوميروس وخلفائه؟ وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لو لم توجد البداوة العربية التي سيطر عليها هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟» •••
ويزور الشيخ مصطفى عبد الرازق طه حسين ويتحدثان عن الأخبار الواردة من لندن، لقد عرض أعضاء الوفد التحفظات التي أبدتها البلاد على قواعد الاتفاق المطلوب، وأهم هذه التحفظات ضرورة النص على إلغاء الحماية، ولكن إنجلترا لم تقبل ونتيجة لذلك قطع المصريون المفاوضات وغادروا لندن إلى باريس.
في 26 فبراير 1921 تظهر بريطانيا الرغبة في حل المشكلة المصرية فترسل إلى السلطان فؤاد دعوة ليرسل وفدا رسميا للتفاوض معها في شكل العلاقة «التي تحل محل الحماية البريطانية، فإن هذه الحماية لم تعد نظاما مرضيا.» وعلى هذا الأساس قبلت مصر التفاوض، ولكن تأليف وفد المفاوضة أصبح موضوع خلاف جعل يشتد اشتدادا خطيرا، إن رئيس الوزراء عدلي باشا يكن يرى أن الطبيعي أن يرأس رئيس وزراء مصر وفد مصر الرسمي إلى إنجلترا، على أن يضم هذا الوفد الرسمي ممثلين للوفد المصري الذي يرأسه سعد باشا زغلول، وسعد باشا زغلول يرى أنه هو الذي وكلته الأمة ليعمل للحصول على استقلالها التام، فهو المطالب برئاسة أي وفد يفاوض الإنجليز لكي يكون الاستقلال التام هو النهاية الوحيد المقبولة لهذا التفاوض. إنه يقول إن السلطان هو الذي يعين رئيس وزراء مصر، ولكن السلطان لا يملك أن يأمر في هذا الشأن بغير ما يراه الإنجليز، فكيف يرأس رئيس الوزراء المصري - وأمر تعيينه في مركزه هو إذن بيد الإنجليز - كيف يرأس وفدا هدفه إخراج الإنجليز من البلاد؟
ويصر عدلي باشا على السفر إلى لندن للتفاوض ومعه وفد رسمي، يصدر السلطان أمرا بتشكيله في 19 مايو 1921 لا يضم أحدا من أعضاء الوفد المصري. •••
ويقبل خريف 1921، وقد أتمت السيدة سوزان شهور حملها الثاني وحضرت والدتها من باريس لتكون إلى جوارها وقت الولادة، وفي الثامن من سبتمبر تحس بآلام الوضع فيحضر الطبيب إلى شارع الحواياتي في أول الصباح. يطمئن الوالد والوالدة، ولكن الساعات تمر بطيئة ثقيلة ترهق الوالد بالقلق والمخاوف، قلبه موزع بين صغيرته أمينة وهي جالسة بجواره وبين زوجته التي تعذبه آلامها المتزايدة عذابا لا يعرف كيف يمنع أسبابه، حتى يخرج الطبيب بعد الظهر ضاحكا مبتهجا، يبشر طه حسين بأنه أصبح والدا من جديد.
وعندما يمسك طه بيدي زوجته ويسمعها تهمس سعيدة «إنه ولد» يرد عليها: إذن هو «مؤنس». وتقرب المولود منه وقد انتهى القلق والخوف، وهما ينتبهان إلى الصغيرة التي دخلت الغرفة تبتسم وهي تحس بأبويها سعيدين، وتتطلع في شغف إلى رؤية المولود.
الوالد يحمل ولده في الشهر الثالث من عمره بين ذراعيه، يسير به ينشده قصائد من الشعر العربي القديم، ولكنه مضطر إلى أن يعيده إلى والدته أسفا لأن الشيخ مصطفى عبد الرازق قد حضر للزيارة.
إن الأخبار الواردة من لندن تفيد بأن وزير الخارجية اللورد كيرزون قدم لعدلي باشا مشروعا لا يمكن قبوله، وإن عدلي باشا رفض المشروع فعلا، وإنه يعود الآن إلى مصر، وسيقدم استقالته للسلطان بمجرد وصوله إليها.
وبريطانيا تقرر - بناء على نصح مندوبها السامي في مصر الفيلد مارشال لورد اللنبي - استعمال أقصى الشدة مع أهل البلاد. يقوم المندوب السامي بإبلاغ السلطان أن مصر واقعة على خط المواصلات الرئيسي بين بريطانيا وممتلكات جلالة الملك في الشرق، ولذلك فإن جميع الأراضي المصرية ضرورية لهذه المواصلات!
ويرسل الإنجليز إلى سعد باشا زغلول وإلى أعضاء الوفد المصري أمرا كتابيا بعدم الاشتغال بالسياسة بتاتا وبالذهاب إلى بلادهم والبقاء فيها تحت رقابة مدير كل مديرية.
ويرد سعد باشا في 21 ديسمبر 1921 قائلا: «سأبقى في مركزي مخلصا لواجبي، وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء أفرادا وجماعات.» ويرد بقية أعضاء الوفد برد مماثل.
وفي 23 ديسمبر 1921 تقبض قوة عسكرية بريطانية على سعد وزملائه فتح الله بركات ومصطفى النحاس وسينوت حنا وعاطف بركات ومكرم عبيد، وتأخذهم، عن طريق السويس، بحرا إلى منفاهم في جزيرة سيشل في المحيط الهندي.
وفي نفس اليوم يكتب عدلي باشا يكن للسلطان معلنا أن وزارته كانت قد استقالت بمجرد رجوعه من لندن في شهر نوفمبر بعد فشل المفاوضات، وهو يرى من الضروري أن يعلن تلك الاستقالة لأنه لا يريد أن يتحمل تبعة إجراءات لا علم له بها.
أقدام عساكر الاحتلال هي وحدها التي تسمع في ليل القاهرة.
الطفلان نائمان، والهدوء يسود «الشقة»، والوالدان يجلسان في جانب منها، تقرأ السيدة سوزان بعض الصحف التي وردت من الخارج، ثم تقرأ بعد ذلك على الأستاذ صفحات من كتاب «المأدبة» لأفلاطون، فهو مشغول بذلك الفيلسوف لأنه الآن موضوع محاضراته عن قادة الفكر. وتتوقف سوزان عند هذه السطور:
عندما نتحاب نصلح ما أفسده عارض ما، ذلك العارض فصل نفسين عن بعضهما، كل منهما تبحث عن الأخرى، عندما تلتقيان تتعارفان وتتآلفان، تعودان كلا واحدا، كائنا واحدا وليس كائنين.
وتقول: «ما أقدم هذا الكلام وما أبقاه! هذا ما أحس به أفلاطون، أوليس هذا ما أحسسنا به نحن أيضا؟ أليس هذا ما نحس به الآن؟»
ولكن طه مشغول العقل والقلب بما يجري في البلاد.
وهو في الجامعة ينتهي من الحديث عن قادة الفكر القديم، ويسأل طلابه: والآن ... أليس للفكر قادة الآن؟ وفي أثناء المناقشة التي يثيرها هذا السؤال يلاحظ الأستاذ أن المطبعة والصحيفة، يومية وأسبوعية، سياسية وأدبية، ووسائل الاتصال الجديدة السريعة: التلغراف، التليفون، وكذلك هذه الأداة العجيبة الجديدة التي يسمونها الراديو، والتي سمع أنها استكشفت وأنها ستستعمل فعلا في أمريكا منذ أوائل هذا العام، والقطارات، والطائرات، «فقد عرف قراء الصحف في ذلك الوقت أن أول خط للطيران قد افتتح من نيويورك إلى واشنطن منذ ثلاثة أعوام.» كل ذلك يتيح لكل صاحب فكر أن ينشر فكره بسهولة بين الناس حيثما كانوا، ونتيجة لذلك يتعدد القادرون على الوصول بأفكارهم إلى الجماعات، فتتعدد قيادات الفكر ولا يعود من الممكن أن تصير قيادة الفكر في عصرنا إلى شخصية واحدة.
ويقول طالب: إذا تساوى أصحاب الأفكار في الفرصة المتاحة لكل منهم لتوصيل أفكاره للجماهير، فلا شك أن من كان منهم ممتازا نابغا يمكن أن تصبح له قيادة الفكر في موضوعه وفي إقليمه على الأقل.
ولا ينكر طه حسين ظاهرة النبوغ ويقول لتلميذه إنه على حق. •••
يسافر اللورد اللنبي إلى إنجلترا، يقال إنه مسافر ومعه مقترحاته في جيب واستقالته في جيب آخر، على أنه يعود في فبراير 1922 ومعه تصريح تصدره بريطانيا من جانب واحد بإنهاء نظام الحماية وبالاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وبهذا التصريح - الذي سيعرف باسم تصريح 28 فبراير - تصبح مصر قانونيا دولة حرة مستقلة، ويصبح سلطان مصر «أحمد فؤاد» ملكا عليها، وتؤلف وزارة مصرية جديدة برياسة عبد الخالق ثروت باشا، الذي يتولى إلى جانب منصب وزير الداخلية منصبا آخر هو وزير الخارجية، وهو المنصب الذي كانت بريطانيا قد ألغته عند إعلان حمايتها على مصر عام 1914. وهكذا تستعيد مصر مظهر استقلالها الخارجي، ويكون لها أن تنشئ المفوضيات والقنصليات في الخارج، هذه أهداف وطنية تتحقق. ولكن التصريح قد تضمن أيضا أربعة تحفظات خطيرة خاصة بحماية المواصلات الإمبراطورية، وبالدفاع عن مصر، وبحماية الأجانب والأقليات فيها، وبوضع السودان.
طه حسين يرى أن هذه التحفظات الأربعة توشك أن تجعل الاستقلال صوريا، ولكنه يرى أيضا أن هذا التصريح يدخل مصر مرحلة جديدة يستطيع المصريون - إن هم عملوا بجد وتصميم أثناءها - أن يحولوا هذا الاستقلال إلى حقيقة، وهم يستطيعون على كل حال، بتحملهم مسئوليات الحكم الوطني وبإنشائهم للنظام الدستوري، أن يتخلصوا من حكم الفرد، أي حكم السراي، وأن يخطوا خطوات واسعة وسريعة نحو الاستقلال التام.
ولكن سعد باشا زغلول يرى رأيا مخالفا وهو ينسف تصريح 28 فبراير نسفا، عندما يحكي قصة الأعرابي الذي كانت له ناقة ثمينة عزيزة عليه مرضت مرض الموت، فنذر الأعرابي نذرا لئن شفيت ليبيعنها بدرهم واحد، وشفيت الناقة فأسقط في يد الأعرابي، ثم اهتدى إلى حل بدا له؛ ربط نعلا قديمة بعنق الناقة ثم دفعها والنعل في عنقها إلى السوق، وجعل ينادي عليها: «ناقة بدرهم واحد ونعل بمئة دينار، ولا أبيعهما إلا معا.» فكان الناس يقولون: ما أحلاها لولا الملعونة في عنقها! والملعونة في تصوير سعد هي التحفظات الأربعة التي ربطت في عنق تصريح 28 فبراير.
ويتفاقم الخلاف بين السعديين والعدليين ويزداد الانقسام ويشتد، ويتطرف الشارع المصري في الانحياز إلى زعيمه سعد زغلول وفي معاداة عدلي وثروت وزملائهما، وتخرج الجماهير إلى الشارع لا تريد أن تسمع إلا رأيا واحدا، ولا أن تنقاد إلا إلى زعيم واحد، هتافها «لا زعيم إلا سعد.»
ويخرج طه حسين عما كان يأخذ نفسه به ويرى أن يأخذ العلماء أنفسهم به من الابتعاد عن الانحياز إلى الأحزاب، يكتب أن القول بأن لا زعيم إلا فلان ولا قول إلا قول فلان هو كلام مرفوض، لأن فيه مصادرة لأصحاب الآراء الأخرى لا تجوز.
وطه حسين مدرك أنه - بهذا الموقف - قد أثار سخط الجماهير عليه وعاداها، وقد سبق له أن أثار سخط السلطان واستجلب عداوته، ولكن طه حسين يكره الطغيان في كل صوره ولو كان طغيان الشعوب.
في أول العام الجامعي الجديد «22-1923» يقبل طه حسين دعوة الجمعية الجغرافية الملكية لإلقاء محاضرة بقاعتها عن المادة التي يدرسها في الجامعة وهي التاريخ اليوناني والروماني، ولكنه لا يكاد يبدأ المحاضرة حتى يقاطعه أحد الحاضرين بسؤال عن فائدة هذا الموضوع ولماذا نعنى نحن بتاريخ غيرنا بعد أن نلنا الاستقلال، لماذا لا نحصر اهتمامنا بتاريخ مصر وبتاريخ العرب والمسلمين، ما لنا وللتاريخ القديم؟
وطه حسين يبين أن العناية بمادة معينة لا تعني عدم العناية بسواها، ثم إن دراسة التاريخ اليوناني والروماني نافعة في دراسة تاريخ مصر وتاريخ العرب أيضا، وهي كذلك دراسة لجزء من تراث الإنسانية ونحن ورثة نشارك في هذا التراث فيجب أن نعرفه.
ويرضى المثقفون عن حديث طه حسين، ولكن هناك أيضا من يرضى عن مقاطعة من قاطع ويسخط على طه حسين! •••
يحاول الملك الضغط على رئيس الوزراء ثروت باشا ليعدل المواد الواردة في مشروع الدستور التي تنص على أن الأمة مصدر السلطات، وعلى أن الوزارة مسئولة أمام البرلمان، ولكي ينص الدستور المعدل على حقوق للملك، منها ولايته على التعليم الديني عن طريق وزارة الأوقاف، وحقه في تعيين رئيس مجلس الشيوخ، وكذلك للنص على استثناء بعض المعاهدات التجارية من الخضوع لسلطة البرلمان وغير ذلك من التعديلات.
والإنجليز يطالبون الوزارة بحذف المادتين الواردتين في مشروع الدستور بشأن تلقيب الملك بملك مصر والسودان وبترتيب حكم خاص للسودان.
ولكن ثروت باشا يرفض طلبات الملك، ويحاول الملك توسيط عدلي باشا يكن لدى رئيس الوزراء، فيعتذر عدلي باشا أيضا، فيرغم الملك رئيس وزرائه على الاستقالة، ويعين مكانه رئيس ديوانه توفيق نسيم باشا، ويشاع أن نسيم باشا سينفذ طلبات الملك، فيغضب الزعماء ويغضب الشعب، ويكتب الأستاذ عباس محمود العقاد مقالا يقول فيه:
الدستور كما كتب يعلن، وإن كانت به أخطاء فإن البرلمان يناقشها.
ويكتب عبد العزيز فهمي - أحد الأعضاء البارزين في لجنة الثلاثين التي أعدت الدستور - إلى رئيس الوزراء يقول له:
رجل يجلك ويتفاءل خيرا بوزارتك، يرى واجبا عليه أن يوجه إليك هذا الخطاب بلاغا وتبصيرا، لقد عنيت لجنة الدستور عناية تامة بالبحث في شأن السيادة على البلاد فرأت أنها تمحصت للأمة، وأن كل سلطة قد أصبحت الأمة مصدرها، وأن سلطانها أضحى فوق كل سلطان، فجعلت هذا المبدأ أساسا للدستور ودونته بالمادة 23 من مشروعها. ولكن الناس يتناقلون أن دولة نسيم باشا، غفر الله ذنبه وستر عيبه، قد حذف هذه المادة من مشروع الدستور فقلبه بهذا الحذف رأسا على عقب، وأصبح الدستور مجرد منحة، على اعتبار أنه لا حق في الأصل للأمة ولا سلطان للأمة ولا سيادة للأمة.
ويقول له في خطاب آخر:
فرارا من وخز ضميري أسارع إلى تنبيهكم لشيء من التعديلات الأخرى التي تحاكى بها الخاصة ويألمون لها ... وإنه ليخيل إلي أنكم عاكفون من حول هذا الدستور الأعزل تصوبون إليه سهما بيد وتحبسونه باليد الأخرى، يدفعكم إلى الرمي حب المجاملة، وتمنعكم منه الذمة ومراقبة الله والناس.
ويعلن الدستور في 19 إبريل سنة 1923 كما أعدته لجنة الثلاثين، إلا أن لقب ملك مصر والسودان قد أهمل.
ويكتب طه حسين بتاريخ 25 إبريل 1923، منددا بهذا الإهمال وبهذه السهولة التي أظهرتها الوزارة المصرية في النزول عن النص على هذا اللقب ولو إلى أجل، يقول: «نزلت الوزارة عنه لأن ممثل إنجلترا قطب جبينه ولوى وجهه ... فسألت الله أن يمنح مصر ساسة يستطيعون أن يقاوموا ساسة الإنجليز.»
وينتهي العام الجامعي، ويقبل الصيف، وطه حسين يذكر توصية الطبيب بسفر زوجته وابنه إلى الخارج، وهو لم يستطع الاستجابة لهذه التوصية طيلة العام الجامعي، أما الآن فقد تجمع لديه من ثمن كتبه مال يكفي لشراء بطاقات السفر لأسرته دون أن يسافر هو معها، فلا يتردد في تدبير أمر سفر زوجته وولديها ولا يقبل مناقشة في ضرورة سفرهم وتركه هو في القاهرة. •••
يودع طه حسين زوجته وولديه على الباخرة في الإسكندرية ويعود إلى القاهرة، يدخل «الشقة»، يتلمس السرير الكبير ويقف عند سرير الطفلة أمينة ومهد الطفل مؤنس، وهناك وردة في إناء للزهور وضعتها زوجته السيدة سوزان فيه، فهو يأخذها وينفض الماء عنها ويضعها داخل آخر كتاب كانا يقرآنه معا.
وعندما يجيء الأستاذان مصطفى عبد الرازق ومحمود الزناتي لزيارته، يدور الحديث عن الانتخابات وعن لطفي السيد «بك» الذي سيرشح نفسه فيها، ثم ينتقل الحديث إلى ما جاء الصديقان من أجله، إنهما يريدان منه أن يسافر إلى الإسكندرية معهما فلا يبقى وحده في القاهرة.
وفي الإسكندرية يلتقي لطفي السيد «بك» بطه حسين ويقول له: سنحتفل قريبا بذكرى الإمام محمد عبده فحضر نفسك ماليا وأدبيا، ويرد طه: ماليا نعم، كم يدفع الباشوات والمشايخ الكبار؟ فيقول لطفي: خمسة جنيهات، فيلتزم طه بالنصف، أي بجنيهين ونصف جنيه، أما أدبيا فإنه يعتذر، لأن حفلة التكريم يجب بطبيعتها أن تكون كلها إشادة بامتياز الشيخ، وطه حسين يراه من أعظم المصلحين ومن أفذاذ المجددين، ولكنه لا يستطيع أن يتابعه فيما اتجه إليه من محاولة تفسير القرآن الكريم بحيث يكون ملائما للعلم كما نعرفه في وقتنا الحاضر، لأن القرآن ثابت والعلم متغير، والإيمان بالقرآن الثابت لا ينبغي أن يحتاج إلى محاولة الملاءمة بينه وبين ما يعرفه الناس من العلوم في جيل ما، في بلد ما، قد ينقضه علم جيل آخر أو بلد آخر.
ويلتقي طه حسين ومعه سكرتيره ألبير بصديقه محمود الزناتي في مقهى التريانون، ويقول الزناتي: «إن البحر اليوم ناعم كالبساط.» ويقول السكرتير: «نعم، وأهل الإسكندرية الذين يعرفون أحوال البحر وما يتعرض له من نوات، يقولون إن البحر سيكون غدا هادئا كذلك.» ويقول الزناتي: «إن فندق سان استفانو قد حدد في البحر منطقة مأمونة، النزول فيها للاستحمام أمر لا خوف منه، وفيه رياضة فلماذا لا ننزل غدا؟» ولا يرد طه حسين أولا ولكن الزناتي يقول له: «أنت دائما تريد أن تعرف كل شيء.» ويسأل طه: «وماذا تلبسون عند النزول إلى البحر؟» ويصف له الزناتي لباس البحر في تلك الأيام، ويقول السكرتير إنه من الميسور جدا تدبير اللباس المطلوب.
وفي اليوم التالي ينزل طه حسين البحر عند سان استيفانو، وهو يفكر بعد أن يألف الماء ويمسك بالحبل الممدود في أن هذا هو بحر الروم، مهد إحدى الحضارات العظمى للإنسان، وهذه هي الإسكندرية إحدى عواصم الفكر الإنساني القديم، على هذا الشاطئ كانت تقوم مكتبة الإسكندرية وجامعة الإسكندرية التي علمت بعض قادة الفكر القديم ... لماذا لا تعود للإسكندرية جامعتها وتعود إليها مكتبتها؟
ويستمر تفكيره: لقد عرفت مصر صروح العلم الشامخة؛ من جامعة الإسكندرية، إلى جامعة عمرو بن العاص، إلى جامعة الأزهر، ثم تعرضت لاحتلال الأجانب فضاعت الحرية، وبضياع الحرية ضاع العلم، واستشرت الأمراض، وافتقر الناس، الجهل علاجه العلم، المرض يحاربه التعليم، الفقر يطارده التعليم، الحرية نفسها لن يطالب بها الناس ولن يحرصوا عليها إن حصلوا عليها ولن يقدروها حق قدرها إلا بالتعليم.
لا بد إذن من التعليم، التعليم الجاد، وبهذا التعليم الجاد سنعرف أنفسنا، سنعرف أن أهلنا قد حققوا من الامتياز في الماضي ما لم تحقق مثله الشعوب المعاصرة لهم، وسوف يتبدد الوهم الذي يسيطر على بعضنا بأن شعوب أوروبا أرقى منا بالطبيعة، إنها إنما تجاوزتنا بالعلم، ونحن بالعلم نستطيع أن ندركها بل أن نتجاوزها.
إنه يحس بمسئولية قادة الفكر، مسئولية الرائد أن يسير بأهله إلى ما فيه الخير والنفع والعزة.
وتقبل موجة عالية تكاد تغرقه، فيمسك بالحبل ويخرج بمعاونة صاحبيه، يخرج ضاحكا يقول: «الآن عرفت كيف يسبح الناس، وعرفت أيضا كيف يغرقون!»
ويجلس الثلاثة على شرفة الفندق، فيلاحظ الزناتي أن شهر يوليو مزدحم في الإسكندرية كالعادة، ويذكر الزناتي أن شهر يوليو هو شهر الثورة الفرنسية، وأن الجبرتي قد وصف احتفال نابليون الضخم بهذا العيد في الأزبكية، ويقول طه: «لماذا لا نحتفل نحن بأعيادنا؟»
ويسأل الزناتي: «مثل عيد رأس السنة الهجرية؟»
ويقول طه: «نعم، مثل عيد رأس السنة الهجرية.»
فيقول الزناتي: «هل تذكر قصيدتك في عيد رأس السنة الهجرية منذ نحو عشرين سنة، في احتفال نادي المدارس العليا، قبل السفر إلى فرنسا، سنة 1914؟» ويتذكر طه حسين، ويقول: «نعم، في مدرسة مصطفى كامل ... أجلسني الشيخ عبد العزيز جاويش - سامحه الله - على المنصة إلى جواره فظننت هذا تلطفا منه، ولكنه فاجأني بإعلان اسمي على أنني بديل عن حافظ إبراهيم الذي كان قد وظف في دار الكتب فلم يستطع المشاركة في الاحتفال، لقد أصبح موظفا محترما!»
ويقول الزناتي: «الشيخ جاويش أعلن ذلك لأنك كنت قد أنشدته قصيدتك.»
ويقول طه وهو يبتسم: «نعم، كان عمري عند ذلك الحين خمسة وعشرين عاما. ولقد نسيت الآن ذلك الهراء الذي كنت أسميه شعرا، والذي أنشدته وأنا أرتعد ارتعادا.»
ويقول الزناتي: «ولكني لم أنس، أنت قلت مخاطبا هلال السنة الجديدة:
كن أنت، بعد أخيك، خير هلال
وأضئ لمصر سبيل الاستقلال»
ويرد طه حسين: «هل هذا شعر؟!»
ويرد الزناتي: «المهم أنك كنت تبحث عن طريق الاستقلال منذ عام 1914، قبل الثورة المصرية بخمس سنوات.»
ويقول طه حسين: «هل تذكر يا زناتي من ألقى قصيدة أخرى في تلك الحفلة؟» ويرد الزناتي: «نعم، الشاعر أحمد نسيم.»
ويقول طه: «نعم، ولكن المهم أكثر الشاعر خليل مطران، الشاعر المسيحي الذي أنشد في ذلك العام قصيدة رائعة لمناسبة بدء العام الإسلامي، مشاركا الشباب الذي أراد أن يحتفل بأعياد البلاد.»
ويقول الزناتي: «نعم، عندك حق في أن تذكر خليل مطران، شاعر القطرين كما نسميه الآن، وأن تذكر هذا التضامن الرائع بين المسلمين والمسيحيين في مصر وهو أساس نهضتنا الحاضرة بغير شك، ولكن هل تذكر ماذا قلت أنت مخاطبا أولئك الشباب؟ لقد قلت:
شبان مصر لكم أزف تحيتي
وإلى حميتكم أسوق مقالي
أحيوا العلوم ولا حياة لأمة
أمر النساء بها إلى الإهمال
كونوا لمصر كما تؤمل فيكم
ذخر الزمان وبهجة الآمال
وأنت ورأيك في قيمة الشعر، ولكن المعنى، الموضوعات، الاستقلال، المرأة والشباب، أنت كنت تبحث عن الاستقلال عام 1914 وترى أن بناء الوطن بعد ذلك يحتاج إلى العناية بالشباب وبالمرأة والاهتمام بالعلوم، قلت هذا في سنة 1914 وعمرك خمسة وعشرون عاما.
وهناك بيت آخر كنت نسيته ولكني أتذكره الآن، لقد قلت في تلك القصيدة:
منا بليتنا، وفينا برؤها
لولا اختلاف الرأي والأميال»
ويردد طه حسين في شيء من التهكم: «الأميال؟!»
ويقول الزناتي: «يا سيدي القافية أحوجت إليها، تقصد اختلاف الرأي واختلاف الميول، المهم المعنى: منا نحن بليتنا وعندنا نحن الدواء! هذا كلام قلته أنت عام 1914، ألا ينطبق هذا الكلام علينا الآن في عام 1923 في حالة التطاحن ومحنة التطرف والتعصب مثلا، نظرا لأن وزارة ثروت هي التي كونت لجنة وضع الدستور الذي يتلهف الشعب كله على وضعه وتطبيقه، فإن سعدا باشا سماها «لجنة الأشقياء» ... وأصبح هذا هو اسمها على لسان الشعب حتى اليوم؟»
ويقول طه حسين: «موضوع الدستور وحقوق الشعب يستحق كتابة مقال.»
ويقول الزناتي: «ليس هذا وقت كتابة، لقد فهمت أنك مرشح لوظيفة جديدة، وظيفة اسمها مدير مكتب الترجمة والنشر العلمي، يقولون إنها ستنشأ في وزارة المعارف وإنك سوف تتولاها.»
ويقول طه حسين إن وزير المعارف ورئيس الوزراء قد كلماه في شيء مثل هذا، «ولكن موضوع الساعة ليس هو الترجمة والنشر العلمي، وإنما هو تأكيد مسئولية الشعب عن إدارة شئونه بنفسه، خاصة ونحن مقبلون على الانتخابات.»
ويعود إلى فندقه ويطلب إلى سكرتيره إعداد الورق والقلم، فيسأل السكرتير: «المقال؟» فيقول طه: «نعم، ولكن أولا خطاب لفرنسا.» ويمليه الخطاب ليرسله إلى زوجته، يقول فيه:
دفعت جنيهين ونصفا في حفلة الشيخ محمد عبده، ودفعت طلبات الإخوان الذين يعتقدون أنني غني، والحمد لله، وبقي معي ثلاثة جنيهات لأول الشهر، ولكني سأتدبر الأمر، المهم كيف أحوال الطفل وأمينة وكيف حالك؟
ثم يملي المقال عن حق الشعب ومسئوليته.
ويقرأ الزناتي المقال وهو جالس على قهوة التريانون فيقول: «إذن طارت وظيفة مدير الترجمة والنشر العلمي.»
ويقرأ والد طه المقال في كوم امبو فيدخل بالصحيفة على زوجته «أم توفيق» ويقول لها: «هذا طه يكتب أن الناس جميعا سواء أمام خالقهم وأمام وطنهم، وهم جميعا مسئولون عن مصيره ... هذا كلام كبير يا أم توفيق.» وأم توفيق تدعو لطه بالخير وبأن يحفظه الله من كل سوء. •••
وينتهي صيف 1923، وتعود الأسرة من باريس، والزوج والزوجة كلاهما يقدران أنهما قد ادخرا شيئا من المال من إيراد كتب الأستاذ، فأما الزوج فقد رأى أن خير ما ينفق فيه هذا المال هو شراء بيانو يفاجئ به زوجته عندما تعود من باريس، أما الزوجة فقد رأت أن خير ما ينفق فيه هذا المال هو شراء ساعة ثمينة من فرنسا تفاجئ بها زوجها عندما تعود إلى مصر، والآن يفاجئ كل منهما الآخر ... وإذن فالمال المدخر قد أنفق مرتين! فكيف الخروج من هذا المأزق؟
يتذكر طه حسين أسطورة تونسية خلاصتها أن الفتى أحمد والفتاة جويدة، كانا يعيشان في مدينة القيروان فالتقيا، فتحابا، فتعاهدا على الزواج، فغضبت قبيلتاهما وخلعتاهما، فهربا من القيروان، وتزوجا وعاشا في ضيق وضنك؛ يسعى أحمد على جواد له ليكسب رزقه المحدود، وهو لا يجد لديه مالا يشتري به سرجا للجواد، ثم ينقضي عام على زواجهما، وتريد جويدة أن تقدم لزوجها هدية في عيد الزواج، فتقص شعرها الطويل الجميل، وتشتري بثمنه سرجا لجواد أحمد، ولكنه يعود إليها في يوم عيد زواجهما راجلا بدون الجواد وفي يده مشط ذهبي اشتراه لزوجته لتزين به شعرها الطويل الجميل، وهكذا تقدم جويدة إلى زوجها السرج وقد باع الجواد، ويقدم أحمد إلى جويدة المشط الذهبي الذي طالما اشتهته، ولكنها قد قصت شعرها فما حاجتها إلى المشط الآن؟
ويتسامع الناس بقصة هديتي عيد الزواج، وتصل القصة إلى القبيلتين فترق القلوب للزوجين، ويسعى إليهما الأهل، فيردونهما إلى القيروان يعيشان فيها حياة السعادة والرخاء.
وتقول سوزان: «أنا لا أعرف لي قبيلة في فرنسا، وأنت لا تنتظر أن تهرع إليك القبيلة من المنيا.» وهي لذلك تسأل عن وظيفة مدير مكتب الترجمة والنشر العلمي، التي من شأنها أن تعين على الحصول على بعض المال، ويقول لها طه: «على هذه الوظيفة السلام، لقد ضيعتها، مدركا لما أفعل، بمقال ...» وتسأل سوزان: «والآن؟» ويقول طه: «الآن نستأنف الحياة معا، نستعد للعام الجامعي الجديد، ونتحدث بعد العشاء.»
بعد العشاء يقول لها إن جريدة السياسة تعرض عليه الإشراف على صفحتها الأدبية وتحريرها، أي تولي كل مسئوليتها وليس مجرد الكتابة فيها كما كان يفعل من قبل.
وتسأل زوجته: «ألن يشق عليك هذا العمل؟ إنك تبذل في الجامعة مجهودا ضخما.» فيقول طه: «سأخصص الصباح لأعمال الجامعة، وأخصص وقتي بعد الظهر لأعمال الصحيفة.»
وتحاول زوجته أن تثنيه عن القبول فهي لا تريد أن يرهق نفسه، وهو يؤكد لها أن الكتابة لن ترهقه، ويتقدم الليل وتنتهي المناقشة بقوله: «إن الليل يقبل بالمشورة.»
وكعادته يقوم بالتأكد من إغلاق النوافذ والأبواب قبل النوم.
في الصباح يقول طه حسين لزوجته وهما جالسان إلى مائدة الإفطار: «لقد أقبل الليل بالنصيحة، إن أثر محاضراتي على الطلاب محدود بعددهم ... وطلاب الثقافة في مصر والعالم العربي لا يمكن أن يختلفوا جميعا إلى الجامعة، ولا أن يحضروا جميعا محاضرات في الجمعية الجغرافية مثلا، إن الصحيفة وسيلة العصر لنشر الثقافة وإتاحتها لطلابها أينما كانوا ومهما كان عددهم، أرجو أن يوفقني الله في هذا العمل الجديد، إني أحس الحاجة إلى أن يصل صوتي إلى أبناء وطني. وأنا أعدك ألا يطغى وقت الجامعة على وقت الصحيفة وألا يطغى وقت الصحيفة على وقت الجامعة.»
وتجيب هي بأن المهم ألا يطغى الاثنان على الوقت الذي يقضيه مع أسرته، الوقت الذي تحس فيه أن الجامعة والحياة العامة لم تأخذاه منها ومن ولديه تماما ولم تستبدا به غاية الاستبداد.
حديث الأحد ... وحديث الأربعاء
في دار صحيفة السياسة يتحدث الدكتور طه حسين مع صديقه الدكتور محمد حسين هيكل رئيس التحرير عن خطته في تحرير الصفحة الأدبية، إنه سوف يستأنف فيها أحاديثه التي كان يمد الصحيفة بها كل يوم أربعاء، سيحدث قراءه عن بعض شعراء العرب في القرنين الثاني والثالث الهجريين وعن العصر الذي عاشوا فيه، وعن ثقافته كيف كانت وكيف تكونت، إنه يريد أن يصل قراء العربية المعاصرين بتراثهم الضخم الذي يجب أن ينفض عنه التراب، وأن يحبب إليهم لغتهم الجميلة التي أخذت بعض الأصوات تدعو إلى هجرها واستخدام العامية مكانها. وهو كذلك ينوي أن يتحدث في صفحة «السياسة» الأدبية عن بعض روائع المسرح الفرنسي المعاصر كل يوم أحد إن أمكن. إنه يريد أن يصل القراء من جهة بالتراث العربي الذي يحرص على جلائه وعلى صيانته، ومن جهة أخرى بأدب الغرب المعاصر الذي لا يجوز جهله ولا تجاهله.
هيكل يوافق طه حسين ويتحمس له، وهما يتذكران كيف تعارفا، حين كانا ناشئين، في مكتب الأستاذ لطفي السيد مدير «الجريدة»، كيف كانا يختلفان إليه في الضحى بين حين وحين فيراقبان عمله في إدارة الجريدة وتحريرها، ويسمعان أحاديثه في السياسة والفلسفة والمنطق وفي الأدب العربي أيضا. يقول طه: «كنت أنت طالبا في مدرسة الحقوق عند ذلك، وكنت أنا مجاورا في الأزهر ثم طالبا في الجامعة المصرية، وسافرت أنت إلى فرنسا لإتمام دراسة الحقوق وتركتني في مصر.» ويقول هيكل: «نعم، وعلينا نحن الآن إدارة صحيفة السياسة وتحريرها، ونرجو أن نكون قد استفدنا من ترددنا على «الجريدة» ومن علم وتجربة أستاذنا لطفي السيد.»
ويقول هيكل إنه تلقى رسالة طريفة من طنطا، يقرأ نصها وهو:
سيدي الفاضل الدكتور حسين بك هيكل
أرسل إلى السياسة هذه الرسالة، عاتبت بها ظريفا من أدباء الشام، كنت كتبت إليه فتفتر في رد كتابي؛ لأن جماله ظرف وظرفه جمال، وهما إذا اجتمعا كان لهما حكم خاص في قانون الرسائل، وقد كتبتها من النمط الأول الذي هو فن من زينة البلاغة العربية يشبه فنون الزخرفة والتنسيق، وهو حين يكون في مثل هذه الرسالة لا يكون أبدع منه شيء من الأساليب الأخرى. فأرجوكم الحفاوة برسالتي هذه في «السياسة» الغراء والتمهيد لها بما يبين عن سبب كتابتها، حفظكم الله للمخلص الأمين مصطفى الرافعي.
ويطلب طه إلى هيكل أن يقرأ عليه الكلمة المطلوب الحفاوة بها ونشرها، فيقرأ هيكل: ... فإن كان قلبك شيئا غير القلوب فها نحن شيء غير الناس، وإن كنت هندسة وحدها في بناء الحب فما خلقت أيامنا في طولها وقصرها للقياس، وهب قلبك في هذه الهندسة مربعا أفلا يسعنا ضلع من أضلاعه؟ أو مدورا أفلا يمسنا محيطه في انخفاضه وارتفاعه؟ وهبه مثلثا فاجعلنا منه بقية في الزاوية، أو مستطيلا ...
ويقول طه ، بعد أن يستمع إلى الرسالة بكاملها: «سننشر هذه الرسالة، وسأعلق عليها تعليقا قصيرا جدا.» ثم يملي التعليق وهو:
أما أنا فأعتذر للكاتب الأديب إذا أعلنت مضطرا أن هذا الأسلوب الذي ربما راق أهل القرنين الخامس والسادس للهجرة، لا يستطيع أن يروقنا في هذا العصر الحديث الذي تغير فيه الذوق الأدبي تغيرا كبيرا.
وتنشر «السياسة» كلمة الأستاذ الرافعي مع تعليق طه حسين، ويرسل الأستاذ الرافعي تعليقا على التعليق، وتنشب معركة أدبية يتوالى الأخذ والرد فيها بين أنصار القديم وأنصار الجديد. ويدخل المعركة كتاب ومفكرون آخرون، منهم الأستاذ سلامة موسى والأستاذ أحمد زكي أبو شادي مؤيدين لطه حسين، ومنهم الأستاذ عباس محمود العقاد الذي كتب رسالة قال عنها طه حسين: «إن فيها خيرا وشرا وفيها ثناء وذما.» ويكتب آخرون يدافعون عن الرافعي ويهاجمون طه حسين.
ويقول طه لهيكل: «إننا إذا وافقنا أنصار القديم على الكتابة بلغة القرون الماضية المعقدة، فإن الشباب سينصرف عن اللغة العربية الفصحى، سوف يجدها قديمة لا تلائمه ولا تؤدي ما يحس به، إننا لا بد أن نلائم بين اللغة والحياة، لا بد ألا تتخلف اللغة العربية عن عصرها، وأن تكون قادرة على التعبير عما يريده أهلها تعبيرا صادقا واضحا.»
ويتساءل: «ماذا يمكن أن ينكر علينا الأستاذ الرافعي وأصحابه؟ متى كان القصد إلى الصدق وإلى حسن الملاءمة بين ما نجد وبين ما نصطنع في وصف ما نجد ذنبا يذكر أو شيئا يعاب؟!»
ويقول: «إنهم يقولون إنهم مشفقون كل الإشفاق على القرآن الكريم وعلى الإسلام أن يصيبهما من المذهب الجديد شر أو ينالهما منه ضيم ... ولكن المذهب الجديد لا يقتل اللغة ولا يغير من أصولها وقواعدها، وإنما يريد أن تكون اللغة حية نامية، ومن ذكر الحياة والنمو فقد ذكر التطور ...»
ويتناول طه حسين في «أحاديث الأربعاء» العصر الذي انحلت فيه الدولة الأموية وقامت فيه الدولة العباسية، فيقرر أثناء بحثه أن «الشك والعبث والمجون كانت أظهر مميزات ذلك العصر.» على أنه يعرف أن الناس عادة يكرهون الحديث عن القدماء بغير التبجيل والإكبار فيكتب: «ما كان لي ولن يكون لأحد من الباحثين الذين يقدرون العلم وكرامته، أن نغير التاريخ أو أن نظهر عصرا من عصور الأمة العربية على غير ما كان عليه.»
ويقول أيضا: «ونحن نعلم حق العلم أن ليس على عقول الناس ولا أخلاقهم خطر من مثل هذه البحوث الأدبية، فالناس لم ينتظروا لهو أبي نواس وأصحابه ليعرفوا اللهو، والناس لم ينتظروا هذه الفصول وأمثالها ليعرفوا العبث، ونحن لم نكتب هذه الفصول وأمثالها لنحبب العبث إلى الناس ونرغبهم فيه، فإن في ظروف هذه الحياة التي نحياها مرغبات في اللهو ومحرضات على العبث أقوى وأبلغ من لهو أبي نواس وعبث مطيع وحماد.»
ويلاحظ طه حسين فيما بعد أن أحاديث الأربعاء كان لها - على كل حال - نتيجتان قيمتان: «الأولى أنها جلت ناحية من نواحي تاريخ الأدب العربي لم تكن واضحة ولا بينة وليس هذا بالشيء القليل، والثانية أن فيها ضربا من مناهج البحث تمكن من استغلال هذه الكنوز القيمة التي لا تزال مجهولة والتي نشأ من جهل الناس إياها غضبهم من الأدب العربي وانصرافهم عنه في أنفة وازدراء»، وهو يؤكد: «إن الذين يزدرون الأدب العربي ويغضبون منه يجهلون هذا الأدب جهلا منكرا»، ويقول: «نحن نحب لأدبنا القديم أن يظل قواما للثقافة وغذاء للعقول لأنه أساس الثقافة العربية، فهو إذن مقوم لشخصيتنا محقق لقوميتنا، عاصم لنا من الفناء في الأجنبي، معين لنا على أن نعرف أنفسنا.»
ويكتب إليه مهندس يعمل في بعض مدن الصعيد يقول إنه لم يعن من قبل بالأدب العربي قط ولم يقرأ لغير المحدثين لا شعرا ولا نثرا، ولكنه منذ اطلع مصادفة على أحد أحاديث الأربعاء قد جعل يترقبها ويحرص على الحصول على أعداد جريدة السياسة التي تنشرها، لا يستطيع أن يعود إلى منزله إلا والجريدة معه، ولا يستطيع أن يأوي إلى فراشه إلا وقد قرأ حديث طه حسين عن شعراء العرب الأقدمين ثم أعاد القراءة ثانية وربما أعادها ثالثة، يجد في هذا الحديث الجديد وفي ذلك الشعر القديم ما يعجبه كل الإعجاب ويرضيه كل الرضا، ويعلمه ما لم يكن يعلم وهو أن للعرب الأقدمين تراثا لا يجوز إهماله. •••
وتنتقل أسرة طه حسين إلى ضاحية مصر الجديدة وتستقر أخيرا في منزل فيها بشارع المنيا له حديقة مشمسة، فإن الطبيب قد نصح بالسكن في مكان مثل مصر الجديدة أو حلوان يتعرض فيه الصغير «مؤنس» للشمس مراعاة لصحته.
وربة الدار تعنى بحديقة المنزل، وتعد فيها مكانا لجلوس زوجها للقراءة ولتحضير الدروس، وتزرع أربع شجرات من أشجار البوانسيانس تحيط بالمكان الذي خصصته لجلوسه، وقد أخذت هذه الأشجار تنمو قوية بفضل رعاية البستاني عم إسماعيل.
على مقربة من هذه الأشجار تلعب ابنته أمينة وابنه مؤنس، الذي قد تعلم المشي الآن، وفي ظلها يجلس والدهما يستمع إلى سكرتيره توفيق يقرأ له حين يقبل لطفي السيد، الذي يسكن على مقربة بمصر الجديدة أيضا، فينصرف السكرتير، وتقترب أمينة من الزائر لتحييه فتسمعه يقول لوالدها: «فلنتناقش كما كان أرسطوطاليس يتناقش، سأسأل أنا وسوف تجيب ...» وبعد أن تستمع أمينة إلى حديثهما برهة قصيرة تتركهما لتعاود اللعب.
وينصرف لطفي السيد بعد ساعة وتهرع أمينة إلى والدها تقول له: «نتكلم مثل طاليس، أنا أسأل وأنت تجيب!» ويقول والدها مبتسما: «نعم؟!» وتسأل أمينة: «هل يجب أن نحب الأشياء الحلوة أم لا؟» ويقول والدها: «يجب» ... فتسأل: «وهل الحلاوة الطحينية حلوة أم لا؟» ويجيب والدها: «حلوة» ... وتسأل: «لماذا إذن تمنعني أمي وتمنع أخي من أكل الحلاوة الطحينية؟» فيبتسم ويقول لها: «سأسألها، وسوف ترد علي بغير شك، وسوف أبلغك بالرد غدا، ولكن اذهبي الآن واتركيني أستأنف القراءة، ولا تنسي أن تطلبي إلي غدا أن أقص عليك القصة التي أقرؤها الآن، قصة رجل كان اسمه أوديب، عاش منذ زمن بعيد، في بلاد جميلة بعيدة.»
وتغفل أمينة عن أخيها، وهو يحاول الصعود على السلم فيقع، يقع عند شجرة ورد، أبوه يلتفت، وأخته تسرع إليه، وينظر مؤنس إلى الورد ويقول: «ودة»، هذه أول كلمة ينطق بها، وتساعده أخته وهي فرحة وتدخل به إلى المنزل، وعندما تغلق الباب خلفها تتسرب منه موسيقى جميلة هادئة، وطه حسين يبتسم، يتذكر أيام طفولته، كيف كان يلعب وحيدا بقطع الحديد يضرب بعضها ببعض في ركن من أركان منزل متواضع بريف الصعيد، لا يعرف أشجار الورد، ولا أنغام الموسيقى ... ولا يتحدث الأطفال فيه عن طاليس ... •••
عندما يحضر الدكتور محمد حسين هيكل للزيارة بعد يومين يجري الحديث بينه وبين رب البيت حول المعركة التي اشتدت حدتها على صفحات جريدة السياسة وغيرها حول القديم والحديث في الأدب، وطه حسين لا يرى بأسا من قيام هذه المعركة، بل لعل فيها خيرا، وهو يذكر صاحبه بالمعركة التي دارت بينهما عام 1915 في مجلة السفور، عندما كتب طه حسين مقالا بعنوان: «الحرب والحضارة» بتوقيع «تاسيت»
1
أيد فيه النظرية القائلة بأن الحروب هي التي دفعت الإنسانية إلى الأمام، ورد عليه هيكل بمقال قال فيه: «إن الحرب طالما دمرت وخربت، وإن حماقة الإنسانية هي التي تدفعها إلى الحروب.»
ويقول طه: «كان معنا في ذلك الوقت مصطفى عبد الرازق ومنصور فهمي وعبد الحميد حمدي صاحب مجلة السفور، ولقد راقتنا جميعا فكرة اصطناع هذه المعركة اصطناعا لأنها تدعو القراء لمتابعة ما نكتب، فالناس لا يحبون شيئا حبهم الخلاف والجدل.»
ويعود طه حسين بالحديث إلى صفحة السياسة الأدبية وتحريرها، إنه يقرأ الآن مسرحية للكاتب الفرنسي «موريس دونيه»، من أعضاء الأكاديمية الفرنسية، عنوانها «السيل»، ينوي أن ينشر في السياسة فصلا عنها يوم الأحد القادم، ويقول طه لهيكل: «لقد قرأت أنت ولا شك أن لامرتين دعا إليه يوما الكاتب الفرنسي المشهور فلوبير عندما نشر قصته «مدام بوفاري»، فلامه لأنه أبكاه بتلك القصة، وأنا أيضا وددت لو صنعت بمؤلف قصة السيل ما صنع لامرتين مع فلوبير، أدعوه لألومه لأنه أبكاني.»
ويسأل هيكل كيف سيكون تعليق طه عليها، يقول طه: «سيكون تعليقي هو: إننا ضعاف نكره العلم ونخشاه لأننا أضعف من أن نتحمله، ونؤثر الظلمة ونهواها لأن أبصارنا أضعف من أن تثبت للضوء، ونحب أن نظل مخدوعين فلولا الجهل والانخداع ما عمل الناس ولا أملوا ولا أحبوا، وأي شيء هي الحياة وما فيها من عظيم لولا العمل والأمل والحب؟» •••
ويسعى طه حسين إلى الجامعة ليلقي محاضراته في الأيام المحددة لها، لا يقتصر نشاطه على المحاضرات والتدريس، فإن زملاءه الأساتذة يختارونه عضوا في اللجنة التنفيذية التي تضع البرامج ونظم التعليم.
ويعد طه حسين تقريرا لتقديمه لهذه اللجنة، يقول فيه:
أولا:
يجب التفكير في إدخال تعليم لغتين في كلية الآداب؛ اللغة الأولى هي اليونانية لأهميتها لدارسي التاريخ والأدب والحضارة العالمية، والثانية هي اللغة القبطية لأهميتها لدارسي التاريخ والأدب والحضارة المصرية.
ثانيا:
يجب التفكير في تنظيم الإرساليات للطلاب المتفوقين إلى الخارج، إلى كل بلد يوجد فيه الأساتذة الممتازون في فروع العلم المختلفة.
ثالثا:
لا بد للجامعة من أن تشارك عن طريق أساتذتها في المؤتمرات وحلقات الدراسة العالمية، لا ليستفيدوا منها فقط بل ليفيدوا أيضا بمساهمتهم العلمية في ميادين دراستهم ...
ويقدم التقرير إلى اللجنة لتبدي فيه رأيا ترفعه إلى المسئولين في الجامعة.
وفي صيف عام 1923 تنتدب الجامعة طه حسين للمشاركة في مؤتمر التاريخ في بروكسل، ويلقي طه حسين بحثا في المؤتمر يتحدث عنه بقية الأعضاء في حفل الاستقبال الذي تقيمه لهم ملكة بلجيكا الملكة إليزابيث، لقد قدم الأستاذ المصري طه حسين إلى المؤتمر بحثا عن معاهدة أبرمت بين السلطان قلاوون وبين ابن جليم الثاني ملك أراجون من ملوك إسبانيا المسيحية.
2
أخرج طه حسين نص المعاهدة العربي سليما بعد دراسة نصها الإسباني «اللاتيني» الموجود في المكتبة الأهلية في باريس، وكان كتاب صبح الأعشى «قد سجل لها نصا عربيا مشوها وفيه اضطراب كثير وضروب من التحريف غريبة»، وكان على طه حسين تقويم الاضطراب والتحريف، كما كان عليه إثبات أن هذا النص صحيح من الوجهة التاريخية، وأن هناك معاهدة عقدت حقا بين مصر وإسبانيا المسيحية في زمن قلاوون، وقد فعل ذلك كله وتحقق منه ثم قدم بحثه الممتاز إلى المؤتمر.
إن أعضاء المؤتمر - وهم نحو الألف من مختلف قارات العالم - يتحدثون بمناسبة هذه البحث عن مركز مصر الدولي الممتاز في القرن الثالث عشر الميلادي وعن قلاوون سلطان مصر. يقول أحد أعضاء المؤتمر: «إن قلاوون أجلى الصليبيين بجيشه المصري عن طرابلس الشام وعن اللاذقية، وكان يعد العدة للهجوم على عكا عندما مات فجأة»،
3
ويقول عضو ثان: «إن الأهم هو تصدي المصريين بقيادة قلاوون للمغول وهزيمتهم لهم في معركة حمص عام 1281 للميلاد»، ويرد صاحبه بأن البحث قد بين بشكل جيد عناية سلطان مصر بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين بلاده وبين أوروبا، ويذكر زميله أن السلطان قلاوون هو الذي ابتكر نظام الجوازات «الباسبورتات»، فقد كان يعطيها للتجار موصيا بأن يدخلوا بلاد مصر والشام بأمان، وبأن يمروا بالبلاد التي يدخلونها في المشرقين الأدنى والأقصى حتى الهند في رعاية سلطان مصر سالمين. •••
وعندما يعود طه حسين من بروكسل إلى القاهرة يذهب لمقابلة مدير الجامعة حسين رشدي باشا، ثم لمقابلة وكيل الجامعة أحمد لطفي السيد بك، وهما يهنئانه لتوفيقه في البحث الذي قدمه إلى المؤتمر والذي شرف الجامعة حقيقة.
ويتحدث طه حسين مع مدير ووكيل الجامعة عن اهتمام الملك ألبير والملكة إليزابيث بالمؤتمر وموضوعاته وعن معاملتهما لأعضائه في بساطة وإحساس بأن الملك لا يقوم على القهر، بل على مودة الناس وتقبلهم لملكهم وملكتهم، ويذكر لهما كيف كان إعجاب أعضاء المؤتمر بمصر القديمة مقترنا بإعجاب مماثل بمصر الحديثة ونهضتها، وبما حققته بجهادها من الاستقلال واشتراكها في المؤتمر باعتبارها دولة مستقلة بعد صدور تصريح 28 فبراير 1922، وإعجابهم أيضا بالنهضة التي يمثلها وجود الجامعة المصرية.
وفيما يخص أعمال المؤتمر يشير طه حسين إلى اقتراح أقرته لجنة من لجانه، مضمونه أن الوثائق القومية لبلد من البلاد - سواء الوثائق الإدارية أو السياسية أو الفنية أو العلمية - هي حق من حقوق هذا البلد لا يصح أن يعتدي عليه معتد بحكم الفتح أو بأي سبب آخر
4
ويتساءل طه حسين، في شك شديد: «هل يمكن تنفيذ مثل هذا القرار؟» ويضيف: «كم يكون نفعه لو نفذ لبلادنا التي نقل الغزاة منها إلى بلادهم ما نقلوا من الوثائق والمخطوطات والآثار!» ويشير طه حسين إلى ما كان واضحا في المؤتمر من إتقان بعض المؤرخين الأجانب للغات الإسلامية غير العربية مثل الفارسية والتركية، وانتفاعهم بها في بحوثهم التاريخية التي تتعلق بحضاراتنا نحن، ويرى الأستاذ ضرورة قيام الجامعة والأزهر بتدريس هذه اللغات للرجوع إلى ما كتب فيها من المصادر التي لا يمكن إهمالها وللاتصال بالشعوب التي تتحدث بها، ويشير كذلك إلى عناية علماء المؤتمر بمناهج البحث ويدعو إلى أن توجه إليها الجامعة المصرية عناية كبيرة، ثم ينتقل الحديث إلى مصادر تاريخنا العربية، فيذكر أن كتاب «صبح الأعشى» - وهو الكتاب الذي عثر فيه على النص العربي لمعاهدة قلاوون - مطبوع طبعة غير دقيقة وغير علمية، ويتمنى أن تقوم الجامعة بطبع هذا الكتاب الهام في دراسة علاقات مصر الدولية، وطبع أمثاله طبعا علميا، مع إعداد ما يلزم لهذا الطبع العلمي من فهارس وتعليقات، وذلك في مطبعة خاصة بالجامعة يتمنى أيضا لو أمكن إنشاؤها قبل زمن طويل.
ويرد لطفي السيد قائلا: «إننا نحتاج إلى المال، إن جامعتنا تبذل أقصى جهدها في حدود ما يتيحه لها مالها المحدود، على أنها تعتمد أكثر ما تعتمد على تبرعات أهل الخير وهذا غير كاف، إننا نريد أن نستعين بخير الأساتذة، ونريد أن نضع في متناولهم ومتناول طلابهم أحدث المراجع، وأن نصلهم، عن طريق الإرساليات وعن طريق المؤتمرات، بالحياة العلمية في الجامعات والمعاهد الأجنبية، ولكن الميزانية لا تتسع حتى لالتزاماتنا الحالية، وقد كان لذلك أثره على أعضاء مجلس الإدارة، وأخشى أن يكون للخلاف الذي وقع بينهم نتيجة لذلك عواقب بالغة السوء.» •••
يتذكر طه حسين كيف عانت الجامعة ماليا في الماضي، وكيف أثرت هذه المعاناة فيه شخصيا حين هددت دراسته في أوروبا، ويذكر أن الجامعة قد لجأت أخيرا إلى الاقتصاد المخل، ويتساءل: «لماذا لا تعيننا الحكومة وقد استقلت مصر وتخلصنا من معارضة الإنجليز لقيام الجامعة وتقدمها؟» ولطفي السيد يقول: «إن الحكومة لا تعيننا كما يلزم، بل إنها لا تعترف بشهادات الجامعة حتى الآن، وهذه عقبة ضخمة أمام متخرجينا، وقد تمت اتصالات مع الملك فؤاد - الذي كان يهتم حين كان أميرا بشئون الجامعة اهتماما كبيرا - ومع الحكومة، فقيل لنا إن حكومة جلالة الملك تفكر في إنشاء جامعة تابعة لها سيكون فيها بطبيعة الحال كلية للآداب، ولم تنتج اتصالاتنا شيئا إيجابيا من شأنه مساعدة جامعتنا وإتاحة الموارد اللازمة لها حتى الآن.»
ويذكر طه حسين أن زكي باشا أبو السعود - وزير المعارف في ذلك الوقت - رجل مستنير، ويستأذن في أن يزوره ليعرف مدى استعداده واستعداد الحكومة لمساعدة الجامعة، ولا يعارض الوكيل ولا المدير.
وبعد أيام يجتمع مجلس الجامعة برئاسة حسين باشا رشدي فيعرض الرئيس على المجلس نتيجة الاتصالات مع وزير المعارف، ويذكر لهم أن الوزارة قد أبدت استعدادها لضم الجامعة إليها، وهي ستتكفل في هذه الحالة بموازنة ميزانيتها وتمكينها من الموارد اللازمة لها، كما أنها ستعترف بشهاداتنا.
رشدي باشا يلاحظ أن طه حسين، الذي ساهم في هذا المسعى، سيكون هو نفسه معرضا لكثير من المضايقات إذا أصبحت الجامعة حكومية؛ هناك مشكلة الكشف الطبي وشروط الاستخدام في الوظيفة التي سيطالب باستيفائها، وهذه مشكلة مقدور عليها، ولكن هناك أيضا ما أثارته المقالات التي كتبها في الصحف من سخط وغضب لدى كثير من الجهات، إن حديثه عن الأمة وأنها - هي وحدها - مصدر كل السلطات قد أغضب السراي، ومقالاته التي اعترض فيها على التعويضات الضخمة التي كانت إنجلترا تطالب بدفعها للموظفين البريطانيين المستغنى عنهم بعد الاستقلال قد أغضب الإنجليز، وكذلك أغضبهم احتجاجه العنيف على إهمال لقب ملك مصر والسودان في دستور 1923. ويقول رشدي باشا: «إن الجامعة هي التي أذنت لطه حسين بالكتابة في الصحف، ويحسن الآن أن تشترط على الحكومة احترام تعهداتها نحو موظفيها، كما يحسن التأكد من أنها سوف تحتفظ باستقلالها وشخصيتها المعنوية وبحقها في إدارة شئونها بنفسها، تحت إشراف وزارة المعارف نعم، ولكن بكيفية مستقلة كما هي الحال في جامعات أوروبا.»
ويذكر رشدي باشا أن الإنجليز قد أرسلوا في شهر مارس الماضي مذكرة إلى الدول الأجنبية ينبهونها بها إلى أن علاقة إنجلترا «الممتازة» بمصر ما زالت قائمة، وأن التدخل في شئون مصر من أي دولة سيكون عملا غير ودي بالنسبة لبريطانيا، ويقول: «إن الإنجليز يعتبرون أنفسهم مسئولين عن الأجانب حسب التحفظات الأربعة الشهيرة، وهم - على هذا الأساس فيما يظهر - مهتمون بمناصب العمادة في الجامعة إذا أصبحت حكومية؛ يريدون أن يحتفظ بها للأجانب.»
ويعلق أحد الأعضاء بأن هذه المناصب لا بد أن يشغلها المصريون كلما وجد المصري الكفء ليشغل منصبا منها، ويقول المدير: «إن أستاذا مثل طه حسين كفء لشغل مركز وكيل كلية الآداب، أو حتى عميدها، ولكن قد تكون الحكمة الآن في تأجيل ذلك منعا لاصطدام الإنجليز بالحكومة.»
ويقول أحد الأعضاء بهذه المناسبة إن العالم العربي كله قد تابع باهتمام وإعجاب كبيرين مقالات طه حسين في الأدب العربي، ويسأل: «ألا يحسن أن يترك الآن تدريس التاريخ القديم ليصبح أستاذا للأدب العربي؟»
ويتم إعداد عقد إلحاق الجامعة بالحكومة متضمنا أن «تكون الجامعة المصرية معهدا عاما محتفظة بشخصيتها المعنوية وتدبير شئونها بنفسها بكيفية مستقلة، تحت إشراف وزارة المعارف العمومية، كما هو الحال في جامعات أوروبا.»
وكذلك: «أن تحترم تعهدات الجامعة المصرية نحو أساتذتها وموظفيها الحاليين، أما فيما يتعلق بالدكتور طه حسين فقد رئى - نظرا لحالته الشخصية - أن يبقى أستاذا بكلية الآداب.»
ويقرر مجلس الجامعة تأليف لجنة لتحضير نظام الجامعة الداخلي الجديد، ويعين لطفي السيد وطه حسين عضوين فيها.
وفي 12 ديسمبر 1923 يمضي رشدي باشا بالنيابة عن الجامعة عقد إلحاقها بالحكومة.
5
وتجري في يناير 1924 أول انتخابات لمجلس النواب في ظل الدستور الجديد، ويفوز الوفد المصري فوزا ساحقا، ويدعى رئيسه سعد زغلول باشا لتأليف الوزارة.
وتفصل الوزارة الجديدة بعض مديري الأقاليم، وينسب إلى سعد باشا أنه قد صرح بأنه يريد حكومة «زغلولية اسما ولحما ودما»، ويضيق طه حسين بهذا التصريح، ويهاجم صاحبه هجوما عنيفا، وكذلك يهاجم الدكتور هيكل نفس التصريح فتحقق معه النيابة العامة، وتنشر جريدة السياسة فصلا عما أجرته النيابة مع هيكل من تحقيق، وتقرر الوزارة مصادرة عدد جريدة السياسة الذي نشر أخبار التحقيق على أن يعرض أمر المصادرة على المحكمة في اليوم التالي، وفي اليوم التالي يحضر توفيق دوس بك المحامي عن جريدة السياسة وكان أخوه قد توفي في نفس اليوم، فيقول لمن دهش لحضوره: «لقد تركت مأتم أخي وجئت أشهد مأتم الحرية»، ثم يستدرك بكلمة يحفظها الناس في مصر زمنا طويلا وهي «ولن يكون للحرية مأتم وفي مصر قضاة»، وتقضي المحكمة في أمر المصادرة بأنه «إجراء تحكمي لا مسوغ له ...»
تبدأ وزارة سعد باشا زغلول في بحث إمكان التفاوض مع الإنجليز في موضوع التحفظات الأربعة التي تقيد الاستقلال، ومنها تحفظ الإنجليز بشأن السودان.
ولكن الصحف المصرية تنقل في شهر يونيو 1924 تصريحا ألقي في لندن في مجلس اللوردات مضمونه أن إنجلترا لا تنوي الجلاء عن السودان، وبعد أيام تنشر مضمون تصريح مماثل ألقاه رئيس الوزارة مستر رامزي ماكدونالد، وهو زعيم حزب العمال الذي كانت تتعلق به آمال الوطنيين المصريين، فلا يكذب ماكدونالد التصريح ولكنه يسارع بدعوة سعد باشا إلى لندن للتباحث، ويرفض سعد أي تفاوض على أساس التصريحات التي ألقيت في مجلس اللوردات والعموم، ويقدم استقالته فترفض تحت ضغط الرأي العام، ثم يتم الاتفاق على صيغة مقبولة للدعوة فيسافر سعد إلى لندن في 25 سبتمبر 1924، وسرعان ما تفشل المفاوضات ويعود سعد فيقدم استقالته وترفض الاستقالة تحت ضغط الرأي العام أيضا، وتقوم المظاهرات في السودان؛ في الخرطوم وعطبرة وبور سودان، وتشتعل الثورة في مصر من جديد.
وفي 19 نوفمبر 1924 يقتل سير «لي ستاك» سردار الجيش المصري وحاكم السودان في القاهرة في وضح النهار، فيتقدم الإنجليز بإنذار يتضمن سبعة طلبات منها ما لا علاقة له بهذه الجريمة على الإطلاق، فتقبل الوزارة السعدية أربعة منها، ويصر الإنجليز على قبول طلباتهم الباقية كلها بما فيها إخلاء السودان من الجيش المصري، وعندما ترفض الوزارة يهاجم الإنجليز بقواتهم العسكرية جمرك الإسكندرية ويحتلونه، ويقومون بأنفسهم بالقبض على بعض من اتهموهم بالاشتراك في مقتل السردار، وتقبل استقالة وزارة سعد زغلول ويدعى أحمد زيور باشا لتأليف وزارة «لإنقاذ ما يمكن إنقاذه» تقبل كل طلبات الإنجليز، وتقرر تأجيل انعقاد البرلمان إلى أجل غير مسمى، ثم تقرر حل البرلمان. •••
وتجري الانتخابات الجديدة في الربيع، ونتيجة لها يجتمع البرلمان الجديد في مارس 1925، وكانت الحكومة تعتقد أنها قد أنجحت عددا كافيا من المستقلين سوف يتمكنون من انتخاب مرشح الحكومة لرياسة المجلس، ولكن النواب ينتخبون سعد زغلول رئيسا لهم بأغلبية كبيرة ويهزم مرشح الحكومة فلا يتردد الملك في حل مجلس النواب من جديد. وتؤلف لجنة برئاسة إسماعيل صدقي باشا لتعديل قانون الانتخابات.
وفي مايو 1924 تنتهي محاكمة المتهمين بمقتل السردار ويحكم بالإعدام على سبعة منهم وبالأشغال الشاقة المؤبدة على واحد، وينفذ حكم الإعدام بشنق الشبان السبعة فعلا.
طه حسين - مثل بقية الوطنيين - غاضب أشد الغضب لتصرفات الإنجليز ولما يفرضونه على مصر من سيطرة، وما يظهرونه في معاملتها من غطرسة، يستنكر غطرسة اللورد «فيلد مارشال اللنبي» الذي لا يطيق أن تخالف أوامره في مصر ونواهيه، وطه حسين يدعو حزب الأحرار الدستوريين إلى مشاركة الوفديين في غضبهم وفي معارضتهم للوزارة القائمة، وبريطانيا تدرك خطورة الحالة في مصر، فلا يمر شهران حتى يضطر اللورد اللنبي للاستقالة ولمبارحة البلاد.
ويصل المندوب السامي الجديد لورد لويد، إنه سوف يبدأ سياسة جديدة، فهو يطلب إلى الملك أن يقصي حسن نشأت باشا، الذي كان أداة السراي في حكم البلاد، عن الديوان وعن مصر كلها، فيعين نشأت باشا سفيرا لمصر في مدريد.
وعندما يبدأ العام الجامعي «1925-1926» ويكون حديث الطلبة عن هذه الانتخابات التي تقرر أن تجري والتي يقال إنها ستكون انتخابات حرة، وعن موقف مصر والوفد من بريطانيا ومن السراي، يقولون إن البلاد متعطشة إلى الاستقلال الكامل مصممة عليه وإنها متعطشة إلى الحكم الديمقراطي ومصممة على الوصول إليه. على أنهم يتفقون على أنه لا بد، لكي تحقق مصر ما تهدف إليه من استقلال ومن حرية ولتحافظ عليهما، من الجهاد أولا وقبل كل شيء لتحقيق النهضة في كل ميادين الحياة المصرية، ومن أهم هذه الميادين ميدان التعليم.
ويتحدث الطلاب في حماس عن جامعتهم التي يعلقون بها آمالا كبيرة لتحقيق النهضة المأمولة، ويذكرون أن المرسوم بإنشائها ينتظر أن يصدر بعد أسابيع وعندئذ ستصبح شهاداتهم معترفا بها، وكل هذا خير، ولكنهم يرجون ألا يمس هذا التغيير شخصية الجامعة وألا ينال من حرية أساتذتها.
ويتحدثون عن هؤلاء الأساتذة؛ أن أكثرهم سيواصل دروسه ومحاضراته التي كان يلقيها في الجامعة الأهلية في الأعوام السابقة، لكن الأستاذ طه حسين سيترك تدريس التاريخ القديم، لقد أصبح منذ أول هذا العام أستاذا للأدب العربي.
أستاذ الأدب العربي
في خريف عام 1925 يعود طه حسين إلى الجامعة التي ارتبطت حياته بها طالبا ومبعوثا وأستاذا، يعود إليها وقد أصبحت جامعة رسمية ليدرس فيها مادة جديدة حبيبة إليه هي الأدب العربي.
عندما كان طالبا دون الخامسة والعشرين من العمر كان عليه أن يقدم للجامعة الأهلية رسالة للحصول على درجة الدكتوراه، أو الدكتورية - كما كان عبد الخالق ثروت باشا يسميها في تلك الأيام - وقد فكر عند ذاك في موضوعات مختلفة لرسالته؛ فكر في أدب الجاحظ وفي أدب الخوارج وفي أثر الفرس في الأدب العربي، ثم انتهى إلى الشاعر أبي العلاء المعري فعكف على دراسته وكتب عنه رسالته، وسافر طه حسين بعد ذلك إلى فرنسا فدرس علم التاريخ ودرس علم الاجتماع، وكتب رسالته عن ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية، وعاد إلى مصر وإلى الجامعة أستاذا للتاريخ القديم، ولكن الأدب العربي كان دائما هواه، خصص لدراسته وللحديث عنه الفصول التي كان ينشرها في جريدة السياسة بعنوان «حديث الأربعاء» كل أسبوع.
ولكن أحاديث الأربعاء كانت أحاديث متفرقة، وقد اتجه بها إلى عامة القراء، أما الآن فإن عليه أن يدرس الأدب العربي دراسة منظمة متصلة مع طلابه الجامعيين، وهو يرجو في المستقبل أن يدرس الحضارة العربية والإسلامية من نواحيها السياسية والعقلية والأدبية دراسة متعمقة مع زملائه الأساتذة في الجامعة.
إن عليه الآن أن يدرس هذا الأدب العربي كيف بدأ، وأين بدأ، وكيف تطور وارتقى، وهو يريد أن يدرس هذه الحضارة كيف تجاوزت حدود الجزيرة العربية لتصبح حضارة كل البلاد التي فتحها الله على المسلمين، ثم لتصبح الحضارة العالمية المسيطرة فترة عظيمة من فترات التاريخ.
عندما يتحدث إليه زملاؤه الأساتذة في انتخابه وكيلا لكلية الآداب يعتذر إليهم بأنه مشغول بهذه الدراسات التي أخذ نفسه بالعكوف عليها.
وعندما يتحدث إليه أصدقاؤه في جريدة السياسة عن ترشيح نفسه في الانتخابات العامة التي ستجري قريبا لانتخاب نواب الشعب يعتذر إليهم بالعذر نفسه.
يبدأ دراسته للأدب العربي بدراسة الشعر؛ لأنه يفترض أن الشعر أسبق في حياة الأمم الأدبية من النثر الفني، وهو يرى أن أول واجباته هو أن يبدأ بتحقيق نصوصه وتمحيص مصادره، يريد أن يبني دراسته الجديدة للأدب العربي شعره ونثره على أرض صلبة، ليرتفع عليها البناء المنشود قويا متين الدعائم، وهو في هذه الدراسة يرى نفسه مضطرا لأن يذعن لمناهج البحث العلمي، ويرى أن ما يسوقه في هذه الدراسة من أدلة ينبغي أن يكون مما يقبله مؤرخو الأدب والحضارة أينما كانوا في أي بلد ومن أي مذهب أو دين؛ لأنه واثق من أن الأدب العربي هو أدب عالمي يجب أن يعنى بدراسته العلماء في كل مكان.
لقد تعلم أن الجزيرة العربية عرفت لغة عربية عدنانية للشمال ولغة عربية حميرية للجنوب، ومع ذلك فإن جميع المروي من شعر الشعراء العرب قبل الإسلام قد روي في لغة واحدة هي اللغة التي أنزل بها القرآن الكريم.
الأستاذ يتساءل عما يدعو أهل الجنوب إلى استعمال لغة أهل الشمال.
إن مجادليه يمكن أن يسلموا بأنه قد كان للجنوبيين لغة أو لغات، ويتساءلون مع ذلك: «ما الذي يمنع أن يكونوا قد اتخذوا لغة العدنانية الشمالية لغة أدبية لهم ينشئون فيها شعرهم ونثرهم الفني؟» وهو يقول: «نحن نقبل هذا الفرض على أنه حق لا يحتمل شكا ولا جدالا بعد ظهور الإسلام، فقد كانت اللغة العربية الفصحى لغة هذا الدين الجديد، ولغة كتابه المقدس، ولغة حكومته الناشئة القوية، فأصبحت لغة رسمية ثم لغة أدبية للدول الإسلامية كلها»، ولكنه يقرر أن الحال لم يكن كذلك في الجاهلية، فينتهي إلى الشك - كما شك من قبله بعض قدماء النقاد العرب - في كثير من الشعر المنسوب إلى شعراء جنوب الجزيرة الجاهليين، وينتهي إلى أن الأدب العربي الذي يمكن أن يدرس في ثقة واطمئنان إنما يبتدئ بعصر القرآن الكريم. •••
وتستقبل مصر شاعر الهند الكبير رابندرانات طاغور في شتاء عام 1926 بحفاوة كبيرة، ويقيم له أمير الشعراء أحمد شوقي بك حفلا كبيرا في منزله على ضفة النيل بالجيزة، ويحضر الحفل سعد زغلول باشا وعدلي يكن باشا، وعدد كبير من المسئولين وأعلام المفكرين، من بينهم الأستاذ مصطفى عبد الرازق وطه حسين.
ويتحدث طاغور مع طه حسين ومصطفى عبد الرازق ويتفق معهما على أن يزوراه في الصباح التالي بالفندق الذي ينزل فيه ... ويدور الحديث أثناء الزيارة حول ما كان طاغور يذهب إليه من ضرورة اهتمام الحركة الوطنية الهندية بالإصلاح الاجتماعي وتقديم ذلك على الاهتمام بالصراع للتحرر والاستقلال، فيقول طه حسين: «إن الحرية السياسية هي التي ستهيئ الفرصة للتعليم الوطني، والتعليم الوطني هو الذي سيدفع المواطنين إلى الإصلاح الاجتماعي.»
وطاغور يسمع ولا يعارض، ومصطفى عبد الرازق يلاحظ أن الإنجليز كانوا قد منحوا طاغور لقب «سير» في عام 1915، ولكنه أعاده إليهم - في عام 1919 - احتجاجا على مسلكهم ضد الثائرين من أهل إقليمه «البنغال»، فهو إذن يشارك في الصراع السياسي إلى جانب مشاركته في الإصلاح الاجتماعي، وطه حسين يقول إن قصيدة «جايا هند»
1
التي ألفها طاغور والتي ينشدها ثوار الهند هي عمل من أعمال الكفاح السياسي كذلك. ويذكر الشيخ مصطفى تبرع طاغور بقيمة جائزة نوبل للأدب التي حصل عليها للمدرسة التي أنشأها قرب كلكتا، ويتمنى أن ينهض الأغنياء في الهند وفي مصر وفي كل مكان بواجبهم في نشر التعليم وتشجيعه.
ويقول طه حسين لصاحبه وهما عائدان: «إن طاغور يريد أن يقدم الإصلاح الاجتماعي على التحرر السياسي، وإن صديقنا محمود عزمي كان يذهب إلى شيء من ذلك وكلاهما مخطئ، لأن الإصلاح الاجتماعي لن يتحقق والمستعمر مسيطر على البلاد.» على أنه يقول لصاحبه إنه سعيد بمقابلة طاغور والتحدث إليه ويحس أن لديه ما يكتبه في جريدة السياسة عن هذه الزيارة.
2
والشيخ مصطفى موافق على أن العمل للتحرير والاستقلال هو الأساس، على أنه يرى ضرورة الاهتمام بالإصلاح الاجتماعي في نفس الوقت، ويقول وهو يضحك: «هنا موضوع مناظرة !» وينتقل بالحديث إلى أمور الجامعة ويسأل عن المناظرة التي تنظمها الكلية بين الدكتور محمد حسين هيكل وبين «شاعر القطرين» خليل مطران، فيقول طه حسين إنه مهتم بموسم محاضرات ومناظرات الكلية لأنه يريد أن تمد الكلية نشاطها إلى خارج الجامعة وألا تكتفي بالدروس التي تلقى على الطلاب، والشيخ مصطفى يقول إنه يتطلع إلى سماع هذه المناظرة الطريفة وإلى متابعة مشاركة الجمهور فيها.
وقبل أن يفترق الصديقان يسأل مصطفى عبد الرازق صديقه عن صحة السيدة زوجته فيجيبه بأنها فيما يظهر تنتظر مولودا ثالثا وأنه سعيد بحملها، لكنه شديد القلق عليها فقد سبق أن لاقت متاعب كثيرة وعانت آلاما مزعجة عند حملها بمؤنس منذ أعوام. •••
وتحس السيدة بهذه المتاعب من جديد وتتضاعف آلامها وشهور الحمل لم تتقدم إلا قليلا، والطبيب الذي يدعى على عجل يقف بجوارها مكفهرا شديد الاهتمام، والزوج الذي يدور حول نفسه في المسكن الضيق يمزق قلبه القلق ويوجعه الإحساس بالعجز عن تخفيف ما تعانيه الزوجة من الألم، بل عن دفع ما يتهددها من الخطر، فإن مسلك الطبيب يوحي بوجود هذا الخطر، والصغيران قد أخلدا إلى السكون، يحسان وطأة الأزمة التي تمر بها العائلة الشديدة الترابط، وتمر اللحظات كلها ساعات طوال لا طاقة للزوج باحتمالها. وأخيرا يخرج الطبيب يبشر بأن الزوجة بخير، وأنها تدعو زوجها لتراه، ولكنه يستوقف الزوج لحظة ليهنئه من جديد بنجاة زوجته، وليخبره بأنها قد فقدت حملها، وليطلب إليه أن يحمد الله على ذلك فإن لله الحمد في كل حال.
ويجلس طه حسين إلى جانب زوجته، وهي تدنيه منها تقول له: «لقد كنت أزور منذ أسابيع حرم صديقنا محمد بك محمود خليل، إنك تعرف قصرهم المطل على النيل، وتعرف ما فيه من روائع وتحف ولوحات أبدعها فنانون من أشهر فناني الدنيا: جوجان وفان جوخ ورودان وغيرهم، كنت أقول لها إن القصر جميل والمحتويات رائعة، وكانت ترد بابتسامة وديعة تقول: كل هذا يشترى بالمال، وتترقرق في عينيها الدموع.
3
إنها وزوجها يبذلان بغير شك كل ما يملكان، راضيين، كي يكون لهما طفل واحد، ونحن بحمد الله لدينا أمينة، ونحن بحمد الله لدينا مؤنس.»
ويقول طه، ويداها في يديه: «الحمد لله، فإنك أنت الآن في خير حال.» •••
ويتفرغ طه حسين، وقد اطمأن على زوجته، للعمل ثلاثة أشهر ليلا ونهارا، لينتهي من كتابه الجديد، وموضوعه هو موضوع محاضراته في الجامعة هذا العام؛ الشعر الجاهلي، وكان يقدر أنه سينال بعد الانتهاء من ذلك الكتاب شيئا من الراحة ليلتفت إلى واجب آخر وطني، إنه كان ينوي أن يكتب كتابا جديدا في موضوع يهم مصر في ذلك الوقت وهو الديمقراطية.
4
ويخرج كتاب «في الشعر الجاهلي» من المطبعة، فتثور زوبعة لم يكن المؤلف يقدر أن تثور.
كل الجهات التي خاصمها طه حسين تهاجمه الآن لتنال منه مقتلا لم يتح لها من قبل، لا يتردد المهاجمون في استعمال أشد الأسلحة إيذاء لمؤلف الكتاب.
هذا الكتاب يصدر عن مؤلف هاجم الإنجليز وهاجم القصر، ولم يتحرج عن انتقاد زعيم البلاد سعد زغلول.
هذا الكتاب يظهر بعد أن نشر الشيخ علي عبد الرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي أسخط الملك لأنه جاء عقبة في طريق مطامعه في الخلافة، وأسخط معه رجال الدين وأثار ثائرة المحافظين ضد كل «المجددين» المتأثرين بالفكر الغربي وبطريقة الدراسة في الغرب.
وهذا الكتاب يصدر عن محرر الصفحة الأدبية في جريدة السياسة الذي سبق أن انتقد بعنف كاتبا كبيرا مثل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والذي هاجم كذلك كاتبا كبيرا آخر وهو الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار.
والآن يهاجمه الرافعي بكتاب يختار له عنوانا مثيرا وهو «تحت راية القرآن»، ويهاجمه الشيخ محمد عرفة بعنوان مثير أيضا وهو «نقض مطاعن في القرآن الكريم»، وتنشر مجلة المنار لصاحبها الشيخ رشيد رضا أن «مؤلفات طه حسين كلها حرب على الدين والأمة، سواء في ذلك ما كتبه عن أبي العلاء أو ما نشره بعنوان حديث الأربعاء أو ما كتبه عن الشعر الجاهلي.»
ويسمع والد طه حسين بهذا فيرسل إليه رسائل قلقة يتساءل فيها عن هذا الذي يقرأ، فيرد عليه طه حسين وهو يكتم آلامه:
أبي: أنت أوصيتني ألا أصدق كل ما أسمع، وأنا أوصيك ألا تصدق كل ما تقرأ. ولك من زوجتي ومني أطيب التمنيات.
طه
وينتقل الهجوم من الصحف والكتب إلى مجلس النواب، ويقدم اقتراح من النائب عبد الحميد البنان بأن يكلف المجلس الحكومة بثلاثة أمور:
أولا:
بمصادرة وإعدام كتاب طه حسين المسمى «في الشعر الجاهلي».
ثانيا:
بتكليف النيابة العمومية برفع الدعوى على طه حسين مؤلف الكتاب لطعنه في الدين الإسلامي، دين الدولة.
ثالثا:
بإلغاء وظيفته من الجامعة.
وتدور في مجلس النواب
5
مناقشة يشترك فيها وزير المعارف ووزير الحقانية ورئيس الوزراء عبد الخالق ثروت باشا، ويشترك فيها من جهة أخرى رئيس المجلس الزعيم سعد زغلول باشا.
6
وتتصاعد المناقشة حتى يقول رئيس الوزراء إنه سوف يطلب طرح الثقة بالوزارة إذا لم يكتف المجلس بما فعلته الحكومة في موضوع الكتاب،
7
وينهض النائب الوفدي عباس محمود العقاد للحديث، لا يمنعه انحيازه للوفد من الدفاع عن طه حسين، يقول: «إن اللجان التي تلا حضرة النائب بعض فقرات من قراراتها لا يمكن أن تبلغ شأن الأستاذ الذي وضع الكتاب من حيث المعرفة بالآداب العربية، ولا يمكن أن نجد بسهولة رجلا يقوم بتدريس الأدب العربي مثلما يقوم به صاحب الكتاب ولو على درجة قريبة منه.»
ويتم الاتفاق بين رئيس المجلس سعد باشا ورئيس الوزراء عدلي باشا على الاكتفاء بأن يقوم النائب صاحب الاقتراح بإبلاغ النيابة إن شاء.
إن طه حسين مدعو الآن إلى الصمت، إن هجوم المهاجمين لم يكن مقصورا عليه بل كان يمتد إلى الجامعة نفسها، وهي ناشئة لم تقف على قدميها بعد، سكوت طه حسين في ذلك الوقت كان يتطلب من القوة أكثر مما يتطلبه النضال بالقلم واللسان.
ويأتي صيف 1926، ويسافر طه حسين مع أسرته كعادته، وهو يقول لزوجته: «لو أردت أن أقارن نفسي بشيء ما لقارنتها بهذه الأرض الرطبة على شاطئ النيل في صعيد مصر؛ ما إن يمسها المرء حتى يتفجر منها الماء.»
8
ونفس طه حسين لم تمس في ذلك العام فحسب، بل أثخنت بالطعان؛ لقد تصاعدت الصرخات بأنه جاهل، زنديق، كافر، ملحد، مفسد للشباب، من الضالين، من المضللين، تهم يلقيها في ذلك الوقت من لم يدرس، بل لم يقرأ كتبه في أغلب الأحيان، وهي تهم سوف يعود ليلقيها بعد وفاته من يدفعه الجهل والتطاول إلى مهاجمة الرجل وهو في قبره، ممن يغريهم البحر الزاخر بإلقاء الحجارة فيه.
ولكن رجالا مثل عبد العزيز فهمي، مصطفى عبد الرازق، علي عبد الرازق، عبد الخالق ثروت، أحمد لطفي السيد، محمد حسين هيكل، عباس محمود العقاد، حافظ إبراهيم، دسوقي أباظة، إسماعيل صدقي، وآخرين مثل علي الشمسي باشا، الذي كان من أقرب المقربين إلى سعد زغلول، قد وقفوا إلى جانب أستاذ الأدب العربي الشاب، كما وقف إلى جانبه طلابه وقراؤه المعجبون به في كل مكان. •••
وفي قرية صغيرة من قرى إقليم سافوا العليا في فرنسا نزل طه حسين ثقيل القلب دفين الألم، يقيم «مغيظا محنقا على هؤلاء الناس الذين يتخذون الدين والسياسة وسيلة للكيد.» ... ويريدهم أن يعلموا «أن الدين أثبت وأمكن من أن يعرضه للخطر رجل كائنا من كان.»
لعله كان يسأل نفسه: لماذا العناء؟
ماذا لو أعطى دروسه في الجامعة على المنوال القديم فأرضى الجميع؟
ألم يكن راضين عن الأساتذة المشايخ المدرسين؟
ماذا لو كتب على المنوال القديم، في الموضوعات المألوفة القديمة؟
ماذا لو التمس السلامة فأرضى السراي، وقد جاءه أن الملك قال لبعض جلاسه: «ما أعظم الرجل - طه حسين - لولا أن رأسه لا يلين!»
ماذا لو لان؟
ماذا لو تملق السلطان فقربه وأغناه؟
ماذا لو تملق الشيوخ فكرموه؟
وتملق الصحافة فعظمته؟
ماذا لو سكت، ماذا لو اكتفى بالسكوت؟
ولكن كل هذا إلغاء للصدق من حياته ومن عمله، فهو إلغاء للعمل وإلغاء للحياة.
إنه لا يستطيع إلا أن يكون صادقا مع نفسه، صادقا في عمله، صادقا في خدمة بلده وشبابه وثقافته بقدر ما يستطيع، فقد وهبه بلده الحياة، ووهبه العلم والنور، وفرضت عليه بذلك زكاة لن يتطهر إلا بأدائها، فإن على من تعلم أن يعلم غيره، وعلى من تنور أن ينشر النور من حوله، وعلى من أوتي فضيلة الصدق أن يحارب جهده رذيلة النفاق.
إنه يعود بخياله إلى أرض الصعيد الرطبة على شواطئ النيل، إلى مديرية المنيا وعزبة الكيلو والكتاب الذي كان يحفظ القرآن الكريم فيه، يعود فيذكر الفتاة الصغيرة الضريرة الذكية وغيرها من زملاء الكتاب الذين ضيعهم وأضاعهم على مصر الجهل والفقر. يتذكر ذلك كله، وتتوارد صورة حية على ذاكرته وهو مقيم في تلك القرية في إقليم سافوا في فرنسا، فيبدأ في إملاء هذه السطور:
لا يذكر لهذا اليوم اسما، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتا بعينه، وإنما يقرب ذلك تقريبا، وأكبر ظنه أن هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم في فجره أو في عشائه، ويرجح ذلك لأنه يذكر أن وجهة تلقى في ذلك الوقت هواء فيه شيء من البرد الخفيف الذي لم تذهب به حرارة الشمس، ويرجح ذلك لأنه على جهله حقيقة النور والظلمة يكاد يذكر أنه تلقى حين خرج من البيت نورا هادئا خفيفا لطيفا، كأن الظلمة تغشى بعض حواشيه ...
ويستمر طه حسين في إملائه لا يتوقف، تتدفق الصفحات فينتهي بعد تسعة أيام من إملاء الجزء الأول من كتاب الأيام.
ويقبل خريف 1926 ويعود طه حسين إلى القاهرة لتواجهه النيابة يوم 19 أكتوبر 1926 بما اتهم به في بلاغ الأستاذ عبد الحميد البنان، فينتهي هذا التحقيق بأن «تحفظ أوراقه إداريا لأن القصد الجنائي غير متوفر ... والعبارات الماسة التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.»
ويعود الأستاذ إلى كتابه يرفع منه فصلا ويضيف إليه فصولا ويصدره بعنوان جديد.
وتفتتح الدورة النيابية الجديدة في نوفمبر عام 1926، والنواب يثيرون فيها موضوعات جدية مفيدة خطيرة، إن الحكومة مستمرة في دفع حصة من نفقات الجيش في السودان بعد طرد الجيش المصري من هناك، فكيف تقبل الحكومة المصرية هذا الاستمرار؟! ومصر المستقلة ما زال للأجانب فيها امتيازات تعصمهم من المثول أمام القضاء المصري، وكيف تحتمل الحكومة المصرية هذا الوضع؟
وطه حسين سعيد لأن البرلمان والحكومة يأخذان عملهما مأخذ الجد، مستبشر بمستقبل الحياة البرلمانية في مصر رغم كل شيء. •••
وفي صيف 1927 يعقد مؤتمر الآثار في لبنان والشام وفلسطين، وتدعى إليه الجامعة المصرية التي ترشح طه حسين لتمثيلها فيه، ويقبل هو هذا الترشيح راضيا خاصة لأن أعضاء المؤتمر سوف يزورون القدس الشريف، وهو شديد الشوق لزيارتها.
وينتهي المؤتمر، ويقضي طه حسين جانبا من الصيف في لبنان في أحد الفنادق، يقابل فيه الممثل الكبير الأستاذ جورج أبيض وزوجته السيدة دولت، وكانت قد قرأت وحفظت رواية إليكترا التي عربها طه حسين، فألقت أمامه فقرات من ترجمته، وطه حسين يعجب بإلقائها، وفهمها، ويتمنى أن تتهيأ الفرصة لتمثل الرواية في مصر أمام الجمهور، ويتمنى أن تعنى مصر حكومة وشعبا بالمسرح وفنونه وأن تنشئ يوما معهدا خاصا لدراسة التمثيل وفنون المسرح، فإنه شديد الإيمان بما للمسرح من أهمية في تطور الأدب ورقيه.
وفي لبنان أيضا وفي «علايا» يلتقي بأمير الشعراء أحمد شوقي بك وبالموسيقي الشاب الأستاذ محمد عبد الوهاب.
كان طه حسين يقيم في «ملحق أوتيل طانيوس» بعلايا، وكان أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب يقيمان على مقربة في «أوتيل شاهين»، وكان أحمد شوقي قد دعا عددا من صفوة أهل لبنان لحضور حفل يغني فيه محمد عبد الوهاب، ولكن جريدة المقطم تصل في صباح اليوم السابق ليوم الاحتفال وفيها نعي والد الموسيقي الشاب الذي يطلع على الصحيفة والنعي فيشتد به الحزن، ويحزن الشاعر شوقي لحزنه، يعزيه ويؤكد له أنه سيقوم منه مقام الوالد، وهو يلازمه طوال اليوم لا يتركه لأحزانه ويعرض عليه أن يزورا في المساء الدكتور طه حسين في فندقه ومعهما الأستاذ فكري أباظة المحامي والكاتب المعروف، وفي أثناء الزيارة يقول طه حسين لعبد الوهاب إنه يترقب سماعه غدا فيعلم أن الاحتفال قد ألغي ويعلم سبب الإلغاء، فيقدم عزاءه صادقا للفتى المحزون الذي كان يعجب بفنه وبأدائه كل الإعجاب.
ويسود الصمت فترة ثم يقطعه طه حسين بسؤاله لعبد الوهاب: «ولماذا لا تغني؟»
ويرد فكري أباظة يقول: «وكيف يغني وهو حزين؟!»
ويسود الصمت مرة ثانية ثم يقطعه طه حسين من جديد يسأل: «وهل الغناء لهو وفرح فقط؟ هل الموسيقى تسلية وتطريب؟
أليست الموسيقى الحقيقية تعبيرا عن مشاعر الإنسان فرحا وحزنا؟ أليس المهم في الموسيقى هو أن تعبر بصدق عن النفس، وأن تنقل هذا التعبير الصادق إلى السامعين؟»
ويلتفت طه حسين إلى شوقي بك يسأله: «ألست أنت القائل: وأنبغ ما في الحياة الألم؟»
وينشط المجلس الذي كان الحزن قد ألقى عليه الصمت، ليتحدث الحاضرون عن الموسيقى وحقيقتها وعن صدق الشعور وصدق الأداء.
ويخرج عبد الوهاب وقد قرر أن يغني، فيكون غناؤه في تلك الليلة في تلك القرية القائمة في منعطف من منعطفات الجبل في لبنان، من أجمل غنائه وأبقاه أثرا في النفوس.
أحس جمهوره صدق شعوره وهو يتغنى بما كتبه له شوقي من الشعر، فيه من الشجى والشجن ما يردد ما كان يملأ صدره هو من الأشجان، أحس الجمهور بصدق ذلك الشعور وبروعة الأداء فتأثر به أبلغ تأثير. ويقول الأستاذ عبد الوهاب إنه منذ تلك الليلة قد آمن بالصدق أساسا لفنه وأدرك أن الجمهور سيستجيب دائما لصدق الإحساس بالمشاركة والقبول، بالاستحسان والإعجاب. •••
وتستأنف الجامعة حياتها في خريف عام 1927، ويصمم أساتذة الكلية على انتخاب طه حسين عميدا لها في ذلك العام، ولكن تعيين مصري عميدا كان أمرا خطيرا، وتعيين طه حسين عميدا كان أمرا أشد خطرا.
إن السفارات الأجنبية ترغب في الاحتفاظ بمناصب عمداء الكليات للأجانب، والإنجليز يعتبرون أنفسهم مسئولين عن حماية «مصالح» هؤلاء الأجانب!
لكن الانتخابات تتم، وطه حسين ينتخب عميدا، وترفع نتيجة الانتخاب إلى وزير المعارف، ووزير المعارف علي الشمسي باشا يدعو طه حسين لمقابلته ويقول له إنه لا شك لديه هو شخصيا في استحقاق طه حسين لمنصب العميد، ولكنه يصارحه بما تواجهه الحكومة من حرج، وطه حسين يرد بأنه لا يريد أن يسبب مشاكل للحكومة التي لا تنقصها المشاكل، وهو لا يريد قطعا أن يثير مشاكل لعلي الشمسي باشا الذي يذكر سابقة فضله ويكن له أصدق التقدير.
9
ولكنه يقول للوزير إن القاعدة التي تجري عليها الحكومة، أو التي يجب أن تجري عليها الحكومة، هي ألا يشغل أجنبي في عهد الاستقلال منصبا يمكن أن يشغله مصري، فإذا كان هو يصلح للعمادة - كما يؤكد له الوزير - فلا بد إذن من أن يعين احتراما وتأكيدا لهذا المبدأ، ورفضا لتدخل السراي، ولتدخل الأجانب، واحتراما لنتائج انتخابات الأساتذة، ويجب لذلك أن يعين وأن يمارس عمله باعتباره عميدا مصريا للكلية المصرية.
ويضيف طه حسين، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة: «على أنني سأجد لمعاليك المخرج من هذه المشكلة، إذا صدر قرار بتعييني فسوف أتسلم عمل العميد، وأمضي بعض الأوراق، ثم أقدم لمعاليكم استقالتي في نفس اليوم فتقبلونها، وتعينون عميدا للكلية من يليني في نتيجة الانتخابات، وهو من الأساتذة الأجانب.»
وفي يوم 4 يناير 1928 يصدر قرار الوزير بتعيين الأستاذ الدكتور طه حسين عميدا لكلية الآداب، ويذهب طه حسين إلى الكلية ويدخل مكتب العميد، ويطلب أوراقا خاصة برفع مرتبات بعض الإداريين ومعاوني الخدمة، تطبيقا لمنشور من إدارة الجامعة، فيمضيها، ثم يملي خطاب الاستقالة، ويقبلها الوزير، ويعين الأستاذ الفرنسي «ميشو» عميدا لكلية الآداب.
وينتظر طه حسين حتى يصدر قرار تعيين العميد الجديد، فيملي الخطاب التالي إلى الوزير:
حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية ...
الآن، وقد تم تعيين العميد لكلية الآداب، وانتهت هذه القصة التي لم أردها والتي لقيت منها من الألم الممض ما لم أستوجبه ولا أراه يلائم كرامتي؛ أتشرف بأن أرفع إلى معاليكم أصدق الشكر وأخلصه لما تفضلتم به علي من عطف وثقة. وإني أرجو من معاليكم أن تتفضلوا بنقلي إلى أي عمل علمي آخر في غير كلية الآداب التي أصبحت أجد مشقة كبيرة في البقاء فيها.
طه حسين
ويزور علي الشمسي باشا الدكتور طه حسين في بيته يعاتبه، ويقنعه بالعدول عن طلبه؛ إن العميد الفرنسي مسيو ميشو غائب عن مصر في الوقت الحاضر والوكيل غائب أيضا، وسيستمر طه حسين في القيام بعمل الوكيل بالنيابة عن العميد حتى يعود واحد منهما إلى الكلية. •••
في أول مارس 1928 يعرف طه حسين أن رئيس الوزراء ثروت باشا قد زار في اليوم السابق رئيس مجلس النواب مصطفى النحاس باشا «الذي كان قد خلف سعد زغلول في رياسة الوفد»، وأطلعه على مشروع للمعاهدة بين مصر وإنجلترا يعرضه الإنجليز، وأن رئيس الوفد قد رفض المشروع، وأن مجلس الوزراء قد رفض بعد ذلك أن يناقشه، وأن ثروت باشا سيبلغ الإنجليز هذا الرفض، وإذن فلن تتأخر استقالة الوزارة طويلا.
وبعد ثلاثة أيام تستقيل الوزارة فعلا، وبعد ذلك بأسبوعين يؤلف النحاس باشا في 17 مارس وزارة يحتفظ فيها بوزيرين من وزراء الأحرار الدستوريين. •••
في الساعة العاشرة من صباح كل يوم، يحضر الأستاذ توفيق شحاتة سكرتير طه حسين ليقرأ عليه صحف الصباح وما يحمله البريد مع الرسائل، ثم يقرأ ما يطلب «الدكتور» قراءته أو القراءة فيه من الكتب، والدكتور يستمع منصتا ويستعيد أحيانا وقد يصحح القراءة في بعض الأحايين، وقد يطلب إلى سكرتيره أن يقيد ملاحظة من الملاحظات أو أن يقرأ عليه مرجعا من المراجع في الموضع الذي يعينه له، وسوف يدق جرس التليفون فيرد، ويستقبل أحد الزوار فينسحب توفيق إلى ركن من أركان المكتب ينشغل فيه بما يكون لديه من أعمال.
ولكن طه حسين يطلب إلى سكرتيره أن يتوقف عن القراءة ذات صباح، فإنه يحس بآلام قاسية تصرفه عن الاستماع، ولا بد أن يستدعي الدكتور سامي كمال صديق الأسرة وطبيبها، ويحضر الدكتور فما إن يدرك طبيعة هذه الآلام حتى يستدعي الدكتور علي باشا إبراهيم فيحضر على عجل فهو زميل وصديق لطه حسين، يسمع إلى شكواه ويقرر بعد الفحص ضرورة نقله إلى المستشفى الإسرائيلي حالا، ليبقى هناك تحت الرقابة مدة تجري له بعدها عملية الزائدة الدودية.
وبينما تعد السيدة سوزان العدة للذهاب إلى المستشفى، يقول علي باشا إبراهيم لطه حسين: «أخيرا جاءتني فرصتي، ستخضع في المستشفى لأوامري، ولن تستطيع الآن أن تعصي لي أمرا!»
وطه حسين يبتسم، ولكنه يستأذن في أن يخلو بسكرتيره ليمليه وهو يغالب آلامه سطورا قليلة يوصي فيها أخاه الشيخ أحمد بزوجته وبابنته وبابنه، ويوصي بهم أيضا صديقه الشيخ مصطفى عبد الرازق.
وتجرى العملية ويتم الشفاء والحمد لله، ويعود الأستاذ إلى الجامعة يتحدث مع زملائه في شئون الكلية. لقد تقرر أن يمثل الجامعة في المؤتمر الذي سيعقد في مدينة أكسفورد أثناء الصيف، وهو يعد بحثين لتقديمهما إليه: الأول عن استعمال ضمير الغائب في القرآن الكريم، سيبين فيه الروعة البلاغية في هذا الاستعمال، والثاني عن العلاقة بين مذهب المعتزلة في وجوب الأصلح وبين مذهب الفيلسوف الألماني «ليبنتز».
ويسأل أحد الزملاء عن اللغة التي سيلقي بها طه البحثين في هذا المؤتمر الذي سيعقد في مدينة الجامعة الإنجليزية الكبيرة، ويرد طه حسين: «بالفرنسية؛ لأن إنجليزيتي لا تنفع.» ويحكي لزملائه وهو يبتسم كيف حاول أن يتعلم الإنجليزية، يقول: «كان أخي الشيخ أحمد وثلاثة من إخوانه الأزهريين قد رأوا أن الأستاذ الإمام محمد عبده يعرف اللغة الفرنسية، ويرد بها على «هانوتو» وعلى «رينان»، ولذلك قرروا أن يدرسوا لغة أجنبية، ووجدوا في مدرسة الجمالية مدرسا قبل أن يعطيهم دروسا في الإنجليزية مقابل مئة قرش يجمعونها من بعضهم البعض شهريا، وكان المدرس يحضر للتدريس في الغرفة التي يسكنها أخي وأسكنها معه، كان المدرس يعلم تلاميذه الأربعة كيف يلوون الألسنة ويمدون الشفاه، ويوسعون الحلوق، ويباعدون بين الألسنة وسقف الفم، لينطقوا بهذه الرطانة الإنجليزية، وكنت أجلس بعيدا منطويا لا يحس أحد بوجودي، وكلي مع ذلك آذان ألتقط كل ما يعلمه المدرس لتلاميذه، ولكن المدرس تعب، وتعب التلاميذ، ولم يصلوا إلى طائل، فانقطع تعليم الإنجليزية لهم، وانقطع تعلمي لها.»
وينتهي مؤتمر أكسفورد وتبدأ عطلة الصيف عام 1928، ويقضي طه حسين وأسرته جانبا منها على ضفة بحيرة صغيرة في منطقة جبال الألب، يريد هو أن ينقطع فيها كل الانقطاع إلى القراءة والدرس، وتأبى أسرته إلا أن تخرجه قليلا للرياضة، يسيرون جميعا في الغابة يتتبعون مجرى غدير فيها، فيقول لزوجته إنه يجد في مصاحبة ذلك الغدير أنسا ولذة عظيمين، فتقول له: «كم تستطيع أن تجد من الأنس لو أرحت نفسك من بحوثك ومن فلسفة ليبنتز!» فيقول لها: «ولكنك تعلمين يا صاحبتي أن ليس إلى هذا من سبيل!»
وتقترب عطلة الصيف من نهايتها، وطه حسين يتطلع إلى العودة، فإنها سوف تتيح له أن يرى تلاميذه وزملاءه وأصدقاءه، ومنهم لطفي السيد وعبد الخالق ثروت، ولكن الصحف الفرنسية تقرأ عليه ذات صباح، فيعلم منها أن عبد الخالق ثروت باشا قد مات الليلة البارحة، في باريس.
في خلال السنوات التسع التي مضت منذ قدمه عبد الخالق ثروت باشا إلى طلابه في الجامعة، قامت بين الرجلين صلة قوية قوامها الإعجاب والمودة الصادقة، ولم يكن طه حسين يرى في ثروت زعيما من أصدق الزعماء حبا لوطنه ومقدرة على خدمته فحسب، بل كان يعده صديقا من أشرف الأصدقاء وأقربهم إلى قلبه، رجلا من أوفى الرجال وأجدرهم بالمحبة. وطه حسين يحس الآن أن الموت اختطف ثروت من مصر ومنه هو اختطافا، اختطفه الموت الذي اختطف من قبل أخته نفيسة وأخاه محمودا، يقول: «الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة لا غناء فيها ولا ثقة بها ولا معتمد، تبينت ذلك ولما أتجاوز الصبا، وتبينته مرة ومرة ومرة»، ويذكر كيف سمع نعي ثروت فلم يطق البقاء في المنزل، بل خرج هائما «لا أدري إلى أين أذهب، ولا أعرف ماذا أريد، وأنا أمشي على ساحل البحيرة لا أكاد أسمع اصطخاب أمواجها ولا أكاد أحس هذه الريح التي تعصف من حولي؛ لأني مغرق فيما أنا فيه من التفكير في ثروت، وفي الموت.»
ويجيء موعد السفر، ويصعد مع أسرته سلم الباخرة التي ستعود بهم إلى الإسكندرية، فيعلم أن السفينة تقل رفات ثروت، إنه إذن يعبر البحر معه ويرافق شخصه لآخر مرة. «مات ثروت ... والناس يقولون إن موته كارثة آلمت مصر كثيرا، وأفقدتها كثيرا، وأنا أعلم ذلك وأقدره، ولكني إنما أفكر في ثروت الصديق ... تعيش الأمم قبل الزعماء وتعيش الأمم بعد الزعماء، ولكن الصديق لا يعيش حقا إذا فقد الصديق، إنه يفقد جزءا من نفسه وقطعة من قلبه.»
يفكر طه حسين في زوجة ثروت التي كانت ترافق جثمانه: «لله زوج ثروت! سجينة في غرفتها على السفينة، منحدرة الدمع حتى لا تجد في عينيها دمعا، مؤرقة الليل لا تأوي إلى مضجع، منغصة النهار لا تطمئن إلى شيء ولا إلى أحد ...» وتصل الباخرة إلى الإسكندرية ويهبط منها جثمان ثروت، «ولله مصر كلها! إذ تستقبل عظيمها لتشيعه إلى حيث أراد الله أن يستقر إلى آخر الدهر.» •••
عندما تصل الأسرة إلى منزلها في مصر الجديدة، يعدو «مؤنس» وهو الآن في السابعة من عمره إلى الحديقة، يريد أن يرى كيف أصبحت بعد الغيبة عنها شهور الصيف، كيف صارت أشجار البوانسيانس الأربع التي يجلس في ظلها أبوه، هل نمت منذ فارقوا الدار؟ وهل أورقت؟ هل ازدهر الزهر عليها وتألق؟ يتلكأ في تلبية الدعوة المتكررة لدخول البيت، لأنه يريد أن يصف حال الحديقة بعد انقضاء الصيف لأبيه، على أنه لا بد الآن أن يأوي إلى الفراش، لا بد أن يستعد هو وأخته للعودة إلى مدرستيهما في الصباح، ولا بد للوالد كذلك أن يستأنف في الغد نشاطه في الجامعة. •••
القاهرة في خريف 1928 هي عاصمة غير التي تركها طه حسين أول الصيف، فقد نشرت بعض الصحف وثائق قيل إنها تمس نزاهة مصطفى النحاس المحامي
10
وسارع الملك فؤاد بإقالة النحاس باشا رئيس الوزراء، وعين لرياسة الوزارة أحد الوزيرين اللذين كانا يمثلان حزب الأحرار الدستوريين في وزارته، واستصدر الرئيس الجديد محمد محمود باشا، بسرعة، أمرا ملكيا بحل البرلمان وبوقفه عن الاجتماع مدة ثلاث سنوات على الأقل، وأعلن أنه ينوي أن يحكم البلاد بيد من حديد، بغير دستور، ولا تمثيل للشعب، ولا برلمان.
وطه حسين ساخط لهذه النكسة في حياة البلاد الدستورية، يؤكد للشيخ مصطفى عبد الرازق - الذي كان يسأله ألا يرى لوزارة محمد محمود أي مزايا - أنه لا توجد أبدا أي مزية تسوغ قيام الحكم الديكتاتوري، وأنه هو صديق شخصي لمحمد باشا محمود، ولكنه لا يقبل الديكتاتورية أبدا، ويستنكر أشد الاستنكار تعطيل الدستور الذي جاهدت الأمة لإصداره، مقررا أنها هي مصدر كل سلطة . •••
وفي آخر عام 1928 وأوائل عام 1929 يلقي طه حسين في الإسكندرية سلسلة من أربع محاضرات عن الشعر العربي السياسي، والهجائي، والغزلي، وعن التأثير الفارسي في الأدب العربي، وقاعة المحاضرات تغص دائما بالمستمعين والمستمعات أيضا، ومن بينهم من يكتشف روعة التراث العربي لأول مرة، وتحدث هذه المحاضرات في الثغر السكندري حركة أدبية نشطة يتمنى أهل الإسكندرية ألا تهدأ. وفي الإسكندرية أدباء نابهون يتحدثون إلى طه حسين عن انشغال مدينتهم بالتجارة والمال وانحصار كل نشاط ثقافي له قيمة في أوساط الجاليات الأجنبية، وطه حسين يقول لا بد للإسكندرية من إحياء جامعتها ومكتبتها واستعادة مكانتها لتعود منارة من منارات الثقافة العربية في حوض البحر الأبيض المتوسط. •••
وفي حديقة منزل طه حسين في مصر الجديدة، في ظل الأشجار التي نمت نموا ظاهرا، يجلس لطفي السيد مع طه حسين، لطفي يقول كعادته: «سأسأل أنا»، ويضحك طه حسين ويقول له: «آخر مرة سمعت فيها هذا التعبير كانت عندما أقبلت ابنتي أمينة تناقشني على طريقتك التي سمعتها منك، قالت لي: إذا كانت الحلاوة الطحينية حلوة، وإذا كنا يجب أن نحب الحلاوة، فلماذا تحرمني أمي منها؟»
فيقول لطفي السيد: «عظيم! إذن سيكون لنا ذات يوم آنسة من الفلاسفة والعلماء، بل إنها ستتخرج في جامعة منزلية، عندك هنا؛ لأننا لا نقبل البنات في الجامعة.»
ويقول طه: «هذا موضوع هام، لماذا لا تقبل الفتيات في الجامعة؟ لماذا نحكم على نصف الأمة بالجهل؟ إن كلمة «مصري» الواردة في القانون ليس معناها الذكور من المصريين فقط، «المصري» تعني المصري والمصرية، تعني جميع أبناء مصر، فليس هناك إذن مانع قانونا من قبول الفتيات في الجامعة إذا كان لديهن ما تتطلبه الجامعة من زملائهن من المؤهلات»، ويرد لطفي السيد، بعد تأمل، بأن هذا الكلام مقنع، يبقى التنفيذ، ويرد طه بأن التنفيذ في يد السيد المدير، أي في يد لطفي السيد نفسه.
وتدخل «أمينة» لتسلم على الضيف الكريم، ثم تقول لوالدها: «وجدت عصفورا في الحديقة لا يستطيع الطيران، رجله مكسورة وأنا لذلك أعنى به وأعطيه الأكل والماء، وسأظل أعتني به حتى يستطيع أن يحلق عاليا في السماء.»
ويقول لطفي السيد: «إذن لن تكون عندنا آنسات يحملن آراء الفلسفة والعلم فحسب، بل يحملن كذلك لواء الرحمة والطموح.» •••
وتجيء إجازة نصف العام، ولا بد لأمينة ولأخيها من الانطلاق بعيدا عن المدرسة، وعن البيت، وعن القاهرة، وهناك دعوة من آل عبد الرازق لزيارتهم في «أبو جرج» في مديرية المنيا.
والعطلة في «أبو جرج» بالنسبة لأمينة وأخيها هي الحقول الممتدة إلى غير نهاية، والحديقة الواسعة ذات الأشجار والثمار يمرحان فيها كما يشاءان، ويأكلان من ثمارها ما يشاءان، ولكن العطلة تنتهي فيعود الطفلان مع والدتهما ومع جدتهما لأمهما (التي كانت تزور مصر للمرة الثانية) إلى القاهرة، سعداء بهذه الأيام التي قضوها في الريف وبما لقوا فيها من ترحيب وإكرام. وتمر أسابيع ثلاثة بعد عودتهم فتحس أمينة بحرارتها ترتفع، ولا تستطيع مغادرة فراشها، ويحضر الطبيب، فتؤكد له التحليلات التي يجريها أن الصغيرة مريضة بالتيفود، ولا تمر أيام حتى يصاب أخوها بنفس المرض، ويبذل الطبيب أقصى جهده، ويعطي الصغيرين كل عنايته، وهما يتماثلان فعلا للشفاء، ولكن أمينة تعود فتنتكس، ثم يشتد مرضها وتتعرض للخطر، والدتها تلازمها، ووالدها يسهر الليل إلى جوارها، حيران قلقا يدعو الطبيب بعد الطبيب، والأطباء يتشاورون، يصفون العلاج ثم العلاج، يتفقون ويختلفون، والوالد ترهقه من جديد ذكرى أخته نفيسة وأخيه محمود، وتذوب نفسه ألما وهو يتجه إلى الله - تعالى - يدعوه أن يرحم صغيرته ويشفيها، نعم ويزور طه حسين ضريح السيدة زينب ذات يوم ليبتهل هناك إلى الله.
ويرحم الله الوالد والوالدة والصغيرة، فتترك أمينة فراش المرض بعد ملازمته أسابيع، ضعيفة قد أنهكتها الحمى، مبتهجة لأنها تستطيع الآن أن تمشي في الحديقة وأن تشارك في حياة الأسرة التي حرمت من المشاركة فيها طوال مدة المرض الثقيل الخطير. •••
كان محمد محمود باشا لا يزال يشدد من قبضته على شعب لا يستجيب له ولا يخضع، ولكن حكومة المحافظين في إنجلترا تسقط وحزب العمال الإنجليزي يصل إلى الحكم في أول الصيف، فينقل لورد لويد
11
من القاهرة، وتعلن استقالته في البرلمان الإنجليزي،
12
وتعرض حكومة العمال الجديدة في بريطانيا على مصر مشروع معاهدة ينص في مقدمته على ضرورة تصديق البرلمان المصري على المعاهدة، وإذن فلا بد من وجود برلمان مصري، وإذن تسقط وزارة محمد محمود فيطلب الملك في الثالث من أكتوبر سنة 1929 إلى عدلي باشا يكن تأليف وزارة مستقلة تجري انتخابات جديدة حرة. •••
ويبدأ الاستعداد للعام الجامعي الجديد فيزور طه حسين مدير الجامعة يتحدث معه فيما يهم الجامعة والكلية من الأمور، ويذكره أثناء الحديث بموضوع قبول الطالبات في الجامعة، إن هناك طلبات مقدمة فعلا من عدة آنسات لكلية الآداب ولكلية الطب، يقول لطفي السيد: «لقد سبق أن تحدثنا في هذا الموضوع، ورأينا أنه لا مانع قانونا من قبول الطالبات إذا كانت لهن نفس المؤهلات المطلوبة من الطلاب، فعلى بركة الله، وإني لسعيد بما سوف يتاح لهؤلاء الفتيات من فرصة التعليم العالي، مشفق عليهن في نفس الوقت، فإنهن سوف يتحملن مسئولية خطيرة، إن نجاحهن سيعني إتاحة فرص التعليم الجامعي لأجيال من الفتيات يأتين من بعدهن لا في مصر فقط بل في البلاد العربية كلها، وإخفاقهن لن يقتصر ضرره عليهن ولا على هذا الجيل ولا على هذا البلد، فما أثقل ما يحملهن طموحهن من تبعات!»
ويعكف طه حسين على دروسه في الجامعة وعلى المقالات التي كان يمد بها الدوريات الأدبية في مصر والشام؛ الهلال والمقتطف والسياسة الأسبوعية والجديد، التي أصدرها صديقه الأستاذ محمد المرصفي، ومجلة الحديث التي كان يصدرها الأستاذ الكيالي في حلب. ويتابع طه حسين في هذه المقالات عرض ونقد مؤلفات زملاء له من الأساتذة داخل الجامعة، مثل أحمد أمين ومحمد عوض وإبراهيم مصطفى، وخارج الجامعة مثل عباس محمود العقاد ومحمود عزمي وأحمد حسن الزيات وفكري أباظة وواصف بطرس غالي، لا يبخل بالمدح ولا يتحرج من النقد، مرحبا دائما بكل كتاب جيد جديد، يعده إضافة إلى ثروتنا الثقافية العربية التي يريد لها أن تنمو وتزداد.
ويسجل خواطره أثناء العطلة في كتاب جديد هو كتاب «في الصيف»، يتوقف فيه عند هذا الجهاز العجيب الذي كان قد سمع من قبل أنه قد اخترع واستعمل في أمريكا ولكنه لم يره إلا هذا العام في فرنسا، يصف هذه الأداة الجديدة التي تسمى «الراديو»: «إنها تقرأ على المستمع أخبار الصحف، وتحمل إلى المشتركين فيها ما يكون في الملاعب ودور الموسيقى واللهو؛ من تمثيل وعزف وفرح وغناء، ذلك كله دون أن يتكلف المشترك من المشقة إلا إدارة زر من أزرار الكهرباء، فإذا سئم أو مل أدار الزر مرة أخرى فينقطع الصوت ويعود الهدوء»، ويقول: «أما أن هذه الأداة الجديدة من أقوى أعوان الديمقراطية على نشر الثقافة والمساواة فشيء لا شك فيه، ولكن من يدري فلعل هذه الأداة الجديدة تكون من أشد الأشياء خطرا على الديمقراطية نفسها»، ويسجل خاطرة خطرت له: «هل يأتي يوم يمكن فيه لمستمع الراديو أن يرد على المتحدث فيه بحيث يسمعه المتحدث؟» وإنما أخطر على باله هذا السؤال ما كان ابنه وابنته يعلقان به على حديث في الراديو لوزير الحربية الفرنسية، يسفهان منطقه ويطالبانه في عنف بأن يلتزم الصدق وألا يغرر بسامعيه، كانا يفعلان ذلك آمنين أنه لن يسمع ولن يرد! •••
ويتابع طه حسين دروسه في الجامعة، يسير إلى قاعة الدرس منتصب القامة، نشيطا، واثق الخطوة، فإذا بلغ مع سكرتيره منصة التدريس ارتقاها دون تردد وجلس مرفوع الظهر قد ضم ركبتيه إحداهما إلى الأخرى، واعتمد بيديه على المنضدة الصغيرة أمامه يريح يمناه على اليسرى، عندئذ يتركه السكرتير لينصرف لما لديه من أعمال فتسكت قاعة الدرس، التي تكون قد امتلأت إلى جانب طلابه بطلاب من أقسام الكلية الأخرى ومن كليات غير كلية الآداب، ويبدأ طه حسين حديثه واضح اللفظ، ناصع العبارة، شديد الاقتناع، شديد الإقناع، يستشهد بشعر قد يكون معروفا لسامعيه، فيخيل إليهم أنهم يسمعونه لأول مرة، ويحسون لأول مرة بعذوبته وسحر موسيقاه.
ويناقش الأستاذ طلابه في موضوعات الأدب العربي الذي ملأ قلوبهم - كما يقول أحد تلاميذه الأستاذ الدكتور شوقي ضيف - فتنة بالبحث فيه.
يسأله طالب عن هذا الأدب العربي؛ ما مكانته بين آداب العالم؟
يقول طه حسين: «إن التراث الأدبي العربي شهد عصرا ذهبيا يمتد من الجاهلية إلى وفاة أبي العلاء المعري، امتزج فيه التراث العربي الخالص بتراث الأمم المجاورة ... توافرت له عناصر الثبات مع عناصر التحول فأنتج أدبا رائعا.» «وإننا إن أردنا المقارنة السليمة فلنقارنه - الأدب العربي القديم - بأمثاله من الآداب القديمة ... إن الآداب السامية، الآرامية والعبرية، والآداب الفارسية، التي كانت شائعة في المنطقة التي استولى عليها العرب، قد عجزت عن أن تثبت للأدب العربي واندمجت فيه واستحالت روافد له ... والأدب الروماني تقليد لليوناني ... لم يبق إذن إلا أدب اليونان، يمكن أن يقال إنه تفوق على الأدب العربي حقا ... ومع ذلك فإن الأدب اليوناني على قوته لم يثبت للأدب العربي في الشام والعراق ومصر وشمال أفريقيا، وتقلص ظله عن هذه البلاد واضطر إلى الانحصار في البلاد البيزنطية.»
ويسأله طالب آخر: «أليس الأدب العربي القديم بطبيعته أدب بادية فحسب؟» فيقول: «لقد حمل تراثنا الأدبي في نفسه طبيعة خصبة وغنية إلى أقصى ما يمكن من الخصب والغنى، فلم يكد يتجاوز البادية حتى استحالت الطبيعة الخصبة التي كانت منكمشة إلى جذوة من النار لم تلبث أن اشتعلت فشملت العالم القديم وصهرته وحولته إلى طبيعة جديدة مخالفة لما كانت عليه قبل الإسلام.»
ويقول طالب ثالث: «يبدو لنا الأدب العربي القديم أحيانا بعيدا عن الحياة الواقعة.» فيرد طه حسين: «إنما نأى الأدب العربي عن الحياة الواقعة في بعض عصوره حين تسلط المستبدون من غير العرب على حياة الشعوب واستأثروا لأنفسهم وخاصتهم بالسلطة كلها، هناك عكف الأدباء على أنفسهم وفرغوا لها وجعلوا يبدءون ويعيدون فيما ورثوا من معاني القدماء لا يجددون شيئا، حرموا الحياة فتفرغوا لأدب لا حياة فيه.»
ويثور موضوع القديم والجديد فيقول لطلابه: «إن المحدثين يقرءون تراثنا القديم ولكنهم لا يحسنون فهمه، وإنهم كلما أرادوا البحث عن مواضع الإشراق والازدهار في تاريخ البشرية لجئوا إلى التراث الغربي القديم والحديث وغفلوا عن أن التراث العربي يعرض نماذج إنسانية رائعة للطموح والكفاح وحرية الفكر غير أنها لا تجد من يستوحيها.»
ويقول: «إن القديم لا ينبغي أن يهجر لأنه قديم، وإنما يهجر القديم إذا برئ من النفع، فإن كان نافعا فليس الناس أقل حاجة إليه منهم إلى الجديد.»
ثم يقول: «إن الحضارة الحقة لا تنكر القديم وإنما تحميه، لأنها تقوم على أساس منه متين، ولولا القديم ما كان الحديث، فليس التجديد في إماتة القديم بل في إحيائه.»
ويسأل طالب عن رأي أستاذه فيما فرضه الغازي مصطفى كمال في تركيا من كتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية، وتحريمه كتابتها بالحروف العربية، هل يحسن أن تقلد مصر والعالم العربي مصطفى كمال في هذا الشأن؟ فيقول طه حسين إن رأيه هو أن مصطفى كمال مخطئ، وطه حسين يعرف أن في الإملاء العربي صعوبة، وإنه لا بد من البحث عن طريقة لتذليل هذه الصعوبة، ولكنه يرفض رفضا قاطعا أن يكون ذلك عن طريق ترك حروفنا العربية وتقليد الأتراك فيما فعلوه من استعمال الحروف اللاتينية، وهو ينبه إلى أن اللغة التركية ليس لها أصلا حروف خاصة بها، وهي إنما استعارت حروف العربية كما تستعير الآن حروف اللاتينية، أما اللغة العربية فلها حروفها ولها تراثها الضخم المسجل بهذه الحروف، ولا بد لنا من صيانة الكتابة العربية والمحافظة عليها، بل والاعتزاز بها.
وبين طلبة قسم اللغة العربية هذا العام طالبة في السابعة عشرة من عمرها تستمع إلى محاضرات طه حسين، سعيدة بها مقبلة عليها إقبالها على حياتها الجامعية الجديدة، والأستاذ يكلف طلابه ببحوث في موضوعات يحددها لهم فيلقونها أمام زملائهم بين يديه، وقد جاء دور الآنسة سهير محمد القلماوي فكلفها الأستاذ بإعداد بحث عن «طرفة بن العبد».
تحكي سهير القلماوي أنها لما ذهبت رهبة البداية عنها ألقت بحثها، فقالت إنه لا يهمها أن يكون طرفة بن العبد جاهليا أو إسلاميا أو حتى محدثا ما دام شعره هو هذا الذي تجد النفس فيه متعة متجددة؛ لأنه يصور النفس الإنسانية ورد فعل فكرة الموت المحتوم في نفس شاب مغامر في الحب والحرب.
ويقاطع المعلم تلميذته، يقول لها: «مرحى مرحى! وفيم دخولك كلية الآداب يا هانم وأنت في بيتك يمكن أن تحصلي على هذه المتعة؟ نحن هنا نبحث عن الشاعر وعن عصره وعن صلته بعصره.»
وتقول سهير القلماوي: «في كل درس لطه حسين كنا نجد شيئين: أفقا متفتحا في الموضوع يغري بشكل عجيب بالاستمرار في البحث والدرس، أفقا يتفتح ويمزج بين أطراف الموضوع وما يمكن أن يتصل به من موضوعات في قدرة عجيبة خالقة تجعل من الحياة كلا متكاملا لا مجال فيها لشيء وحده أو لفكرة منفصلة عن غيرها، فكان هذا يشعرنا بما يشعر به الإنسان أمام الأثر الفني الرائع الكامل المنسجم. وأما الشيء الثاني فهو الفكرة اللماحة المضيئة التي تضيء هذا الأثر الفني المتكامل بضوء ساحر فريد، لا بد من فكرة بل أفكار جديدة لها طلاوتها وحلاوتها، ولا بد من أفق رحب تجول فيه هذه الأفكار يتسع ويتسع حتى يشمل الحياة كلها.»
وطلاب طه حسين لا يقتصرون الآن على الشباب المصريين، إن الشباب من مشرق العالم العربي ومغربه يتوافد على كلية الآداب، يقول الأستاذ شكري فيصل: «كنا طائفة من تلامذته وطلابه الكثيرين من بلاد الشام في سوريا ولبنان، نتابع محاضراته التي يلقيها في الجامعة وغيرها، طلابا في كلية الآداب نتتلمذ عليه، ودارسين نلاحق محاضراته ... ولا ريب أن زمنا طويلا سيمضي قبل أن يستنفد الباحثون العرب مناحي البحث التي فتح الدكتور طه أبوابها أو مد آفاقها أو دعا إليها.»
ويهتف الأستاذ زكي المجاسني، من أدباء دمشق، يقول في مقال له: «سمعته! هذه العذوبة في صوته ... لقد سمعت طه حسين بعد أن عرفت أدبه، فوجدته خالدا بصوته كخلوده بأدبه.»
والطالب العراقي «مشكور الأسدي» أعلنه مسجل الكلية بأنه سيمتحن شفويا في يوم حدده له وقال له: «تعال بكرة بدري»، ولم يفهم الطالب العراقي كلمة «بدري» هذه وأقبل في الضحى وقد عقد الامتحان فحيل بينه وبين دخوله، والطالب العراقي يسأل طه حسين هل يحرم من الدراسة على يديه وقد جاء من العراق لهذا الغرض لأنه لم يفهم كلمة «بدري» هذه ، فيأمر طه حسين بأن يدخل الطالب امتحانا آخر وينصح باستعمال الفصحى! ويقول مشكور الأسدي إنه لم ينس كلمة «بدري» هذه أبدا، وكلما مر به رجل اسمه «بدري» أو اسمه «شمس» تذكر هذه الواقعة وتذكر بالإجلال والإكبار أستاذه طه حسين. •••
يجري عدلي باشا يكن الانتخابات وينجح الوفد في آخر ديسمبر، فيدعى مصطفى النحاس باشا لتأليف الوزارة في أول يوم من عام 1930.
ولكن وزارة النحاس تدخل في مفاوضات مع الإنجليز لا تنجح، وإذ تفشل المفاوضات تسقط الوزارة في 17 يونيه من نفس العام.
وفي منتصف يونيه 1930 يدعى إسماعيل صدقي باشا لتأليف وزارة جديدة، فيحتفظ لنفسه إلى جانب رياسة الوزارة، بمنصب وزير الداخلية وبمنصب وزير المالية، ويسأل طه حسين نفسه عندما يقرأ احتفاظ صدقي باشا بهاتين الوزارتين: «هل يفكر صدقي باشا إذن أن يحكم البلاد بسيف المعز وذهبه؟ إن صدقي باشا لا يريد أن يكرر خطأ محمد باشا محمود، فهو لن يلغي الحياة النيابية، ولن يعلن للعالم الخارجي أن مصر تحكم ديكتاتوريا، إنه سيدعو إلى إجراء انتخابات، وسيعمل مع برلمان منتخب، وستكون للحزب جريدة ناطقة باسمه، ولكن ذلك كله سيبنى على أساس إلغاء دستور البلاد وإصدار دستور جديد يفرض عليها فرضا.»
طه حسين يتحدث مع عبد العزيز فهمي باشا، فيجده شديد الغضب لهذا العدوان على الدستور، وطه يذكره بأنه وصف دستور 1923 بأنه ثوب فضفاض، ويقول له: «إن دستور 1923 لم يكن ثوبا فضفاضا، فلو أن الشعب تعلم فتمكن بذلك من إصلاح طعامه وصحته، إذن لملأ هذا الثوب الفضفاض وسار فيه راسخ الخطوة قويا لا يجرؤ أحد أن يسلبه إياه.»
وعبد العزيز فهمي باشا يقول: «ليس إلى شيء من ذلك قصدت عندما كنت ألاحظ ما لاحظت على تطبيق الدستور، إنك لتعلم أنني قد ساهمت في وضعه وكافحت لكيلا ينقص منه شيء، وسيقف الأحرار الدستوريون إلى جانب الوفد المصري مناهضين للحكم المطلق الذي يريد الإنجليز وتريد السراي ويريد صدقي باشا أن يفرضوه على مصر باسم الدستور الجديد.»
وتتم فعلا مقاطعة الوفد والأحرار الدستوريين للانتخابات، وتمتلئ كراسي مجلس النواب الجديدة بمن اختارهم وزير الداخلية، فدخلوا الانتخابات لا ينافسهم فيها أحد.
والوفد المصري يدعو إلى عدم التعاون مع حكومة صدقي، وعدم أداء الضرائب لها، ويتظاهر المتظاهرون من كل الطوائف والمهن ضد الحكومة، ويضرب بعض الطلاب في بعض المعاهد والمدارس احتجاجا عليها، وصدقي باشا يأمر بأملاك وأموال الممتنعين عن التعاون مع الحكومة فتباع جبريا، ويأمر بالطلاب «المشاغبين» فيفصلون، وبمن يتعاطف معهم من الأساتذة أقل التعاطف فيبعدون عن معاهد التعليم، وبالمتظاهرين ضد الحكومة من كل الطبقات فيلقون في السجون.
عندما تستأنف الجامعة الدراسة يتجمع الطلبة وهم غاضبون للعدوان الذي وقع على الدستور وللعنف الذي تتسلط به الحكومة على البلاد، يتحدثون بأن الدستور الجديد باطل لأنه صادر رغم إرادة الأمة مصدر السلطات.
وأساتذة كلية الآداب يتحدثون عن هذه الحالة العامة، لا يخفون ضيقهم بها وقلقهم لما يمكن أن يترتب عليها من نتائج، يلاحظون أن الاحتلال الإنجليزي قد نجح في أن يحول الجهاد الوطني من مواجهته هو إلى ما يشبه الحرب الأهلية بين المصريين، ويتحدثون كذلك عن ترشيح أستاذ إنجليزي هو الأستاذ سترلنج عميدا لكليتهم، فيتفقون على عدم انتخابه، ويصممون على أن ينتخبوا طه حسين هذه المرة؛ لأنه مصري ولأنه طه حسين.
وتجري انتخابات العمادة ويكون طه حسين أول الفائزين، وترفع نتيجة الانتخابات إلى وزير المعارف مراد سيد أحمد باشا، ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بالموقف الذي سيقفه الوزير من هذه النتيجة هذه المرة.
العميد
يعتمد مراد سيد أحمد باشا وزير المعارف تعيين طه حسين أول عميد مصري لكلية الآداب، ويبلغ هذا الخبر لمدير الجامعة أثناء اجتماع لمجلس الجامعة كان طه حسين يحضره ممثلا لكليته، فيقدم المدير تهنئته للعميد الجديد، ويقترح عليه أن يقابل الوزير في صباح اليوم التالي للشكر.
ويعرف مدير الجامعة أثناء الجلسة أن رسولا أرسله وزير المواصلات توفيق دوس باشا يريد مقابلة الدكتور طه حسين مقابلة عاجلة، فيأذن للعميد الجديد في مغادرة المجلس لمقابلة رسول الوزير، ويعود طه حسين بعد مدة قصيرة إلى قاعة الاجتماع صامتا، ثم ينصرف عند انتهاء الاجتماع دون أن يتحدث إلى الرئيس أو إلى الأعضاء في أمر الرسالة التي حملها إليه رسول وزير المواصلات.
وفي صباح اليوم التالي يستقبل وزير المعارف عميد كلية الآداب الجديد وقد جاء للشكر على التعيين، ولكن الوزير الذي يكرر تهانيه ينتقل إلى موضوع كلفه رئيس الوزراء بالحديث فيه.
إن جريدة جديدة باسم جريدة الشعب ستصدر قريبا بإمكانات غير محدودة لتكون لسان حال الحزب الذي أسسه صدقي باشا وهو حزب الشعب، ودولة الرئيس يعرض على طه حسين رياسة تحرير هذه الجريدة.
وطه حسين يجيب بأن دولة الرئيس كان في اليوم السابق قد كلف شخصين آخرين بأن يتحدثا معه في هذا الموضوع، وهما وزير المواصلات توفيق دوس باشا وعبد الحميد بدوي باشا، وأن جوابه في الحالين كان هو الرفض بغير تردد، إنه لم يمض على انتخابه عميدا لكلية الآداب غير يوم واحد، وهو أول عميد مصري للكلية، وهو لا يريد أن يترك دراساته ولا زملاءه الذين انتخبوه ولا تلاميذه ولا كليته.
ويقول مراد سيد أحمد إن إسماعيل صدقي لا يريده أن يترك دراساته، بل يريده أن يتابع في صحيفة الشعب نشر مقالاته الأدبية وبحوثه إلى جانب المقالات السياسية، وإنه سيكون حرا في التحرير حرية كاملة، ورئيس الوزراء يؤكد أيضا أن مطالب طه حسين كلها، مادية وغير مادية، مجابة مقدما.
ويكرر طه حسين الرفض.
يقول الوزير: «يظهر أن دولة الرئيس يعرفك جيدا، فقد كلفني أن أعرض عليك إذا لم ترغب في التفرغ لرياسة التحرير أن تبقى عميدا لكلية الآداب على أن تكتب المقال الافتتاحي للجريدة فقط.»
ويرد طه حسين: «ليس إلى هذا سبيل.»
فيقول الوزير وهو يرجع إلى ورقة أمامه: «إن صدقي باشا يقترح عليك موضوع المقال الافتتاحي في العدد الأول للجريدة، وهو أن وجود حزب الشعب ضروري لتحقيق المصالح المصرية الصحيحة.»
ويرد طه حسين، وهو يبتسم ابتسامة فيها شيء من الأسى: «دولة الرئيس يحسن اختيار العناوين!»
ويقول الوزير: «وهو أخيرا يرضى بأن تكتب المقال على أن ينشر بغير إمضاء.»
فيقول طه حسين: «ليست المسألة يا معالي الوزير أن أكتب مقالا يملى علي موضوعه أو لا يملى، وأن أمضيه أو لا أمضيه، وأن أتحكم في مقابله المادي أو لا أتحكم، إنني لا أستخفي إذا أردت أن أقوم بعمل من الأعمال. المسألة يا باشا أنني لا أعرف إن كان وجود حزب الشعب ضروريا لتحقيق المصالح المصرية الصحيحة أم لا، ولكني أعرف أن المصالح الصحيحة هي في انصرافي إلى عملي في كلية الآداب، الذي لم يمض على تعييني عميدا لها غير يوم واحد. إن كتابتي في جريدة الشعب تضرنا جميعا ولا تنفع أحدا، وليس من مصلحة الحكومة أن يعرف الناس أن الموظفين يكتبون في صحيفتها، ولا ينبغي لعميد كلية الآداب أن يسخر نفسه للكتابة في صحف الحكومة فيتعرض بذلك لازدراء الزملاء والطلاب جميعا.»
ويقول الوزير: «لا داعي لأن أخبرك طبعا أنك لو قبلت فإنك ستكون محل التقدير والامتنان من أعلى مقامات البلد. على أني قد أبلغتك رسالة دولة الرئيس، وسمعت كلامك وفهمت عذرك، وسأنقل ذلك كله للرئيس، فلا داعي إذن للاستمرار في هذا الحديث.»
ويعود الوزير فيهنئ طه حسين بالعمادة ويرجو له التوفيق قبل انصرافه.
وفي مساء اليوم نفسه يزور طه حسين لطفي السيد ويقص عليه كل ما حدث، ولطفي السيد يبادر فيكلم الأستاذ عبد الحميد بدوي بالتليفون ويقول له: «الموضوع الذي تحدثت فيه مع الدكتور طه بالأمس ليس هذا وقت العتاب، ولكنني أرجو أن تعمل كل ما تستطيع لتصرف عنا وعن الجامعة هذه الكارثة.» •••
ويعود طه حسين لدروسه في كلية الآداب، ولكنه يعلم ذات يوم أن صدقي باشا قد عدل وزارته وأسقط منها مراد سيد أحمد باشا الذي عين وزيرا مفوضا لمصر في بلجيكا، وعين مكانه حلمي عيسى باشا وزيرا للمعارف.
ويقبل لطفي السيد بك لزيارة طه حسين في منزله ذات مساء فيذكر أثناء الحديث أن طلب الجامعة الخاص بترقية عميد كلية العلوم مستر بنجهام وعميد كلية الآداب طه حسين قد رفض، ولكن الوزارة قررت زيادة راتب مستر بنجهام لتعويضه عن عدم الترقية. ويسمع طه حسين الخبر فلا يعلق، فقد كان يعلم أن رفضه إطاعة أوامر رئيس الحكومة لن يمر بغير عقاب، ولكن المدير يضيف - في أسف - أن اقتراح كلية الآداب إنشاء قسم للآثار بها قد رفض أيضا. •••
وزارة صدقي مطمئنة إلى أنها قد زيفت على العالم مظاهر الحكم الدستوري في مصر، فللبلاد دستور وبرلمان، وفي البرلمان أغلبية ساحقة لحزب الشعب الحاكم، ولهذا الحزب صحيفة تنطق باسم «الشعب» ... ولكن صدقي باشا والسراي والإنجليز يريدون أيضا استخدام الجامعة المصرية ليظهروا للعالم أن الحكم في مصر مستقر وأن البلد هادئ مطمئن.
يتصل وزير المعارف الجديد محمد حلمي عيسى باشا بمدير الجامعة لتنظيم احتفال كبير يشرفه جلالة الملك، وتمنح الجامعة أثناءه عددا من درجات الدكتوراه الفخرية لعدد من الأجانب، منهم إنجليزي وفرنسي وإيطالي وألماني وبلجيكي، ولعدد من المصريين، يريد الوزير أن تمنح الدرجة الفخرية له هو شخصيا أولا ثم لمدير الجامعة لطفي السيد ثانيا، ثم لرئيس مجلس الشيوخ يحيي إبراهيم باشا، ولرئيس مجلس النواب توفيق رفعت باشا، وأخيرا لأحد الوزراء الحاليين وهو علي ماهر باشا.
ويرد مدير الجامعة إنه من غير المعقول أن يطلب درجة دكتوراه لنفسه، ويفطن الوزير إلى أنه من غير المعقول كذلك أن يمنح هو هذه الدرجة وهو رئيس الجامعة الأعلى، فيسحب الاسمين اسم لطفي السيد واسمه هو.
ويقول المدير أيضا إن قانون الجامعة يقضي بعرض هذا الموضوع على مجالس الكليات، وسوف يفعل ذلك، ولكنه يلاحظ أن الأسماء المذكورة في القائمة كلها هي أسماء لرجال من أنصار الوزارة، لا تشمل واحدا من المعارضين، والاقتراح بهذا الشكل يبدو اقتراحا لصالح الحزب الحاكم، فيرد الوزير بأنه لا يقبل أن ينال هذا التكريم في عهده أي معارض، ولكن لا بأس من إعطاء درجة أيضا لكل من عبد الحميد بدوي باشا وعبد العزيز فهمي باشا - وهما من أصدقاء طه حسين - أما الأجانب فليس لدى الوزير أسماء، المهم هو الجنسيات، والمهم هو العجلة في إتمام الإجراءات؛ لأن المطلوب هو أن يزور الملك الجامعة، وأن تمنح هذه الدرجات أثناء الزيارة الملكية في آخر فبراير.
يكرر المدير أنه طبقا للمرسوم الصادر بإنشاء الجامعة فإن مجالس الكليات هي المختصة بالنظر في إعطاء الدرجات الفخرية، وأنه لذلك سينقل اقتراح معالي الوزير إلى عمداء الكليات.
يعترض عميد كلية الآداب طه حسين بأن مرسوم إنشاء الجامعة ينص على أن مجلس الجامعة، بناء على قرار من مجلس الكلية، هو الذي يختص بمنح درجات الشرف المطلوبة، وليس للوزير أن يقرر شيئا في هذا الصدد أو أن يقترح شيئا. إنه يخشى أن يكون المطلوب هو استعمال الجامعة في إقامة مهرجان سياسي كبير للحكومة.
ويقول طه حسين: «إن الحكومة تريد أن تمنح درجات دكتوراه فخرية لبعض أنصارها، وكذلك لأشخاص من الأجانب لا تعرف حتى أسماءهم، وتريد أن تمنح الدرجات لهؤلاء الأجانب دون أن يحضروا بأنفسهم لتسلم درجاتهم، فإن الملك سيزور الجامعة ويشهد منح درجات الدكتوراه الفخرية المطلوبة بعد أيام قليلة، يوم سبعة وعشرين من فبراير.»
ويقول طه حسين إنه «عندما قررت جامعة باريس منح درجة الدكتوراه الفخرية للرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، وهو رئيس لأكبر دولة منتصرة في الحرب العالمية، أصرت جامعة باريس على أن يحضر ويلسون بنفسه ليتسلم الدرجة الفخرية، وحضر رئيس الولايات المتحدة فعلا من بلاده، وكان سعيدا بحضوره، لماذا نقلل نحن من أمر جامعتنا وأمر بلادنا؟ وكيف نوزع شهادات الدكتوراه حسب الجنسيات؟!» إنه متأكد من أن مجلس كلية الآداب سوف يرفض طلب الوزير، ولا يعرف ماذا سوف يكون موقف بقية الكليات، العلوم والحقوق والطب.
1
ويطلب المدير إلى العمداء مقابلة الوزير للتحدث في هذا الموضوع، ويذهب طه حسين ومعه الدكتور عبد الوهاب عزام بالنيابة عن كلية الآداب ويحاولان إقناع الوزير بالعدول عن طلباته، ولكنه يظل مصرا على رأيه، بل يتحدث بلهجة الأمر فيرد طه حسين على الوزير قائلا: «إن عميد كلية الآداب ليس عمدة يا معالي الوزير!»
ويعرض الموضوع على مجالس الكليات الأربع، فيرفض مجلس كلية العلوم برياسة المستر بنجهام (البريطاني)، ويطلب مجلس كلية الآداب برياسة طه حسين إحالة الموضوع إلى لجنة تنسيق بين الكليات الأربع للنظر فيه، أما مجلسا كليتي الطب والحقوق فإنهما يقبلان.
وبعد ذلك بأيام يعلم عميد كلية الآداب أن الوزير لم يصدق على اللائحة الجديدة للجامعة، التي كان قد اشترك في إعدادها، وهي لائحة تنص على ضمانات للأساتذة شبيهة بضمانات القضاء!
ويقام الاحتفال في موعده، وكان المختصون قد اهتدوا بسرعة إلى أسماء العلماء من البلاد الأجنبية المعنية إلا العالم البلجيكي الذي كان مقررا أن ينال جائزة الأدب؛ لأن كلية الآداب لم تقترح أي اسم، فيقول وزير المعارف في خطابه أمام الملك إن عدم منح الدرجة للأستاذ البلجيكي نشأ عن أعطال في أعمال البريد.
2
وعند انتهاء الاحتفال يلاحظ الملك أن الهتاف لجلالته لم يكن من الحماس بالشكل الذي يرضيه، وأثناء الزيارة الملكية للجامعة يسير الملك محاطا برجال الحكومة والجامعة، وهو يحيي الطلاب المجتمعين في الأماكن التي حددها لهم رجال الأمن، وكان المنتظر أن يعلو هتاف الطلاب للملك، ولكنهم جعلوا يهتفون للجامعة وأساتذتها.
وبعد أربعة أيام من إقامة هذا الاحتفال يقرأ قراء جريدة المقطم خبرا صغيرا نصه:
إن حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية قد قرر نقل الأستاذ الدكتور طه حسين من كلية الآداب إلى وزارة المعارف العمومية في وظيفة مساعد لمراقبة التعليم الأولي. •••
وقد أحدث نقل طه حسين من الجامعة إلى التعليم الأولي سخطا شديدا في الجامعة بين الأساتذة والطلبة ظل يتصل ويتصاعد كل يوم، تضرب كلية الآداب ثم تتبعها بقية الكليات، وتضطر الحكومة إلى إغلاق الجامعة، ويعم السخط كل الأوساط المتصلة بالجامعة والعلم والمتصلة بالثقافة بشكل عام.
ويحاول الوزير حلمي باشا عيسى أولا التهوين من الأمر كله،
3
ولكن السخط يشتد ويتزايد، والوزير يحاول أن يبرر موقفه وأن يدافع عن نفسه، ثم يلجأ للبرلمان فيوعز إلى أحد النواب أن يقدم له استجوابا بشأن تساهله مع طه حسين، وتتحدد جلسة 7 مارس سنة 1932 لنظر هذا الاستجواب.
قبل نظر الاستجواب يرسل الوزير إلى طه حسين رسولا يعرض عليه أن يعلن أنه قد قبل نقله إلى وزارة المعارف وألا يستمر في إنكاره لشرعية الأمر بهذا النقل، وذلك مقابل أن يختار أي وظيفة خالية بوزارة المعارف غير وظيفة التعليم الأولي فيعينه الوزير فيها فورا، وأن يلتزم الوزير بألا تملأ وظيفة عميد كلية الآداب في ذلك الوقت ليعاد تعيين طه حسين عميدا للكلية بعد مرور مدة من الزمان، وأن يعوض أثناء وجوده في وزارة المعارف عن بدل العمادة، وأن تطبع وزارة المعارف له ما يشاء من الكتب، وأن يمضي الوزير لائحة الجامعات وفيها ضمانات الأساتذة، وألا تمس كلية الآداب، لا أساتذتها ولا طلبتها، وأخيرا أن يقف الوزير فيرد على الاستجواب مدافعا عن طه حسين، مبينا فضله ومزاياه، مدافعا عن كرامته العلمية والدينية.
ويرفض طه حسين أن يعترف بحق الوزير في نقل أساتذة الجامعة كما يشاء، وفي عقابهم إن عصوا أوامره أو أغضبوه دون موجب للعقاب.
وينظر الاستجواب في السابع من مارس فيثير صاحب الاستجواب ثلاث نقط:
الأولى:
أن جريدة الأهرام قد نشرت بالعدد 16959 صورة تمثل طلبة كلية الآداب حول عميدهم الدكتور طه حسين وقد جلست كل شابة إلى جانب شاب، كيف وقع هذا؟
الثانية:
أن بعض أساتذة الجامعة المصرية امتنعوا عن التدريس في كليات الأزهر الشريف، كيف قبل هذا منهم؟
الثالثة:
أن طه حسين هو المسئول عن ذلك، وهو رجل موصوف بتأليف كتب مثل كتاب «في الشعر الجاهلي» وكتاب «حديث الأربعاء»، فكيف يسكت وزير المعارف عن ذلك ويسمح بأن يبقى طه حسين عميدا لكلية الآداب؟
ويهاجم الوزير عددا من مفكري مصر والعالم العربي، منهم الأستاذ محمد توفيق دياب صاحب جريدة الجهاد، ويكتب الأستاذ عباس محمود العقاد مقالا يوم 11 مارس عنوانه «مشكلة الجامعة خير حل لها أن يستقيل وزير المعارف».
ويقف الوزير في جلسة 1932/3/16 في مجلس النواب يقول إنه لم يسكت ولم يسمح ببقاء طه حسين عميدا، بل نقله من الجامعة إلى الوزارة، وهذا حق للوزير قد مارسه من قبله وزراء آخرون.
ويجلس الوزير ويترك النواب يتبارون في الطعن على طه حسين في عمله وفي وطنيته وفي دينه.
ويقدم مدير الجامعة لطفي السيد استقالته لأنه يحتج على «نقل أستاذ من أساتذتها بقرار من الوزير دون الرجوع إلى الجامعة بالمخالفة للتقاليد المطردة منذ نشأتها ولعقد إلحاقها بالحكومة، ولأنه لا يستطيع أن يقر الوزارة على هذا التصرف الذي يخشى أن يكون سنة تذهب بكل الفروق بين التعاليم الجامعية وأغيارها.»
ويدلي طه حسين بحديث إلى جريدة الجهاد يدافع فيه عن نفسه ويعترض على الموقف الذي وقفته الحكومة منه، وتنشر الجريدة في نفس العدد أحاديث لوزراء المعارف السابقين الذين نسب إليهم حلمي باشا أنهم تصرفوا مثل تصرفاته، وهم علي الشمسي وبهي الدين بركات ولطفي السيد وكلهم ينكر ما قرره الوزير.
يقول طه حسين في حديثه لجريدة الجهاد:
إن طه حسين وإن كان يعلم أنه فقير وأنه ليس وزيرا، إلا أنه يحس أنه إنسان وأنه أستاذ، وأنه عميد لكلية الآداب المصرية، وأنه رجل لا يقل إنسانية ولا شرفا عن معالي الوزير ... •••
وفي جلسة 30 مارس 1932 يقرر مجلس الوزراء برياسة إسماعيل صدقي باشا عزل طه حسين من الحكومة، فينقطع مورد رزق الأسرة الوحيد مرتب الأستاذ العميد.
وتبلغ كل الجهاد أن طه حسين شخص مغضوب عليه من السراي ومن الحكومة، وأن التعاون أو التعامل معه يعتبر تصرفا غير ودي ضد حكومة مصر وملكها.
وتبلغ شركة مصر الجديدة «البلجيكية» أن طه حسين لم يعد من موظفي الحكومة المصرية، ولذلك يتعين أن يخلي المسكن الذي تؤجره الشركة له في شارع المنيا؛ لأنه من المساكن المخصصة لسكنى موظفي الحكومة.
والشركة البلجيكية مضطرة للتنفيذ، فهي تطلب إلى طه حسين أن يترك مسكنه الذي قررت الحكومة أنه لم يعد له حق في سكناه، ولكنها تبلغه أن المسكن المجاور «ومدخله في شارع الساكركين» ملك لها، وليس مخصصا للموظفين، وهو خال في الوقت الحاضر فهي تؤجره له.
ويبدأ نقل الأثاث (على الرءوس وحملا على الأكتاف) بين المنزلين، ويساعد في ذلك بهمة - وبسخط على الحكومة شديد - البستاني عم إسماعيل.
ويعود البستاني إلى المنزل القديم بعد انتهاء النقل، ومعه فأس كبيرة، ويبدأ، في شهر إبريل، يحفر حفرا كبيرة حول الشجيرات الأربع التي كان العميد قد اعتاد أن يقرأ في ظلها ، إنه مصمم على أن يخلعها، وعلى أن يحملها وينقلها إلى حديقة البيت الجديد، في مكان مماثل للمكان الذي كانت قائمة فيه. هذه الأشجار هي أشجار طه حسين، وهي لذلك لا شك سترفض أن تموت حتى لو نقلت في أول الصيف، في مصر الجديدة، وهي كبيرة ضخمة ذات جذور وفروع.
وتدعو الجامعة الأمريكية بالقاهرة طه حسين لإلقاء سلسلة من المحاضرات عن الأدب العربي يشهدها الجمهور، فيذهب طلبة الجامعة المصريون، وبينهم الطالب مصطفى أمين، إلى طه حسين في منزله للإلحاح عليه في القبول فيقبل.
ويستقبل طه حسين أجمل استقبال عندما يصل إلى قاعة المحاضرات في شارع الشيخ ريحان، ويحاول الطلبة أن يحملوه على أعناقهم حتى المنصة ولكنه يعتذر ويسير إليها بهدوء مع رئيس الاجتماع.
ويقدم الرئيس، الدكتور ماكلنهن، المحاضر للجمهور بكلمة يقول فيها إنه لم يستمع من قبل إلى محاضر استطاع مثل طه حسين أن يجمع بين ثراء اللفظ وحلاوته وبين الدقة في التعبير عن المعاني الرائعة. ثم يدعو طه حسين ليبدأ سلسلة محاضراته. وعندما تنتهي المحاضرة يشق طه حسين الزحام إلى سيارته مع زوجته وولديه وسكرتيره، وهتاف الحاضرين المدوي بحياته يصاحبهم، حتى يركب سيارته ويبتعد بها عن الجامعة.
4 •••
الليل طويل وطه حسين قد ألح عليه الأرق، يسأل نفسه هل من حقه أن يفرض على أسرته هذه الحياة التي تضطر الآن إلى أن تحياها؟ إنه رغم هذه المحاضرات التي أظهرت الجامعة الأمريكية شجاعة مشكورة بدعوته لإلقائها، يعلم أنه لا بد له أن يستدين اليوم لتعيش أسرته وليعيش، ليدبر لها ولنفسه مأوى الليل وطعام اليوم.
في الصباح - وعلى مائدة الإفطار - تقول له السيدة سوزان: «إنك لم تنم طوال الليل، وأنا أيضا، ولكني أعرفك عندما تريد أن تعزل نفسك عن العالم، عن كل الناس، أنت لا تريد عندئذ أن تسمع صوت إنسان، لذلك لم أحاول أن أكلمك ليلة أمس، أما وقد أشرق الصبح فإنك تعلم أن سهرك الليل لن ينفعنا شيئا، وأن من يريد أن يقف وقفتك ضد الطغيان لا بد أن ينام قرير العينين مرتاح الضمير، ثم إن لديك أعمالا كثيرة، انظر، لقد جاء البريد اليوم، وفيه رسائل كثيرة، لا شك أن بينها مزيدا من رسائل التأييد التي تصلك من كل مكان؛ من المدن، من القرى، من العالم العربي ومن الخارج، في البريد أيضا كتاب «القضية» للكاتب التشيكي «كافكا» الذي نشر بعد وفاته، وترجمة فرنسية لكتاب حديث للكاتب الأمريكي هيمنجواي عنوانه «وداعا للسلاح»، إنك لا شك تريد قراءة هذا كله، وقد تريد الكتابة عنه ... لا ... لا تقل أين تنشر ما تكتب، المهم أن تكتب، سيبحث العالم العربي كله عن كل ما يكتبه طه حسين.»
ويرد طه عليها: «الخطابات المكتوبة باللغة العربية يأخذها فريد، هل هناك خطابات بلغات أجنبية؟» وتقول سوزان: «نعم، هذه خطابات من طلاب البعثات المصرية في الخارج يؤيدونك فيها ويجددون الولاء، ومن بينها خطابات من محمد مندور وعلي حافظ وعبد الهادي شعيرة، وزملاء لهم آخرين. وهذه صور برقيات أرسلها الكثير منهم إلى وزير المعارف بالاحتجاج على تصرفه إزاءك. وهذا خطاب من أمريكا، هل تريد أن أقرأه عليك الآن؟» ويطلب طه حسين إلى زوجته أن تقرأ الخطاب، فإذا هو عرض من جامعة أمريكية ليقيم فيها ويشغل منصب أستاذ، عرض سخي، والجامعة تترك له الحرية الكاملة في اختيار موضوعات محاضراته.
ويتساءل طه حسين: «عرض بالعمل؟ بالعمل في بلاد حرة؟ تقولين إنه عرض سخي، وإنه يترك لي مطلق الحرية في اختيار ما ألقيه من الدروس؟» ويعود طه حسين فيعزل نفسه عمن حوله. «نعم أنا أستاذ معزول، وعالم ممنوع عن العمل، وواجبي أن أسعى إلى العمل، ولست أستطيع الآن أن أقوم ببحوثي هنا وأن أؤلف، وكل هذا سيكون مكفولا في أمريكا، ولكني سأكون هناك أجنبيا، سيتوفر لنا العيش المادي كما نريد، ولكنني سأنظر إلى حياة البلد من حولي دون أن أشارك فيها، وستكون مسئوليتي في أمريكا محدودة جدا، ومن ذا الذي أذن لي بالتخلي عن مسئوليتي إزاء بلدي، هذا البلد الذي منحني كل شيء؟»
يدخل السكرتير ويأخذ الصحف والرسائل العربية، وينهض طه حسين ليدخل مع سكرتيره إلى مكتبه، ولكنه يقول لزوجته قبل أن يغلق باب المكتب من خلفه: «هل نبدأ بقراءة كتاب كافكا الجديد هذا المساء؟»
أمينة تقبل وتدخل معه غرفة المكتب، وتقول له: «سوف أجيب أنا وأنت لا تسأل ... هذه أيام ثقيلة، عبئها يعجز عن حمله الرجل القوي، ولكن ماذا قال طاليس؟
أظن أنه قال إننا إن وزعنا العبء الثقيل على أربعة فإنه يصبح خفيف الحمل، ونحن في هذه الأسرة أربعة، إذا وزعنا العبء الثقيل على أربعة فإن كل واحد منا سيحمل ربع عبء فحسب، الآن ابتسم وقل لي إن طاليس لم يقل شيئا من هذا، وأنا أقول إنه إذا كان لم يقل هذا الكلام فقد كان يجب أن يقوله.» وطه حسين يقبلها ويقول لها: «لقد جاهد أبوك يا ابنتي لكي يعفيك ويعفي أخاك من حمل الأثقال.»
ويعلن السكرتير فريد أن عددا كبيرا من الطلبة قد حضروا وهم يملئون فناء الحديقة، ويخرج طه حسين فإذا بطلابه الذين كانوا يختلفون إليه لسماع دروسه في منزله منذ أقصى عن الجامعة قد انضم إليهم عدد كبير من طلاب الأقسام الأخرى والكليات الأخرى، فأصبحوا جماعة ضخمة ارتفع هتافها وتصفيقها عند خروجه إليهم، وهو ينتظر حتى تسكت الضجة والحركة، ويحس بالمجتمعين وقد أخذوا يترقبون حديثه بانتباه وشغف كما اعتاد من طلابه، فيتذكر آخر درس من دروسه في الكلية عندما كان يدرس معهم الشاعر «الطرماح بن حكيم»، ويبدأ حديثه في الحديقة بهذين البيتين:
لقد زادني حبا لنفسي أنني
بغيض إلى كل امرئ غير طائل
وأني شقي باللئام ولا أرى
شقيا بهم إلا كريم الشمائل
ثم يقول: «عند هذه الأبيات من شعر الطرماح بن حكيم انتهى بنا الدرس صباح الخميس الثالث من هذا الشهر، وقد استعدناها، واستجدناها، وكأنما كنا نحس أن صباح ذلك اليوم كان ينذرنا بما سيحمل إلينا من مساوئه ومن تلك المحنة الجامعية التي ذقناها، فبلونا منها الحلو والمر، ووجدنا منها الخير والشر، وعرفنا منها أن فينا، والحمد لله، نفوسا أبية، وأنوفا حمية، وقلوبا تعرف كيف تستقبل الخير وتحمل المكروه. نعم، وكأننا ونحن نستعيد هذه الأبيات ونستجيدها نتواصى بالخير والصبر، ويعاهد بعضنا بعضا على الوفاء والبر، ويقسم بعضنا لبعض لنكونن رجالا نعرف الكرامة ونقدرها ونضع أنفسنا حيث تريد لنا المروءة لا حيث تريد لنا المنفعة.
لقد افترقنا بعد الدرس هادئين باسمين، نفكر في الدرس الذي يليه، ثم لم نلتق بعد ذلك في درس ولا بحث، وإنما التقينا في حب ومودة، وفي نصح وتعزية، وفي عواطف كلها تميز الكرامة من اللئام.
أفيؤذن لي - وقد عاد الزملاء من الأساتذة والأصدقاء من الطلبة إلى ما كانوا فيه من درس وبحث واستقرت نفوسهم وعواطفهم بعض الشيء - أن أهدي إليهم جميعا تحية ملؤها الحب الصادق، والود المتين، والشكر الذي لا حد له؟ أفيؤذن لي بأن أشرك معهم في هذه التحية وهذا الشكر أصدقاءنا من طلاب الجامعة المتفرقين في أقطار أوروبا، أولئك الذين لم تكد تبلغهم أنباء هذه المحنة حتى أسرعوا فشاركونا فيها وأخذوا بحظهم منها؟
أفيؤذن لي أن أهدي أصدق التحية وأجمل الشكر إلى أولئك الذين تفضلوا بالغضب للجامعة ولنا والعطف على الجامعة وعلينا، من أعلام هذا البلد وقادة الرأي فيه؟ وأفيؤذن لي أن أشرك معهم هذه الصحف الكريمة التي آزرتنا وناصرتنا ولم تبخل علينا بتشجيع ولا تأييد؟
ثم أفيؤذن لي أن أخص الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك بتحية الابن البار والتلميذ المخلص والصديق الحميم؟
أما أنتم أيها الأصدقاء الأعزاء من طلاب الجامعة عامة وكلية الآداب خاصة، فأذنوا لي أن أقول لكم ما قاله النبي
صلى الله عليه وسلم
للأنصار في حديث جرى: «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع»، فحيا الله هذا الثمر الكريم لهذا الغرس الكريم، ولكم على العهد أن أبذل ما أملك من قوة، وما أستطيع من جهد، لأكون عند ظنكم بي ورأيكم في.»
ويختم عميد كلية الآداب، الذي نزعت منه حكومته هذا اللقب فمنحته أمته لقب عميد الأدب، يختم كلمته مخاطبا الجمع الكبير الذي لم يزل يتزايد حتى فاض عن حديقة الدار، بقوله: «أقبلوا على دروسكم كراما أعزاء، وابسموا لحياتكم الجامعية، فقد أنشأتموها كريمة عزيزة، وليكن بيننا موثق من الله ألا نؤمن إلا بالحق، ولا نخلص إلا للعلم، ولا نرضى إلا بالكرامة. وإلى اللقاء.»
حديث المساء
في صباح يوم من أيام الأسبوع الأخير من شهر فبراير عام 1933 يقوم سكرتير الوفد المصري، الأستاذ مكرم عبيد، بزيارة طه حسين في منزله بالزمالك، يسأل عن أحواله وأحوال أسرته، ويتحدث عن أحوال البلاد، التي لا يزال صدقي باشا يجاهد لإخضاعها بالقوة والإرهاب.
وطه حسين يقول: «إن الذي يحاول إخضاع البلاد في الحقيقة هم الإنجليز والسراي، وإن الشعب لا شك سيحقق لنفسه بكفاحه آخر الأمر ما يصمم على الوصول إليه من الاستقلال السياسي والحرية الاجتماعية.»
وسكرتير الوفد يرد بأن هذا الكفاح يحتاج إلى تضافر جهود كل أبناء الشعب، وهذا يعني أن على قادة الرأي والفكر أن يتحملوا نصيبهم فيه، ثم يقترح على طه حسين أن يشترك في تحرير الصحيفة المسائية الناطقة عند ذاك باسم الوفد، وهي صحيفة كوكب الشرق، فيطلب طه حسين مهلة للتفكير.
ويوشك طه حسين أن يعتذر، ولكن رئيس الوفد مصطفى النحاس باشا يقنعه بأن كفاح الشعب محتاج إلى جهاد كل مؤمن بحقه، فيقبل، وإنه ليعلم أنه بذلك يتحمل عبئا ليس بالخفيف.
ويخصص الأستاذ أحمد حافظ عوض صاحب جريدة كوكب الشرق صفحتها الأولى كلها مساء يوم 5 مارس 1933 لمقال يعلن فيه للشعب «حدثا خطيرا بالغ الأثر، وهو مشاركة طه حسين بقلمه الفياض في الصحافة المصرية، وفي السياسة المصرية وفي الأزمة المصرية الحالية»، كما تنشر الجريدة في نفس العدد رسالة واردة لها من رئيس الوفد المصري مصطفى النحاس باشا يقول فيها إنه مغتبط باشتراك النابغة الكبير الدكتور طه حسين في تحرير جريدة «كوكب الشرق». •••
ويظهر أول مقال لطه حسين في «كوكب الشرق» في التاسع من مارس بعنوان «عهد»، يقول فيه: «إن خير ما يستطيع المصري أن يقدمه لوطنه في هذه الأيام إنما هو الإخلاص في القول والعمل، والصدق في الرأي، والمضاء في العزم، والقوة على المقاومة، والاستعداد لاحتمال المكروه.» ثم يعاهد الذين سيقرءونه على أنه: «سيكون من هذا كله بحيث يحبون.»
يكرس طه حسين أكثر ساعات وقته للصحيفة، تقرأ عليه الأخبار التي يجمعها مندوبوها، والبرقيات التي ترد من الخارج، ويقابل من يقابل من الزائرين والمحررين، ويدعى إلى التليفون فيجيب، ثم يملي المقال الرئيسي كل صباح، ويملي مقالات أخرى قصيرة بغير إمضاء، يطلق عليها المحررون اسم «الطقاطيق»! ويكتب في صفحة الجريدة الأدبية كل أسبوع، فإذا انصرف إلى داره لم يسترح إلا قليلا قبل أن يدخل مكتبه لتقرأ عليه قارئته ما يرد من الخارج من الكتب الأجنبية، ثم ليقرأ عليه سكرتيره ما يطلب قراءته من الكتب العربية، وهو في ذلك العام يطيل الاستماع إلى سيرة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، يتأمل كم قاسى وكم صبر، وكيف صمد للشدائد وكيف انتصر، فلا يمضي بعد ذلك زمن طويل حتى يأخذ في إملاء الجزء الأول من كتابه «على هامش السيرة».
وقد أحاط بطه حسين في عمله الصحفي الجديد عدد من تلاميذه الشباب مصممين على بذل أقصى الجهد في معاونته، يتحدث إليهم فيما سبق أن أعلنه من قديم من أن الصحافة تتحمل في وقتنا الحالي نصيبا ضخما من مسئولية قيادة الفكر، ويكرر أنه لا بد لمن يتصدى للمشاركة في حمل مثل هذه المسئولية من إخلاص القصد وصدق العزيمة والقدرة على تحمل المكروه، كما أنه لا بد له من تأهيل نفسه لعمله الصحفي أحسن تأهيل مستطاع، ولا شك أن من ضروريات ذلك إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل من جهة، والحرص الشديد على سلامة التعبير باللغة العربية من جهة أخرى.
وتظهر في جريدة كوكب الشرق توقيعات عدد من الشباب المثقف بعضهم يكتب في الصحف لأول مرة، منهم عبده حسن الزيات المحامي، الذي يرأس تحرير الجريدة بعد قليل، وعزيز أحمد فهمي وكامل الشناوي ومحمد كامل حسين ومحمد عبد العزيز ويحيى الخشاب وجلال الدين الحمامصي، الذي يحرر صفحة الرياضة، وحسن محمود وعبد القادر عرابي وسيد قطب.
وطه حسين يريد أن تعنى صحيفة «كوكب الشرق» بالعالم وأحداثه، وبالرجال الذين يحركون تلك الأحداث أو يتحركون تحت ضغطها، كما أنه يريد أن تعنى الصحيفة عناية خاصة بالعالم العربي، الذي تشاركه مصر أمجاد التراث كما تشاركه آلام الاحتلال والاستبداد، وطه حسين يوجه بعد ذلك جل اهتمامه لمصر، لا لشئونها السياسية فقط، بل لشئونها الاجتماعية والاقتصادية والفنية، وكذلك لشئونها الثقافية بطبيعة الحال.
يكتب طه حسين مقالاته السياسية تحت عنوان «حديث المساء»، مطالبا بعودة دستور الأمة، دستور عام 1923، ليستمتع الشعب بحرياته وبسلطاته التي يقرر ذلك الدستور أنه مصدرها، يقول في أحد أحاديث المساء: «أما بعد، فيجب أن يتنبه الحاكمون جميعا إلى أن نصوص الدستور لم توضع لتكون زينة أو حلية، وإنما وضعت لتكون أساسا للحياة المصرية وقواما للصلة بين الشعب والسلطان، وأن أظهر هذه النصوص وأحقها بالفهم والاحترام إنما هو النص الذي يسجل أن الأمة مصدر السلطات ... ويتبين بهذا أن رجال الحكم ليسوا سادة الشعب وإنما هم خدامه.»
وطه حسين يعرف أن العدو الذي يريد إخضاع مصر سيحاول جهده أن يهدم وحدتها وأن يفرق بين بنيها، ولذلك فإنه وهو يرثي عضو الوفد المصري المرحوم الفقيد الأستاذ سينوت حنا يشير إلى هذه الوحدة مبرزا أهميتها، يقول: «كان سينوت حنا قبطيا مسيحيا، وكان المصريون أول أمس يودعون فقيدهم العظيم، لا لأنه قبطي مسيحي، ولا لأنه مسلم، بل لأنه مصري فحسب، وقد كان المصريون يحتشدون أمس في الكنيسة القبطية ومن حولها ويشرفون عليها من أعلى الدور، وهم لا يذكرون إلا مصر وأنها محزونة لفقده، وإذن فقد فازت الوحدة الوطنية فوزا مبينا، وكان راحل أمس مؤسس هذه الوحدة، والداعي إليها، والملح فيها ...»
وتراقب صحيفة «كوكب الشرق» تصرفات الحكم، لا تتردد في الكشف عما تراه في أعماله من تقصير وإفساد، تنشر مقالا قصيرا بغير إمضاء تتهم فيه وزير الداخلية محمود فهمي القيسي باشا بتضليل مجلس النواب وتزوير محضر جلسة المجلس، فتستدعي النيابة رئيس التحرير عبده حسن الزيات المحامي تسأله عن كاتب المقال فيقرر أنه هو كاتبه، ولكن طه حسين يتقدم إلى النيابة ليقرر أن عبده تلميذه وأنه إنما يريد أن يحميه ويتحمل عنه مسئولية كتابة المقال، ويستشهد بسكرتيره الأستاذ فريد شحاتة على أنه هو الذي أملاه، كما يستشهد بأسلوبه الذي يقول إنه لا يحتاج إلى إمضاء.
1
أما شئون الاقتصاد والاجتماع والمسرح والسينما والموسيقى والمرأة والرياضة، فإن «كوكب الشرق» تنشر ما يمدها به المتخصصون في هذه الموضوعات من فصول. وأما صفحة الثقافة فإن طه حسين يساعده عدد من زملائه وتلاميذه، يواصل العمل فيها مستهدفا دائما هدفين: أولهما أن يصل المعاصرين بتراثهم العربي القديم؛ يجلوه لهم، ويحببه إليهم، ويدفعهم إلى العناية به، يحدثهم عن البحتري وعن ابن الرومي وعن ابن المعتز وغيرهم، والهدف الثاني أن يصل قراءة هؤلاء بأدب أوروبا وحضارتها الحديثة، فهو ينشر في نفس الصفحة فصولا عن حرية الرأي ونشأتها وتطورها، وعن فولتير، وعن جان جاك روسو، وعن تين، وعن رينان.
وصفحة الثقافة لا تهمل ما ينتجه المعاصرون، يعرض طه حسين فيها وينقد الكتب التي يصدرها أمثال الدكتور محمد عوض محمد والأستاذ توفيق الحكيم والأستاذ فكري أباظة، وإذا تحدث عن ابن الرومي أشاد بما سبق أن كتبه عنه كاتبان ممتازان هما الأستاذ عباس محمود العقاد والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني. ويموت الشاعران الكبيران أحمد شوقي أمير الشعراء، وحافظ إبراهيم شاعر النيل، في هذا العام، فتعنى الصحيفة عناية كبيرة بآثارهما، مبرزة ما لهما من فضل وأثر في نهضة الشعر في مصر وكل بلاد العرب. •••
وفي أول الصيف تظهر نتيجة امتحان الليسانس في كلية الآداب بالجامعة وبين الناجحين أربع من الآنسات، وتوفد جريدة «كوكب الشرق» أحد محرريها ليهنئ المتخرجات الأربع بنجاحهن، ويوجه إلى كل منهن سؤالين؛ الأول: عند أي حد يحسن أن تتوقف ثقافة الفتاة؟ والثاني: ماذا يمكن أن تقدم الفتاة المتعلمة من خدمات للبلاد؟
أما الآنسة فاطمة سالم، تلك الفتاة الرقيقة القادمة من زنجبار، التي درست اليونانية واللاتينية في الجامعة المصرية، فإنها تقول إنها حريصة على أن تواصل تعليمها لتحصل على درجة الماجستير، ولتستطيع بعد ذلك أن تنقل إلى العربية من روائع اللغتين القديمتين ما تستطيع نقله، وإنها حريصة على بذل ما في وسعها لإصلاح حالة مجتمعها وحالة المرأة فيه.
وأما الآنسة زهيرة عبد العزيز - التي تخرجت هي وزميلتها الآنسة فاطمة فهمي في قسم الاجتماع - فإنها تحكي أن موظفا مصريا كبيرا زار الكلية قبل موعد امتحان الليسانس بشهرين، وأنه قد استولت عليه الدهشة عندما علم - لما رآهما - أن في الجامعة طالبات، ثم استولى عليه ما يشبه الذعر عندما سمع أن الآنسة زهيرة تريد أن تعمل في بنك مصر، وأن الآنسة فاطمة تريد أن تعمل في وزارة الخارجية!
وأما الآنسة سهير القلماوي فهي ترى، ردا على السؤالين، أن ثقافة المرأة مثل ثقافة الرجل لا ينبغي أن تقف عند أي حدود، وهي شخصيا ستواصل الدراسة للحصول على درجة الماجستير في الآداب ثم درجة الدكتوراه، وأما الميادين التي يمكن للفتاة المصرية المتعلمة أن تنفع فيها بلادها فهي كثيرة وواسعة، وهي شخصيا ترغب في أن تعمل في ميدان الإصلاح الاجتماعي وأن تكرس جهدها لإصلاح حالة المرأة. •••
وطه حسين يتحدث - في منزله - مع والده الذي حضر هو ووالدته إلى القاهرة ليقضيا في زيارته بضعة أيام كما كانا يفعلان بين الحين والحين. يسأله والده عن غضبه من أخيه الأصغر عبد العزيز غضبا وصل إلى حد القطيعة، ما سببه؟ إن عبد العزيز لم يفعل شيئا حرمه الله عندما تزوج بزوجة ثانية، وطه يجادل بأن عبد العزيز لن يستطيع أن يعدل بين زوجتيه، ويقرأ الآية القرآنية الكريمة:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة
ولكن الوالد يجادل غير مقتنع، وولده يسأله: «وإذن فلم لم تتزوج أنت اثنتين يا أبي؟»
ويجيب الوالد: «إنها أمك، إنها لن ترضى!» ويبتسم طه حسين ويقول: «لقد حددت لنا طريقا للإصلاح يا أبي، ما كان لأخي عبد العزيز إذن أن يتزوج ثانية حتى يستأذن زوجته الأولى!» •••
ويدخل فصل الصيف، وينتهي طه حسين من إملاء الجزء الأول من كتاب «على هامش السيرة» ويتسلمه الناشر، وتسافر الأسرة لقضاء أيام في فندق بوريفاج برمل الإسكندرية، أما طه حسين فإنه يبقى في القاهرة، فلم يكن مستطيعا أن يترك عمله في الجريدة، وسيبقى في القاهرة طوال الصيف وحيدا، وسيقبل الخريف وهو عاكف على العمل في الجريدة، وفي الخريف تنقل إليه البرقيات من باريس أن عدلي باشا يكن قد مات هناك، ويتأثر طه حسين بهذا الخبر تأثرا شديدا حتى يتأخر وصوله إلى الجريدة على غير عادته، ويتحدث إلى صديق له عند وصوله إليها فيقول: «إن الحياة لا قيمة لها والعمر قصير، ولو بلغ الرجل التسعين فإنه يموت طفلا»، ويملي رثاءه لعدلي يكن فيقول: «إن عدلي يكن رجل أحب مصر واحترم شعب مصر، ونزل دائما على أحكام الدستور الذي ارتضاه هذا الشعب.» ويسجل طه حسين ذلك في جريدة الوفد في مقال نابض بالحزن، يختتمه بهذا الابتهال: «اللهم لا راد لما قضيت، ولا مانع لما أمضيت، ولا منكر لحكمتك، ولا معقب لأمرك، وإنما هو الإذعان لقوتك البالغة يعصمنا من الجهل، والطمع في رحمتك الواسعة يعصمنا من اليأس.»
واهتمام طه حسين بالعالم العربي مستمر، مقاله الرئيسي يوم 18 أكتوبر سنة 1933 يكتبه عن فلسطين، يستنكر ما ينزله الإنجليز بأهلها من مظالم، ويقارن ذلك بما أنزلوه من الظلم بمصر، وينبه إلى أن تضامن مصر مع فلسطين هو صالح مشترك، يلح في الدعوة إليه وينذر بالعواقب الخطيرة التي سيشهدها المستقبل إن نحن قصرنا فيه.
ويكتب عبد العزيز الثعالبي الزعيم الوطني التونسي فصولا متتابعة عن بلاده تنشرها له «كوكب الشرق»، كما تنشر العديد من الأخبار والمقالات عن البلاد العربية الأخرى.
واهتمام الجريدة بأحداث العالم مستمر كذلك، أدولف هتلر يقرر انسحاب بلاده من «عصبة الأمم» ومن مؤتمر نزع السلاح، ويكتب إلى محكمة العدل الدولية بأن بلاده لن تتابع الدعوى التي كانت قد رفعتها لديها ضد بولنده.
ماذا يعني ذلك كله إلا أن ألمانيا تنسحب من الأسرة العالمية؟
إن هتلر يرى أن معاهدة فرساي، التي اضطرت بلاده لإمضائها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، معاهدة ظالمة لا تطاق، لا بد من أن يخلص بلاده منها، وهو يائس من بلوغ هدفه بالطريق السلمي، ولا يرى سبيلا لبلوغ أغراضه إلا سبيل العنف والقوة.
آلات الاستقبال المقامة فوق سطح الجريدة ، التي كان كامل الشناوي يسميها «مراسلنا فوق السطح»، تحمل خبرا عن اكتشاف عالم فرنسي لدواء جديد من الأدوية التي يسمونها أدوية المعجزات اسمه «سلفامين»، وطه حسين يطلب إلى أحد المحررين الجامعيين أن يعد بحثا لتعريف القراء بالمخترع وبالاختراع.
وتحمل البرقيات خبرا عن صدور كتاب جديد للكاتب الفرنسي جان أنوى هو كتاب «هرميلين»، وطه حسين يطلب الحصول على نسخة ليقرأه أحد كتاب صفحة الأدب ويعرضه على القراء.
ولكن إدارة الجريدة لا توافق على أن تنفق مالا في شراء مثل هذه الكتب، إن للمسئول عن التحرير طلبات كثيرة مثل هذا الطلب يراها ضرورية لازمة، وللإدارة رأي في المال كيف يجمع وكيف يصان، وكيف لا ينفق منه شيء إلا بحساب. وتزداد هذه المضايقات الإدارية والمالية، ويزداد إحساس طه حسين أنه غير قادر على الإشراف على الجريدة بالشكل الذي اتفق مع أصحاب الشأن عليه مع استمرار هذه الخلافات والمضايقات.
وعندما يوشك ربيع عام 1934 أن ينتهي يكون طه حسين قد قرر ترك العمل في جريدة «كوكب الشرق»، إنه يريد أن ينهض بالعمل الصحفي حرا لا تقيده القيود، وهو قد اقتنع بأنه لكي ينهض بالعمل بهذا الشكل، لا بد أن يكون صاحب المسئولية الكاملة في الجريدة. •••
ينهي طه حسين ما انعقد عزمه عليه إلى رجال الوفد وإلى صاحب الكوكب الأستاذ أحمد حافظ عوض، ويتفاوض مع أسرة الصحفي القديم الأستاذ محمد نجيب أصحاب امتياز جريدة «الوادي» لكي يصدرها هو مستقلا بإدارتها وتحريرها، متحملا كل أعبائها، ويتم الاتفاق على ذلك، فينتقل معه أكثر تلاميذه ومعاونيه من المحررين إلى جريدة الوادي في مبناها بحي عابدين.
ويكرس طه حسين للصحيفة الجديدة كل وقته وجهده، وكل ما لديه من مال قليل ما أسرع ما ينتهي، فهو يكتب إلى طلعت حرب باشا في بنك مصر يقول: «غمرتني بفضلك حين أذنت في الشهر الماضي بأن يقرضني البنك سبعمئة من الجنيهات دون أن تتشدد فيما تتشدد فيه المصارف من ضمانة الملك وأصحاب الثروات الطائلة، وقد عرفت لسعادتك هذا الجميل الذي لن أنساه، وكان الحق علي بعد هذا ألا أثقل عليك ولا أطلب إليك شيئا، ولكن ظروف الحياة التي دفعني إليها ظلم الظالمين هي التي تضطرني إلى أن أقف هذا الموقف الذي يثقل علي جدا؛ المبلغ الذي اقترضته في الشهر الماضي قد أنفقته كله في إنشاء جريدة الوادي ولم يبق منه شيء، وما زالت الجريدة محتاجة إلى المال، ويظهر أنها لن تربح إلا بعد أن ينقضي الصيف، وتعود الحياة إلى نشاطها الطبيعي، فأنا إذن في حاجة إلى قرض آخر لتمضي الجريدة في طريقها من جهة وأستطيع أنا أن أعيش من جهة أخرى، وأنا أتمنى لو أمكن أن يرفع المبلغ الذي اقترضته من سبعمئة إلى ألف ... وأرجو أن تتفضل فتقبل تحيتي الخالصة وإجلالي العظيم.»
ويحصل طه حسين على القرض، وتصدر «الوادي» بانتظام، ويدبر مصروفاتها تدبيرا دقيقا مدير صديق وهو السيد حسين فتوح.
واهتمامات طه حسين في جريدة الوادي هي نفس اهتماماته في جريدة الكوكب.
تنشر «الوادي» فصولا مطولة يتحدث فيها عن رجال برزوا في ساحة الأحداث الدولية؛ عن هندنبرج، وعن ستالين، وعن موسوليني. وينشر حديثا لموسوليني يقول فيه إن الحرب العالمية واقعة لا محالة، وإن كان لا يدري أين تقع؛ في النمسا أو الشرق الأقصى، بحرب بين اليابان وروسيا أو بين اليابان والصين، وتنشر الوادي فصلا تنبه فيه إلى أطماع الحكم النازي في ألمانيا.
ويعنى الوادي بالعالم العربي، مشرقه ومغربه.
ويواصل طه حسين في مقالاته السياسية اليومية بعنوان «حديث الوادي» نضاله كي يحقق الشعب آماله في الحرية، وفي التقدم، مدركا أن أكبر عقبة تعوق طريق التقدم في مصر هي استمرار احتلال بريطانيا للبلاد.
وطه حسين يحمل المصريين جانبا كبيرا من مسئولية الاحتلال، فإذا شكت الوزارة القائمة من أن بريطانيا تتدخل في موضوع الدين العام تدخلا يعرض استقلال مصر للخطر، يكتب طه حسين: «كلا، إذا كان الاستقلال في خطر فالوزارة هي التي عرضته للخطر؛ لأنها قبلت تدخل الإنجليز منذ ارتقت مناصبها. إذا كان الاستقلال في خطر حقا فيجب أن يتنحى هؤلاء السادة عن ميدان الجهاد؛ لأنهم لا يصلحون لميدان الجهاد، إنك لا تجني من الشوك العنب.»
ويحمل طه حسين حملة عنيفة على رفض وزير المعارف تعيين مصري من أساتذة «مدرسة الهندسة الملكية» المساعدين وهو الدكتور مصطفى نظيف، أستاذا بها مكان أستاذ بريطاني انتهى تعاقده معها، ويندد بشدة بأن الوزير قد قرر «اتخاذ الإجراءات اللازمة لتعيين بريطاني آخر»، ويؤكد طه حسين أن الإنجليز لن يحققوا أطماعهم لو امتنع كل المصريين عن كل تعاون معهم.
ويستأنف الدكتور طه حسين في جريدة «الوادي» مقالاته الأدبية ملتزما المنهج الذي سار عليه في جريدة السياسة أيام الأحد وأيام الأربعاء، والذي التزمه كذلك في جريدة «كوكب الشرق»، وهو وصل القراء بالأدب العربي القديم من جهة، وبالفكر الأوروبي الحديث من جهة أخرى، مع الاهتمام بالإنتاج الثقافي المعاصر من جهة ثالثة.
تتسع صفحات الوادي الأدبية لمساجلات رائعة بين طه حسين وكثير من معاصريه، وتفتح جريدة الوادي صفحاتها للشباب، سهير القلماوي لا تكتفي بصفحة السيدات بل تشارك في صفحات الأدب والثقافة، وكامل الشناوي يكتب شعرا رقيقا، وعبده حسن الزيات يكتب صفحات قانونية إلى جانب كتاباته السياسية، ويحيى الخشاب يكتب عن إمام شعراء الفرس أبي القاسم الفردوسي، وخليل يحيى نامي يترجم قصة عن الشاعر السورياني يعقوب السروجي من شعراء القرن السادس، وموضوعها قصة «أهل الكهف»، يهديها إلى توفيق الحكيم، وسيد نوفل يكتب صورا ريفية، وسيد قطب يكتب قصة قلبين، ومحمد حسن الزيات يكتب قصصا ونقدا.
وإلى جانب هؤلاء ينشر الوادي ما يرسله إليه كاتب غير معروف من الريف وهو محمد عبد المعطي المسيري، الذي يقدم نفسه إلى طه حسين وإلى القراء بأنه من أصحاب المقاهي أو العاملين فيها في دمنهور، وهو مع ذلك لا يتردد في مناقشة طه حسين ولا يتردد طه حسين في أن ينشر له رسائله.
ولا يتردد طه حسين كذلك في أن ينشر مقالا للأستاذ محمد عرفة أحد الذين كانوا قد تحمسوا لمواجهته عندما ظهر كتابه عن الشعر الجاهلي.
ولكنه يرفض أن ينشر في صحيفته بعض الأخبار التي يجمعها بعض المحررين ويريدون نشرها بدعوى أن الاهتمام بالأخبار الشخصية يكاد يكون غريزة عند الناس، ولأن نشر مثل هذه الأخبار من شأنه أن يزيد بيع الجريدة فيستفيد القراء بما تنشره من موضوعات جادة وهامة، ولكن طه حسين يقول: «ماذا ينفع الناس من معرفة أن ممثلا ترك عشيقته أو أن مطربة طلبت الطلاق من زوجها؟ إذا كان الاهتمام بالأخبار الشخصية غريزة فإن وظيفة الصحافة ليست تملق الغرائز بل تهذيبها.» •••
يبقى طه حسين في القاهرة طيلة الصيف وقد سافرت الأسرة إلى الإسكندرية وهو يتعجل عودتها.
ولكن الأسرة لا تكاد تعود إلى القاهرة حتى يصاب ولده مؤنس بالنيمونيا، ويقضي طه حسين الساعات الطويلة بجانبه فيتعرض للعدوى، فإذا شفي الصغير لزم الوالد الفراش.
يلزم الفراش لا يعمل، والمرض ضعف وألم ونفقات ثقيلة، فيسائل طه حسين نفسه من جديد هل من حقه أن يعرض أسرته لهذا الضيق كله؟
إن الحكومة تمنع الباعة من النداء على الصحيفة وتحرض «المعلمين» المتحكمين في التوزيع على تجاهلها، وتمنع الإعلانات عنها، ومدير الإدارة حسين فتوح حيران لا يدري كيف يدبر ثمن الورق والحبر وأجور المطبعة، أما المحررون فأكثرهم يتطوعون للعمل راضين، يرفضون الهزيمة ويواصلون الصمود، وطه حسين يكتب في آخر يوليو 1934 إلى صديق عزيز عليه يقول: ... بلغت حافة الهوة، وقد كنت أرجو أن يصلح أمر «الوادي» لكنه لم يصلح، ولم يزدد فسادا، والناس يقولون لي إن أمره سيستقيم إذا انقضى الصيف، والله يعلم أيستطيع أن يثبت حتى ينقضي الصيف. •••
وحكومة صدقي باشا تواصل ضغوطها، لا ترفع قبضتها عن الشعب، ولا تخفف من رقابتها للجامعة، رجال البوليس يداهمون اجتماعا لبعض طلاب الجامعة، كان أستاذ القانون المدني الدكتور عبد الرزاق السنهوري قد دعا إليه لتأليف جمعية اسمها «جمعية الشبان المصريين»، ويفضون الاجتماع بالقوة، ويقرر مجلس الوزراء فصل الدكتور السنهوري.
وعندما يبدأ العام الجامعي الجديد يكتب طه حسين في افتتاحية الوادي:
تستقبل الجامعة عامها الجديد فإذا أحد أعضائها الممتازين المتفوقين قد أقصي عنها، هذا العضو هو الأستاذ السنهوري، أخذ بالريبة، وعوقب بالشبهة، وحكم عليه بالظن ... وكان قرار فصله إهانة صارخة للجامعة التي لا ينبغي أن يفصل أعضاؤها بغير أن تستشار.
ولكن طه حسين واثق «أن الفوز للسنهوري ولأمثاله من المظلومين آخر الأمر، فلينتظر هذا الفوز، فليس مقدمه بعيدا.»
وفي أول نوفمبر يعود فيكتب لنفس الصديق الذي كتب إليه في آخر شهر يوليو يقول: «... أما الجريدة فما زالت حالها بعيدة عما يرضي، ولكنها قد أخذت تحاول أن تقف على قدميها وأظن أن هذا ليس مستحيلا، فقد أخذ انتشارها يزيد بعض الشيء. ولست أدري إلى أين ينتهي بنا هذا كله، ولكن الغريب أني برغم هذه المصاعب كلها بعيد عن اليأس بل بعيد إلى حد ما عن سوء الخلق، ولعلي لم أبتسم قط كما ابتسمت في هذه الأيام المظلمة، وإذا كان في حياتي شيء ممض فهو احتياجي كثيرا إلى أن أستدين وإشفاقي المتصل من العجز عن أداء الدين ...»
ولكن مقدم الفوز الذي بشر به طه حسين في مقاله عن السنهوري لا يتأخر.
لا تمر ثلاثة أشهر حتى يقبل في السادس عشر من ديسمبر 1934 عدد كبير من أساتذة كلية الآداب وطلابها مع الصباح الباكر على منزل طه حسين في حي الزمالك فرحين يهنئونه ويهنئون أنفسهم بقرار عودته إلى كلية الآداب وعودة الدكتور السنهوري معه إلى كلية الحقوق.
وعندما يصل طه حسين إلى أبواب الجامعة في ذلك الصباح يلقاه شباب شديد الفرح شديد الحماس، يحملونه على الأعناق حملا إلى مكتبه في الكلية الذي غاب عنه أمدا طويلا، وقد أحصى الطلاب أيام الإبعاد فإذا هي مدة قد جاوزت الألف يوم، سنتان وتسعة شهور وعدة أيام.
ويهتف الطلاب يريدون أن يخرج طه حسين إليهم ليروه في كليته فيفعل، وهو يسمع خطب خطبائهم ترحيبا به وقصيدتين لشاعرين منهم، ثم يبدأ حديثه إليهم وإنه ليحاول عبثا أن يكتم تأثره بما يحس به من وفاء الشباب وإخلاصهم وصدق محبتهم له وإكبارهم إياه، فيبدأ خطابه بقوله:
أصدقائي الأعزاء، الحمد لله الذي أتاح للأسرة الجامعية أن يجتمع شملها بعد الغربة. ولست شاعرا كهذين الشاعرين اللذين سمعت منهما الآن أجمل الشعر وأروعه - ويسكت قليلا ليضيف وهو يبتسم ابتسامته - وإن كان هذا الشعر يحتاج إلى النقد.
ويستأنف حديثه بعد أن يسكت ضحك المستمعين المغتبطين بعودة أستاذهم إليهم، ينقد ما يكتبون من الأدب وما ينشدون من الشعر فيقول: «لست شاعرا ولو كنت شاعرا لوصفت لكم وصفا صادقا العواطف التي كانت تملأ قلبي منذ أكثر من عامين، شوقا إلى الجامعة وإلى أهل الجامعة وحرم الجامعة، والعمل في الجامعة، ولقلت لكم، بصراحة وسذاجة أيضا إنني كنت أتجلد حين كنت بعيدا عن الجامعة، وقديما قال أبو ذؤيب:
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتزعزع»
ويعود الأستاذ إلى دروسه وأبحاثه، وتمضي الشهور، فأما ديونه المادية فإنه يؤديها لأصحابها موفورة مشكورة، وأما دينه لله الذي أعانه بالصبر ووفقه للنصر، ودينه للوطن الذي أعطاه النور والعلم؛ فإنه سيقضي بقية العمر يحاول أن يؤديهما، ويبذل في ذلك أقصى ما يطيق من الجهد.
الأستاذ والعميد من جديد
في غرفة رئيس قسم اللغة العربية واللغات الشرقية وفي شتاء 1935، يجلس رئيس القسم الدكتور طه حسين بعد الانتهاء من محاضراته ومعه من أساتذة القسم الأستاذ أحمد أمين والأستاذ أمين الخولي والأستاذ إبراهيم مصطفى والأستاذ عبد الوهاب عزام.
طه حسين يبدي سرورا بإنتاج زملائه الأساتذة مطالبا بالمزيد؛ قد نشر الأستاذ أحمد أمين كتاب «فجر الإسلام»، وهو بداية لعمل ضخم في تاريخ الحضارة الإسلامية، تتجه النية إلى أن يضطلع به أحمد أمين وعبد الحميد العبادي وطه حسين نفسه، يتناول أحمد أمين الناحية العقلية، وعبد الحميد العبادي الناحية التاريخية، وطه حسين الناحية الأدبية، ورئيس القسم يهنئ أحمد أمين بأنه كان أسبقهم إلى الإنتاج، ويحثه على أن يستمر ليكون «ضحى الإسلام» بين يدي الباحثين والقراء بعد «فجر الإسلام».
وعبد الوهاب عزام، الذي نشر «شاهنامة» الفردوسي في ترجمتها العربية، قد أدى خدمة كبرى للدراسات الإسلامية، والقسم الآن في انتظار عودة الجيل الثاني من أصحاب الدراسات الفارسية والتركية، مثل إبراهيم أمين الشواربي الذي يدرس في لندن، ويحيى الخشاب الذي يدرس في فرنسا، ومن دارسي اللغات السامية (اللغة العبرية واللغة السوريانية ) مثل مراد كامل وفؤاد حسنين اللذين يدرسان في ألمانيا. يقول طه حسين يجب أن نهتم كذلك بلغة الهند الإسلامية اللغة الأردية، وأن نبحث عمن يدرسها للطلاب إلى أن يتيسر إعداد أحد أبنائنا ليتخصص في لغات الهند.
وأمين الخولي يتابع دراساته القرآنية بتعمق وتفتح كبيرين، يقول له طه حسين إن الشباب يشكون من بخله في الدرجات، وهو يدافع عن نفسه بأنه يزن مجهودات الطلاب بميزان عادل دقيق، يقول إن الطلبة هم الذين يعطون الدرجات لأنفسهم، يقصد أنهم هم الذين يجيدون الإجابة أو لا يجيدونها.
طه حسين يذكر أن الأستاذ الألماني جوزيف شاخت سيلقي محاضراته في فقه اللغة العربية واللغات السامية، وأن خليل يحيى نامي مهتم باليمن، وأن القسم سيقترح أن يسافر إليها ليقوم هناك ببحوث لغوية بالتعاون مع قسم الجغرافيا بالكلية، ومن أساتذته الآن الدكتور محمد عوض محمد والأستاذ مصطفى عامر والأستاذ الشاب الدكتور سليمان حزين.
ويقول طه حسين إن القسم يجب أن ينبه طلابه إلى أهمية اللغات الأجنبية كلها، وليس الإنجليزية والفرنسية فقط، ويذكر أن الكلية ستدخل نظام الدراسات الاختيارية في مواد إضافية يقبل عليها الطلاب إن شاءوا، الأستاذ «ران» ومسز «برج» سيدرسان الألمانية بعد الظهر لمن شاء من الطلبة، وربما أيضا من الأساتذة، أما اللغة الإيطالية فإن أحد شباب الكلية العائدين من البعثة في إيطاليا، الدكتور حسن عثمان، مترجم ومحقق الكوميديا الإلهية، سيعطي دروسا في الإيطالية وآدابها لمن يريد، كما أن الأستاذ «بول كراوس» سيدرس البهلوية، وهي اللغة الفارسية قبل الإسلام، لمن يشاء من المهتمين بالحضارة الساسانية.
واللغة العربية لا بد من أن يبذل هذا الجيل أقصى الجهد لتيسير نحوها وتذليل صعوبات كتابتها، والأستاذ إبراهيم مصطفى مشغول ببحوثه في النحو العربي ويستعد لإخراج كتاب هام جديد في هذا الموضوع.
ويذكر طه حسين أن هناك جوانب من الأدب العربي لم نعطها حقها من الدراسة والبحث حتى الآن، عندما الأدب الأندلسي، القسم سيقوم بنشر كتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» لابن بسام، وقد كون لجنة لتحقيقه ونشره يشرف عليها عبد الوهاب عزام وعبد الحميد العبادي، ويشترك فيها عدد من الشباب الممتازين، منهم عبد العزيز الأهواني، وبخاطره الشافعي، وعبده عزام،
1
وعلى ذكر الشباب يشير طه حسين إلى أن عبد الحميد يونس مهتم بالأدب المصري، وشوقي ضيف يتابع دراسته في النقد في كتاب الأغاني، وسهير القلماوي ينتظر أن تناقش قريبا رسالتها عن «أدب الخوارج في العصر الأموي» للحصول على درجة الماجستير، وعبد اللطيف حمزة مشغول بابن المقفع.
وهناك أدب الفاطميين، محمد كامل حسين مشغول به، وأمامه نصوص كثيرة في مخطوطات لم يسبق نشرها نرجو أن ترى النور.
ثم يقول طه حسين: لا بد أيضا من المساهمة في نشاط الكلية الموجه للجمهور خارج مقاعد الدرس، لا بد أن نشارك جميعا في محاضرات الكلية العامة.
أحد الأساتذة يقول إن بعض طلبة القسم يطلبون القيام برحلات لزيارة الأماكن التي تذكر في النصوص العربية القديمة، وإن أحد الطلبة قرأ في بعض الدروس هذا البيت من الشعر:
وفي حمص الدنيا نعيم وجنة
وماء وظل وارف غير زائل
فما انتهى من قراءته حتى أراد أن يرى حمص هذه ليرى النعيم!
وطه حسين يقول: «في الواقع عنده حق، يحسن فعلا أن يرى هو وإخوانه الطلاب حمص وكل ما يمكن زيارته من المواقع والبلاد، على الجامعة وعلى الكلية أن تنظم لهم رحلات طويلة في الإجازات، رحلات علمية إلى الشام وفلسطين والأردن والحجاز ونجد واليمن والعراق ودول الخليج وشمال أفريقيا والأندلس ... لماذا لا؟ وجزر البحر الأبيض المتوسط التي أنارتها الحضارة الإسلامية مدة طويلة؛ مالطة وصقلية وكذلك جنوب إيطاليا، وأيضا ربوع السودان عندما تفتح أبواب السودان للمصريين. وسأتكلم مع عوض ومع شفيق غربال ونعمل خطة لهذه الرحلات، وقد يأتي الوقت الذي تخصص الجامعة فيه إدارة خاصة للرحلات الجامعية.»
ويشير أستاذ آخر إلى موضوع النشاط الرياضي، ويقول طه حسين: «والنشاط الرياضي أيضا «علموا أولادكم السباحة والرماية، ومروهم فليثبوا على ظهور الخيل وثبا»، لكن المهم هو هل هؤلاء الطلاب المساكين في صحة جيدة أولا، يحسن أن تقدم الجامعة لأبنائها وجبات صحية ورخيصة، غذاء كاملا بمبلغ يجب ألا يزيد على ثلاثة أو أربعة قروش.»
ويتحدث طه حسين عن المؤتمرات يقول: «لا أريد أن نذهب إلى المؤتمرات لنستفيد نحن فقط من علماء الغرب وغيرهم من علماء العالم، أريد أن نذهب لنفيد نحن العلماء المصريين المشتركين في هذه المؤتمرات علماء العالم كما نستفيد منهم، هذه الكلية لا بد أن تقف على قدم المساواة مع نظائرها في أوروبا وأمريكا، وأساتذتها ينبغي أن يقفوا على قدم المساواة مع أساتذة بقية جامعات العالم.» •••
طه حسين ومصطفى عبد الرازق يخرجان من قاعة المؤتمر الدولي المنعقد في روما يتحدثان عما دار في جلسة الصباح، وفي الطريق يلاحظان أن الشباب الفاشستي يتجمع في الشوارع متلهفا لمعرفة أخبار الغزو الإيطالي للحبشة متظاهرا مؤيدا للزعيم، أي لموسوليني بحماس وبتهور.
طه حسين يرى أن هذا الهجوم الإيطالي على الحبشة عمل شنيع، «إنه تمزيق لميثاق عصبة الأمم، وأين هي العصبة؟!»
يقول الشيخ مصطفى: «وهذا التجنيد الإجباري في ألمانيا لا يبشر بخير.»
ويقول طه حسين: «عجيب أمر هؤلاء الألمان، في الوقت الذي يستسلمون فيه لحكم الفرد - وهذا دليل التخلف في ميدان السياسة - نراهم يحققون تقدما باهرا في ميدان العلوم، قرأت أمس أنهم قد أنشأوا في برلين أول برنامج منظم للإذاعة المرئية، التي يسمونها التليفزيون أو الرؤية عن بعد، راديو لا يكتفي بالصوت ولكن يعرض الصورة أيضا! وهكذا يصبح من الممكن أن يشهد الناس المسرحيات وهم جالسون في البيوت!»
والشيخ مصطفى يقول: «بعض أحلام الإنسان تتحقق.» ويسكت برهة ثم يسأل: «هل تعتقد أننا على حافة حرب عالمية أخرى؟»
طه حسين يرد بأنه لا يعرف، «إن العالم يتجه إلى العنف وينحرف عن القانون، وهذا الصراع بين العنف والقانون هو صراع في الواقع بين الهمجية والحضارة، الهمجية يمثلها هذا العدوان الإيطالي على الحبشة، والحضارة تتمثل في ميثاق عصبة الأمم، هل كان هذا الميثاق وكانت هذه العصبة مجرد حلم جميل تبدد؟ إن موسوليني يتحدى العالم اليوم بهذا الهجوم، وهتلر يفرض على شعبه التجنيد الإجباري بعد انسحابه منذ سنتين من عصبة الأمم، فهو يستعد فيما يظهر لمخاطرة خطيرة، إن الغزو الإيطالي للحبشة هو إعلان عن إفلاس عصبة الأمم.»
ويقول مصطفى عبد الرازق: «أظن ليس إفلاسا كاملا، العصبة لها جوانب غير سياسية، تتبعها مثلا لجنة التعاون الفكري، وأنت عضو فيها.»
ويقول طه حسين: «نعم هذه لجنة عظيمة حقا، أود أن أقضي ساعة الآن مع الفرنسي الكبير «بول فاليري» الذي سيرأس اجتماعها القادم بعد عامين، في عام 1937، وقد طلبوا إلي بحثا ألقيه فيه إذا أحيانا الله، وإن كنت لم أقرر بعد في أي موضوع سأتكلم.»
ويقول الشيخ مصطفى: «تفكر في هذا الموضوع إن شاء الله في مصر، أظن أن عودتنا إلى مصر أصبحت واجبة الآن»، ويرد الدكتور طه: «نعم، ولكنا نحن سنتوقف بباريس أياما، فإلى اللقاء إذن في مصر.» •••
طه حسين في فندق من فنادق باريس المتوسطة اسمه فندق لوتسيا، يملي على سكرتيره ردا على خطاب جاءه في الصباح من الدكتور محمد عوض محمد، يقول: «ما رأيك في هذه الحرب المقبلة؟ أتحبها أم تبغضها؟ أتنتظر منها لمصر خيرا أم شرا؟ أتظن أنها ستضعف الإمبراطورية البريطانية؟ إني أكره الحرب وأشفق منها، وأتمناها مع ذلك بقوة؛ لأني أنتظر منها ضعف أوروبا وتقدم الشرق نحو الحرية، فهل تراني مخطئا؟»
2
وطه حسين لا يستطيع أن يطيل في هذا الخطاب إلى عوض، فإن الأسرة تحزم الأمتعة، وتتهيأ للسفر، وهناك كما يقول طه: «جمع للمتفرق، وتفريق للمجتمع، وحمل للأثقال، وما يتصل بذلك من الأمر والنهي والزجر والوعيد ...» •••
وفي مايو 1936 ينتخب طه حسين عميدا لكلية الآداب مرة أخرى، وينعقد مجلس الكلية برئاسته، فيستمع إلى بيانات الأساتذة عن دراساتهم في أقسام الكلية المختلفة: قسم اللغة العربية واللغات الشرقية، وأقسام التاريخ والجغرافيا، والاجتماع والفلسفة، واللغات الحديثة: الإنجليزية والفرنسية، واللغات القديمة: اليونانية واللاتينية، ومعهدي الآثار المصرية والإسلامية اللذين نجح العميد أخيرا في إنشائهما.
يتحدث الأستاذ سليم حسن عن ضرورة زيادة نشاط الكلية في التنقيب عن الآثار، والعميد يقول غير معقول أن نترك التنقيب عن آثارنا للمعاهد الأجنبية، إنه يرى أن أي معهد أجنبي يريد أن يقوم بأي بحوث أو حفائر في مصر يجب عليه أن يتعاون مع الكلية وأساتذتها، إنه يذكر كيف اكتشف الإنجليز مخطوط «نظام الاثينيين» في مصر فنقلوه إلى إنجلترا فاستفادوا به في بلادهم وجهلناه نحن ثلاثين عاما، ويذكر الآثار التي تزين لندن وباريس وروما، ويذكر المتاحف العالمية وما نقل إليها من تحف بل من مومياوات مصرية، ويذكر أوراق البردي والمخطوطات العربية التي تمتلئ بها متاحف أمريكا وأوروبا ومكتباتها، يقول: «منذ انعقد مؤتمر التاريخ في بروكسل في عام 1923، والحديث يدور في الدوائر العلمية حول ضرورة عودة الوثائق والآثار إلى مواطنها الأصلية، ولكن هيهات!»
ويقول للأستاذ سامي جبرة: «إنني سأزور قريبا الحفائر التي تشرف عليها في تونة الجبل، في مديرية المنيا، إن شاء الله.»
وينتقل الحديث إلى المؤتمرات الدولية، فيقول العميد: «لدينا دعوات لمؤتمرات كنا نريد، لولا قلة الاعتمادات، أن نشارك فيها جميعا، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، والمهم أن تكون لاشتراكنا في أي مؤتمر ثماره العلمية.»
ويستمر مجلس الكلية في النظر في بقية ما ورد في جدول أعماله، ومن بين ذلك إقرار إدخال نظام المعيدين إلى كلية الآداب حسبما اقترح العميد. •••
في دار العميد، في شارع سكوت مونكريف في الزمالك، عدد كبير من الضيوف، يتناولون الشاي، فاليوم هو يوم الاستقبال الأسبوعي - يوم الأحد - ومن بينهم أصدقاء وزملاء وزوار، مثل: الدكتور محمد كامل حسين، الشيخ مصطفى عبد الرازق، الدكتور حسين فوزي، الأستاذ سليم حسن، الأستاذ مصطفى عامر، الدكتور سليمان حزين، الدكتور محمد عوض محمد، الأستاذ حامد سلطان، والأستاذ رزق الله مكرم الله، وأجانب منهم مدير مصلحة الآثار المصرية، ومدير مصلحة الآثار الإسلامية، ومفتش اللغة الفرنسية، ومدير المعهد الفرنسي بالقاهرة.
طه حسين يجلس في ركن من أركان الصالون ومعه الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري الأستاذ في كلية الحقوق، والشاعر خليل مطران.
يقول خليل مطران: «في العمل المسرحي يعد النص الأدبي هو الأساس، إن المخرج والممثل إنما يترجمان النص الأدبي ويعطيانه الحياة، ولكن الأساس هو النص.»
ويوافق طه حسين قائلا: «هذا صحيح، لقد نسى التاريخ أسماء المخرجين والممثلين في المسرح اليوناني، أما أسماء المؤلفين فهي خالدة، النص الأدبي هو الأثر الباقي.»
ويقول خليل مطران: «ونحن الآن نريد نصوصا، لماذا لا تكتب للمسرح يا سيدي العميد؟»
ويقول طه حسين: «لقد ترجمت روايات مسرحية، ولكني لا أستطيع أن أكتب للمسرح، الكاتب المسرحي لا يخاطب آذان المتفرجين فقط بل يخاطب أبصارهم قبل ذلك. وعلى فكرة، بعض طلبة كليتنا تحدثوا إلي في رغبتهم في قراءة النصوص الشعرية المسرحية في اجتماعات عامة؛ ابنتي أمينة، ابني مؤنس، وزملاء لهما منهم جميل راتب، وغيرهم.»
وينضم الأستاذ سليمان نجيب ومؤنس طه حسين إلى العميد وأصحابه، ويقول سليمان نجيب الذي سمع حديث العميد: «إذا فعلوا ذلك أرجو أن يدعوني للسماع، ولماذا لا يقدمون تمثيلية كاملة وعلى مسرح الأوبرا أيضا؟ إن الشباب هو الذي سينقذ المسرح»، ثم يستدرك وهو يلتفت ناحية خليل مطران الذي كان قد تجاوز مرحلة الشباب، فيقول: «إن الشيوخ قد عملوا كثيرا، ويعملون كثيرا طبعا، ولكن الشباب ... أقصد ... يعني ...»
ويقول الدكتور السنهوري: «لا داعي للتفسير والشرح الكثير! أنا اليوم كنت أدرس لطلبتي في كلية الحقوق، أخذت أفسر وأشرح وأبسط بعض المسائل، ويظهر أني بسطتها تبسيطا شديدا حتى تعقدت جدا.»
ويضحك طه حسين، ويقول: «لقد فهمت أن حكومة العراق تريد إنشاء كلية للحقوق، وأن فيها دارا للمعلمين تريد تطويرها لتكون كلية للآداب، لماذا لا نقدم للعراق كل المساعدة التي يريدها في هذا الشأن؟ إن لبغداد دينا في عنق الأمة العربية؛ بغداد العباسيين، بغداد المأمون والرشيد، ألا تفكر في مساعدتها يا دكتور عبد الرزاق بشرط ألا تبسط الأمور هناك؟!»
الدكتور السنهوري يشارك صاحب الدار حماسه واعتقاده أن على مصر وعلى جامعة مصر واجبا يتجاوز أسوار الجامعة ويتجاوز أيضا الحدود المصرية، ولكن كيف تنشئ العراق كلية بغير أن تكون هناك جامعة؟
طه حسين يرد بأن «الكلية يمكن أن تكون نواة الجامعة، نعم جامعة بغداد، وهنا في مصر يجب أن نقيم جامعات جديدة، جامعة في الإسكندرية، وجامعة في أسيوط، وفي غيرهما من بلاد الأقاليم، وخارج مصر؛ أود أن أرى جامعة في بغداد وفي غيرها من عواصم العرب.»
ويسأل الدكتور السنهوري مداعبا: «والمنيا؟»
ويرد طه حسين: «نعم، والمنيا، لماذا لا؟ ينبغي أن تضيء الجامعات في عواصمنا، عاصمة بعد عاصمة، فهذه هي المنارات التي ستضيء لمصر وللعرب طريق المستقبل.»
ويعود خليل مطران إلى موضوع التأليف للمسرح، فيقول إن توفيق الحكيم قد كتب قديما للمسرح بنجاح، وهو متأكد أنه لو تعاون مع طه حسين على تأليف مسرحية جديدة فلا شك أنها ستكون مسرحية خالدة، وطه حسين يقول إن هذه فكرة تستحق أن يتحدث عنها مع توفيق، ولعلهما يجتمعان في الصيف في فرنسا هذا العام. •••
ويقترب سكرتير طه حسين منه ويهمس له بحديث يكفهر له وجهه وينهض مستأذنا ممن حوله، وتسرع إليه زوجته تسأله عما حدث فيقول لها في حزن شديد: «محمد المرصفي إنه في المستشفى كما تعرفين، وقد عرفت الآن أنه قد مات، يرحمه الله! الدكتور سامي كمال تكلم من المستشفى.»
وتقول هي في حنان: «لقد عرفناه طويلا، عرفته منذ أول يوم وصلت فيه إلى القاهرة، ولست أنسى منظره وهو يحمل أمينة وهي طفلة لم تتم العامين من عمرها، يحملها عاليا ليخرج بها من محطة القاهرة، ولست أنساه وهو يحملك أنت وأنت مريض، بمثل الرقة التي كان يحمل بها أمينة، كان لنا نعم الصديق طيلة تلك السنين كلها، على أنه لا راد لقضاء الله.»
ويقول طه حسين: «نعم، كل نفس ذائقة الموت، أود أن أقضي ساعة الآن مع أسرته، سأذهب الآن إلى المستشفى.»
وتقول زوجته: «وأنا معك.»
ويكون الحاضرون قد تناقلوا الخبر فيستأذنون، وينصرفون معزين. •••
يبدأ العام الجامعي 35- 1936 ومصر لا تزال تعيش حياة الأزمات، الإنجليز يميلون مع السراي فيسقط الوفد، ويميلون مع الوفد فتنهزم أحزاب السراي ... الشباب غاضب على هذا التمزق ... صمويل هور الوزير البريطاني يصرح
3
بأن الحكومة البريطانية قد نصحت حكومة مصر بعدم إعادة دستور 1923، فإن مصر غير مستعدة للحكم الديمقراطي. والطلاب يتظاهرون احتجاجا، ويدركون أن تمزق الشعب وانقسامه هو سبب هوانه، يرون ضرورة إرغام الزعماء على الائتلاف كي تتمكن البلاد مجتمعة من إجلاء الإنجليز عنها.
المظاهرات تتحرك والبوليس يغلق كوبري عباس ويحاول أن يفرق مظاهرة الجامعة بالقوة، فيقتل الطالب عبد المجيد مرسي من كلية الزراعة، والطالب عبد الحكيم الجراحي من كلية الآداب، ويتسامع الطلاب بأخبار عدد آخر من المصابين.
ويقوم الطلبة بالتعاون مع بعض العمال بإعداد شاهد رخامي يسجل مصرع الشهداء، وينصبونه ليلا أمام مدخل الجامعة
4
والشباب يريدون الآن أن يحققوا ما مات شهداؤهم من أجله: استعادة دستور البلاد، وتخليص استقلالها من كل القيود.
يصبح من الواضح أن الأمة ترفض دستور 1930 رفضا باتا، فيعلن مجلس الوزراء أنه سيستصدر المراسيم اللازمة لإلغاء دستور صدقي، ولإعادة دستور 1923.
وفي يناير 1936 يستقيل توفيق نسيم باشا، ويؤلف علي ماهر باشا وزارة غير حزبية لإجراء الانتخابات، فيفوز الوفد من جديد بالأغلبية.
ويموت الملك فؤاد في 28 إبريل 1936 من نفس العام، ويتولى العرش ولده الأمير فاروق، ويؤلف مجلس الوصاية على العرش، وفي مايو 1936 يدعى رئيس الوفد مصطفى النحاس باشا لتأليف الوزارة. •••
كان العالم العربي في ذلك العام مشغولا بالعيد الألفي لشاعر من أكبر شعرائه وهو أبو الطيب المتنبي، وكان طه حسين مشغولا به أيضا، يصحبه طوال العام الجامعي، يدرس شعره مع طلابه درسا دقيقا، ويتحدث عنه إلى جمهور الناس.
ويقبل الصيف فيسافر طه حسين مع أسرته لقضاء أسابيع منه في قرية صغيرة من قرى جبال الألب الفرنسية اسمها «كولمبو»، وكان قد اتفق مع توفيق الحكيم على أن يلحق به فيها، ولعله كان يفكر في اقتراح الشاعر خليل مطران.
ولكن طه حسين ينفق وقته كله - قبل وصول توفيق الحكيم - مع المتنبي قارئا ممليا صباحا ومساء، رغم إلحاح أسرته عليه في أن يستريح قليلا ليستمتع بجمال الطبيعة. ويقبل توفيق الحكيم، يصعد إلى تلك القرية يستكشف حولها في الغابة شجر البندق، ويرى الثلوج تغطي رأس الجبل الأبيض، ويسعده تبادل الحديث مع طه حسين ولكنه يجده مشغولا بالمتنبي.
ولم يكن طه حسين يحب شخص المتنبي منذ صباه، وكان هذا هو رأيه الذي كان يناقش به زملاءه من طلاب الأزهر، ولكنه كان يعجب ببعض شعره إعجابا لا يخفيه، لما يصوره هذا الشعر من فتوة ومن قوة إيمان بالنفس وصدق معرفة للناس، وهو الآن يقرأ ديوانه من جديد، يستمع إلى شعره الذي أنشده حينما طوف في أنطاكية وحلب وفي الكوفة وإيران، يحدثنا طه حسين بذلك في فصل من تلك الفصول التي تبادل كتابتها مع توفيق الحكيم، كما يتبادل عازف الكمان وعازف البيانو جمال الموسيقى، والتي جمعاها في كتاب اختارا له عنوان: «القصر المسحور».
أما المتنبي فقد أتم طه حسين كتابه عنه، وأهداه إلى زوجته، متخذا له عنوان «مع المتنبي»، معتذرا إليها عما كانت تجد منه من جفوة وقسوة عندما كانت تلح عليه ليترك المتنبي لقليل من الراحة التي كان يستحقها ويحتاج إليها في ذلك الصيف. •••
الأحزاب المصرية تتفاوض مع الإنجليز، ونتيجة لهذه المفاوضات تعقد مصر مع بريطانيا في 22 أغسطس معاهدة عام 1936.
وفي الصيف التالي
5
في مدينة مونتريه بسويسرا ينجح رئيس الوزراء مصطفى النحاس في الاتفاق مع الدول الأوروبية على إلغاء الامتيازات الأجنبية، وبعد إبرام المعاهدة مع بريطانيا واتفاق إلغاء الامتيازات مع أوروبا تتقدم مصر لدخول عصبة الأمم فترحب بها العصبة.
ويزور طه حسين رئيس الوزراء النحاس باشا ليهنئه، فيتحدث معه الرئيس في أن مصر المستقلة تحتاج الآن إلى جهاد أكبر يبذل فيه كل المصريين كل ما يملكون من جهد وقوة، لتحقيق ما يجب عليها أن تحققه الآن من النهضة في كل ميادين الحياة.
ويستقبل العميد، في مكتبه بالجامعة، وفدا من طلاب الجامعة يتساءلون عن واجب الشباب المصريين بعد فوز مصر بجزء عظيم من أملها في تحقيق استقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية، يتجهون بهذا السؤال إلى قادة الرأي، كل في ميدانه.
يتحدث معهم العميد طويلا، يقول لهم: «إن مهمتنا أولا هي أن نجعل الاستقلال حقيقة، وأن نجعل الاستقلال مدخلنا إلى العمل والإنتاج»، يقول: «إن نصوص المعاهدة مثلا تفتح للمصريين أبواب زيارة السودان، فيجب أن نستغل هذا النص فنبدأ في إرسال البعوث للسودان فورا، لماذا لا تكونون أنتم من أوائل الزائرين؟ إن الأستاذ سليمان حزين أستاذ الجغرافيا مولود في السودان، وهذه فرصة يزور معكم مسقط رأسه، والأستاذ إبراهيم نصحي أستاذ التاريخ تهمه زيارة السودان، ويحسن إذن أن ترتب الكلية رحلة قريبة للسودان، في إجازة نصف العام مثلا.»
يقول أحد الطلبة: «ما أسعد القادرين على الاشتراك في هذه الرحلة!»
ويرد العميد: «وأنت أيضا ستشترك، والرسوم لن تتجاوز أربعة جنيهات أو خمسة.»
والطلبة يشكرون أستاذهم ويهمون بالانصراف ولكنه يضيف قوله: «أنا شخصيا غير مكتف بإجاباتي، إن واجبنا في ذات الثقافة والتعليم بعد الاستقلال أعظم خطرا وأشد تعقيدا مما تحدثت به إليكم، لا بد من جهد وتفكير، إنني أطلب فترة للاستعداد لهذا الامتحان الصعب الذي وضعتموه لي!» •••
وفي شهور الصيف يفكر طه حسين في السؤال الذي ألقاه عليه الشباب، وقد بذل جهده وأتم تفكيره وبحثه وأعد الرد المطول عليهم، وهو لا ينسى مقابلته لمصطفى النحاس وما أبداه أثناء المقابلة من الاهتمام بكيفية تحقيق نهضة البلاد في كل الميادين بما فيها ميدان الثقافة والتعليم.
ولهذا يقرر طه حسين أن يقدم إلى رئيس الحكومة نتائج هذا التفكير والبحث، فيبدأ في أوائل شهر يوليو 1937 إملاء خطاب
6
طويل إليه يقول فيه:
سيدي صاحب المقام الرفيع
تعود الناس منذ عهد بعيد أن يكتبوا إليك وأن يكتبوا عنك، أكثرهم يحمد ويثني وأقلهم ينقد ويعيب، ولكني أريد أن أكتب إليك على نحو جديد لم يصطنعه الناس فيما كتبوا إليك أو كتبوا عنك إلى الآن ... أكتب إليك في المنفعة العامة التي تمس حياتنا في الغد والتي سيكون لها أكبر الأثر في تكوين الأجيال المقبلة.
أنت رئيس الحكومة القائمة، وأنت زعيم الكثرة التي ستكون إليها أمور مصر دهرا طويلا إن شاء الله، وأنت بعد هذا وذاك أقدر الناس على أن تسمع لي، وتقبل مني، وتفكر فيما أرفع إليك من رأي فتقبله عن رضا ومودة، أو ترده عن اقتناع ومودة أيضا ... وإني لأذكر أني تشرفت بزيارتك بعد رجوعك فائزا بإلغاء الامتيازات وإنزال مصر منزلتها الكريمة بين الأمم الحرة المستقلة في عصبة الأمم ... ولست أخفي عليك أني خرجت من عندك راضيا كل الرضا، قد امتلأت نفسي رجاء، وقد فتحت لي آمالا عراضا، وكنت أتحدث إلى نفسي واثقا بأننا سنبدأ في إقامة حياتنا الجديدة من العمل الصادق النافع على أساس متين.
والموضوع الذي أريد أن أرفعه إليك أدير فيه الحديث عن مستقبل الثقافة في مصر، التي ردت إليها الحرية بإحياء الدستور وأعيدت إليها الكرامة بتحقيق الاستقلال ...
ولكن الملك فاروق يصل إلى سن الرشد في 29 يوليو 1937، فيعين علي ماهر باشا رئيسا للديوان، دون أن يأخذ رأي رئيس وزرائه. وبعد شهور، في الثالث من ديسمبر من نفس العام، وقبل أن يقدم طه حسين تقريره ذاك المطول إلى رئيس الحكومة، يقرر الملك إقالة الوزارة، ويطلب إلى محمد باشا محمود تأليف وزارة جديدة، فيعدل طه حسين عن تقديم تقريره إلى رئيس الوزارة، ويقرر أن ينشره في كتاب يهديه إلى الشباب.
يصدر كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» في الصيف في جزأين، يرى طه حسين أن الكتاب في صورته هذه «سيذاع في الناس وسيقرءونه، سواء منهم من إليه أمر من أمور السلطان، ومن لا ناقة له في السلطان ولا جمل كما يقول الشاعر القديم، وسيقرؤه الجامعيون وغير الجامعيين، وسيجدون فيه صورة للواجب المصري في ذات الثقافة بعد الاستقلال كما يراه مصري، مهما يقل فيه ومهما يظن به فلن يتهم في حبه لمصر وإخلاصه للشباب المصريين.»
وهو يتحدث في هذا الكتاب إلى الشباب يدعوهم إلى أن يثقوا بأنفسهم، وإلى أن يؤمنوا بأنهم ليسوا أقل شأنا من شباب أوروبا، وأن يعرفوا أنه كان لأجدادهم العرب فضل على بلاد الحضارة الحديثة في أوروبا (وفي أمريكا ربيبتها)، وأنهم في الواقع شركاء في هذه الحضارة الحديثة؛ لأنها نابعة من حضارة البحر الأبيض المتوسط التي كان للمصريين والعرب فيها مشاركة بعيدة الأثر. وهو ينبه إلى أنه على شواطئ هذا البحر تقع مصر ولبنان وسوريا، وتقع ليبيا والجزائر والمغرب وتونس، وحضارة هذا البحر لا تقف عند حافته، إن حضارة دمشق وبغداد أيضا تعد جزءا من حضارة البحر الأبيض المتوسط، والخرطوم وشنقيط
7
أيضا تعد جزءا من حضارة البحر الأبيض المتوسط.
يقول المؤلف: «إن على الجيل العربي الحاضر أن يبني الآن على أساس تراثه الشرعي، بعد نفض الغبار عنه، مستفيدا في الوقت نفسه بثمار الحضارة والثقافة المعاصرة، ويجب أن ترفض هذه الدعوى الباطلة التي تقول إن أهل الحضارة الحديثة غربيون وإننا شرقيون، وإنه لا لقاء بين الغرب والشرق؛ فنحن لسنا شرقيين إذا كانت كلمة الشرق تعني الصين والهند واليابان، إن ما يسمى بالغرب الحضاري والثقافي ليس إلا امتدادا وتطورا لحضارة كان آباؤنا شركاء في صنعها.»
وينبه طه حسين في كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» إلى ترابط الشعوب العربية وتضامنها، وإلى أنه من الواجب على مصر، التي استقلت بنفسها وبإرادتها، أن تمد يد المعاونة لمن حولها من البلاد العربية. يقول: «إن الحجاز مثلا محتاج إلى مدارس لم يكن يستطيع بموارده المحدودة - في ذلك الوقت - أن يقيمها، فعلينا أن نساعده وأن نقدم له ما يحتاج إليه من العون ومن يحتاج إليهم من الأساتذة. وبلاد شمال أفريقيا لا تستطيع، لوجود الاحتلال الفرنسي، أن تبني المدارس العربية، فعلينا أن نبنيها لها»، يقول: «يجب إفهام حكومة فرنسا أن لها في بلادنا مدارس هي مدارس «الليسية»، فإذا لم تسمح لنا بإنشاء المدارس في البلاد العربية التي تقع حاليا تحت حكمها، فإن لنا بل إن علينا أن نغلق مدارسها الفرنسية في مصر.» •••
وفي المنيا، يزعم بعض الناس لوالد طه حسين أن ابنه قد كتب كتابا يقول فيه:
إننا لسنا شرقيين - يعني لسنا عربا - بل نحن غربيون. والشيخ حسين يقول لمحدثه إن هذا كلام غير دقيق، فهذا كتاب طه بين يدي. ويعطي كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لمن يقرأ فيه الصفحة التي يدله عليها، فيقرأ القارئ حلم المؤلف بأنه يرى «شجرة الثقافة المصرية باسقة قد نبتت أصولها في أرض مصر، وارتفعت أذرعها في سماء مصر، وامتدت أغصانها في كل وجه، فأظلت ما حول مصر من البلاد وحملت إلى أهلها ثمرات حلوة، فيها ذكاء للقلوب وغذاء للعقول وقوة للأرواح.
ويقول الشيخ حسين : «يعني شجرة العلم عندنا لا بد أن تظلل كل ما حولنا من البلاد، يعني البلاد العربية شرقا وغربا وجنوبا، وما تثمره الشجرة من الثمار يجب أن تشرك مصر فيه الأهل والجيران العرب!»
ويتابع القارئ القراءة: إن الدكتور طه حسين يرى في هذا الحلم مصر «وقد انجاب عنها الجهل، وأظلها العلم والمعرفة، وشملت الثقافة أهلها جميعا، فأخذ بحظه منها الغني والفقير، القوي والضعيف، النابه والخامل، الناشئ ومن تقدمت به السن، وتغلغلت لذاتها حتى بلغت أعماق النفوس، وانتشر نورها حتى أضاء القصور والأكواخ.»
ويقول الشيخ حسين: «يعني أنه يدافع عنا، عني وعنك، يدافع عن الفقير والضعيف والخامل والعجوز!»
والقارئ يستأنف القراءة: «... وشاع في مصر كلها نشاط جديد، وأصبحت مصر جنة الله في أرضه، يسكنها قوم سعداء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالسعادة وإنما يشركون غيرهم فيها، وأصبحت مصر كنانة الله في أرضه حقا، يعتز بها قوم أعزاء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالعزة، بل يفيضون على غيرهم منها.» •••
يقول الشيخ حسين: «هل فهمت الآن؟ يريد أن تشمل بلادنا السعادة والعزة، ولكنه يريد أيضا أن نشرك إخواننا وجيراننا العرب في العزة والسعادة، يعني أننا مصريون وعرب ومن شعوب البحر الأبيض المتوسط، وشركاء في صنع ثقافة وحضارة الغرب، ولسنا شرقيين بمعنى أننا لسنا يابانيين ولا صينيين ولا هنودا، فهمت واقتنعت أم ترى أنك ياباني أو صيني أو هندي؟»
ويضحك الحاضرون، ويقول أحدهم: «المهم أن هذا الكتاب يبدو وكأنه يصلح برنامجا كاملا للتعليم في مصر، ولكن الحقيقة أنه أقرب إلى الأحلام، والكاتب نفسه يقول إن تمنياته التي قرئت علينا الآن هي حلم كبير ومن ذا يحقق لنا هذه الأحلام؟»
في شهر يونيه ينتهي العام الجامعي فتتأهب أسرة العميد لمغادرة القاهرة، ولكن العميد لا يغير من نظامه اليومي شيئا؛ يقضي الصباح في مكتبه مع سكرتيره يقرأ له ما يريد من الرسائل والكتب العربية، ويستقبل أثناء ذلك من يستقبل من الزوار، فإذا انتهى من طعام الغداء وتناول القهوة مع أسرته خلا إلى نفسه يستمع من الراديو إلى إذاعة القرآن الكريم، ثم تقبل قارئته لتقرأ عليه مدة الساعتين اللتين يخصصهما كل يوم لمتابعة الحياة الأدبية الغربية.
وفي مساء يوم من أيام شهر يونيه 1937 تقرأ عليه رسالة من هيئة التعاون الفكري بتوقيع الأديب الفرنسي الكبير «بول فاليري» يذكره بالبحث الذي سوف يلقيه في ندوة «مستقبل الآداب» في الصيف. •••
وتعقد الندوة في قصر الأمم، مقر عصبة الأمم المشرف - عبر حدائقه الواسعة - على بحيرة ليمان في جنيف، وينتهي أحد اجتماعات الصباح فيخرج طه حسين مع رئيس الاجتماع بول فاليري يتحدثان عن خطاب العميد في اجتماع الصباح.
ويلحق بالأديبين الكبيرين بعض أعضاء الندوة، من بينهم سيدة تسأل العميد: «أليس من الواجب أن تعين الحكومات أدباءها وفنانيها في هذا العهد الذي يتعرض الأدب والفن فيه للأزمات التي تحدثت عنها في جلسة الصباح؟»
يقول العميد: «في فرنسا وروما، في بغداد والقاهرة، وفي عواصم أخرى كثيرة، في عهود عديدة، كان هناك أمراء وملوك شملوا الفنانين برعايتهم، وقد أنتجت هذه الرعاية في كثير من الأحيان فنا رائعا، ولكنه كان بطبيعة الحال فنا تابعا، وإذا قامت الحكومات الآن برعاية الفنانين والأدباء رعاية مادية فإن التبعية القديمة للأمراء ستصبح تبعية للحكومات ... إن الدولة سيد خطر لأنها لا تقدم شيئا بلا مقابل، فإذا كان الثمن هو استقلال الأديب فهي صفقة قاتلة؛ لأنه لا سبيل إلى الإنتاج الحق إلا في ظل الحرية.»
ويقول أحد الأعضاء: «ولكنك سبق أن حدثتنا عن أديب كبير استغنى عن كل رعاية بأن عاش حياة البساطة وهجر الدنيا وما فيها ومن فيها وأنتج أدبا عظيما خالدا.»
ويرد طه حسين: «إن أبا العلاء المعري حاول أن يهجر الناس ولكن الناس لم يهجروه، وأنا على أي حال لا أرى أن يعتزل الفنان أو الأديب مجتمعه، إن الأديب أو الفنان يمكن أن يرتفع بنفسه عن الحياة من حوله ليتأملها، ولكنه لا يجوز أن يخرج منها، يجب أن يأخذ الفنان والأديب موقفا مما يجري حوله، إن الكاتب يقود الفكر في مجتمعه، والفكر يقود العمل.»
وتسأل السيدة: «هل الفنان يستطيع دائما أن يعبر عما يريد التعبير عنه حتى يتسنى له المشاركة في قيادة الفكر؟»
ويرد العميد: «يحاول، هذه مسئوليته.»
وتسأل السيدة: «وأمام من تكون مسئولية الفنان؟»
ويرد العميد: «أمام ضميره.»
ويتدخل الرجل فيقول: «ولكن المجتمعات لا تحكم حسب أحكام الضمير، إن المجتمعات تحكم بالقوانين، والقوانين تنفذ بأدوات السلطة، وبعض هذه القوانين في بعض البلاد تسن خصيصا لخدمة السلطان، ولذلك تصدر صارمة ظالمة تصادر حرية التعبير.»
ويقول العميد في هدوء واقتناع أكيد: «إنما تحترم القوانين إذا صدرت صحيحة معبرة عن إرادة الأمم مصدر السلطات.»
فيسأل الرجل: «ومن يحمي الأديب والفنان إن هو خالف إرادة الظالم من الحكام؟»
ويقول العميد: «لا بد أن يوجد تضامن وتعاقد غير مكتوب بين الفنان أو الكاتب وبين مجتمعه المتحضر، هذا التضامن يفرض على الفنان أن يكون صادقا أمينا حرا، ويفرض على المجتمع أن يحمي الفنان من كل أنواع الطغيان.»
وتسأل السيدة: «كل أنواع الطغيان؟»
ويرد العميد: «نعم، بما في ذلك طغيان العامة، نعم، كل أنواع الطغيان ما عدا طغيان المرأة ... هذا مقبول فيما أظن ...»
وتضحك السيدة وتسأل: «وهل كتبت أخيرا شيئا عن المرأة؟»
ويقول العميد: «قصة فتاة أو فتاتين من صعيد مصر، قصة من الواقع، سميتها باسم طائر مصري مغرد حبيب إلى قلبي اسمه «الكروان»، لا أعرف اسمه بالفرنسية ... لا، ليس البلبل.»
ويقول بول فاليري: «لقد حان موعد عودتنا إلى قاعة الاجتماع.» •••
وينتهي الصيف ويبدأ العام الجامعي الجديد، ويستأنف العميد عمله أستاذا في قسم اللغة العربية وعميدا للكلية، ينظم عملها ونشاطها داخل الجامعة وخارجها. والمحاضرات العامة للكلية تشمل في ذلك العام الأسبوع الذي نظمته لدراسة أبي عمرو الجاحظ وعصره، يشارك في هذه الدراسة الأساتذة أحمد أمين وأمين الخولي وعبد الوهاب عزام وعبد الوهاب حمودة، ولا ينسى طه حسين شباب قسم اللغة العربية فيشرك فيها أيضا الأستاذين الشابين شوقي ضيف وعبد اللطيف حمزة.
يتحدث العميد مع زملائه وطلابه المشتركين في هذه الدراسة عن البيئة التي عاش فيها الجاحظ، بيئة العراق: «لقد كان العراق هو الموطن الذي التقى فيه عرب الجنوب المتحضرون وعرب الشمال البدويون قبل الإسلام، ثم التقى فيه عرب الجنوب والشمال جميعا بالفرس وحضارتهم الساسانية، وبالروم وحضارتهم المسيحية، وقد عرف العراق قبل ذلك حضارة أشور وبابل، وبتأثير ذلك كله كان العراق أول موطن، خارج الجزيرة العربية، يزدهر فيه الشعر قويا نابضا بالحياة قبل الإسلام، وكان بعد الإسلام من أهم مواطن العرب تأثيرا في نشأة وتطور الحضارة العربية والإسلامية.»
ويتمنى العميد أن يزور العراق يوما، ويتمنى أن تنظم الكلية رحلة لطلابها وأساتذتها إلى العراق في عام مقبل، غير أن رحلة هذا العام ستكون إلى سواحل البحر الأحمر سعيا بالسيارات من القاهرة إلى السويس ثم إلى الغردقة فالقصير، وانعطافا، عبر طريق القبائل العربية القديم، إلى قنا، مرورا بدير سانت أنطونيوس. ويتحدث العميد في تنظيم هذه الرحلة وقيادتها إلى وكيل الكلية الأستاذ شفيق غربال.
والأستاذ شفيق غربال يتحدث عن رحلات الكلية السابقة، رحلات فلسطين والأردن والحجاز والسودان وواحة سيوة، وهذه الرحلة إلى سواحل البحر الأحمر، وهو يأمل - والعميد يوافقه - ألا تكتفي الكلية بما يحصله طلابها وأساتذتها من فوائد في رحلاتها خارج مصر، فتعمل لتكون اللقاءات التي تتم فيها أساسا لصلات تقوم وتتوثق بين الكلية وبين الهيئات العلمية والأدبية المماثلة في البلدان العربية التي تتم زيارتها.
العميد يذكر أن الأساتذة والطلاب الذين اشتركوا في رحلة السودان قد عادوا مغتبطين أشد الاغتباط بقيامهم بهذه الرحلة على ما لقوا فيها من مشقة، ويقول لشفيق غربال: «قد ذكرت لي ابنتي التي اشتركت في الرحلة أنه عندما وصل القطار الذي كانوا يستقلونه إلى محطة عطبرة، كان في انتظاره عدد كبير من السودانيين يرحبون بأشقائهم المصريين بحماس شديد، وأن ناظر المحطة كان على رأس المرحبين وقد تبين أنه شاعر مجيد، فقد رحب ببعثة الكلية بالشعر وقال لأمينة:
يا بنت أستاذنا قصي تحيتنا
على العميد عميد العرب والضاد
وكرسي وقتك الغالي لنصرتها
تمسي عميدتنا في عدوة الوادي
وقد نقلت أمينة هذه التحيات التي تأثرت بها أنا كل التأثر، وضحكت هي لفكرة أنها يمكن أن تكون عميدة يوما من الأيام !»
ويرجو أحد الأساتذة ألا يكون ما ينفقه الطلبة من الوقت في هذه الرحلات معطلا لهم عن دراستهم، فيقول العميد: «إن طلبتنا شركاء في تراث الحضارة العربية الإسلامية، ولا بد لهم من أن يعرفوا مواطن هذا التراث، وأنا شخصيا يثير السفر عندي من العواطف والخواطر ما لا تثيره الإقامة، أنا في الخارج أفرغ للراحة أولا ثم للدرس والإنتاج بعد ذلك، وسوف أسافر في العطلة القادمة، وأرجو أن أعود إليكم بكتاب جديد إن شاء الله.»
ويدخل سكرتير الكلية يستأذن للسيدة أم كلثوم، جاءت لتخبر العميد أنها ستستجيب لطلبه إحياء ليلة تخصص إيراداتها للكلية، تتبرع بذلك راضية بل شاكرة، وهي التي يتحدث الناس بكراهيتها للإسراف، وضبطها للإنفاق، ولكنها معجبة بالعميد، متحمسة للشباب، والعميد معجب بها ومتحمس لفنها. •••
طه حسين يتفرغ في عطلة الصيف، كما كان يقول لزملائه، للراحة قليلا وللدرس والإنتاج أغلب الوقت، يعود إلى قراءة مؤلفات أبي العلاء ليتم كتابه الجديد عنه.
على أنه ليس مشغولا بأبي العلاء فحسب، إنه يكتب إلى لطفي السيد يتمنى لو تيسرت له الرحلة إلى فرنسا ليكون إلى جواره فترة من الزمان لا للاستجمام والراحة، بل لعمل سوف يجد فيه متعة تفوق متعة الاستجمام.
يقول طه حسين إن صورة النسخة المخطوطة من الترجمة العربية القديمة لكتاب «المنطق» تأليف أرسطو قد أخذت تصله شيئا فشيئا، ويقول: «وأخذت أحاول قراءتها، وهي محاولة شاقة جدا لغموض الخط في كثير من المواضع، وفساده في بعض المواضيع، ولكنها مع ذلك محاولة لذيذة حين أوفق إلى قراءة أرسطو في هذه الترجمة وألاحظ أنها في جملتها صحيحة، وأن المترجمين العرب كانوا يحرصون على الدقة في كثير من الأحيان حرصا يضطرهم إلى إكراه اللغة العربية على ما لا تحب، فهم مثلا لا يستعملون لفظ «القياس» وإنما يستعملون اللفظ اليوناني «سلوجوسموس»، يشتقون منه مصدرا رباعيا على سبيل المصدر العربي وهو «السلجسة»، ثم يشتقون فعلا ماضيا وهو «سلجس» ومضارعا وهو «يسلجس».»
ويرجو طه حسين أن «تنشر الجامعة صورة فوتوغرافية للمخطوطة كما هي، لتكون بين أيدي الباحثين، ثم توضع فصولها فصلا فصلا بين أيدي مدير الجامعة الفيلسوف ليقرأها ويتصفحها في أناة، وينشرها معلقا عليها.» ويقول العميد إنه سيكون سعيدا إن شارك المدير في هذا العمل.
ويتم طه حسين كتابه عن أبي العلاء ويختار له العنوان وهو «مع أبي العلاء في سجنه»، ويملي إهداء الكتاب وهو «إلى الذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس». •••
ويستأنف طه حسين نشاطه في العام الجديد وهو شديد الاهتمام، إلى جانب عمله الجامعي، بأمور الثقافة خارج الجامعة، فهو يقترح تأليف شعبة مصرية لمنظمة «جيوم بيديه» التي تقوم بنشر وترجمة تراث بلاد البحر الأبيض المتوسط الكلاسيكي، لتعمل الشعبة المصرية على نشر وترجمة التراث العربي كذلك، فتستجيب وزارة المعارف لطلبه، وهو شديد الاهتمام بعمله الجامعي، يخصص من وقته ساعات طويلة للإشراف على رسائل طلاب الدراسات العليا، ويرى ذلك واجبا من أحب واجباته إلى قلبه.
ورسائل الطلاب المتقدمين للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه تناقش عادة في كلية الآداب في المدرج الكبير، وبينما يمتلئ المدرج بالذين يتوافدون على الجامعة لشهود الامتحان في الأمسية التي تناقش فيها إحدى الرسائل، يجتمع الأساتذة الممتحنون في غرفة رئيس القسم، أو غرفة العميد إذا كان العميد سيشارك في لجنة الامتحان، وينضم إليهم أساتذة آخرون سوف يشهدون المناقشة مع الجمهور.
وإلى أن تحين ساعة مناقشة إحدى الرسائل التي أشرف عليها طه حسين، يجتمع بعض الأساتذة في غرفة العميد يتبادلون الحديث.
العميد يقول: «إن نظرة إلى ما يقدمه متخرجو هذه الكلية من البحوث تبين أن الكلية على حداثة سنها قد دفعت الأدب العربي وتاريخه دفعة قوية، إن الأدب العربي وتاريخه يدرسان الآن درسا يبعث فيهما الحياة والقوة، ويحبب فيهما القارئين والباحثين، ويحقق ما ينبغي لهما من الدقة وحسن الاستقصاء.»
ويقول الأستاذ أحمد أمين: «لقد تجاوز أثر كلية الآداب في هذا بيئتها الخاصة إلى بيئات أخرى.» فيقول طه حسين: «ليس من الغرور أن نسجل هذا كله مع الغبطة والسرور. على أن عمل هذه الكلية لم يكن كله سهلا ميسرا، وما أظن أنه سوف يكون في المستقبل - على الأقل المستقبل القريب - سهلا ميسرا.»
ويبتسم طه حسين ابتسامته الخفيفة، ثم يقول للأستاذ أحمد أمين: «هل تذكر كيف أرادوا إغراءك بترك هذه الكلية وتعيينك أستاذا مساعدا للشريعة في كلية الحقوق؟»
ويسرع الأستاذ أحمد أمين بالرد يقول: «استشرت زملائي هنا فأشار علي منصور فهمي وأمين الخولي بالقبول، وأشار عزام بالرفض، وكتبت إليك وأنت في الخارج أسألك الرأي والنصيحة، وأحسست من ردك أنك غضبت، فاعتذرت أنا فورا عن منصب الأستاذ المساعد الذي يغضبك، وبقيت في الكلية في منصب المدرس الذي يرضيك.»
ويلتفت طه حسين إلى الأستاذ عبد الحميد العبادي ويقول: «وأنت هل تذكر كيف كانوا يغرونك أنت أيضا بترك الكلية يا عبد الحميد؟»
ويقول الأستاذ عبد الحميد العبادي: «وكيف أنسى ذلك وكانوا يعرضون منصبا إداريا من الدرجة الثالثة لا ييأس شاغله من الثانية؟ وقد كتبت لك أقول إنها لفتنة لمن كان أبا لأولاد يوشكون أن يكونوا خمسة، لكنك رددت علي فذكرت الكلية وذكرت خدمة العلم وذكرت الصداقة، وقلت أنا إن الكلية لها رب يحميها كما حمى الكعبة من قبل، أما خدمة العلم والصداقة فآه ثم آه، وعرفت أنك غضبت، فنسيت الأولاد الخمسة، ونسيت الدرجة الثالثة والثانية، ولو كانت الأولى أيضا نسيتها.»
ويقول العميد: «وعزام؟ هل تذكر يا عبد الوهاب ترشيحك للخارجية؟»
ويرد الأستاذ عبد الوهاب عزام: «إنما كان يغريني منصب الملحق في سفارتنا في إيران لأنه كان سوف يتيح لي فرصة أكبر للتعمق في دراسة الأدب والحضارة في إيران.»
ويقول العميد: «وأنت يا أمين؟»
ويقول الأستاذ أمين الخولي: «نعم، لوحوا لي بسكرتارية مشيخة الأزهر الجليلة وبمنصب وكيل كلية أصول الدين مع أستاذنا الشيخ اللبان، ولكنهم للأسف الشديد اشترطوا علي أن أتعلم السكوت.»
ويقول العميد: «وإبراهيم؟»
ويقول الأستاذ إبراهيم مصطفى: «قالوا لي إنك أحسن من يقرأ سيبويه، على أنهم - في الأزهر - اشترطوا أن أعود إلى الثياب الأزهرية عندما يعينونني فيه، وكنت قد أنفقت على هذه الثياب التي أرتديها مالا غير قليل، فصعب علي القبول بالشرط المفروض!»
ويقول العميد: «لا يا إبراهيم ، إنك لم ترض أن تترك كليتك وإخوانك أساتذتها وأبناءك الطلبة. لقد رفضتم جميعا إغراء المناصب والدرجات.»
فيقول إبراهيم مصطفى: «لأننا جميعا كنا نعلم أننا معك سنخدم لغتنا وأدبنا، وسنخدم بلدنا وديننا خدمة نرجو بإذن الله أن تكون باقية الأثر.»
ويبتسم طه حسين ابتسامته الخفيفة، إنه يفكر في أن الهجوم على طه حسين لم يقتصر على شخصه وأن المهاجمين قد بذلوا أقصى الجهد لا ليهدموه هو وحده، بل ليهدموا كلية الآداب كلها، وأن هجومهم قد خاب بفضل هذه النخبة من الرجال وبفضل من تجمع حولهم من الشباب.
8 •••
ويدخل الدكتور محمد عوض محمد يقول: «باق من الزمن خمس دقائق.» فينهض الأساتذة الممتحنون يلبسون أرديتهم الجامعية، وينهض معهم العميد وهو يقول للدكتور عوض وهو متجه إلى السلم يهبطه ليدخل المدرج الذي يعقد فيه الامتحان: «لقد قرأت مقال محرر مجلة الثقافة السياسي هذا الأسبوع وهو ممتاز ولكنه مخيف.» ويقول عوض: «أخجلت تواضعي يا سيادة العميد، فإنك تعلم أني أنا محرر مجلة الثقافة السياسي! أما أن المقال ممتاز فهو وصف سوف أسجله وأعلقه في برواز، وأما أنه مخيف فإني أعوذ من ذلك بالله العظيم، كل ما قلته هو أني أعتقد أن اجتماع ميونيخ بين تشرشل والنازيين قد انتهى إلى هزيمة سياسية للإنجليز وحلفائهم، وإلى نصر سياسي لهتلر والنازية. على أن التاريخ - وأنت يا سيدي العميد سيد العارفين بالتاريخ - قد سجل كثيرا من الهزائم السياسية والعسكرية تم تصحيحها فيما بعد بهمة وعناد المهزومين عندما رفضوا الهزيمة ورفضوا الاستسلام.»
ويقول العميد: «هل تذكر خطابي إليك عام 1935 عندما كنا نقدر أن غزو إيطاليا للحبشة يهدد بنشوب حرب عالمية؟ كنت أسأل إن كان ذلك سيضعف أوروبا والإمبراطورية البريطانية فيمكن بلادنا من التحرر والانعتاق من نير الاحتلال، غير أنه لا محل الآن لمثل هذا السؤال، إن الشر لا يلد الخير، وإذا انتصرت النازية والفاشية فإنهما لن يخلصانا نحن العرب من يد الإنجليز والفرنسيين ليقولا لنا كما قال الرسول
صلى الله عليه وسلم
من قبل: اذهبوا فأنتم الطلقاء.»
ويقول الدكتور عوض : «عندنا في مصر من يرون غير ذلك، ويصدقون أن الألمان سيحررون بلادنا من أعدائهم الإنجليز، وهناك لغط كثير عن دعايات واتصالات مع بعض رجال صحافتنا وقياداتنا تقوم بها ألمانيا، تستهدف بها الحصول على تأييد العرب للنازية، وتدبر للتهجم على كل من يؤمن بالديمقراطية ويدعو لها في هذه البلاد.»
وقبل دخول مدرج الامتحان يقول العميد للدكتور عوض: «لقد قيل لي يا عوض إنك كنت قاسيا في لجنة منح المجانية لطلاب الكلية، يجب ألا تنسى أننا أنا وأنت قد تعلمنا بالمجان.» •••
مجلس كلية الآداب منعقد في غرفة العميد صباح يوم 13 مارس 1939.
يقول العميد: «لقد تحدث إلي مدير الجامعة بشأن شكوى بعض الناس من قراءة كتاب «جان دارك» ل «برناردشو» وكتاب «محادثات خيالية» ل «لاندرو» في قسم اللغة الإنجليزية بالكلية، وقد وعدته بالنظر في الأمر وذكرت أنني لن أتردد في أن أطلب إليكم منع قراءة هذين الكتابين إذا ظهر أن فيهما ما يمس العقيدة أو يهين الإسلام أو الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ثم تحدث إلي معالي وزير المعارف في نفس الموضوع فجددت له نفس الوعد، وقد طلبت إلى رئيس قسم اللغة الإنجليزية أن يحقق هذا الأمر وأن يعرض عليكم نتيجة تحقيقه، وأرجو الآن أن يفعل ذلك.»
ويقول رئيس قسم اللغة الإنجليزية: «أثير هذا اللغط حول سبع محادثات في كتاب «محادثات خيالية» تأليف لاندرو، وحول رواية «جان دارك» تأليف برناردشو. أما المحادثات السبع فإنه لا توجد فيها أي إشارة إلى الإسلام أو الرسول الكريم، فالشكوى من هذه الفصول باطلة لا أساس لها. أما الكتاب الثاني «جان دارك» فإنه من الكتب التي يطالعها طلاب قسم اللغة الإنجليزية منذ ست سنوات، أقول منذ ست سنوات، أي قبل أن تنتخبوا سيادتكم عميدا، بل منذ كنتم، كما هو معروف، خارج الجامعة. وقد سبق أن ترجمت هذه المسرحية إلى اللغة العربية ونشرتها لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ سنوات أيضا، وهي ما زالت معروضة في المكتبات ولم يعترض عليها أحد.
والذي تعترض عليه بعض الصحف الآن هو ما يجيء في المسرحية من حوار بين قسيس عظيم الحظ من التعصب، عظيم الحظ من الغباء والجهل، وبين أحد اللوردات، يتحدث القسيس عن جان دارك وعن النبي
صلى الله عليه وسلم
ويقول إن كليهما عدو للمسيح، لكن محاوره يرد عليه فورا بأنه قد عرف المسلمين فوجدهم قوما كراما، بل إنه رآهم يفضلون قومه من نواح كثيرة. واضح إذن أن المؤلف برناردشو لم يقصد التعريض بالإسلام، بل قصد إبراز الجهل والتعصب الذي اتصف به بعض رجال الكنيسة الذين كانوا يطالبون برأس جان دارك، والمؤلف قد رد على هذا القسيس المتعصب الجاهل على لسان اللورد الذي كان يحاوره ردا أنصف به الإسلام والمسلمين.»
يقول أحد أعضاء المجلس: «إن القرآن الكريم يحكي أقوال المشركين الذين كانوا يصفون النبي
صلى الله عليه وسلم
بالسحر والكهانة وما هو أسوأ، ثم يرد عليهم.»
ويقول عضو آخر: «الكنيسة الكاثوليكية هي التي كانت تصدر لائحة للكتب التي تحرم على المسيحيين الكاثوليك قراءتها، أما الإسلام فلم يعرف شيئا من ذلك.»
ويقول عضو ثالث: «ليس في الجامعة كتب مقررة، والكتب التي يطلب إلى الطلاب قراءتها لا يطلب إليهم قبول ما فيها، بل إن الذي يطلب إليهم هو دراستها ونقدها.»
ويقول العميد: «لقد طلبت إلى زميلين آخرين من خارج قسم اللغة الإنجليزية قراءة الكتابين، ورأيهما فيهما مطابق لرأي الأستاذ رئيس القسم الذي عرضه علينا الآن، فهل ترون إذن الموافقة على تقرير رئيس القسم وعلى رفعه إلى مدير الجامعة ليعلم نتيجة التحقيق؟»
يوافق المجلس، وينتقل إلى ما لديه غير ذلك من الموضوعات.
بعد يومين يتصل الدكتور هيكل وزير المعارف بالعميد بالتليفون، ويقول له إن رئيس الوزراء محمد محمود باشا أمر بمنع الكتابين.
ويقول العميد: «إن الأساتذة المختصين قرءوا الكتابين وقرروا أنه ليس فيهما ما يجرح الشعور الديني أو يمس الإسلام أو رسوله الكريم، وقد رفعت تقرير رئيس قسم اللغة الإنجليزية إلى مدير الجامعة فأقره المدير ووافق على ما رآه مجلس الكلية بهذا الشأن، وعلمت أن التقرير عرض على معاليكم فوافقتم على رأي الكلية وأيدتموه ، أبلغني ذلك عدد ممن تحدثتم إليهم معاليكم في هذا الشأن.»
ويقول الوزير: «صحيح، صحيح، ولكن هذه الآن هي أوامر رئيس الحكومة.»
ويرد العميد: «إذن تبحثون عن عميد ينفذ أوامر رئيس الحكومة مهما تكن ودون سؤال، فإن طه حسين لا يحسن ذلك.»
ويدعو الوزير العميد لمقابلته للتفاهم، فيعد طه حسين بالذهاب إلى مكتب الوزير، ولكنه غير موقن بأن الوزير سيرى غير ما يراه رئيس الوزراء. •••
الطلاب يستمعون إلى المحاضر باهتمام في المدرج الكبير في كلية الآداب صباح يوم 21 مارس سنة 1939، ولكن باب المدرج يقتحم فجأة ويتدفق عدد من الشباب من خارج الكلية يهتفون بسقوط الكلية وحياة الإسلام! وإدارة الكلية تتصل ببوليس الجيزة مستنجدة، ولكن البوليس يعتذر بحجة أنه ليس لديه قوة تستطيع حماية الكلية، والمهاجمون يقتحمون المدرجات وقاعات البحث ويصعدون سلم الكلية متجهين إلى غرفة العميد يهتفون بسقوط العميد الأعمى، يحاولون اقتحام حجرته وهو فيها وحده، فيوقفهم بعض السعاة والموظفين وعدد من الطلاب خرجوا من محاضراتهم وأسرعوا يحمون غرفة العميد. ويرتفع الضجيج من المهاجمين وتتعالى الهتافات وبعضها قبيح شديد الإسفاف مهين للطلبة جارح للطالبات، وأخيرا يتمكن طلاب الآداب وموظفوها من إجلاء المهاجمين.
ويلبي العميد ومدير الجامعة دعوة الوزير، الذي يفسر موقف رئيس الوزراء: إن الوزارة تواجه ظروفا صعبة، ورئيس الوزراء لا يريد أن يثير أزمة لا داعي لإثارتها في هذه الأوقات.
وينصرف العميد من عند الوزير إلى داره ويرسل استقالته، وقد فصل أسبابها، إلى مدير الجامعة.
إن الدكتور هيكل وزير المعارف قد سبقت له قراءة مسرحية «جان دارك»، وهو يعتقد أن ليس فيها ما يقتضي منع طلاب الجامعة من قراءتها وقد أبلغ ذلك بنفسه لعميد كلية الآداب، ولكنه عضو في وزارة محمد باشا محمود، وموقفه حرج، لذلك فهو يزور العميد المستقيل في منزله، ويتحدث إليه عن ظروف الوزارة وظروف رئيسها، وما يحيط به وبها من مؤثرات، رئيس الوزارة لا يحتاج إلى مزيد من الإزعاج، وتكفيه المشاغل والمخاوف التي تواجهه بسبب اضطراب الحالة الدولية وتدهورها.
وينتقل هيكل إلى الحديث عن عمله هو في وزارة المعارف، ومتاعبه فيها، إن مدير الجامعة سوف يرد إليه الاستقالة «آسفا أشد الأسف للحوادث التي دعت إلى تقديمها، راجيا أن يعود العميد إلى عمله بالكلية بما يعرفه له من الكفاية والإخلاص»، ويطلب الوزير هيكل من صديقه العميد أن يقبل هذا الرجاء الذي سيقدم له رسميا بهذه الصيغة. •••
ألمانيا النازية تقوي أجهزة دعايتها بإشراف «وزير الرايخ للتنوير والدعاية» جوزيف جوبلز، الذي يزور القاهرة بنفسه في شهر إبريل 1939، وإيطاليا الفاشية شديدة الاهتمام بمصر، والجنرال إيتالو بالبو نجم الطيران الإيطالي يزور القاهرة في مايو سنة 1939، والشائعات تتناثر عن اتصالات دول المحور بالملك فاروق وبعض المسئولين في مصر.
ويغادر العميد مصر في أول الصيف ليحضر اجتماع هيئة التعاون الفكري الدولية في جنيف.
يترك العميد مصر قلقة غير مستقرة، العلاقات بين الملك ووزارة محمد محمود تسوء رغم كل الجهود التي تبذلها الوزارة، والأمة ساخطة على السراي وعلى الوزارة معا، ساخطة على الإنجليز والألمان، متعطشة إلى يوم مأمول تتخلص فيه من ظلم الحكم المطلق، ومن عنف الاحتلال.
وفي شهر أغسطس 1939 يعلم طه حسين أن وزارة محمد محمود باشا قد سقطت، وأن الملك قد عين علي ماهر باشا رئيسا للوزارة، ويتلقى العميد خطابا من أحد أعضاء الوزارة الجديدة، وهو سابا حبشي باشا وزير الصناعة والتجارة، يقول فيه: «إن الحوادث لا تترك مجالا للتفكير في غير ما يتهدد البلاد من خطر.» وفي نفس الشهر يتلقى العميد خطابا من الدكتور محمد عوض محمد، الذي كان يزور ألمانيا، يقول فيه: «إن الحكومة الألمانية جادة في جمع الحديد القديم من جميع أرجاء البلاد.»
ويسأل السكرتير - الذي قرأ الخطاب على العميد: «ولماذا تجمع الحكومة الألمانية الحديد القديم؟!»
يقول العميد: «التوراة تحدثنا أنه في ظل السلام تصهر السيوف لتتحول إلى محاريث، وإذا كانت الحكومة النازية تجمع الآن الحديد القديم فذلك لتصهره وتحوله إلى مدافع، وأغلب الظن إذن أن الحرب توشك أن تندلع، ولا بد لنا الآن من الإسراع بالعودة إلى أرض الوطن.»
يقول السكرتير: «لقد كنت تريد أن ترسل برقية إلى الدكتور السنهوري تهنئه بتعيينه وكيلا لوزارة المعارف.» فيرد العميد: «بل الأفضل الآن إرسال خطاب.» ثم يملي على سكرتيره ما يلي:
أخي العزيز
تحققت أمس أنك أصبحت زعيما من زعماء التعليم أو قل الزعيم الثاني لشئون التعليم بعد معالي الوزير، فهممت أن أبرق إليك مهنئا ولكني استحييت من عامل البريد الفرنسي، فإن هذه الظروف التي نحن فيها لا تسمح للناس بأن يتبادلوا التهنئات مهما تكن أسبابها ومصادرها، واكتفيت بأن أرسل لك هذا الكتاب طائرا كما يقال، إن كانت الظروف العامة لا تزال تسمح للرسائل بأن تطير. وكل ما أتمناه الآن هو أن يظل السيف والمدفع صامتين ... وأن تظل الكلمة للعقل والقلب ...
ولكن الحرب أعلنت فسكت العقل ونطق المدفع، والقطارات المتجهة من باريس إلى مارسيليا غاصة بالجنود، والمدنيون يتسابقون إلى الخروج من باريس إلى الأقاليم فيسدون الطرقات، وطه حسين وزوجته وابنته وولده يضطرون إلى قضاء الليل جلوسا في محطة السكة الحديدية في مدينة «ليون» ينتظرون قطارا يصلون به إلى مارسيليا، ويصل القطار فيسرعون إلى الركوب فيه، ويصعدون إلى الباخرة المصرية «النيل»، فيمضون فيها أياما وهي لا تتحرك؛ لأن الحركة في البحر الأبيض المتوسط لا تكون في ذلك الوقت إلا بأمر من الأميرالية البريطانية.
وأخيرا تتحرك الباخرة مزدحمة بركابها، وقبطانها المصري المثقل بالمسئولية في تلك الظروف الشديدة يعمل مشكورا على توفير الراحة الممكنة لطه حسين وأسرته في رحلة العودة إلى الوطن العزيز.
أحاديث الحرب
تسير الباخرة وتسري لا حديث لركابها إلا الحرب، وقد امتلأت نفوسهم خوفا منها وقلقا واضطرابا، والبحر منبسط هادئ في آخر الصيف وقبل مجيء الخريف، تتلقى مياهه أشعة الشمس الغاربة في سكينة وهدوء، والعميد يجلس على كرسي مريح على سطح الباخرة ومن حوله ولداه يجلسان على بعض أمتعة الركاب، التي غصت بها طرقات الباخرة، يرقبان الغروب.
تقول أمينة: «ليس لأهل هذه الباخرة حديث غير الحرب.» ويقول لها أبوها وهو يمشط شعرها بأصابع نحيلة مترفقة: «أنت لم تشهدي في عمرك الغض حربا من قبل يا ابنتي، لقد ولدت في آخر سنة من سني الحرب التي مضت فكان مولدك بشيرا بالسلام، أما أنا فقد مرت بي حروب كثيرة، في آخر طفولتي وأول الصبا، حين كنت أختلف إلى الكتاب، كنت أسمع سيدنا يسأل العريف عن أنباء الحرب بين الترك واليونان في القرن الماضي، وكانت أحاديث تلك الحرب تحمل إلى نفوسنا صورا ضئيلة مختلطة مشوهة تثير شيئا من الخوف الغامض والإعجاب المبهم، فقد كنا نسمع أعدادا ضخمة لا نحققها، ولكن قلوبنا تمتلئ لها روعا وإعجابا، وهي أعداد القتلى والجرحى من أولئك وهؤلاء، وكنا نسمع أسماء مدن وأماكن تصل إلى آذاننا، بعد أن تصيبها ألوان من المسخ والتشويه، فتثير في نفوسنا عاطفة من الطموح إلى غير ما كنا فيه والنزوح إلى دار أبعد من الدار التي كنا نقيم فيها. وكنا إذا خلونا إلى أنفسنا بعد الاستماع إلى هذه الأحاديث المشوهة تمثلنا صورا مختلطة من الروع والإعجاب، ووجدنا في تمثل هذه الصور شيئا من الرضا الذي كان يلائم خيال الصبا وحاجته إلى الطموح من ناحية وإلى العلم والمعرفة من ناحية أخرى، وقلما كنا نفرق بين أحاديث الحرب هذه وأحاديث أخرى، كانت تقص علينا في أعقاب النهار وأوائل الليل، وتملؤها الأخبار الهائلة التي كانت تلذنا بما تثير فينا من الإعجاب والروع، تتحدث إلينا ببلاء الأبطال حين يلقون الأهوال في الأساطير وقصص العجائز.»
وتسأل أمينة: «ألم يشترك في تلك الحرب أحد من مصر كما اشترك فيها من إنجلترا الشاعر لورد بيرون، الذي قرأت أن قلبه قد دفن في اليونان وأن بقية جسده دفنت في إنجلترا؟»
يقول طه حسين: «لا يا ابنتي، إن المصريين كانوا وقتذاك تحت الاحتلال الأجنبي، وكان أجدر بهم أن يحاربوا، إن حاربوا، لتحرير بلادهم.»
وتمر برهة ثم يستأنف الحديث يقول: «عندما تقدمت بنا السن شيئا إذا نحن نسمع أحاديث الحرب بين الإنجليز والبوير فنفهمها خيرا مما كنا نفهم الأحاديث الأولى، ولكننا لا نحقق من أمرها شيئا واضحا معقولا، وإنما هو الروع دائما والإعجاب أحيانا والخيال الذي يخلق لنفسه ما يشاء أو ما يستطيع من الصور دون أن تتصل أهواؤنا بهذا الفريق أو ذاك من المحاربين؛ لأننا لم نكن نعرف من أمر هذا الفريق أو ذلك شيئا.»
ويقاطع مؤنس أباه يقول: «كل ما بقي في رءوسنا من معلومات المدرسة هو أن فكرة تكوين فرق الكشافة لها صلة بتلك الحرب، حرب الإنجليز والبوير!»
ويقول العميد: «نسينا حديث تلك الحرب أيضا، ولكننا نسمع بعد حين أخبار حرب أخرى تثور في أقصى الأرض بين الروس واليابانيين، هذه الأخبار كنا نفهمها خيرا مما كنا نفهم غيرها، ونحس بما تحمل من الأهوال في قوة ودقة لم نكن نعرفها من قبل، ونسمع من حولنا أوساط الناس يختصمون في أمر المتحاربين، يختصمون بعقولهم وعواطفهم، ففريق يميل إلى الروس ويتمنى لهم الفوز، وفريق يميل إلى اليابانيين ويقدر لهم النصر.»
ويقول مؤنس: «وأنت يا أبي في أي فريق كنت؟»
ويقول طه حسين: «كنت في آخر الصبا وأول الشباب على هذه الحيدة، التي تنشأ مما يلائم طبيعة هذه السن من الغفلة والأثرة والإعراض إلا عما يمسنا من قريب، ولكن الأيام تمضي وإذا الحرب تنشب بين الترك والإيطاليين في شمال أفريقيا، في هذه الأرض التي تجاور بلادنا، فهي حرب قريبة منا، قريبة في المكان وقريبة في الشعور أيضا، فقد كنا شركاء الترك في الدين، وكنا شركاءهم في السياسة أيضا، هنالك تشترك عواطفنا في هذه الحرب، وتشترك أيدينا، وتشترك ثروتنا أيضا، فمنا المتطوعون الذين كانوا ينفرون خفافا وثقالا إلى الحدود، ومنا الباذلون الذين يمنحون ما يستطيعون من المال والمعونة.»
وتقول أمينة: «ثم تكون الحرب التي ولدت أنا في ظلها.»
ويقول العميد: «نعم، ولكنها كانت شيئا آخر بالنسبة لنا، عشنا، أمك وأنا، أعوامها على أرض فرنسا التي دمرتها تلك الحرب تدميرا، شهدنا انطفاء النور فيها وتخييم الظلام، ورأينا كيف سيطر الجبروت عليها والظلم، وكيف عرف ذلك البلد الجميل عنف الغزاة وذل الهزيمة، ولكنا شاهدنا أيضا شعبها الفرنسي يقاوم في يأس وفي بأس مقاومة عنيفة عنيدة لا تريد أن تستسلم للهوان حتى تحقق النصر لفرنسا وللحلفاء، فشهدنا الغزاة وقد ارتدوا خاسرين عن أرض المكافحين.»
ويخيم الصمت ويذبل نور النهار ويقول العميد: «إن الجو قد برد فالشمس قد غابت، وقد أهملنا أمكما طويلا وآن الآن أوان الدخول.»
تقول أمينة وهما يتركان سطح الباخرة إلى داخلها: «وهذه الحرب التي أعلنت منذ أيام؟»
يقول طه حسين: «لقد أنفقت الدول العظمى أكرم أموالها وبذلت غاية جهدها لتستعد لها بأقوى أدوات القتل والهلاك، وأغلب الظن أن نيرانها لن تنحصر في أرض المتحاربين.»
تقول أمينة: «لقد صنف هتلر أهل الأرض أصنافا وأنزلهم منازل، فجعلنا نحن المصريين في منزلة من أدنى المنازل!»
ويقول طه حسين: «أما الله - تعالى - فإنه لا يعرف فضلا لعربي على عجمي إلا بالتقوى.»
ويسود صمت تقطعه أمينة بقولها: «عندما كنا نتكلم عن حرب الروس واليابان قلت إنك كنت على حيدة تلائم ما كان لسنك الصغيرة في ذلك الوقت من غفلة وأثرة، ترى هل في الإمكان الآن أن تتقي مصر شر الحروب وتلتزم الحياد، أم ترى أن حيادنا سيكون غفلة وأثرة؟»
يقول طه حسين: «لسنا نعرف حتى الآن كيف سيكون موقف المتحاربين من مصر، سؤالك خطير والإجابة عنه لا تتيسر قبل أن نرى الأحداث كيف تتطور في هذه الحرب.»
وتصل الباخرة إلى شاطئ مصر بسلام، ويهرع ركابها إلى أرض الوطن والدموع تملأ عيون الكثيرين.
ويقول طه حسين لابنته وهو يبتسم: «هل تستطيعين يا ابنتي إعراب هذا البيت:
أنل قدمي ظهر الأرض إني
رأيت الأرض أثبت منك ظهرا؟»
ثم يقول: «طبعا لا، يمكنك أن تستعيني بأستاذك إبراهيم مصطفى فيما بعد، أما الآن فإننا نبدأ الرحلة إلى الزمالك، والحمد لله.» •••
وفي الزمالك في منزل طه حسين في شارع سير سكوت مونكريف مساء يوم من أيام الأحد في شهر ديسمبر 1939.
ليل ديسمبر شديد البرودة، والعميد يجلس على مقربة من المدفأة مع عدد من زملائه يتحدث إليهم بعد انصراف الكثيرين من زوار يوم الأحد.
يقول الدكتور محمد عوض محمد: «بعض الناس في مصر يرى أن نهاية بريطانيا العظمى قد اقتربت، ويرجو إذا حلت هذه النهاية أن تتحرر بلادنا وتتحرر فلسطين وعدن وبلاد الخليج.»
ويقول طه حسين: «عندما بدأ غزو الإيطاليين للحبشة عام 1935 ولاح شبح الحرب العالمية، كتبت خطابا لك - هل تذكر يا عوض ذلك الخطاب؟ - أتساءل فيه: هل تضعف الحرب الإمبراطورية البريطانية فترفع يدها عن أعناقنا وتنهي احتلالها لبلادنا؟ ولكن الذي حدث هو أن الحرب الإيطالية الحبشية زادت الاحتلال الأوروبي لبلاد العرب ثقلا وعنفا، وشددت من قبضته على قارتنا، ونحن الآن نسمع من برلين كلاما سخيفا وخطيرا عن امتياز الجنس الآري على بقية الأجناس، وليس لهذا الامتياز العنصري إذا انتصر أصحابه في الحرب العالمية إلا تطبيق واحد، وهو أن يحكم الشعب الممتاز بقية الشعوب.»
يقول الدكتور عوض: «يقال إن اليهود المصريين خائفون، وكثير منهم يحاول الهرب من البلاد.»
فيقول العميد: «إن ما يسمعونه عن معاملة الألمان ليهود ألمانيا والنمسا مزعج ومن شأنه أن يثير هذا الخوف. إن على مصر أن تحمي أهلها مسلمين ومسيحيين ويهودا، على أنه إذا كان بعض اليهود الذين يعيشون الآن في مصر يعتقد أنه سيكون آمنا على نفسه في مكان غيرها فإن هذا شأنه، إن بعض هؤلاء اليهود المقيمين في مصر لا ينتمون إلى أي جنسية ولا يحملون أي جوازات من أي بلد، وسوف يجدون أنفسهم في خطر شديد إذا دخل الألمان مصر، إن الموسيقي «تيجرمان» وهو يهودي بولندي، لا هم له إلا الموسيقى ولا اهتمام بغيرها، كان شديد الخوف والهلع يريد الفرار بنفسه من هلاك محقق يتخيله إذا دخل الألمان مصر، ولقد ساعدته مصر بالقدر المستطاع، وهذا هو التصرف الطبيعي فيما أحسب.»
ويسأل الدكتور محمد كامل حسين: «وماذا يكون موقف مصر إذن؟»
ويقول العميد: «إن مصر لا تطيق استمرار الاحتلال البريطاني ويجب أن تستمر في نضاله، ولكن عليها في نفس الوقت أن تدافع عن حدودها ضد كل احتلال آخر محتمل.»
ويسأل الأستاذ أمين الخولي: «أليس من الواجب أن يستعد الشباب في مصر فلا نفاجأ بالدعوة إلى الدفاع عن الحدود بغير استعداد؟»
طه حسين: «نعم، واجب، وواجب أيضا أن يكون الشيوخ قدوة للشباب في هذا الاستعداد.»
ويقول الدكتور محمد عوض: «إذن نتطوع في الجيش، ويجري تدريبنا نحن أعضاء هيئة التدريس، أنا والشيخ أمين ومن يشاء من الزملاء الكبار والصغار، تدريبا حقيقيا.»
العميد: «هذا جميل جدا إن كنتم جادين.»
ويتدخل الأستاذ إبراهيم مصطفى قائلا: «ألا يحسن بنا أن نحتاط قليلا؟ إن راديو برلين ...»
ويسأل الدكتور كامل حسين: «ما له راديو برلين؟»
ويقول العميد: «أنا فاهم يا كامل ما يقصد إليه إبراهيم، راديو برلين يهدد كل من يؤمن بالديمقراطية في العالم العربي، يهدد العقاد وطه حسين وآخرين بأحكام أبرمها ضدنا تصل إلى حكم الإعدام. على أن الاحتياط اللازم يا إبراهيم، وأنت خير من يعرف ذلك، هو احتياط المرء الشريف كي لا يقع في الخطأ أو يرتكب الشر أو يعصي الضمير.»
ويدخل الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وينهض العميد لاستقباله قائلا: «أهلا وسهلا، أنت قادم من الوزارة طبعا في هذه الساعة المتأخرة، إن النقراشي باشا قد حملك أثقالا لا شك أنك كنت تفضل عليها أثقال الفقه القديم والحديث.»
ويرد الدكتور السنهوري قائلا: «ومن قال إني تركت أثقال الفقه القديم والحديث؟ إنني مستمر - وأنوي الاستمرار - في تأليف كتاب عن طبيعة العقد».
ويقول العميد: «عظيم، عظيم! وقديما قال الشاعر:
والعبء ليس مضاعفا لمطية
إلا إذا ما كان وهما بازلا»
ويرد الدكتور السنهوري قائلا: «لا بد، قبل الشكر أو العتاب، أن نبحث أولا ألفاظ ومعاني هذا البيت؛ إن المصريين يمدحون الرجل بأنه جمل، ولكن الفرنسيين، لسبب ما، يعتبرون وصف الرجل بأنه جمل من أوصاف السباب، وفي اللغة العامية عند الفلاحين المطية معناها ...»
ويرد العميد بأن المذهب العربي الفصيح هو المقصود، وهو واجب التطبيق في هذه الحالة، ويقول: «كثيرا ما حذرتكم من اللغة العامية! على أنك قد حضرت متأخرا ولا بد من توقيع جزاء عليك، وهو أن تبقى معنا لتشاركنا عشاءنا البسيط.»
وبعد العشاء يجلس الأساتذة طه حسين، والسنهوري، وعوض، وكامل حسين يتحدثون.
يقول طه حسين: «منذ بدأت الحرب وأنا مشغول بأخبارها، إذا قرأت فأنا أقرأ ما يتصل بالحرب وأهوالها وأثقالها، فلا أجد في قراءته لذة ولا رضا، ولذلك فإنني أنصرف عنها إلى قراءات أخرى.
أقرأ ما كتب القدماء من العرب وغير العرب فأنسى الحياة الحاضرة.
وإذا قرأت في الفرنسية فإنما أقرأ مونتي ورابليه وبلزاك وفلوبير. وإذا قرأت في العربية فإنما أقرأ في الأغاني والكامل والجاحظ ودواوين الشعراء الجاهليين والإسلاميين، فأما المعاصرون فلست أقرأ لهم إلا في الرسائل التي يعدها طلاب الكلية لنيل الدرجات الجامعية.»
ويقول الدكتور السنهوري: «أنا بين كتاب «العقد» وبين أعمال وزارة المعارف لا أجد وقتا للرضا ولا للسخط. على أنه يخيل إلي أنه لا بد من أن يكون لنا موقف مما يجري في العالم حولنا، ولا بد من إعلان هذا الموقف.»
ويقول طه حسين: «عندك حق، ولقد طلب إلي أعضاء نادي القلم المصري إعداد نقط يمكن على أساسها اتخاذ موقف وإعلانه، وهذه مسودة بأربع نقط، هل تقرؤها يا عوض؟»
ويقرأ الدكتور عوض المسودة التي يعطيها له طه حسين، ونصها:
أولا:
نحن نعتقد أن أول ما يجب على المفكر اليوم هو أن يقاوم الحرب بكل ما يملك من قوة معنوية، وأن يحافظ ما استطاع على القيم الخلقية التي كثر ازدراؤها في هذه الأيام، والتي تكفل وحدها للعالم الاستمتاع بالعدل والسلام.
ثانيا:
ويجب أن نبغض الحرب إلى الناس، لا بإظهار آثام القادة الذين يتحملون تبعاتها فحسب، بل ببذل المعونة المعنوية دائما، والمادية عند القدرة والاستطاعة، للذين أصابتهم كوارثها، هذه هي مهمتنا العاجلة.
ثالثا:
ويجب أن نحرص على حماية حرية الفكر، ورعاية ما ينبغي لها من حرمة، ولكننا نشعر بأن هناك خطرا يجب اتقاؤه، فإن التوفر على حماية الحرية من أعدائها الخارجيين ربما شغل الناس عن حمايتها من خصومها الداخليين، ومن أجل هذا نعتقد أن الظروف تقضي في هذه الأيام أكثر مما قضت في أي وقت آخر بتحقيق التوازن الصحيح بين حق الفرد في الحرية وحق الوطن في أن نحميه من كل عدوان.
رابعا:
أما تنظيم الحياة العالمية بعد الصلح فأمر من حق كل مواطن أن يفكر فيه من حيث هو مواطن، ويخيل إلينا أن حق الكاتب فيه كحق غيره من أبناء الوطن.
وقد وصلت الإنسانية من الحضارة إلى منزلة أصبح الإقدام فيها على العنف جحودا لسلطان العقل وانتهاكا لحرمته، وما دام الرجوع إلى التحكيم ممكنا في كل ما ينشأ من المشكلات الدولية فالالتجاء إلى الحرب رجوع إلى الهمجية القديمة.
ونحن نعتقد أن تحقيق الإيمان العام بحرمة القوانين رهن بأن تتعاون جماعات المفكرين على إحياء الضمائر وتقوية الشعور بقيمة العقل.
ويقول الدكتور كامل حسين، بعد أن انتهى عوض من القراءة: «عظيم جدا».
ويقول الدكتور السنهوري: «إنها أربع نقط جمعت حقيقة فأوعت، وأنا أرى أن تعلن كما هي باعتبارها رأي نادي القلم المصري بعد عرضها على الزملاء في اجتماع عاجل.»
ويستمر الحديث بعد ذلك حول الحرب وتطوراتها ومركز مصر فيها، ومركز مصر بعدها، وعلاقة الجامعة وأساتذتها بكل ذلك، إلى أن ينصرف الزوار ويبقى طه حسين وأسرته فقط. •••
ويجلس طه حسين مع أسرته بجوار النار بعد انصراف الضيوف.
وهو يقول لزوجته: «تذكرين يا سوزان وظيفة مكتب الترجمة والنشر العلمي في وزارة المعارف التي ظل الوزير ورئيس الوزارة يعرضانها ويحجبانها شهورا طويلة منذ نحو سبعة عشر عاما؟»
وترد سوزان: «نعم، الوظيفة التي ضيعتها، كعادتك، بمقال!»
ويقول طه حسين: «نعم، غضب الملك فغضب الوزير فصرف النظر عن تعييني، ثم ألغى المنصب ثم ألغى المكتب.»
وتسأل سوزان: «ولماذا تذكر هذه الوظيفة الآن؟»
ويرد طه: «لأن وزير المعارف الحالي قد طلب إلي تولي منصب جديد اسمه «المراقب العام للثقافة العامة» بالوزارة.»
وتسأل سوزان: «فقبلت؟»
ويرد طه: «اعتذرت وتشددت في الاعتذار، وألح الوزير وتشدد في الإلحاح.»
وتتدخل أمينة فتقول: «غير معقول، والكلية، والعمادة، وعملك فيها وفي التأليف؟!»
ويرد طه: «عملي في الكلية وفي التدريس وفي التأليف مستمر إن شاء الله، أما العمادة فإن هناك زملاء آخرين كثيرين يستحقون أن يشغلوا ذلك المنصب، وأغلب الظن أنهم يتطلعون إلى أن يشغلوه ... والعمل الجديد هام وخطير، وفيه فرصة لتحقيق أفكار في التعليم سجلت بعضها في كتاب «مستقبل الثقافة في مصر»، وبالطبع فإن «إدارة الترجمة والنشر العلمي» سوف ترى النور إذا توليت هذا المنصب كإدارة من الإدارات التابعة له، ولدي برنامج ضخم أتمنى تحقيقه في هذا المجال، وأنا أرجو التمكن من إنشاء أكاديمية مصرية تكون الجمعيات العلمية والأدبية التي تعينها الدولة الآن نواة لها، وهذه الأكاديمية يمكن أن يكون لها دور خطير في حياتنا الثقافية المصرية والعربية، وهناك إدارات الآثار المصرية والرومانية والقبطية والإسلامية، وسوف تندرج تحت هذه المراقبة، وعلينا أولا واجب تمصير ما يشغله الأجانب حاليا من مناصبها، وعلينا ثانيا تنشيط العمل الذي تقوم به لإلقاء مزيد من الضوء على حضارتنا ودورها في مسيرة الحضارة الإنسانية مع ضرورة اتخاذ كل التدابير اللازمة لصيانة آثارنا وترميمها، وتشجيع وتنظيم البحث عن المزيد منها.
وكل هذا عمل ضخم يستحق وزارة كاملة ... وهناك أيضا شئون المسرح والموسيقى والأوبرا، وهي مما يدخل في أعمال هذه المراقبة ... وإلى جانب هذا كله فإن وجودي في وزارة المعارف نفسها قد يعين في السعي لتحقيق حلمي الكبير وهو مجانية التعليم مع رفع مستواه والعمل على الملاءمة بينه وبين حاجات المجتمع وطموحاته. إن هذه المجانية هي في رأيي حجر الأساس في بناء النهضة المصرية، لقد تلقيت منذ يومين خطابا من والدي يرجوني فيه مساعدة صبي من المنيا، عظيم الذكاء وعظيم الفقر أيضا، في الحصول على المجانية، ولقد استطعت مساعدته، لكني أريد أن أساعد أيضا من لا يعرفهم أبي ومن لا أعرفهم أنا، لا أريد أن أحرم صبيا من العلم، ولا أريد أن أحرم مصر من أبنائها، من يدري ماذا يمكن أن يقدموا لبلادهم من النفع إن هم لقوا من فرص التعليم ما لقيت أنا مثلا؟»
وتقول سوزان: «بالاختصار، أنت لا تطيق الحياة المريحة، أنت لا تطيق الحياة بغير تعب.»
ويرد طه بعد سكوت قصير: «ليس هذا هو التصوير الصحيح ... قولي إنه على قدر عرفاني بجميل مصر علي أريد أن أبذل ما أملك من الجهد للوفاء بهذا الجميل.
أنا أحلم منذ زمن ولا أريد أن أكتفي بأن أحلم، أريد أن أعمل لتحقيق الحلم، أنا أحلم بنهضة مصر وسائر الشعوب العربية بخروجها من ظلام الاحتلال والانغلاق، أريد أن يكون في يد كل صبي مصباح يضيء له الطريق، هل تشاهدين إذن هذا الموكب الذي تكونه آلاف المصابيح في أيدي آلاف الصبية في أوطاننا على تراميها واتساعها؟ أريد ... أنا أريد باختصار أن تتاح لكل صبية الفرصة التي أعطيناها لأمينة، ولكل صبي الفرصة التي أعطيناها لمؤنس.»
وتقول أمينة، التي كانت تنصت إلى هذا الحوار، وهي تحاول أن تخفي تأثرها: «أنت قد عقدت عزمك على قبول هذا المنصب، ستكون إذن المراقب العام للثقافة العامة في وزارة المعارف العمومية! أرجو على الأقل أن تحاول تغيير هذا اللقب الطويل، إنه يثير الابتسام.»
وتقول سوزان: «أمينة عندها حق، أنت لا تطلب رأيي، أنت مصمم على التعب، أنت إنما تخطرني بأنك قد قبلت فعلا هذا العمل.»
يقول طه حسين: «أبدا، إنك تقولين دائما إن الليل يقبل بالنصيحة، سأنتظر إذن نصيحتك إذا كان الصباح.»
المراقب والمستشار
مكتب المراقب العام للثقافة العامة، يناير 1940، المكتب مزدحم، الأستاذ «محمد بدران» مدير إدارة الترجمة يعرض على طه حسين قائمة الكتب الأجنبية التي اختارتها إدارته لترجمتها، وطه حسين يقول: «بالتوفيق إن شاء الله! وفيما يخص المترجمين لا يكفي أن يكون المترجم متضلعا في اللغة المنقول عنها وفي اللغة العربية، لا بد أن يكون عليما بقدر الإمكان بموضوع الكتاب، تعرف يا بدران ماذا يقول الإيطاليون؟ إنهم يقولون إن المترجم خائن، يعنون أن النقل غير الدقيق يعتبر خيانة.» ويؤكد الأستاذ «محمد بدران» للمراقب العام أن الإدارة ستراعي بقدر الإمكان عند اختيار المترجمين مقدرتهم في اللغتين ومعرفتهم بالموضوع، ثم يستأذن في الانصراف سعيدا بموافقة المراقب العام للثقافة على رأي إدارة الترجمة.
ويدخل مسيو «إتيين دريوتون» مدير مصلحة الآثار المصرية، ويتقدم لعرض الموضوعات التي لديه، وبعد عرضها وأخذ رأي المراقب فيها يقول طه حسين لمدير إدارة الآثار المصرية: «أحب أن تدرس المصلحة إنشاء قسمين جديدين بها؛ الأول: قسم للنشر يشرف على إصدار مجلة المصلحة ومنشوراتها، ويكون أداة اتصال بين المصلحة والهيئات العلمية داخل مصر وخارجها. والقسم الثاني: يختص بالحفائر التي يجب أن يزداد اهتمام المصريين بالقيام بها.» ويعد مسيو دريوتون بأن يقدم مذكرة برأي المصلحة في الموضوعين في المقابلة القادمة، ويستأذن في الانصراف ولكن طه حسين يستبقيه ليتحدث معه في موضوع آخر مهم وهو تدريب من يتولون مسئولية المصلحة في المستقبل.
يقول طه حسين للمدير: «إن مصر التي تشكر أصدق الشكر من عاونها في الماضي ومن يعاونها حاليا من الأجانب، لا بد أن تتحمل مسئولياتها بنفسها في الوقت المناسب وبغير تأخير، ولعل ذلك أن يكون بمجرد انتهاء هذه الحرب، وأنا واثق أنك ستكون فخورا بمن يحل محلك من المصريين.» ويقول مسيو دريوتون في هدوء: «هذا موضوع أعرف أهميته، وسأعود للتحدث فيه معكم، ولا شك لدي في أنني سأكون فخورا بمن يخلفني في هذا العمل من المصريين.» ثم يضيف: «أظن أن مسيو فييت منتظر، أستأذن إذن.»
ويدخل مسيو «جاستون فييت»، مدير إدارة الآثار العربية، يتقدم ويقول: «أود أولا أن أهنئكم بظهور ترجمة نرويجية لكتابكم «الأيام»، لقد أرسل المترجم نسخة من ترجمته إلي لأنه استعان بترجمتي الفرنسية، وأنا أقدم هذه النسخة إلى سيادتكم، وإن كنت واثقا أن النرويج سترسل لكم نسختكم الخاصة، إن لم تكن قد أرسلت فعلا.»
ويرد طه حسين قائلا: «هذا جميل، وشكرا جزيلا، لم أعد أحصي الترجمات المختلفة لهذا الكتاب، ولكن نترك هذا الآن. وقبل أن أعرف ما لديك اليوم أحب أن أقول إني سمعت أن دار الآثار العربية مزدحمة وأن بعض آثارها لم يعرض أبدا على الجمهور حتى قبل الحرب، بل لقد قيل لي إن بعضها لم يتم تسجيله، ونحن طبعا في ظروف الحرب، وعندكم إجراءات استثنائية لحفظ الآثار من الأخطار، ولكني أريد تقريرا عن حالة المصلحة كما هي، وحالتها كما تقترحون أن تكون بعد خمس سنوات، وعن الممكن عمله الآن هذه السنة، في هذه الميزانية. إن الناس، يا مسيو فييت، تظن أن دار الآثار الوحيدة الموجودة في مصر هي «الانتكخانة» أي دار الآثار المصرية، والواقع أن لدينا في القاهرة أكبر دار للآثار الإسلامية في العالم.»
ويقول المدير: «الدار طبعا ومحتوياتها معروفة لعلماء الآثار العربية في جميع أنحاء العالم.»
ويرد طه حسين قائلا: «هذا لا يكفيني، أريد أن تكون دار الآثار العربية معروفة أولا لكل المصريين وثانيا لكل زوار مصر، بل إني أريد أن يزور الناس مصر لكي يروا دار الآثار العربية. أرجو أن أتلقى قريبا التقرير المطلوب بتصورك لكيفية تقدم وتطوير الدار في المستقبل، الحرب ستنتهي يوما، الحرب تخريب ينتهي والآثار شهود حضارة خالدون ... موضوع آخر: أحب أن أعرف اقتراحاتك بشأن إعداد المسئولين المصريين عن الآثار العربية في المستقبل.»
ويردد المدير - الذي لم يكن يتوقع هذا الحديث - كلمة «المسئولين»
ويقول طه حسين: «لم أتم حديثي يا مسيو فييت ... إنني أعرف كفاءتك وأقدر مجهودك أجمل تقدير، وقد سبق أن درست أنا على يديك في جامعة مصر الأهلية كما تعلم، ولكني كنت أقول لمسيو دريوتون منذ قليل إنني واثق أنه سيكون فخورا بمن يخلفه من المصريين عندما يجيء الوقت المناسب، وأنا أقول لك نفس الكلام، نحن نريد أن نعطي مصلحة الآثار العربية نفس نصيب مصلحة الآثار المصرية من الاهتمام.»
ويعود المدير بعد صمت قصير فيقول: سأعد التقارير التي طلبتموها، وبمجرد الانتهاء منها أعود لمقابلة سيادتكم.
ويقول له طه حسين: «إلى اللقاء إذن، وشكرا.»
ويخرج مسيو «فييت»، ويستدعي طه حسين أحد معاونيه من شباب تلاميذه، وكان قد اختاره ليعمل معه في الجامعة وفي الوزارة.
يقول طه حسين: «كنت تحدثت مع الوزير عن إنشاء أكاديمية مصرية، وأريد أن تجمع بعض البيانات لإعداد مذكرة تقدم للوزير، عليك أولا أن تطلب إلى الإدارة المختصة بيانا بجميع الجمعيات العلمية والأدبية التي تعينها الوزارة حاليا وبرامج عملها ونشاطها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وثانيا أن تعد لي بنفسك بحثا عن الأكاديميات في فرنسا وروسيا وإنجلترا وألمانيا، وعندما تجمع هذه المعلومات تتعرض لبحث إمكان إنشاء الأكاديمية المصرية، وتوضح تصورك لها حسبما تحدثنا فيما مضى، إن في التاريخ العربي مؤسسات مماثلة سبق العرب بها العالم الحديث؛ بيت الحكمة في عصر المأمون مثلا.» ثم يقول مخاطبا سكرتيره: «أظن الساعة جاوزت الاثنين، ننصرف؟»
ويقول السكرتير: «في الخارج طالب من كلية الآداب اسمه إسحاق، تكلم معكم وأخذ ميعادا بالتليفون، ويقول إنه لن يأخذ من وقتكم إلا دقيقة.»
ويرد طه حسين: «خمس دقائق، نعم، أعطيته موعدا بالتليفون، قال إن بعض طلبة كلية الآداب سوف يصدرون صحيفة اسمها «الفكر الحر»، ويطلب حديثا ...»
ويدخل الطالب، وهو محمد عبد العزيز إسحاق، فيقول: «إن الوقت متأخر يا سيادة العميد ... سؤال واحد إذن: هل يصلح الأديب للوزارة؟»
ويبتسم طه حسين ويقول: «ولم لا؟ لقد كان وزراء الدولة العربية في أرقى عصورها من الأدباء، وفي الدولة المتحضرة في العصر الحديث نجد وزراء مثل دزرائيلي في إنجلترا وهو أديب بارع في القصص، ونجد بوانكاريه في فرنسا وهو لم يصل إلى منصب الوزير فقط بل إلى رئاسة الجمهورية، وكليمنسو الطبيب الأديب الوزير، وإدوارد هربو الذي رأس الوزارة عدة مرات، ووزير الأشغال الحالي في فرنسا الذي يشرف على دائرة المعارف الفرنسية الجديدة.
ليس السؤال الذي سألتموه موضوعا كما ينبغي، السؤال الذي يجب أن يلقى هو هل يصلح غير الأديب أن يكون وزيرا؟
إن نظام الحكم الديمقراطي يريد من الوزير أن يكون عالما بنفس الجماهير قادرا على التحدث إليها وتوجيهها، بارعا في الخطابة أمام الشعب وأمام البرلمان ... الأدباء أحق الناس بأمور السياسة وأبرعهم في تصريفها، يشهد لهم بذلك التاريخ منذ بركليس إلى محمد بن عبد الملك الزيات إلى جوته إلى كليمنسو.»
ويشكر عبد العزيز إسحاق أستاذه العميد، ويستأذنه في نشر السؤال ورده في العدد المقبل من مجلته «الفكر الحر».
ويقول طه حسين: «خير، وعلى فكرة كم عددا توزع مجلتكم؟»
ويرد إسحاق: «وصلنا إلى أعداد كبيرة، نحن الآن نوزع أكثر من مئتي نسخة!» ويبتسم الأستاذ العميد في حب وحنان وإشفاق! •••
وفي آخر فبراير 1941 يتولى هيكل باشا وزارة المعارف من جديد.
ويتحدث طه حسين مع هيكل، إنه راض عن طبيعة عمله في وزارة المعارف، لكنه غير راض عن نظرة الوزارة نفسها إلى شئون الثقافة، يقول إنه لذلك كان قد رفع استقالته إلى النقراشي باشا فرفضها، وفوجئ طه حسين بتعيين الوزير الجديد، فلم يجد من الذوق أن يترك العمل بمجرد تولي الدكتور هيكل منصب الوزارة، وهيكل يذكر طه حسين أنه هو نفسه كان أول من اقترح أن يتولى طه حسين أمور الثقافة بالوزارة، وهو الآن يطلب إليه أن يستمر في تحمل هذا العبء، وأن يضيف إليه عبئا آخر وهو أن يكون مستشارا فنيا للوزارة.
ويترك هيكل الوزارة قبل إتمام الإجراءات اللازمة، ويحل محله أحمد نجيب الهلالي باشا، فتتم في عهده إجراءات تعيين طه حسين مستشارا فنيا لوزارة المعارف.
ويدخل طه حسين مستشار وزارة المعارف مع سكرتيره فريد شحاتة الغرفة الجديدة التي خصصتها الوزارة للمستشار.
ويقول السكرتير: «هذه الغرفة أوسع وأحسن للعمل، وتليق بمقام سيادة المستشار.»
ويرد طه حسين: «كلام فارغ، المهم العمل ... ماذا عندنا اليوم من المواعيد؟»
ويقول السكرتير: «عندكم موعد مع الوزير بخصوص جامعة الإسكندرية بعد ساعة، ولكنكم كنتم قد طلبتم مدير إدارة البعثات وهو في الانتظار»، فيدعوه المستشار للدخول.
ويسأله: «موضوع محمد حسن ظاظا المطلوب إيفاده لدراسة اللغة العبرية في فلسطين ماذا يعطله؟ كليته موافقة والجامعة موافقة والميزانية موجودة، لماذا لا تتخذ إدارة البعثات إجراءات التنفيذ؟»
مدير البعثات :
قانون البعثات لا يسمح، القانون يحدد الدول التي يمكن إيفاد البعثات إليها حصرا، وهي: بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، النمسا.
طه حسين :
تعني أن القانون لم يذكر فلسطين؟
مدير البعثات :
نعم، بلاد البعثات محددة بالقانون.
طه حسين :
أعد إذن ذكر البلاد المسموح بإرسال البعثات إليها.
المدير :
بريطانيا، فرنسا ...
طه حسين (يقاطعه) :
تقول بريطانيا؟ إن فلسطين تحت الانتداب البريطاني أليس كذلك؟ إذن تكون بعثة ظاظا إلى بريطانيا وتحدد بالجامعة العبرية في فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني، وبهذا لا نخالف قانون البعثات، يعد القرار غدا مع مذكرة بهذا الشرح.» وينصرف مدير البعثات وهو بين الإعجاب بهذا الحل وبين الشك في سلامة هذا التصرف!
ويقول طه حسين للسكرتير بعد انصراف مدير البعثات: «الآن أريد دوسيه جامعة الإسكندرية بالكامل، وإلى أن تحضر الدوسيه أريد أن أكلم وزير المالية في موضوع الدكتور أحمد زكي.»
يقول السكرتير: «إن الدكتور أحمد زكي لم يتكلم معكم في شيء.»
ويقول طه حسين: «أعرف ذلك، وهل يضطر الرجل الكريم إلى أن يتحدث بحاجته إلى الناس؟»
ويتحدث طه حسين إلى وزير المالية، مكرم عبيد باشا، فيقول: «صباح الخير يا باشا، أنا أزعجكم بأمر بسيط ولكن يظهر أنه لا بد من التحدث مع معاليكم فيه، الدكتور أحمد زكي، عميد كلية العلوم، له ترقية طلبتها الجامعة ووزارة المالية.»
ويسمع كلام الوزير ثم يقول: «يا باشا، إذا كان الوزراء لا يعرفون أسماء العلماء فإن هذا أمر لا يعيب العلماء، بل لعله يعيب الوزراء، شاكر جدا يا باشا، الموضوع بين يدي معاليك.»
ويضع سماعة التليفون، ويقول: «معالي وزير المالية يسأل من هو أحمد زكي هذا! أحمد زكي عميد كلية العلوم، العالم، الأديب، الرجل الكريم.» •••
ويقول السكرتير: «إن مدير المستخدمين يلح في الدخول قبل ذهابكم لمقابلة الوزير، إنه محتاج إلى دقيقتين فقط»، ولكن طه حسين يطلب أن يقرأ عليه أولا خطابا واردا من الأمير عمر طوسون، وفي هذا الخطاب يقدم الأمير شكره لأن طه حسين يعمل على إنشاء كرسي للدراسات السودانية بالجامعة، وطه حسين يقول: «سأمليك ردا بعد موعدنا مع الوزير.» ثم يأذن لمدير المستخدمين بالدخول.
يدخل مدير المستخدمين مبتهجا، ويقول إنه قد وجد ثلاث وظائف درجة سادسة للعائدين من البعثات الذين كان المستشار قد تحدث معه في شأنهم.
يقول طه حسين مهتما: «نعم، كنت تحدثت معك في ذلك أول أمس، وقد أخبرتني أنه لا توجد وظائف خالية بتاتا.»
ويضحك مدير المستخدمين وهو يقول: «دبرت هذه الدرجات بصعوبة بالغة، معالي الوزير قال لي: تطلع هذه الوظائف من تحت الأرض، يظهر أنه أراد تنفيذ رغبات سعادتك، طلعناها من تحت الأرض، سنعد قرارات التعيين للشبان الثلاثة، وأنا أستأذن للذهاب للتنفيذ، وإنما أردت أن أدخل السرور على قلب سعادتكم.»
ويقول الدكتور طه: «لا، انتظر، لماذا لم تطلع هذه الوظائف من تحت الأرض عندما تحدثت معك في هذا الموضوع أول أمس؟ هؤلاء الشباب بذلوا أقصى جهدهم في مصر، والدولة صرفت عليهم مصروفات طائلة في أوروبا، وكان من الحق أن توظفهم الدولة قبل سفرهم للبعثة ولكن القوانين كانت تقضي بألا يوظفوا إلا بعد أن يعودوا ... وقد حاولت أن أوضح لك أنهم قد تحملوا من عبء الدراسة في الخارج ما تحملوا، ومن أهوال الحرب ما فرضته البعثة عليهم، وأن عدم تعيينهم خسارة على البلد، وأكدت أنت لي أنه لا توجد أي درجات، ولا أي طريقة لتدبير الدرجات لا فوق الأرض ولا تحتها، أليس كذلك؟»
ويرد المدير بأنه لما رأى رغبة الوزير القوية، ولما قال له الوزير الدرجات تطلع من تحت الأرض ...
ويقاطعه طه حسين بقوله: «يا سيادة المدير، هل معك ورقة وقلم؟ اكتب إذن قرارا بخصم يومين من راتب السيد مدير المستخدمين، نظرا لأنه كذب على مستشار الوزارة.»
ومدير المستخدمين يكتب ما أملاه المستشار مبتسما، معتقدا أن الموضوع مداعبة، ولكن المستشار يطلب إليه أن يعطي الورقة للسكرتير لتأخذ مجراها، ويخبره أنه في انتظار قرار تعيين الشبان الثلاثة قبل ظهر الغد. •••
يدخل طه حسين مكتب الوزير أحمد نجيب الهلالي باشا فيجده مشغولا بالحديث بالتليفون، ينهي الوزير الحديث بقوله لمحدثه: «أرجو سرعة إبلاغي بالتطورات»، ثم يقول للدكتور طه ووجهه مكفهر: «أخبار سيئة، باريس سقطت في يد الألمان.»
ويقول الدكتور طه: «باريس؟!»
ويرد الوزير: «نعم، وانتهى الأمر.»
ويقول الدكتور طه بعد صمت قصير: «لا لم ينته، لقد شهدت أنا كيف قاوم الشعب الفرنسي وصمد أثناء الحرب العظمى الأولى، حرب 1914. هذا الشعب يتمتع بحرياته منذ ثورة الباستيل، ولديه إذن ما يدافع عنه، تقول معاليكم إن الأمر انتهى! هل يحكم هتلر العالم إذن؟ هل تحكم العنصرية العالم؟ هل نعيش خدما للسادة الذين يسمون أنفسهم الآن بالآريين؟ ومن هم؟ أهل الهند وأهل إيران القدامى هم أصل الآريين ... ولماذا - تعالى الله - هم السادة ونحن الخدم؟
لا، إن الأمر يا معالي الوزير لم ينته، باريس والديمقراطيات ستقاوم، والعالم سيقاوم.»
ويسأل الوزير: «هل نؤجل موضوع جامعة الإسكندرية اليوم؟»
طه حسين: «لا، ولماذا نؤجله؟ إنني أحمل المشروع المفصل للجامعة الجديدة كما تصورناها معا لتدرسه معاليك على مهل، وقد أرفقت به مشروعات القرارات اللازمة لتنظر فيها وتمضيها إن وافقت. وأنا أستأذن في الانصراف الآن على أن أعود للحديث عندما تجد الفرصة لقراءة المشروع والقرارات في هدوء.» •••
وفي منزل طه حسين بالزمالك ...
يسرع طه حسين إلى زوجته يقول لها: «تبكين؟ سمعت الأخبار إذن؟» وترد سوزان: «باريس تحت قدم الألمان ...»
ويقول طه حسين: «شوارع باريس تحت أقدام الألمان، نعم، ولكن باريس والباريسيين لا، لقد شهدنا معا كيف قاومت فرنسا نفس هؤلاء الغزاة في حرب 1914، تذكرين؟»
وتقول سوزان: «أمي وأختي كانتا قد خرجتا من باريس مع الخارجين الهائمين على وجوههم ينامون في المدارس والكنائس أو في الطرقات ...
آخر ما سمعته عنهما أنهما توقفتا في الطريق وامتنعتا عن السير مع الفارين، وقررتا العودة إلى بيتهما في باريس، وإذن فهما الآن هناك تحت سيطرة الألمان، أمي في آخر خطاب قالت لي إن الموت بكرامتنا في باريس خير من الذل الذي يتعرض له الهاربون.»
ويقول الدكتور طه حسين: «لا موت ولا ذل، فرنسا ستقاوم، الأحرار سوف يقاومون دائما، ألا تذكرين؟
ألا تذكرين أن الألمان سبق أن دخلوا فرنسا في الحرب العالمية الأولى، وأن كثيرا من هؤلاء الألمان التعساء لم يخرجوا من فرنسا أحياء؟» •••
طه حسين، في مكتبه بوزارة المعارف، يملي مذكرة إلى الوزير:
تفضلتم معاليكم فطلبتم إلي أن أبدي رأيي في المؤتمر الثقافي الذي فكرت الوزارة في عقده، ليس من شك في أن التقريب الثقافي بين البلاد الشرقية، والبلاد العربية خاصة، غرض أساسي يجب أن تسعى إليه الوزارة، وليس من شك في أن المصلحة في التقريب بين برامج التعليم العام في كل البلاد العربية، ولكني أرى أن تحقيق هذه الفكرة الآن لا يحتاج إلى مؤتمر بالمعنى الشائع لهذه الكلمة، ولكنه يحتاج إلى لجنة محدودة العدد تمثل فيها البلاد العربية لتدرس مناهج التعليم العام في هذه البلاد درسا دقيقا، تهدف به إلى توحيد هذه المناهج في الموضوعات الثقافية التي لا يمكن الاستغناء عنها في أي نوع من أنواع التعليم، وإلى التقريب والملاءمة في مناهج الدراسات التي تتصل بالأوطان ...
التليفون يقطع الإملاء والسكرتير يقول إن المحادثة عاجلة.
كان سلاح الطيران المصري الناشئ يعمل في الصحراء الغربية يعاون الجيش الإنجليزي في عمليات الاستطلاع، ومن بين ضباط هذا السلاح شاب هو ابن السيدة زينب أخت الدكتور طه حسين، كان قد خرج في «طلعة» من طلعات الطيران ولم يعد، وزارة الحربية أعلنت والدته اليوم رسميا أنه قد قتل.
يترك طه حسين الإملاء ويغادر الوزارة ليذهب إلى شقيقته ليواسيها ما استطاع، وهو ثائر لأن مصر تقدم مثل هذه التضحيات لحساب غيرها؛ لأننا ما زلنا خاضعين لاستعمار يسيطر على أرضنا ومائنا وسمائنا، وتسفك من أجله دماء مثل دماء هذا الفتى الفقيد.
وتزداد الحالة خطورة في الصحراء الغربية، ويصبح وصول جيوش رومل إلى دلتا النيل احتمالا قائما يدبر الجيش البريطاني الخطط لمواجهته، ومن ذلك اقتراح إغراق مديرية البحيرة لوقف الزحف إذا اقترب الألمان من الدلتا.
والوزراء المصريون يتحدثون في اهتمام شديد عن الحالة وواجب مصر إزاءها، وطه حسين قوي الإيمان بأن العدوان سيرتد عن البلاد.
في 18 نوفمبر 1941 يسمع طه حسين صوت فرنسا الحرة من لندن، صوت الجنرال «شارل ديجول»، وهو معجب بصموده أشد الإعجاب.
وتتوالى بعد ذلك أخبار المقاومة من الشعب داخل فرنسا ومن جيش فرنسا الحرة في أفريقيا، ويعرف أن عناصر من جيش فرنسا الحرة قد انضمت إلى قوات الحلفاء في الشرق الأوسط.
ويصل الجنرال ديجول إلى مصر، ويلقي خطابا في الجامعة الأمريكية ويتحدث في راديو القاهرة، ويرحب به طه حسين هناك. •••
تصل برقية من مدينة المنيا بأن والد طه حسين في خطر، فيعلم طه حسين أنها إنما تنعي إليه أباه. كان أبوه يعيش في مدينة المنيا منذ حين حياة هادئة لا تعكر صفوها العلل ولا المشاكل، راضيا مستريح الضمير، فقد عمل لرضاء ربه غاية وسعة، وبذل في رعاية أسرته الكبيرة غاية جهده، وقد بلغ الخامسة بعد المئة من العمر، فهو سعيد بحياته الطويلة ، عزيز بأولاده، فخور بما أصابوا في حياتهم من توفيق ونجاح.
طه حسين مشغول الفكر بوالدته، يسرع بالشوق والحنان إليها، يعرف عمق ما تحس من الألم والأسى لفقدانها رفيق حياتها وشريك الكفاح.
يسرع إلى مدينة المنيا في أول قطار، فإذا أصبحت أمه بين ذراعيه سالت دموعها لا تحاول الآن أن تجففها، وهي التي يعرفها قوية عنيدة قصية الدموع، بكاؤها الآن يوقف كلماتها وهي تقول لابنها: «كان أكرم الرجال، كان خير الأزواج، كان أشد الآباء برا وحنانا، كان يقول عنك يا طه إنك تمشي بنور الله، في سبيل الله، وإنه - تعالى - منك قريب مجيب.» •••
كثير من المصريين والأجانب يترك مصر، البريطانيون يحرقون أوراقهم، الراديو الألماني يذيع أن الهدف التالي للجيوش الألمانية في الصحراء الغربية هو قناة السويس، ويذكر أسماء الأشخاص الذين تقرر عقابهم عند دخول مصر، منهم عباس محمود العقاد، وطه حسين. •••
الوزير أحمد نجيب الهلالي في مكتب المستشار يعزيه، يتحدثان بعد ذلك عن الحالة في مصر، يسأل الوزير طه حسين: «هل هناك أي رغبات يمكن أن تعاون الوزارة على تحقيقها؟»
طه :
طبعا، الطلبات الخاصة بجامعة الإسكندرية وميزانيتها.
الوزير :
لم أكن أتكلم عن الميزانية ولا عن الجامعة ...»
1
طه حسين :
يا معالي الوزير
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت
أنا لا أتكلم إلا عن الميزانية وعن الجامعة.
ويطيل الوزير السكوت ثم يقول: «نكتب للمالية.»
فيرد طه حسين: «هذا مشروع خطاب من معاليك لوزير المالية بالمطلوب. الميزانية المطلوبة كبيرة؛ لأنها مطلوبة لمهمة كبيرة، يتعلق بها مستقبل التعليم في مصر، ومعاليك تشرح ذلك هنا في هذا الخطاب، بشكل مقنع ورائع، وتبين لوزير المالية أيضا أن الجامعة ضرورية لتنمية مصر اقتصاديا، وذلك لأن المصريين المتعلمين المتخرجين في الجامعة سوف يحسنون استغلال موارد البلاد في المستقبل، ومع أن الخطاب مقنع ورائع فإنه قطعا غير كاف ولا منتج بنفسه، ولكي يكون منتجا نذهب معا لمقابلة رفعة رئيس الوزراء.»
ويطلب الوزير رئيس الوزراء بالتليفون، ثم يقول للمستشار إن رفعته سيقابلهم غدا الساعة العاشرة صباحا في مجلس الوزراء، ويضيف أن «رفعة الرئيس يقول لك إن الإسكندرية نفسها قد أصبحت مهددة، وإن الألمان أصبحوا على بعد سبعين ميلا منها، وإن هناك هجمات جوية عليها.»
ويقول طه حسين: «إن رفعة الرئيس ومعاليك تعلمان أن هذا سبب قوي لإصرارنا على تعمير الإسكندرية، على زيادتها عمرانا بإنشاء الجامعة - منارة الإسكندرية كانت إحدى عجائب الدنيا السبع - ألا يجب أن يشع ضوء حضارتنا من جديد عبر البحر الأبيض المتوسط على دنيا الحضارة؟
أستأذن الآن، غدا إذن نذهب لرفعة الرئيس، وعندي عمل في جامعة الإسكندرية بعد ذلك.»
ويقول الوزير: «بالتأكيد لا تسافر للإسكندرية الآن، انتدب أحدا يحل محلك.»
ويرد طه حسين: «لا، وزير المواصلات يغضب، محلي محجوز بقطار بعد الظهر غدا بعد انتهاء مقابلة النحاس باشا.»
ويقول الوزير: «كان يجب أن أعرف أن لا فائدة من الإلحاح، إلى الغد إذن.»
وقبل أن يترك طه حسين مكتب الوزير يقول له إنه تلقى خطابا من الأستاذ العقاد، يوصي فيه بالشبان الذين يقومون بترجمة دائرة المعارف الإسلامية
2
وإنه هو نفسه معجب بعملهم الذي كان يجب أن تنهض الدولة بمثله، ولذلك فإنه يرجو الاستجابة إلى مطالبهم البسيطة، ويقدم إليه مذكرة بذلك، ويقول إنه يرجو أن يقوم علماء المسلمين في المستقبل القريب بإصدار دائرة معارف إسلامية بأنفسهم.
جامعة الإسكندرية
وفي الزمالك، على مائدة الغداء، في اليوم التالي، أسرة طه حسين تتناول القهوة. يقول طه حسين: «ذهبت اليوم إلى رئيس الوزراء مع الوزير نجيب الهلالي، ووجدنا وزير المالية عنده، واختصرنا في جلسة اليوم مكاتبات كانت سوف تظل شهورا أو سنوات تزحف من وزارة لوزارة ومن ديوان لديوان.»
وتسأله أمينة: «كيف كان النحاس باشا؟»
طه حسين: «كان رائعا، كان متحمسا جدا، أخبرني بحديث دار بينه وبين الأمير محمد علي ولي العهد عندما ذهب يسلم عليه بعد عودته من الخارج، قال له الأمير: يا باشا، فهمت أن وزارتكم تريد تعليم جميع الناس، ومن سيخدمنا إذن إذا علمتم جميع الناس؟ فقال له النحاس باشا: أنت عائد يا سمو الأمير من أوروبا، هل كنت تخدم هناك خدمة حسنة؟ قال الأمير: طبعا، ليت عندنا خدمة مثل الخدمة في أوروبا. فقال له النحاس باشا: إن من كانوا يخدمونك في أوروبا يا سمو الأمير متعلمون، وهذا هو ما نريد أن يكون عليه الحال هنا. فضحك الأمير وقال: إذا كان كده يبقى عال.»
وتسأل السيدة سوزان: «والمهم، الميزانية ورغبتك في إنشاء كل الكليات مرة واحدة؟»
ويقول طه حسين: «موافقة تامة، ووزير المالية ارتبط فعلا.»
وينتهي من شرب القهوة ويسأل: «كم الساعة الآن؟ أظن أن موعد القطار قد حان.»
سوزان: «إذن أنت مصمم على أن تسافر للإسكندرية والقنابل تسقط عليها، وجيوش رومل على بعد سبعين ميلا منها، وقد تقتحم المدينة وأنت فيها.»
ويقول طه: «أنت قطعا تدركين أن إنشاء جامعة الإسكندرية يمكن أن يعد عملا من أعمال المقاومة الوطنية، أظن أنني يجب أن أغادر الآن إلى المحطة، ثم إن الألمان لن يقتحموا الإسكندرية، إن مصر كنانة الله في أرضه.»
وتقول سوزان: «مصمم؟ إذن هيا بنا، حقائبنا في السيارة.»
ويسأل طه: «حقائبنا؟!»
وتقول سوزان: «نعم، مسافرة معك.»
ويقول طه: «لا، لن تسافري، الغارات ...»
وتقول سوزان: «ذكرت أن قيام جامعة الإسكندرية سيصد الغارات عن المدينة.»
يقول طه: «ليس بهذا المعنى، أنت تفهمين ... ثم التذكرة؟»
وتقول سوزان: «قامت أمينة بحجز تذكرة لي إلى جانبك في نفس القطار.»
ويقول طه: «مؤامرة إذن؟»
وترد سوزان: «نعم.»
ويسأل طه: «وهل ستنامين على سرير سفري الحديدي مثل الذي أنام عليه في غرفة من غرف إدارة الجامعة؟»
وترد سوزان: «لا، لا أحسب أن السيد المدير الدكتور طه حسين سوف يسمح لي بالنوم في إدارة الجامعة، ولهذا حجزت أمينة غرفة لنا في أوتيل وندسور.»
ويقول طه: «ما شاء الله، تذكرة ولوكاندة! كنت تعرفين إذن أنك ستحاولين منعي من السفر، وكنت تعرفين أنك لن توفقي، ودبرت أنت وابنتك ذلك كله!»
وتقول أمينة مقاطعة: «ابنتها كانت تحب أن تكون معكما، ولكنكما تعرفان أننا قد قررنا في الكلية أن نقيم احتفالا للتضامن مع اليونان في موقفها ضد الاحتلال ، سنعرض فيه «مأساة إلكترا» تأليف سوفوكليس، وسوف يكون هذا العرض مظاهرة جامعية وتأييدا للمطالبين بالحرية والاستقلال لا في اليونان فقط بل في كل مكان، ولا بد لي إذن من البقاء هنا للتمرين.»
ويقول طه حسين مبتسما في حنان: «سنعود أنا وأمك من الإسكندرية لنكون في طليعة المشاهدين والمصفقين.» •••
وفي القطار تقول السيدة سوزان: «إن الأستاذ شفيق مترى طلبك هذا الصباح تليفونيا بعد خروجك.»
ويقول طه حسين: «نعم، تكلم معي بعد ذلك، كان يستشيرني في فكرة إنشاء سلسلة كتب شعبية بأقلام عدد من الكتاب من كل أرجاء الوطن العربي ليقرأها العرب في كل البلاد.
وقد قلت له: إن العرب الذين تراهم اليوم منقسمين يا شفيق، لن يجمع كلمتهم يوم تجتمع إلا نسيج فكري متجانس تنسج خيوطه أقلام كتابهم جميعا، بمثل هذا ستجتمع كلمتهم يوما بفضل الله.»
سوزان :
هل كلمك للاستشارة فقط؟
طه :
استشارني كذلك في اسم السلسلة، وطلب أن أكتب الجزء الأول من أجزائها، قلت له يسميها «اقرأ»، أول كلمة أنزلت من القرآن الكريم، ولهذه الحقيقة مغزاها الكبير، وقد وعدته بأن أقدم الكتاب الأول في السلسلة؛ قصة سأسميها «أحلام شهرزاد»، هي في ظاهرها أسطورة وفي حقيقتها حديث عن السلام والحرب، وعن الديكتاتورية والطغيان، عن الحكام والشعوب التي يلعب بها الحكام. أحلام شهرزاد هي في الحقيقة أحلامي أنا بعالم يتمتع بالمساواة والعدل والخير، فيعصم نفسه بذلك من الضلال والهلاك.
وتقول سوزان: «ما أروع هذا الكلام! يجيء في الوقت الذي تتتابع فيه انتصارات النازية ويسيطر فيها على الدنيا عنف السلاح.»
ويرد طه: «ولهذا فنحن في هذا القطار يا سوزان نريد ألا تنطفئ شعلة الحرية وألا يخبو نور الحضارة أبدا.»
وتسمع سوزان كلام طه حسين فلا ترد، بل تملأ عينيها الدموع.
ويستأنف طه الكلام يقول: «وسيضيء النور في باريس حتما، وسيعود النور يشع على الدنيا من باريس.» •••
تبدأ الدراسة في كليات جامعة الإسكندرية في الوقت الذي تدور فيه معارك الصحراء الغربية في عنف وشراسة.
وطه حسين، المنتدب مديرا للجامعة إلى جانب عمله مستشارا لوزارة المعارف، يجاهد في ظروف الحرب لكي تقوم الجامعة على الأساس الذي يرضاه، ظروف الحرب معناها قلة المال وصعوبة النقل وندرة الكتب والأدوات، فالعالم مشغول بصناعات الحرب، ولكن طه حسين حريص على أن تدبر الجامعة لطلابها الضروري من المعامل ومن المكتبات، وأن تعمل لتشجيع الحياة الرياضية والنشاط الثقافي داخل وخارج قاعات الجامعة.
والمدير المنتدب يعمل مع زملائه؛ وكيل الجامعة الأستاذ مصطفى عامر وعمداء الكليات والأساتذة ورجال الإدارة، على أن يصلوا بين الجامعة ومدينتها،
1
يدعو سراة المدينة وأصحاب الأعمال الكبرى فيها إلى المساهمة في إنشاء الجامعة بالمال والمعونة، فينجح إلى حد لا يقنع به فهو يطالب بالمزيد، يريد من أهل الإسكندرية أن يساهموا في الاهتمام بدراساتهم المتصلة بمدينتهم، سواء منها ما اتصل بحياتها في الماضي مستهدفا إلقاء المزيد من الضوء على مساهمتها في الحضارة العالمية، أو في المستقبل مستهدفا تنميتها وترقيتها ماديا وحضاريا.
وطه حسين راض بما يلقاه من نجيب باشا الهلالي وزير المعارف، ومن مصطفى باشا النحاس رئيس الوزراء؛ من عون، وبما يلقاه من مساعديه في الجامعة نفسها من حماس وإقبال على العمل.
وبانتهاء العامين الأولين من أعوام جامعة الإسكندرية تنتهي مرحلة الإنشاء، ويكتب طه حسين إلى وزير المعارف في أول صيف عام 1944 تقريرا يقول فيه:
معالي الوزير
أعددتم قانون جامعة الإسكندرية وتقدمتم به إلى البرلمان واستصدرتموه في نفس الأيام التي كان كل إنسان يظن بالأحداث والخطوب فيها الظنون، وافتتحت الدراسة في كليات الجامعة في نفس الوقت الذي بدأت فيه موقعة «العلمين». ووجد الأساتذة والطلاب والموظفون من إقدام الحكومة على هذا العمل الخطير مشجعا أزال عنهم الخوف، ومحا من نفوسهم التردد، ودفعهم إلى العمل جادين مستبشرين.
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن إنشاء الجامعة وانتقال من انتقل إليها وإقبال من أقبل عليها من الأساتذة والطلاب والموظفين، قد أشاع في مدينة الإسكندرية حياة جديدة لم تألفها منذ عهد بعيد، فقد كانت الإسكندرية مدينة عمل ومال وكانت الحياة العقلية فيها ضئيلة مقصورة أو كالمقصورة على البيئات الأجنبية، فتغير هذا كله بإنشاء الجامعة الجديدة، ووجدت في المدينة بيئة علمية ممتازة تشارك في جميع فروع المعرفة الإنسانية مشاركة تظهر الآن متواضعة، ولكنها ستقوى وتشتد على مر الأيام، ولا سيما حين تنتهي الحرب وتستأنف المواصلات بيننا وبين العالم الخارجي.
وإنه لمما يؤلم حقا أن يلقى عبء هذا كله على الدولة، فقد كان استقبال الأغنياء لهذه الجامعة أفلاطونيا، منهم من رضي عن إنشائها ومنهم من تنكر له بالقول أو بالعمل ومنهم من لم يحفل بها ولم يلتفت إليها، كانت الجامعة تنتظر من المصريين عامة ومن أهل الإسكندرية خاصة أن يعينوها على كثير من الأشياء لا ينبغي أن تطلب كلها إلى الحكومة، فهناك دراسات معينة تتصل بمدينة الإسكندرية في كليات مختلفة، منها ما يتصل بتاريخها ومنها ما يتصل بحياتها الصناعية والتجارية ومنها ما يتصل بموقعها من البحر الأبيض المتوسط، وكل هذه الدراسات يجب أن ينشئها الإسكندريون بأموالهم إن كانوا يحبون مدينتهم حقا.
وقد بلغت الجامعة الناشئة ما بلغت من النمو والاتساع لأن هذه طبيعة الحياة للمعاهد العلمية الكبرى، وقد مضت أمور هذه الجامعة كما استطاعت أن تمضي، ولكنها منذ الآن لا تستطيع أن تواجه حياتها الخصبة المستقبلة إلا إذا فرض لها من ينهض بأمرها ويواجه مشكلاتها الكبيرة والصغيرة مواجهة يومية متصلة، فأنا ألح في الإسراع باختيار مدير لها يقف وقته وجهده على تدبير أمرها لا يشغله عن ذلك شيء آخر، وألح بالطبع في أن يكون شخصا غيري من رجال التعليم. •••
ويسافر طه حسين إلى لبنان في أول أغسطس يلتمس الراحة، ويتوافد عليه أدباء لبنان ومفكروه تدور بينه وبينهم الأحاديث فتمتد إلى حديث الحرب، ثم إلى حديث الدعاية التي أتقنها الألمان والتي يحاول الحلفاء أن يباروهم فيها.
يقول طه حسين: «كان الناس في أول هذا القرن يعجبون بتأثير الدعاية في أمور التجارة، ولكن ذلك التأثير لم يعد يقتصر على الترويج لما يباع ويشترى بل أخذ يروج لما يقرأ وما يكتب، وللآراء السياسية ومذاهب الناس في الحكم، وللحكومات القائمة وللأحزاب المختلفة، وبلغت الدعاية في هذا العصر طورا لم نكن نقدر أنها ستبلغه، بسبب المطبعة التي سهلت النشر، والصحف التي انتظم ظهورها شهريا وأسبوعيا ويوميا.»
ويضيف أحد الأدباء اللبنانيين: «والسينما والراديو.»
ويقول طه حسين: «والسينما والراديو، ألغت مسافات الزمان والمكان وأصبحنا خاضعين للإعلام فيما نقرأ وفيما نسمع وفيما نرى.»
يقول الأديب اللبناني: «واجب أن نقاوم آثار هذه الدعاية.»
ويقول طه حسين: «من السهل اليسير أن يستجيب الناس لسلطان الدعاية ومن العسير مقاومتها والامتناع عليها والخلاص من تأثيرها. على أني واثق كل الثقة أنه مهما كانت ضخامة الدعاية فلن يكتب لفلسفة العنصرية النصر، بل سيكون النصر لدعاة الحرية، بشرط أن تكون دعوتهم صادقة وأن يكونوا لها مخلصين.»
وتتحول الحرب لصالح الحلفاء، ويتم للجنرال الأمريكي أيزنهاور نصره الكبير في إقليم نورماندي في شمال فرنسا، وتأخذ جيوش الحلفاء في الزحف محققة انتصارات متكررة في كل جبهات القتال.
وفي بيت مري في لبنان، يوم 25 أغسطس 1944، يسمع طه حسين نبأ دخول الجنرال ديجول باريس، فيقول لزوجته وولديه: «لم أزل أقول لكم إنه لا بد أن ينهزم المعتدي، وإنه لا بد من النصر لمن يدافع عن الحريات بالعزم والإصرار وبالصدق والإخلاص.» •••
وفي بيت مري أيضا يتلقى طه حسين من مصر رسالة بأنه قد عين رئيسا لوفدها في احتفال المجمع العلمي السوري في دمشق بالعيد الألفي للشاعر أبي العلاء المعري، وفي دمشق يجتمع أعضاء الوفد الرسمي: الأستاذ أحمد أمين والأستاذ عبد الحميد العبادي والأستاذ أحمد الشايب، ويعرف طه حسين أن الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني قد حضر يمثل نقابة الصحفيين، وأن الدكتور عبد الوهاب عزام قد جاء ملبيا دعوة المجمع السوري؛ فيدعو الجميع إلى تكوين وفد واحد لمصر فيتم في دمشق تكوين هذا الوفد، ويأخذ أعضاؤه يتعاقبون في إلقاء أحاديثهم وبحوثهم طوال أيام المؤتمر، ويهدي الوفد المصري إلى المؤتمر كتابا طبعته مصر خصيصا في هذه المناسبة وهو «تعريف القدماء بأبي العلاء»، ويساهم الوفد أيضا باسم مصر في إنشاء مكتبة بسوريا خاصة لأبي العلاء.
وينتهي الاحتفال فيكتب طه حسين لوزير المعارف: «إن مصر تحسن كل الإحسان إلى نفسها وإلى البلاد العربية كلها إذا مضت في المشاركة في جميع المظاهر للحياة الثقافية والعلمية في العالم العربي.» •••
في النصف الأول من أكتوبر يستقبل طه حسين في منزله بالزمالك، مساء يوم من أيام الأحد، أصدقاءه وزملاءه وتلاميذه حسب عادته، يتحدث مع الدكتور حسين فوزي عن الموسيقى، وهو يريد أن تعنى مصر بالموسيقى الغربية كما لا بد أن تعنى بموسيقانا الشرقية، ويقول إن الأستاذ أمين الخولي يحدثه أن ابنته الآنسة سمحة شغوف بالموسيقى العالمية قد أتقنتها دراسة وأداء، والأستاذ أمين نفسه يقول إنه هو لا يفهم هذه الموسيقى إلا قليلا، وطه حسين يرى في ذلك دليلا على نجاح جيله وجيل أمين الخولي من الأساتذة، لأن التطور الذي عملوا من أجله قد تحقق.
يقول الدكتور كامل حسين: «نيران الحرب العالمية لم تزل مشتعلة، على أن انتصارات الحلفاء مستمرة، ترى هل يتقدم الحلفاء الآن صوب قلب ألمانيا؟»
ويرد طه حسين: «إن الأخبار الواردة من الخارج طيبة.»
ويقول الدكتور حسين فوزي: «أما «الواردة» من الداخل فليست كذلك فيما يظهر، سمعت أن هناك أزمة وزارية.»
ويرد طه حسين: «ومتى انتهت الأزمات الوزارية في مصر؟!»
وتدخل السيدة سوزان مبتسمة، فيعرف الحاضرون أن الوقت قد حان للانصراف ويستأذنون مودعين.
وتسأل سوزان: «ماذا كان يقول عن أزمة وزارية؟»
ويرد طه حسين: «إن الملك مصمم على إسقاط الوزارة، والنحاس باشا يرفض أن يستقيل.»
وتسأل: «وماذا يفعل الملك؟»
ويرد طه حسين: «يصدر مرسوما بإقالة الوزارة.»
وتسأل سوزان: «يقيل الوزارة؟ تترك وزارة المعارف إذن؟»
ويرد طه: «طبعا، على أنني سعيد لأنني أتممت بعض ما أريد؛ إن جامعة الإسكندرية قد أنشئت، وسوف تقوم بعدها جامعات أخرى في القاهرة وفي الأقاليم. وفي مراقبة الثقافة، أتممنا أعمالا لا بأس بها، وفي الوزارة خطونا خطوة هامة نحو تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص أمام كل الطبقات بتقرير المجانية في أهم مراحل التعليم.»
وتسأل سوزان: «وجامعة الإسكندرية تتركها أيضا؟» ويجيب: «بالتأكيد، ولكنك تعلمين أنني كنت قد طلبت تعيين مدير متفرغ لها منذ أول هذا الصيف.»
ويسكت طه برهة ثم يقول: «إن الملك يقول إن طه حسين يريد أن ينشر التعليم لتحقيق غرض خبيث وهو زعزعة النظام الاجتماعي الحاضر.»
وتقول سوزان: «هذا كلام فارغ.»
ويقول طه حسين: «وهل يمكن أن يكون كلام الملوك فارغا؟! لكن لفظ «زعزعة» غير دقيق، إن المستهدف هو أن يقوم في مصر نظام اجتماعي جديد على أساس من الحرية والعدل.» •••
في يوم أول مايو 1945 يعلن الألمان مصرع هتلر، وتقول وسائل الإعلام إنه انتحر، ومن قبل ذلك بيومين قتل الغوغاء موسوليني في إيطاليا. جيوش الحلفاء تدخل برلين، تستسلم ألمانيا. وفي يوم 8 مايو 1945 يعلن الحلفاء انتهاء الحرب في أوروبا.
وتقول أمينة لأبيها - بعد إغلاق الراديو: «الحمد لله! لكن هذا النصر لم يتحقق إلا بمصرع آلاف الشباب ووقوع آلاف الكوارث، ما أعظم جريمة الطغاة! كيف نحمي الحرية والكرامة البشرية في نفس الوقت الذي نحمي فيه الأجيال القادمة من أمثال هذه المجازر؟»
ويرد طه حسين: «هذا يا ابنتي هو السؤال كما يقال: كيف يحيا الناس حياة فاضلة؟ كيف يحققون دنيا الحرية والعدل؟ وكيف يعيشون بها؟ وكيف السبيل إلى صيانتها دون أن تضطر الشعوب المسالمة إلى أن تقابل بالعنف عنف المعتدين؟»
ويتوقف طه حسين برهة ثم يقول: «ستعود الآن المواصلات مع أوروبا، ويتمكن أخوك من السفر لباريس للدراسة لدرجة الأجريجاسيون.»
وتسأل أمينة: «ولماذا لا يدرس للدكتوراه؟»
ويرد طه حسين: «أريده أن يحصل على الأجريجاسيون أولا رغم أنها أصعب، إنني لم أرد لك أنت أيضا أن تختاري الطريق السهل، لم تكن الدراسات اليونانية واللاتينية - التي اخترتها لك - أسهل الدراسات! وعلى فكرة أين بلغت في بحثك للماجستير؟ هل انتهيت من قراءة ما كتبه الشاعر الألماني جوته عن موضوعك، عن قصة أفيجينيه؟»
وترد أمينة: «نعم، ولكن الموضوع كما تعلم صعب بشكل يرضيك! وعلى فكرة مطلوب مني محاضرة عامة حول هذا الموضوع وقد تورطت وقبلت، ولكنني أموت خجلا وخوفا من مواجهة الجمهور.»
ويقول طه حسين: «هذا لأنك تحترمين سامعيك، هل تظنين أني لا أحس الرهبة حتى الآن عندما أواجه جمهورا أحترمه؟»
أمينة: «أنت؟! طه حسين ؟!»
ويرد: «بكل تأكيد، وعلى فكرة ألا تريدين استكمال دراستك في الخارج بعد أن يفتح الطريق لأوروبا؟»
وترد أمينة: «بل أبقى هنا في بلدنا، إلى جوارك، وأين في الخارج أستاذ مثلك؟»
وتعود المواصلات مع أوروبا بعد شهور، ويستعد مؤنس للسفر مع والدته إلى فرنسا فقد قبل طالبا في مدرسة النورمال، إحدى المدارس العليا الكبيرة في فرنسا.
والسيدة سوزان لا تكاد تصدق أن الحرب قد انتهت، وأنها انتهت بهزيمة النازية، وأنها سترى باريس حرة.
تتردد في السفر وترك زوجها في القاهرة، ولكنه يقول لها: «لقد سافرت وتركتني من قبل، على أنك في هذه المرة لا تتركيني وحدي، أنت تتركيني مع أمينة، وستعتني بي وأعتني بها، وسنأكل معا كل الحلاوة الطحينية التي في مصر!»
ويحل يوم عيد ميلاد طه حسين السادس والخمسين في الرابعة عشر من نوفمبر 1945، ويزوره الشيخ مصطفى عبد الرازق، المرشح شيخا للأزهر الشريف، فيستبقيه للعشاء. ويجلس الثلاثة إلى مائدة زينتها أمينة في مناسبة عيد ميلاد أبيها.
ويقول طه حسين أثناء تناول العشاء: «هل تذكر أنني كنت أريد أن أصدر مجلة أدبية مع أخيك الشيخ علي؟»
ويرد مصطفى عبد الرازق: «نعم، وكنتم فكرتم في كل شيء وأعددتم لها كل شيء، كل شيء إلا المسائل التافهة مثل الإدارة والمطبعة والورق والتوزيع!»
طه حسين :
لقد استطعت أنت أن تثنينا، أنا وعلي، عن المشروع في ذلك الوقت، وذلك بإثارتك تلك المسائل التافهة.
مصطفى عبد الرازق :
ألم يكن ذلك هو عين العقل؟
طه :
العقل؟ لا، في الحقيقة أن العقل كان أن نصدرها، على كل حال سأصدر أنا هذه الصحيفة الآن، أو شيئا مثلها.
مصطفى عبد الرازق :
ألم تكفك متاعب جريدة الكوكب وجريدة الوادي؟ هل نسيتها؟
طه :
لا لم أنس، لم أنس المعلم متعهد الصحف الذي كان يتحكم في التوزيع، ولا الحكومة التي كانت تتحكم في المعلم، ولكن هل تعتقد أن كل هذه المتاعب لم تكن تذوب عندما كنا نعبر عن آرائنا ونوصلها لجماهيرنا؟ إنني أحس أنني في العمل الصحفي متصل مباشرة بنفس الجمهور وأعمل مباشرة في هذه النفس.
مصطفى :
أرجو على الأقل أن تكون قد أحسنت الاستعداد لإصدار المجلة هذه المرة.
طه :
في هذه المرة سيتكفل تاجر بالتوزيع، وسيكون للمجلة سكرتير للتحرير، أديب شاب ذكي ونشط، الأستاذ حسن محمود، سأتولى أنا مسئولية التحرير مع جماعة من الزملاء والتلاميذ لا يجوز أن نحرم العالم العربي من سماع أصواتهم ولا أن نحرمهم من أن يسمعوا أصواتهم للعالم: الدكتور محمد عوض، والأستاذ محمد رفعت، والدكتور سليمان حزين، والأستاذ توفيق الحكيم، والأستاذ سيد قطب، وكثير من الشباب.
مصطفى عبد الرازق :
ومن التاجر الذي سيتكفل بالتوزيع؟
الدكتور طه :
أصحاب محل آلات وأدوات مكتبية اسمه محل «الكاتب المصري» وهم الإخوة هراري، وقد أعجبني اسم «الكاتب المصري» وسأجعله اسم المجلة.
ويسأل طه حسين مبتسما: «لا أعتقد أن فضيلة الشيخ الأكبر لديه وقت للمساهمة فيها؟»
ويرد مصطفى عبد الرازق: «أساهم فيها بالدعوات الصالحات، وبالقراءة المنتظمة إن شاء الله. الحقيقة أن هذه المجلة - التي لا شك أنها ستكون جادة نافعة - تظهر في أوانها، إن العالم يدخل الآن مرحلة جديدة هامة، يدخل دنيا القنبلة الذرية، ودنيا الأمم المتحدة.»
يقول طه حسين: «نعم، العالم يدخل عهدا جديدا، ميثاق الأمم المتحدة قرأته، كلام رائع، وأنا سعيد لأن صديقنا الأستاذ عبد الحميد بدوي كانت له مساهمة في إعداده، وصديقنا الأستاذ محمود عزمي يترجمه للغة العربية الآن، ولكن ماذا يكون مصير هذه الأمم المتحدة؟ هل يكون مصير عصبة الأمم؟ ما مصيرنا نحن الدول الصغيرة؟ ما مصير العرب؟ بالأمس جاءني محرر جريدة فرنسية نسيت اسمها ...»
وتذكر أمينة أباها باسم المجلة، تقول: «إن اسمها هو صور العالم «إيماج دي موند».»
ويستأنف طه حسين حديثه يقول: «نعم، إيماج دي موند. سألني عن الحرب، فقلت له: الحرب انتهت بالقنبلة الذرية، لكنها تركت قنبلة زمنية هي فلسطين.»
ويقول مصطفى عبد الرازق: «عندك حق، وهل يترك الإنجليز مستعمرة لهم دون يخلقوا فيها المشاكل؟! على أني أرجو أن يكون العالم قد تيقن أخيرا أن العدل هو أساس السلام، أنا متفائل بميثاق الأمم المتحدة، لا تنس أن أصحاب فكرة الميثاق والمنظمة هم الدول الكبرى التي انتصرت في الحرب: أمريكا وروسيا والصين وإنجلترا وفرنسا.»
ويرد طه حسين: «نعم، لقد أصبحت فرنسا تعد بين الدول الخمس الكبرى، والفضل في ذلك لديجول، لولا عصيانه لليأس ورفضه الاستسلام ما كان لفرنسا ذكر اليوم بين هذه الدول.»
ويقول الأستاذ مصطفى عبد الرازق: «إن الدرس الذي نتعلمه من هذه الحرب هو درس سبق أن علمه لنا الرسول
صلى الله عليه وسلم : النجاح إنما يكون بالإيمان والإخلاص وبالتصميم، علينا أن نتسلح بهذه الصفات لنحقق أهداف أمتنا في هذا العالم الجديد الذي يقولون إن الأمم المتحدة ستبنيه.»
ويقول طه حسين في شيء من الشك: «ذلك بشرط أن تتعلم الدول الكبرى ألا تكيل بمكيالين، بشرط ألا ترى ضرورة تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان لشعوبها هي ولا ترى لشعوبنا نحن حقا في هذا كله. عندما جاء الجنرال ديجول إلى مصر، وهو رئيس لفرنسا الحرة، قلت له: لا يمكن أن تطالب فرنسا باستقلالها وبحريتها وهي تنكر على الشعوب الواقعة تحت سلطانها هذا الاستقلال وهذه الحرية، وقد وافق ديجول، فقد كان يعرف لبعد نظره أن عهد الاستعمار إلى زوال، وعندما جاء الجنرال كاترو بعد ذلك كانت فرنسا الحرة قد استجابت فيما يظهر إلى ما طالبت به، وأعلن الجنرال كاترو شيئا من ذلك من راديو القاهرة، وسنرى الآن ماذا تفعل فرنسا بعد النصر في الأراضي العربية الواقعة تحت سلطانها، وماذا يفعل الإنجليز في العراق وفلسطين والسودان.»
ويقول مصطفى عبد الرازق: «إن صاحبك أبا العلاء قد أحسن عندما أشار إلى أن الكلام الجميل لا ينفع أمام أصحاب القوة والسلاح، كما جرب ذلك بنفسه. وعلى ذكر أبي العلاء، زارني بعض الشيوخ السوريين الأدباء وحدثوني من جديد عن احتفالات دمشق بأبي العلاء، لا يزالون يذكرونها ويذكرونكم.»
ويرد طه: «كان الوفد المصري موفقا، وكان المؤتمر ناجحا، كان رئيس الجمهورية السورية شديد الاهتمام وشديد الاحتفاء بالمؤتمر. وإلى جانب الاحتفال بأبي العلاء كانت فرحتنا باجتماع العلماء العرب في مكان واحد إخوانا متعارفين.»
وتقول أمينة مقاطعة : «أنا أقرأ لأبي العلاء، أنا أقرأ في اللزوميات، في نسخة مخطوطة من اللزوميات.»
طه: «نسخة مخطوطة من اللزوميات؟! ليس لدينا نسخة مخطوطة! واللزوميات أنت قطعا لا تستطيعين أن تفهميها وحدك لا أنت ولا كثير غيرك من الشباب اليوم، يجب أن نترجمها لكم إلى العربية!»
وتتساءل أمينة: «إلى العربية! وفي أي لغة هي إذن؟!»
ويرد طه: «هي في لغة أبي العلاء، سأترجمها إلى العربية التي يفهمها أمثالك، وسأسمي الترجمة «صوت أبي العلاء».»
وتنهض أمينة وهي تقول: «نترك هذا الآن، هذا أوان «الطورطة»!»
وتنصرف وتعود بكعكة عليها شموع وتقول: «عليك يا أبي أن تطفئ هذه الشموع.»
ويقول الشيخ مصطفى: «أبوك يا ابنتي لا يجيد إلا إيقاد الشموع.»
ويرد طه: «أحيانا لا بد أن نهدم لنبني ... هل تذكر ما سمعنا ونحن في الأزهر؟ كانوا يقولون: «الحق هدم الهدم».»
ويقول الشيخ مصطفى: «نعم، كان هذا منذ زمن طويل، والآن اسمحي لي يا أمينة أن أبدأ فأتمنى لأبيك أن يصل إلى سن المئة وخمسة وخمسين. إن أباه الشيخ حسين - رحمه الله - وصل إلى سن المئة وخمسة، وقانون التطور يقضي بأن نتفوق على آبائنا، أليس كذلك؟» ولا ينتظر ردا ولكنه ينهض ليقدم إلى طه حسين السبحة التي يحملها ويقول: «وهذه سبحة أرجو أن تذكرك بهذا العشاء الصغير الجميل.»
ويرد طه متأثرا: «إنك لتعلم أنك وأنا إنما نطلب العمر العريض وليس العمر الطويل.»
وتقول أمينة: «الآن نطفئ الشموع، وعندي بعد ذلك رسائل للسيد الأستاذ العميد.
الأولى من السيدة حرم الدكتور طه حسين: ترسل لك هذه القبلات وتقدم هذه الهدية.» تقبله وتقدم له الهدية، ويتسلمها طه حسين بتأثر، «والثانية من طالب مدرسة النورمال المرشح لدرجة الأجريجاسيون، السيد الأستاذ مؤنس طه حسين، قبلات كذلك، وهذه الهدية»، تقبله وتقدم الهدية، «والثالثة مني أنا، قبلات أيضا، ولك قلبي كله وهذا المخطوط ...»
طه :
ما هذا المخطوط؟
أمينة :
مخطوط مؤلف من أصدقائك.
الشيخ مصطفى :
يتناوله وينظر فيه ويقول: هذه لزوميات أبو العلاء، هذا مخطوط مغربي، هذا مخطوط ثمين (يسلمه لطه حسين) ، أحسنت الاختيار يا ابنتي.
ويقول طه حسين: «أولا من أين لك المال؟ ثم من دلك على هذا المخطوط؟»
وترد أمينة: «نعم، أنت تسأل وأنا أجيب، عن السؤال الأول فإنك تذكر أسهم شركة الجوت المصرية التي اشتريتها لي عند حصولي على درجة الليسانس، أليس كتاب أبي العلاء أحسن من الجوت؟ والمخطوط جميل ولكنه ليس قديما جدا ولا ثمينا جدا، نسخ في مدينة فاس سنة ألف ومئة للهجرة حسب ما هو مكتوب فيه. وعن السؤال الثاني فقد ساعدني في البحث عن هذه الهدية أحد تلاميذك، محمد حسن الزيات، لقد أقسم لي أن هذا المخطوط هو كتاب اللزوميات، وأقسم لي كذلك أنه مكتوب حفر عليه اسمك. ولا قبلات.»
ويقول طه: «ولكن محمدا في إنجلترا، في أكسفورد.»
وترد أمينة: «ساعدني قبل سفره. وعلى فكرة هديته لك علبة سجائر حفر عليها اسمك باللغة العربية رغم هذا الخط المعقد ... ولا قبلات!»
ويقول طه حسين: «وأنت أخفيت المخطوط كل هذه المدة؟! تعالي هنا لأقبلك، أخفيته كل هذه المدة، ماذا أخفيت أيضا؟ وعلى فكرة في مجلة الكاتب المصري سيكون عليك أنت أن تقدمي للقراء أهم مباحث الدوريات الغربية.»
وتسأل أمينة: «تعني الفرنسية؟»
ويرد طه: «لا، أعني الغربية، كل ما يتيسر نقله من صحف الغرب، هذا غير صعب عليك، وسيكون لدينا في المجلة باب مماثل للدوريات العربية والشرقية، فإننا نريد أن نصل القارئ المصري بالكتاب والصحيفة العربية والشرقية والغربية، بالصحيفة في كل مكان.»
وينهض الأستاذ مصطفى عبد الرازق مستأذنا في الانصراف وهو يهنئ من جديد، وينصرف وهو يقول إنه ينتظر بفروغ صبر العدد الأول من مجلة «الكاتب المصري».
الكاتب المصري
في دار الكاتب المصري: طه حسين يستمر في إملاء «البرنامج» الذي قرر أن يقدم به المجلة إلى القراء، يقول: «هذه المجلة لا تريد إلا أن تكون أداة من أدوات مصر ...»
وخارج المكتب في إدارة المجلة: الأستاذ حسن محمود سكرتير التحرير يسأل عن مقالة الأستاذ توفيق الحكيم هل وصلت، ومقال نجيب الهلالي باشا هل تم طبعه، ومقالات الدكتورة سهير القلماوي، والأساتذة محمد رفعت وسليمان حزين وعبد الله عنان، ومقال الدكتور حسين فوزي، وشعر الأستاذ عزيز فهمي، والأستاذ عبد القادر القط، وبحث الدكتور غالي عن القنبلة الذرية ومستقبل الذرة.
إن المجلة لا تريد أن تتخلف عن معالجة الموضوعات العالمية الجديدة، إلى جانب معالجتها الموضوعات الإسلامية والعربية والمصرية. والأستاذ حسن محمود يطلب بروفات مقاله الذي ترجمه عن أدب القصة في الاتحاد السوفييتي، وبروفات مقالات العميد، تقدم إليه البروفات: هذه بروفة مقال «الأدب العربي بين أمسه وغده»، ثلاث وثلاثون صفحة حرف صغير، والمقالين الآخرين ... هذه بروفة مقال العميد عن «بريطانيا العظمى والشرق الأوسط»، إن الحياة الدولية موضوع هام وستكون بابا ثابتا في كل عدد من أعداد المجلة وسيحرره في المستقبل أحسن من يمكن دعوتهم لتحريره، ولكن في هذا العدد الأول قام طه حسين بتحرير هذا الباب. وهناك مقال ثالث عن بول فاليري في اثنتي عشرة صفحة بإمضاء «طه» فقط.
ويدخل الأستاذ حسن محمود على الدكتور طه حسين فيجده مستمرا في الإملاء.
طه حسين يملي: «... وستأخذ هذه المجلة نفسها بقانونين لن تحيد عنهما؛ أحدهما: الشدة على نفسها وعلى كتابها وقرائها فيما تنشر وما تنقل من الفصول، فلن تقدم إلى قرائها إلا هذا الأدب الذي ينفق صاحبه في إنتاجه الجهد العنيف والوقت الطويل ... والقانون الثاني هو الحرية الواسعة الكاملة السمحة فيما تنشر وفيما تختار من آثار القدماء والمحدثين ومن آثار الشرقيين والغربيين، لا تنظر في ذلك إلا إلى الفن الخالص وإلى قيم الثقافة العليا وما يحقق التعارف والتواصل بين الذين يمثلون هذه الثقافة من رجال الأدب والعلم والفن.
وهي تنظر إلى أمس وتنظر إلى اليوم، وتنظر كذلك إلى غد، فتنشر ما يحيي الأدب القديم، وستنشر ما يقوي الأدب الحديث، ولكنها في الوقت نفسه ستعنى بهؤلاء الشباب الذين يجربون أنفسهم ويحاولون أن يشاركوا في الإنتاج الأدبي فتفسح لهم مكانا رحبا بين صفحاتها، وستتلقاهم رفيقة بهم ولكن قاسية عليهم في النقد والاختبار.»
ويخرج الأستاذ حسن محمود بهدوء ليترك الدكتور طه حسين يملي بقية البرنامج الذي سيتصدر العدد الأول من مجلة الكاتب المصري، وسرعان ما يكون العدد الأول من مجلة الكاتب المصري في أيدي القراء. •••
قارئ لزميله: «أخيرا ... هذه أول مجلة شهرية عربية يصدرها مصري، كان عندنا قبلها الهلال والمقتطف، وقد أنشأهما أديبان من لبنان.»
زميله (يرد عليه) :
لا ... لقد وجدت في الماضي مجلات مصرية، مثل مجلة الاستقلال التي صدرت سنة 1902 ومجلة اسمها رعمسيس صدرت سنة 1912 وغيرهما، ولكن هذه المجلات لم تعش للأسف إلا فترات قصيرة جدا، ترى هل يستطيع طه حسين أن يبقي «الكاتب المصري» على قيد الحياة طويلا؟
أحد الأساتذة :
مقال نجيب الهلالي عن مبدأ تكافؤ الفرص جاء فيه أن طه حسين تمنى أن يتحقق هذا المبدأ في مقال نشره في عام 1941 بعنوان «مستقبل الديمقراطية بعد الحرب».
يقول الزميل: «إن نجيب الهلالي يقول في المقال إن هناك من الناس من يخشون أن يؤدي تطبيق قاعدة تكافؤ الفرص إلى تقويض نظام المجتمع المصري، ويقول: «إن هذا المبدأ، يعني مبدأ تكافؤ الفرص، قد خاب الآن وأصيب بشيء من العطب، ولكنه لم يخب إلا إلى حين».»
أستاذ آخر : «نجيب الهلالي يقول إن أمير أرجان كان قد وصف حيوان القنفذ وصفا ينطبق على طه حسين! قال: «إنه محارب حصنه من نفسه، ومقاتل رماحه على ظهره، لا ينام ولو نام عنه الناس».» •••
وفي كلية الآداب يقول أستاذ لزميله: «هل لاحظت أن دار الكاتب المصري هي أيضا دار نشر كتب؟ سنستطيع إذن أن ننشر كتبنا.»
زميله : «نعم أعرف، وصديقنا نزيه مسعد قد نشر عن طريقها فعلا ترجمة لكتاب «الباب الضيق» للكاتب الفرنسي أندريه جيد الذي حصل على جائزة نوبل، وهذا هو الكتاب المترجم.»
ويتصفح الأستاذ الأول الكتاب ويقول: «إن الترجمة مصدرة بكلمة من المؤلف ويلي المقدمة رد عليها بقلم طه حسين. إن «أندريه جيد» يتساءل كيف يمكن أن يترجم كتابه إلى اللغة العربية! إن كتابه قلق وحيرة وبحث عن الحقيقة، وأغلب قراء العربية من المسلمين، والإسلام يدعو أهله إلى القبول لما يتلقون من الأحكام باطمئنان وبغير بحث أو قلق.»
ويقول الزميل: «إن طه حسين يرد على أندريه جيد بقوله: «إنك قد عرفت بعض المسلمين ولكنك لم تعرف الإسلام؛ لأن الإسلام دين فحص وبحث، لا تسليم فيه إلا بما يثبت بالحجة والبرهان».»
ويختم الأستاذ الأول الحديث بقوله: «أندريه جيد عاشر المسلمين في شمال أفريقيا، والحمد لله أن رد طه حسين جاء بهذه القوة، رده مفحم.»
ويصل أندريه جيد إلى مصر، ويزور طه حسين في منزله، ويمتد حديثهما ويتشعب، يتناول كتاب «الباب الضيق» وترجمته، ويستمع أندريه جيد إلى حديث طه حسين عن الإسلام وما أنشأ من مدنية، وما يستطيع أن يعيد إنشاءه الآن من الحضارة، وفي آخر الحديث يدعو طه حسين أندريه جيد إلى إلقاء محاضرة عامة في نادي متخرجي الجامعات بشارع شريف بالقاهرة.
وتكتظ القاعة بالحاضرين والحاضرات وتضيق، ويتزاحم من يريدون الدخول على سلم العمارة، ويفيضون على المدخل، يحاولون سماع كلمة من طه حسين أو من أندريه جيد أو حتى مجرد رؤية الأديبين الكبيرين عند الدخول أو عند الخروج.
وفي منزل طه حسين يقرأ أندريه جيد بصوت عال قصة من تأليفه عن بطل يوناني قديم هو «تيسيه»، وقد سبق له أن قرأ لهم كتابا آخر من تأليفه أيضا هو «أوديب».
وطه حسين يستمع ثم يتكلم عندما ينتهي أندريه جيد من القراءة، فيقول للمؤلف: «سأعلم أبطالك العربية، سأترجم الكتابين، وستنشرهما دار الكاتب المصري، إذا أذنت، وسترى أن القارئ العربي ذكي قادر على تذوق أرقى الكتب، ولقد سبق أن ترجمت كتب أخرى من كتبك إلى العربية وكانت الترجمة ناجحة ورائجة أيضا، وأنا الآن أقرأ كتابك «بروميثيوس ذو الغل المطلق» وأفكر في تعريبه.»
ويرد أندريه جيد قائلا: «لقد أصبحت أعرف المسلمين معرفة أحسن، وعلى ذكر ذلك لقد قابلت حتى الآن الكاتب والعالم المصري وأريد الآن أن أقابل الفنان، أريد أن أقابل المهتمين بشئون التمثيل.»
ويدعو طه حسين صديقه أندريه جيد لمشاهدة مسرحية من مسرحيات الأستاذ نجيب الريحاني، أندريه جيد لا يفهم النص طبعا ولكنه يفهم ما يجري في المسرحية لقوة تعبير الريحاني وفرقته، ولأن المسرحية مقتبسة عن رواية فرنسية اسمها «بائعة الشكولاتة»! ... بعد انتهاء المسرحية يصعد أندريه جيد مع طه حسين إلى المسرح لتهنئة نجيب الريحاني ويقول له إنه ليس فنانا مصريا فحسب، إنه فنان عالمي. •••
السراي لا تزال غاضبة على طه حسين، والحكومة كذلك غاضبة. وتبدأ الصعوبات تقابل مجلة الكاتب المصري والاتهامات أيضا:
وزارة التموين تعتذر عن إعطاء المجلة حصة من الورق، المطبعة التي تتعطل يتعذر إصلاحها، الكتب التي تطبعها الدار لا توزع، وصول المجلة إلى الأسواق العربية يتأخر، حالة المجلة وحالة الدار تتدهور.
السراي ساخطة على مقالات «المعذبون في الأرض» و«ما وراء النهر»، وأصحاب الدار لا يريدون الدخول في مشاكل وخسائر، تتزايد المضايقات ولا يستطيع طه حسين استكتاب المحررين، طه حسين يتفق مع حسن محمود سكرتير التحرير على أن يصدرا هما وحدهما عددي أغسطس وسبتمبر 1948، طه حسين يحرر عدد أغسطس 48 بكامله تقريبا، فينشر فيه ترجمته لقصة «زاديج» - أو «القدر» - تأليف «فولتير»، وحسن محمود يحرر عدد سبتمبر 48 بأكمله تقريبا، ينشر فيه ترجمته لكتاب «هيروشيما» عن إسقاط القنبلة الذرية على اليابان.
يصدر عدد أغسطس وعدد سبتمبر، ولكن محاولة إبقاء «الكاتب المصري» في الوجود تفشل، أصحاب المجلة مصممون على إغلاقها هي ودار النشر التابعة لها، طه حسين يملي الكلمة الأخيرة في العدد الأخير الذي تتوقف المجلة بعده عن الصدور، يمليها على حسن محمود في أسى شديد، يقول: «لقد أرجف المرجفون والذين يسرهم الطعن في طه حسين والذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس، وقالوا إن مجلة الكاتب المصري قد صدرت لنشر الصهيونية، والآن وقد انتهى عمر المجلة فإن أعدادها كلها بين يدي القراء، فهم لا يرون فيها إلا دفاعا عن مصر والعروبة وخدمة لهما بقدر الوسع والطاقة.»
وحسن محمود يقاطع ويقول: «والكتب التي نشرتها الدار هل فيها إلا ما يخدم مصر والعرب والعروبة والثقافة العربية؟ والمقالات التي نشرتها المجلة للأستاذ سيد قطب وللأستاذ سعيد العريان وللسيدة بنت الشاطئ والأستاذ سامي الدروبي والأستاذ عبد المنعم مراد وغيرهم وغيرهم، هؤلاء جميعا صهيونيون؟!»
ويسأل طه حسين: «هل لديك قائمة بالكتب التي نشرناها؟»
ويقرأ حسن محمود قائمة ببعض هذه الكتب.
يقول طه حسين: «ترجمنا إلى اللغة العربية إذن عن الإنجليزية والألمانية والفرنسية والفارسية، وقدمنا موسوعة قانونية ضخمة لعبد العزيز باشا فهمي، وترجمة عن أندريه موروا للشيخ الأستاذ عبد الحليم محمود، ونشرنا كتبا عربية لأعلام مثل الجاحظ وغيره، لقد التزمنا بما عاهدنا عليه قراء العربية فوصلناهم بعصورنا العربية والإسلامية الزاهية من جهة، وبهذا العصر الحديث الذي نعيش ويعيشون فيه من جهة أخرى.»
حسن محمود: «وحاولنا أن نضع مثلا عاليا في الترجمة وأمانتها، وفي النشر ودقته، وفي التأليف وارتفاع مستواه، وكذلك في معاملة الأدباء واحترام القراء.»
ويقول طه حسين بعد صمت قصير: «إن أصحاب الدار لم يؤدوا كل حقوق المؤلفين والمترجمين، وقد طلبت إلى نجيب الهلالي رفع دعوى لنحصل لهم على كل حقوقهم، وقد فعل.» •••
في خريف سنة 1947، تتهدد الكوليرا مصر، الخطر يتزايد، أمينة تريد أن تتطوع للعمل مع سيدات الهلال الأحمر في مكافحة الوباء، طه حسين يتذكر الوباء القديم الذي أودى بحياة أخيه محمود، وكان محمود قد تطوع كذلك لمقاومة الوباء، ولكنه لا يحاول إقناع ابنته بعدم التطوع.
أمينة تعمل مع سيدات الهلال الأحمر في قسم الدرب الأحمر بالقاهرة، وفي آخر أكتوبر 1947 كان معدل الوفيات المعلنة أربعمئة شخص يوميا، غير المتوفين الذين كان أهلهم يخفونهم خوفا من إجراءات الحكومة. الوباء يستشري في الريف، تسافر بعض سيدات الهلال الأحمر إلى الصعيد وتسافر أمينة معهن، البعثة تدخل الطمأنينة على نفوس نساء الصعيد فيقبلن التعاون مع سيداتها، وفي آخر نوفمبر يهبط عدد ضحايا الكوليرا من أربعمئة شخص إلى عشرين شخصا، وتعود أمينة مع بعثة الهلال الأحمر إلى القاهرة بعد أداء المهمة التي سافرت لأدائها. •••
وفي بيت الأسرة بالزمالك تقرأ أمينة لوالدها صحف الصباح، لقد نشرت أسماء الوفد الذي ألفته الحكومة المصرية ليشترك في مؤتمر اليونسكو الذي سوف يعقد في بيروت، واسم طه حسين لم يرد بين أسماء أعضاء هذا الوفد.
وتقول أمينة لوالدها: «أنت كما ترى لا تصلح الآن لتمثيل مصر في مؤتمر لليونسكو، وإن كانت دول العالم قد سبق أن انتخبتك رئيسا للجنة الأدبية في عصبة الأمم منذ سنين.»
ويرد طه حسين، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة: «إذا كانت مصر هي الملك، فإنني لا أمثل مصر طبعا. المهم هو عشاء الليلة، قد دعوت الدكتور الزيات للعشاء.»
على مائدة العشاء في منزل طه حسين أفراد الأسرة ومعهم محمد حسن الزيات، يقول الدكتور الزيات في آخر العشاء: «والدي وأخواي إبراهيم وعبده يحضرون من دمياط غدا، ويرجون زيارتكم في نفس اليوم إن أمكن ...»
وفي اليوم التالي، بعد ساعة يلتقي فيها الوالدان لقاء طويلا وسعيدا يهنئ طه حسين ابنته وصهره بخطبتهما، وتهنئهما أمها، ويدور حديث حول موعد الزواج، والعروسان يريدان زواجا بسيطا وعاجلا.
وفي أثناء الحديث تصل برقية من الحكومة اللبنانية تقدم الدعوة لطه حسين بصفته الشخصية ليشترك في مؤتمر اليونسكو ضيفا على لبنان، وتمر لحظات لا يعلق فيها طه حسين على الدعوة، إن بلاده عزيزة عليه دائما وأهله كرام لديه في كل الأوقات، ولكنه يرى الآن أن بلاده هي كل البلاد العربية وأن أهله هم العرب أجمعون، وتلح عليه أمينة وخطيبها في أن يرد بالقبول. •••
ويصل طه حسين إلى لبنان في نوفمبر عام 1947 ضيفا على حكومة لبنان.
وفي الصالة التي شيدتها لبنان خصيصا لانعقاد «مؤتمر اليونسكو» يجلس طه حسين على المنصة العالية، وحيدا بغير مذكرات أو أوراق أو سكرتير، مطلا على الجمهور الذي ملأ القاعة على اتساعها وفاض عنها إلى الطريق.
طه حسين ينتهي من خطابه عن «أثر الحضارة العربية في الحضارة الغربية»، القاعة تضج بالتصفيق الحاد، ومدير عام هيئة اليونسكو مسيو «توريز بوديه» يتقدم إلى المنصة لينزل مع طه حسين إلى القاعة، ويقبل على المحاضر للتحية والتهنئة كثيرون، منهم «جوليان هكسلي» العالم البريطاني، وأعضاء الحكومة اللبنانية، وأعضاء الوفد المصري والوفود العربية، الجميع يهنئون ويتحدثون فيما بينهم بإعجاب كبير ... وزوجته تنتظر لتخرج معه وتقول له: «لقد تألمت وفي صمت عندما عرفت أنك لن تكون من بين ممثلي الثقافة المصرية في مؤتمر اليونسكو، والآن أدرك أنك قد تجاوزت ذلك إلى تمثيل الثقافة العربية كلها، والمشاركة المشرفة في الحياة الثقافية في العالم كله.»
ويقول طه حسين لزوجته: «لبنان جميلة، كنا نحب أن نبقى مدة أطول، ولكن لا بد من العودة للإعداد لزواج أمينة.» •••
في منزل طه حسين بالزمالك 12 يونيو 1948 يحتفل بزواج أمينة.
الشيخ عبد المجيد سليم يعقد العقد، والشاهدان هما مصطفى النحاس باشا وأحمد لطفي السيد باشا، ويشهده كذلك المستشار إبراهيم الزيات وعبده حسن الزيات المحامي، ويخرج العروسان من الحفل بسرعة إلى المستشفى القبطي في القاهرة ليزورا والد العريس الذي كان قد وصل مع زوجته إلى القاهرة لحضور حفل الزفاف ولكنه أحس في محطة القاهرة بتعب مفاجئ فنقل إلى المستشفى القبطي، وذهبت زوجته معه، وأجريت له جراحة عاجلة هناك، وقد ألح على ولده وعلى الدكتور طه حسين عندما زاراه في المستشفى كي يتم عقد القران في موعده، وهو يبدو الآن في حالة معنوية طيبة يقبلهما، وتباركهما وتقبلهما الأم، وهما يريدان أن يرجئا السفر لقضاء شهر العسل في الخارج حسبما كان متفقا عليه حتى يغادر الوالد المستشفى، ولكنه يطلب منهما في إلحاح عدم تغيير برنامجهما، ويرجو لهما سفرا طيبا وعودة سريعة ليسعده استقبالهما في منزل الأسرة في دمياط.
في ميناء الإسكندرية وفوق ظهر السفينة «إسبريا» يصل رسول إلى السفينة يبلغ العروسين بما حدث: انتكس الوالد فجأة ونادى في الليل زوجه وطلب منها كوب ماء وشرب منها جرعة وابتسم ونام وتخيلت زوجه أنه قد نام، ولكن قضاء الله كان قد وقع، استعاد الله وديعته، أمينة تخلع ملابس العرس وتلبس ملابس الحداد، ينزل العروسان من الباخرة، ليسافرا إلى بيت الأسرة في دمياط. •••
ويقبل يناير من عام 1949 ويقرأ فريد سكرتير طه حسين عليه الصحف ثم الخطابات، إن أهم الأخبار هو أن رالف بانش وسيط الأمم المتحدة قد نجح في وقف إطلاق النار في فلسطين.
وأهم الخطابات خطابان: الأول إخطار بأن الحكومة المصرية قد منعت نشر كتاب «المعذبون في الأرض» وقررت مصادرته، والثاني بأن «الكوليج دي فرانس»، التي كانت قد دعت طه حسين للمحاضرة فيها خلال عام 1949، قد قررت سحب دعوتها له.
ويقول طه حسين في سخرية هادئة: «ومع ذلك فإن الكوليج دي فرانس إنما يميزها تاريخها الطويل في مقاومة اضطهاد الحكومات للعلماء، العلماء الفرنسيين.» •••
وفي الشهر التالي، فبراير 1949، يصبح إبراهيم عبد الهادي باشا رئيسا للوزارة، بعد سلسلة حوادث خطيرة بدأت باغتيال رجل البوليس سليم زكي ومقتل النقراشي باشا ثم تولى إبراهيم عبد الهادي رياسة حزب السعديين. •••
وفي مستشفى الدكتور علي إبراهيم «الابن» في جاردن سيتي، في إبريل 1949، أصبح طه حسين جدا، رزقت أمينة بولدها «حسن الزيات»، في التاسع والعشرين من الشهر في الساعة السادسة مساء.
وتقضي أمينة بعد خروجها من المستشفى أربعين يوما - حسب التقاليد التي يصر طه حسين على احترامها - في بيت أبيها بالزمالك، وطه حسين في هذه المدة مشغول بحمل حفيده وتهدئته - عندما يبكي - بقراءة أبيات من الشعر الجاهلي، يقول إن هذا الجيل الجديد لا بد أن يسلح نفسه بالثقافة العميقة من أول الأمر!
وفي صيف 1949 ينتهي طه حسين من إملاء مقال للأهرام عن ثلاثة عظماء هم الجاحظ وشكسبير وجوته، عربي وإنجليزي وألماني، فهو لا ينفك يتحدث عن فضل العرب كلما تحدث عن أمم الحضارة!
ويقول لزوجته بعد أن ينتهي من الإملاء: «لم يعد لدينا ما يبقينا في مصر؛ أمينة عادت إلى زوجها وبيتها ومعهما ابنهما، مؤنس متغيب في الخارج للدراسة، وكتبي تصادر في مصر، وليس لي عمل منتظم، وأنا لا أطيق هذا الجو الحار.»
وترد السيدة سوزان: «الجو الحار نعم، أما كتبك فإنها لا يمكن أن تصادر إلى الأبد، وسنجد مؤنس في استقبالنا في باريس، وسنجد أمينة وزوجها في استقبالنا في مصر عندما نعود.»
ويقول طه في شيء من المرارة: «نعم، والآن سيكونان هما وحدهما اللذين يستقبلاننا.»
وترد سوزان: «بل سيكون معهما تلاميذك الأوفياء، وهؤلاء سوف يكونون معك دائما، إلى الأبد.»
وفي سبتمبر عام 1949 نرى طه حسين في مكتبه وقد عاد من رحلة الصيف، يتحدث مع الجراح الدكتور محمد كامل حسين الذي حضر للتهنئة.
الدكتور كامل حسين يقول له إن وزارة إبراهيم عبد الهادي باشا قد استقالت بعد خمسة أشهر من تأليفها، وحسين باشا سري سوف يجري الانتخابات وينتظر طبعا أن تسفر عن فوز الوفد.
وأجريت الانتخابات، وفاز الوفد، ودعي النحاس باشا لتأليف الوزارة، ويحضر النحاس باشا إلى منزل طه حسين دون موعد فيجده مع عدد من الشباب، من بينهم الأستاذ محمد سعيد العريان والأستاذ محمد فتحي ... فيسلم النحاس باشا عليهم ويخرج مع طه حسين إلى الحديقة، فيفاجئه بأن يطلب منه أن يتولى منصب وزير المعارف في وزارته التي يجري تأليفها.
وطه حسين يشكره، ولكنه يرجو معاودة التفكير لأسباب: الأول أنه ليس عضوا في الوفد، وأعضاء الوفد الذين شاركوا رئيسهم جهاده أحق بالاشتراك معه في الحكم، والثاني أن السراي غاضبة عليه منذ زمن بعيد، ولا ينتظر أن توافق على تعيينه، والثالث أنه ملتزم أمام نفسه وأمام الشباب ببرنامج للتعليم سبق أن شرحه عام 1937 في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي كان يعده في الأصل ليقدمه تقريرا إلى النحاس باشا نفسه، وهو لا يعرف رأي وزارة الوفد عندما تتولى الحكم في تطبيق هذا البرنامج الذي يؤكد ضرورة إعلان مجانية التعليم الابتدائي والثانوي، وهناك سبب رابع لا يحتاج إلى تبيين.
النحاس باشا يفند هذه الأسباب الأربعة ويبدأ من الرابع؛ السبب الرابع كلام فارغ، إن سمح الدكتور بهذا التعبير، فقد قام طه حسين بواجباته في إدارة كلية الآداب وفي مراقبة الثقافة وأدى عمله مستشارا لوزارة المعارف ومديرا لجامعة الإسكندرية بكفاية ودقة لا تعرف عن المبصرين. والسبب الثالث هو سبب يزكيه وليس العكس، فإن الوزارة تتطلع إلى إصلاح التعليم وتيسيره للشعب. والسبب الثاني الرد عليه بسيط: إن السراي مخيرة بين النحاس باشا ومعه طه حسين وبين رفض تعيين طه حسين وزيرا للمعارف ورفض تعيين النحاس رئيسا لمجلس الوزراء. أما السبب الأول فإن النحاس يقول: «إن الذي يهمني هو مصلحة الأمة وليس مصلحة الحزب ولا مصلحة الأفراد، وأعضاء الوفد سوف يسرهم جميعا قبولك مشاركتنا في تحمل أعباء الوزارة.»
وطه حسين يقول: «في اعتقادي أن التعليم العام يجب أن يكون مجانيا كي لا يحرم واحد من أبناء الوطن، كي تتاح لجميع المواطنين فرصة متكافئة.»
ويرد النحاس باشا: «عارف، وأنت لا بد متذكر أننا التقينا مرة في قطار من قطارات الصعيد وتحدثنا في هذا الموضوع.»
ويقول طه حسين: «وإذا أصبحت أنا وزيرا للمعارف، فإن رفعتكم ستحبون قطعا إعلان مجانية التعليم في أول خطاب للعرش تلقونه أمام البرلمان.»
ويسأل النحاس باشا: «هذا شرط؟»
ويرد طه حسين: «لا، معاذ الله! ليس شرطا ولكنه توقع، إنني أتوقع أن دولتكم ستعلنون مجانية التعليم في أول خطاب للعرش.»
ويقول النحاس باشا وهو يتأهب للانصراف: «يعني شرط، على كل حال شرط مقبول ... اتفقنا، مبروك!»
الوزير
في قاعة مجلس النواب صباح يوم 16 يناير 1950، رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا يلقي خطاب العرش ويصل إلى الفقرة الخاصة بالتعليم، وقد أعدها طه حسين، فيعلن باسم الملك أن حكومته ترى «أن خير الوسائل لرفع مستوى الشعب وتمكينه من الحياة الخصبة المنتجة التي تنفعه وتنفع الناس، وتحفظ على المواطن مكانته بين الأمم المتحضرة الراقية، إنما هو تعليم أبنائه، وتثقيف نفوسهم، وتزكية عقولهم، وتهذيب أخلاقهم، وتزويدهم بكل الوسائل التي تتيح لهم الجهاد المنتج في سبيل الرقي والتقدم؛ ولذلك فهي لن تبخل بأي جهد لنشر التعليم وتيسيره، والتوسع في مجانية التعليم حتى تصل به إلى المجانية الشاملة، تحقيقا لتكافؤ الفرص لجميع المواطنين دون تفريق، وقد قررت فعلا مجانية التعليم الابتدائي والثانوي والفني منذ اليوم.»
وفي مقهى بحي السيدة زينب بالقاهرة يستمع رواد المقهى في سكون إلى خطاب العرش، فيتعالى ضجيجهم وهتافهم عند سماع هذه الفقرة.
يقول عامل لزميله: «لا أنسى أبدا يوم كنت أقف مع زملائي في المدرسة الابتدائية في طابور الصباح، ونزل الناظر إلى حوش المدرسة، وبعد التعظيم والتفتيش، قرأ ضابط المدرسة كشفا فيه أسماء عشرين تلميذا، أنا واحد منهم، وأعلن الناظر أن آباءنا لم يدفعوا المصروفات، وصرخ بالبواب ففتح البوابة على مصراعيها، وصرخ فينا نحن العشرين فخرجنا إلى الطريق وتفرقنا غارقين في الخجل إلى بيوتنا، وكنت بعد ذلك أتجنب المرور أمام المدرسة، ولم أفتح من يومها كتابا، ونسيت كل ما كنت تعلمته وأصبحت من الأميين.»
ويرد زميله بعد صمت قصير: «الحمد لله! الآن أولادنا لن تفتح لهم البوابات للخروج إلى الشوارع ... ولن ينضموا إلى جيش الأميين!»
وفي مبنى وزارة المعارف يزدحم الفناء بوفود تتوالى، تحضر لتهنئة الوزير، والوزير قد انتدب موظفا جهير الصوت، ليشكرهم عنه ويرجوهم الانصراف. ويصل وفد الاتحاد العام للتعليم الحر، الذي كان قد أقام حفلا لتكريم طه حسين وهو خارج الوزارة في صيف العام الماضي، فيأذن الوزير بدخول بعض مندوبيهم بعد إلحاحهم في طلب مقابلته، ويقول لهم: «أنتم مهتمون بمستقبلكم، وبمستقبل التعليم الحر، ولكم الحق في هذا الاهتمام.
أنا شخصيا تعلمت في معهد حر كريم هو الأزهر الشريف، وتخرجت في معهد حر آخر وهو الجامعة المصرية القديمة، وقمت بالتدريس متطوعا في مدارس حرة وهي مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية والمدارس الإعدادية التي كان المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش ينشئها، ثم إنني قمت بالتعليم في الجامعة المصرية حين كانت حرة لا تخضع للحكومة ولا تتصل بها، وأنا أنظر إلى المدارس الحرة في مصر فأرى الذين يعلمون فيها مصريين، والذين يتعلمون فيها مصريين، ويجب ألا يكون هناك فرق بينهم وبين زملائهم في التعليم الأميري في الحق وفي الواجب أيضا. هذه هي نظرتي، فأرجو أن يطمئنكم ذلك وأن تنصرفوا لأقوم أنا أيضا بما علي من الواجبات.»
وينصرف المندوبون وتعلو عند خروجهم الهتافات للوزير.
الوزير يقول لمدير مكتبه: «أريد مذكرة عن حالة مدارس التعليم الحر في كل البلاد، لا أريد أن تكون لدينا طبقات مختلفة من المدارس، بعضها يصلح وبعضها لا يصلح.
وأريد مذكرة عن إنشاء نقابة للمعلمين تضمهم جميعا وترعى شئونهم جميعا، وتحمل عنهم الأعباء لينصرفوا إلى إتقان مهنتهم، فإن أساس التعليم الصالح هو الأستاذ الصالح.»
ومدير المكتب يرد: «طلبتم وكلاء الوزارة لتبحثوا معهم الاستعدادات التي يجب اتخاذها بعد إعلان مجانية التعليم.» ويأذن الوزير لهم في الدخول. •••
تنتقل الوزارة إلى بولكلي في رمل الإسكندرية لانتقال الملك إلى الإسكندرية للاصطياف.
وطه حسين يترك دار الوزارة في الإسكندرية ويتجه إلى مستشفى كوتسيكا؛ حيث رزقت ابنته أمينة بمولودها الثاني، بنت سمتها «سوسن».
يدخل غرفة ابنته بالمستشفى فيفاجئ طبيبها الدكتور حسين طبوزاده وهو يغني «آه سوزانا»، وهي أغنية أمريكية أخطرها على باله الاسم الذي سميت به المولودة. يرحب الطبيب بالوزير، والوزير يرجو أن يكون فن الطبيب خيرا من صوته! ويستأذن الدكتور طبوزاده في الانصراف ويخرج معه الدكتور الزيات ليودعه.
ويجلس طه حسين إلى جانب ابنته ويقبلها ويسألها: «أين هي؟ أين «سوسن»؟» وتقدم أمينة المولودة «سوسن» إليه، فيحملها بين ذراعيه في حنان بالغ.
وتقول أمينة معتذرة عن ابنتها: «إنها لا تجيد الشعر الجاهلي حتى الآن!»
وتدخل الجدة إلى الغرفة وتحمل المولودة وتعيدها إلى فراشها.
والجد لا بد أن ينصرف سريعا ليقابل وكلاء الوزارة وموظفيها المختصين لمواصلة بحث موضوعي مباني المدارس والكتب اللازمة لمقابلة الزيادة الضخمة المنتظرة في أعداد الطلبة بعد إعلان مجانية التعليم.
وفي مكتب الوزير: يدخل الأستاذ جعفر النفراوي، وكيل الوزارة، يعرض على الوزير تقريره.
والوزير بعد سماع التقرير وسماع الإيضاحات التي طلبها يقول للوكيل: «اترك التقرير والمقترحات معي، سأدرسها وأتحدث فيها مع وزيري المالية والأشغال، ثم أدعوكم غدا مساء لمواصلة البحث، ولكن ليكن واضحا أنني لا أوافق على أي تأجيل، المباني تكون أبسط ما يكون، الأثاث كذلك، أما المعامل وما يلزم للتدريس فلا بد أن تكون أحسن الممكن، نحن لا نريد أي تعليم، الهدف هو أحسن تعليم ممكن، وبلوغنا هذا الهدف أو تقصيرنا في بلوغه هو مقياس نجاحنا أو فشلنا، ليكن ذلك مفهوما وواضحا للجميع.
التعليم يجب أن يكون متاحا للجميع كالهواء والماء، نعم، ولكن الماء لا بد أن يكون صالحا، والهواء يجب أن يكون نقيا، والتعليم يجب أن يكون سليما مؤديا إلى ما نطمح إلى تحقيقه من نتائج. عن المال، سأكلم وزير المالية عن المطلوب، وزارة النحاس باشا كلها مرتبطة بما جاء في خطاب العرش من إتاحة المجانية للجميع، ولكن الحقيقة أن القادرين من أبناء مصر لا بد أن يساعدوا أيضا، وأن يساعدوا بسخاء إذا أرادوا أن يتحاشوا فرض ضريبة خاصة وعالية لصالح التعليم. سأقوم بنفسي بزيارة المديريات لحث الأغنياء فيها على التبرع لإنشاء بعض المدارس المطلوبة.» •••
وتعود الوزارة إلى القاهرة، ويعود طه حسين إلى بيته في الزمالك، وهو يجلس فيه يتحدث مع زوجته.
تقول سوزان وهي ترفع صوتها بالاحتجاج: «غير معقول أن تسافر في قطارات، وتطلع وتنزل، ألا تذكر ما حدث عندما كنا في قطار النحاس باشا المسافر إلى الصعيد؟ لقد كدنا نموت في الزحام.»
ويرد الوزير: «القطارات ... أنا لي تاريخ قديم مع القطارات، حكيت لك عندما نسيني أهلي في القطار؟»
وتجيب سوزان: «نعم أذكر، ولكن المهم الآن هل أنت مصمم على السفر الآن، وبالقطار، وفي جولات في الريف؟»
ويقول الوزير: «أسافر، نعم، للدفاع عن أمثال ذلك الصبي البائس الذي نسيه أهله في القطار! ثم لا تنسي أنني لست زعيما ولا حتى قطبا من أقطاب الوفد، لن تكون هناك جماهير ولن يكون هناك زحام.»
وتقول سوزان: «أحضر معك.»
ويرد طه: «هذا هو المستحيل، هل تعلمين عدد فناجين القهوة والشاي التي ستقدم لي، والتي سأشربها بإذن الله؟» •••
محطة المنصورة غاصة بالجماهير التي تهتف بحياة الوزير عندما يقترب القطار.
طه حسين ينزل ويشق الزحام إلى السيارة التي تتجه به إلى السرادق الذي سيخطب فيه. الوزير يجلس على المنصة وإلى جانبه مدير الإقليم وعدد من المسئولين. الوزير يبدأ خطابه.
التيار الكهربائي يقطع أثناء الخطاب، وهناك من يعتقد أن بعض المسئولين الحكوميين الذين كانوا يعارضون حركة نشر التعليم قد تعمدوا قطعه، ولكن صوت الوزير الجهوري يعلو ويسمع بغير ميكروفون، فإن الجمهور الضخم قد التزم الصمت التام ليسمع في هدوء وشغف، وينتهي الخطاب فينفجر التصفيق والهتاف.
ويقول مدير الإقليم للوزير: «يا معالي الوزير، هذا يوم لن تنساه مديرية الدقهلية، على فكرة الدعوات تنهال علينا، وبإذنكم سأعتذر عنها اكتفاء بالاحتفال الذي تقيمه المديرية وندعو إليه الجميع.»
طه حسين: «لا، لا تعتذر عنها، قل لهم سأقبل الدعوات، ولكن بالثمن!»
المدير يضحك، ولكن الوزير يقول جادا: «فنجان القهوة بألف جنيه ، والأكل غداء أو عشاء بخمسة، هذه المبالغ تستعمل في بناء المدارس ... قل لهم إن الجهل كالحريق، ولا بد من تعاون الجميع على إطفائه بأي شكل، بأي مياه متاحة، ليس من الضروري أن يكون الماء مكررا، أريد أراضي يتبرع بها أصحابها للمدارس، وأموالا يتبرع بها أصحابها للمباني. إن وزير المالية، بناء على طلب رئيس الوزراء، قد أعطى كل ما يستطيع، البلد أيضا لا بد أن تساهم في إنشاء هذه المدارس الجديدة حتى يمكن أن تفتح أبوابها في أول العام الدراسي الجديد، هذه هي المساهمة المطلوبة من أهل المديرية وأصحاب الرأي في المديرية، وكذلك أصحاب السلطة فيها يجب أن يعملوا على تقديمها.»
ويعود طه حسين إلى مكتبه بالقاهرة ليستقبل أعضاء مجلس نقابة المعلمين، لقد انتخبه المعلمون نقيبا لهم بالإجماع، أعضاء النقابة يذكرون مقال الوزير المنشور في شهر أغسطس 1949 بالأهرام عن المدرس بعنوان «إرهاق وإملاق»، ويقولون له: «إن المدرسين يحفظونه عن ظهر قلب ويسمعونه لبعضهم «محفوظات».»
ويدعو النقيب وأعضاء النقابة الوزير لحضور الاحتفال الذي تقيمه النقابة.
وفي احتفال النقابة طه حسين يلقي خطابه عن ضرورة إنصاف المدرس.
يقول طه حسين: ... وأقسم لو استطعت ألا أترك من المعلمين مظلوما إلا أنصفته، ولا متأخرا إلا قدمته، ولا طالبا إلا أجبته إلى ما يطلب، ولا ساخطا إلا أرضيته؛ لكنت أسعد الناس في هذه الدنيا.
ويقول في نفس الخطاب:
وأنا أتمنى مع ذلك للمعلمين إتقان موادهم، وإتقان تعليم هذه المواد في المدارس ...
وفي مكتبه بالوزارة يتحدث في اليوم التالي إلى بعض معاونيه فيقول: «إننا محتاجون إلى مدرسين، إلى أعداد كبيرة، ليس لمصر فقط بل للبلاد العربية كلها، وربما لغيرها أيضا. ولتخريج المدرسين تلزمنا الجامعات، التي تلزمنا طبعا لتحقيق أهداف أخرى هامة غير تخريج المدرسين. مصر هي قبلة التعليم العالي في العالم الإسلامي منذ زمن طويل، لدينا الأزهر أقدم جامعات العالم حتى الآن، وفي العصور القديمة كان عندنا جامعة الإسكندرية، وقبلها وفي عصر أقدم كانت لدينا جامعة عين شمس، هذه الجامعات يجب أن تعود إلى الوجود، القاهرة موجودة والإسكندرية موجودة، والآن يجب أن نعنى بإنشاء جامعة عين شمس، هناك جامعة رابعة جامعة أسيوط وهي تحت الإنشاء، وأنا أرجو أن يوافق البرلمان على إنشاء هاتين الجامعتين الجديدتين رغم معارضة بعض الأعضاء، بعضهم يعارض لأنه لا يريد التعليم، وبعضهم لأنه لا يريد إنفاق المال. أما الذي يعارض لأنه لا يريد أن يتعلم الشعب فإننا لا نشغل أنفسنا بالرد عليه، أما الذي يعارض رغبة في اقتصاد المال فإننا نقول له إن هذه الأموال لا تهدر، بل تستثمر. ولا بد من أن يكون هذا واضحا للجميع، إننا لا نريد إسرافا ولا نقبله ولا نتسامح فيه، ولكننا نريد أن ندرج في الميزانية الجديدة كل ما يلزم للنهضة العلمية التي يريدها الشعب وتريدها الوزارة؛ لأن هذه النهضة ضرورية لتقدمنا المادي، إلى جانب ضرورتها للتقدم الثقافي. ولا تنسوا أنني سأكون المطالب بالدفاع عن هذه الميزانية أمام البرلمان، وأنا لا أريد أن أدافع عن أي عبث أو إسراف.»
ويقول وكيل الوزارة: «المهم أن نجد معاونة من وزارة المالية واستجابة من البرلمان.»
ويرد الوزير: «المفروض أننا نحن الذين نستجيب للبرلمان؛ لأنه برلمان الشعب وما نطلبه هو بعض ما يطلبه الشعب. أريد الميزانية جاهزة، ببياناتها وأرقامها واضحة، سأحتاج إلى هذه الأرقام والإحصائيات في خطابي أمام البرلمان.» •••
مدير مكتب الوزير يذكره بأن احتفال جامعة القاهرة بإعطاء درجة الدكتوراه الفخرية للمسيو إدوار هريو سيكون بعد باكر، ويقول له: «ومعاليكم تقدمون ميزانية الوزارة في مجلس النواب بعد ذلك بيوم.» •••
الجامعة تحتفل بمنح درجة الدكتوراه الفخرية لرئيس البرلمان الفرنسي إدوار هريو وقد حضر ليتلقى الدرجة، وحين ينتهي مدير الجامعة من إلقاء كلمته في الاحتفال يقف طه حسين وزير المعارف ويلقي كلمة يقول فيها:
سيدي الرئيس ...
إني سعيد حقا بأن أشارك في هذا الاحتفال الجامعي البسيط، لأعرب لك عما تجده حكومتنا من الغبطة حين تشارك الجامعة المصرية في الترحيب بك والتقدير لك والإعجاب بآثارك الخصبة المتنوعة ...
لقد شاركت، موفقا، في كثير من ضروب البحث العلمي والإنتاج الفني؛ فأنت الأديب الفذ، وأنت المؤرخ الثبت ، وأنت الموسيقى البارع. وساهمت موفقا أيضا في أنواع مختلفة من النشاط العلمي، فأنت المصلح الاجتماعي، وأنت المربي الماهر، وأنت السياسي العظيم.
وإن حبك لمدينتك «ليون» ليضرب به المثل، كما أنك لا تدخر جهدا إلا بذلته في سبيل مجد وطنك الكبير «فرنسا». وأنت بعد هذا الرجل الذي يتجاوز نشاطه وتفكيره حبه مدينته ووطنه إلى الإنسانية كلها، فيعنى بما تحتاج إليه من السلم، وبما تحتاج إليه من تنظيم التعاون السياسي والاقتصادي والعقلي بين الشعوب.
سيدي الرئيس
إن حياتك الخصبة درس قيم للشباب وللشيوخ جميعا، فثق أن هذا الدرس قد فهم في مصر في كثير من الحب والإعجاب. وأذن لي بأن أقدم باسم الحكومة المصرية أصدق التحيات وأخلص الأماني.
ويعود الوزير إلى مقعده بجوار مدير الجامعة ويقول له: «لم أكن مرتاحا وأنا أتحدث باعتباري وزيرا.»
ويرد المدير بقوله: «لقد تحدثت أيضا باعتبارك أستاذا، تحدثت باسمنا جميعا، تحدثت في الواقع باسم مصر.» •••
مجانية التعليم وانتشاره يترتب عليهما زيادة ميزانية وزارة المعارف، وهذه الميزانية تحتاج إلى دفاع طه حسين عنها أمام البرلمان.
طه حسين ينتهي من خطابه في مجلس النواب، ويقول أحد النواب لزميله بعد رفع الجلسة: «أربع ساعات عرض فيها طه حسين ميزانية وزارته بأرقامها وإحصائياتها بتبسيط ووضوح ومنطق شديد الإقناع.»
ويرد النائب الثاني بقوله: «الإقناع صادر عن الاقتناع.»
ويقول نائب ثالث: «أكثر المدارس المطلوبة بنيت، والمدرسون تم إعدادهم وتعيينهم، والكتب كذلك، المال وجد، هذه معجزة، بل هذه معجزات.»
ويقول النائب الأول: «مجلة المصور هذا الأسبوع تقول - ولها حق - إن رؤية طه حسين في وزارته تشبه رؤية قائد بين جنوده.»
ويقول النائب الثاني: «وأنت تعرف ماذا كان الإنجليز يقولون عن نابليون، كانوا يقولون إن وجود نابليون بين جنوده يعادل وجود عشرة آلاف جندي مسلح.»
ويقول العضو الثاني: «طه حسين نعم القائد! ربنا ينصره! هل عرفت أن جامعة أكسفورد قررت إعطاءه درجة الدكتوراه الفخرية؟» •••
الوزير يخرج من قاعة مجلس النواب ويقابله الدكتور سليمان حزين والأستاذ محمد فتحي والأستاذ محمد رفعت وكيل وزارة المعارف.
يقول حزين : «لقد عرفناك أستاذا عظيما لنا، ها أنت ذا قد أصبحت أستاذا عظيما لنواب الأمة، لقد أقروا الميزانية كما هي، وستنشأ جامعة أسيوط وجامعة عين شمس بالشكل الذي رسمته وأردته.»
ويقول وكيل الوزارة الأستاذ محمد رفعت: «أردت أن أطلع معاليك على الشكل الأخير لبرنامج السفر إلى أكسفورد، وعندي مشروع تكوين الوفد المسافر معك، وفيه الأستاذ محمد فتحي والأستاذ حسين عزت.»
ويقول الأستاذ محمد فتحي: «لي رجاء أن تأذنوا لي في السفر قبل معاليكم.»
ويقول الوزير للثلاثة: «اركبوا معي نقرأ ما عندكم بالسيارة.» •••
في قاعة الشلدونيان في مدينة أكسفورد، طه حسين يدخل لابسا الثوب الخاص بدرجة الدكتوراه بجامعتها، وخارج القاعة طلبة وجمهور يتجمعون لرؤية الوزير المصري، ينتظرون انتهاء مراسم الاحتفال، وتنتهي المراسم، ويخرج طه حسين مع حرمه وولده مؤنس وهو يقول لهما: «علينا الآن أن نسافر إلى مانشستر.»
ومن خلفهم يخرج محمد فتحي وحسين عزت وهما يعلقان على الاحتفال، يقول حسين عزت: «ما أروع الاحتفال!»
ويقول محمد فتحي: «وما أروع تقاليد الجامعة!»
ويرد حسين عزت: «وأهم من هذا كله ما أروع الوزير!»
ويقول حسين عزت: «الوزير قال لنا مرة إن التقاليد الجامعية، وحتى الأرواب الجامعية، متطورة عن تقاليد الأزهر القديمة.»
ويرد محمد فتحي: «لقد وصف الوزير الأزهر بأنه مشرق النور الديني للبلاد الإسلامية كلها»، ثم يقول: «هذا يوم من أيام طه حسين»، ويقول صاحبه: «بل هذا يوم من أيام مصر.» •••
ويصل الوزير طه حسين ومن معه إلى مانشستر، ويخرج حسين عزت ومحمد فتحي إلى السوق ليشتريا ربطات للعنق، ويسألهما البائع بعد أن اختارا ما يريدان: «أي شيء آخر؟»
ويرد فتحي: «لا، شكرا.»
ويقول حسين: «الثمن من فضلك.»
ويسأل البائع: «أنتما في معية الوزير المصري؟»
ويقول فتحي: «نعم.»
فيقول البائع: «إن لكما أن تفخرا به، ولبلدكما أن تفخر به كل الفخر.»
ويقول حسين: «هذا صحيح، نشكرك جدا.»
ويسأل محمد فتحي: «والثمن؟»
ويرد البائع: «لا شيء، لقد أسعدني هذا الصباح أن أقابل رجلين من أصحاب هذا الرجل العظيم.»
ويسأل حسين: «شكرا، ولكن هل تعني ...؟»
ويقول البائع: «أعني أنني لن أقبل منكما ثمن ما اشتريتماه.»
والمشتريان يلحان والبائع يرفض، ويضطران للانصراف شاكرين، ويقول حسين عزت: «هل رأيت؟ هل تصدق؟ لقد كانوا يحذروننا ونحن صغار قبل أن نغادر مصر لأول مرة من أن «نفاصل» ولو في بنس واحد في بلاد الإنجليز، والآن هذا الرجل ...!»
ويقول محمد فتحي: «يرفض أن يأخذ ثمن الكرافتات إكراما لطه حسين!» •••
وتقيم جامعة مانشستر حفل عشاء لتكريم طه حسين، وبعد العشاء يقف أستاذ إنجليزي لإلقاء كلمته: الأستاذ الإنجليزي:
سيادة وزير معارف مصر، سيدي مدير الجامعة، سيداتي وسادتي
اسمح لي يا سيدي الوزير أن أحييك بأبيات من شعر شاعر عظيم من شعراء لغتكم؛ لأني وجدت هذه الأبيات أصدق ما أصفكم أنتم به، هذه الأبيات هي من شعر شاعر القرن العاشر الميلادي أبي الطيب المتنبي، يقول فيها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم
وتضج القاعة بالتصفيق الشديد، ويقول طه حسين لزوجه: هذه الجامعة درس العربية فيها أستاذ فاضل هو الأستاذ مهدي علام. •••
وفي أثناء حفلة العشاء التي أقيمت تكريما له في الجامعة يسقط طه حسين مغمى عليه، ويذاع الخبر في الإذاعة البريطانية وتنشره صحف الصباح في إنجلترا، وتطيره عنها البرقيات والتليفونات إلى مصر وجميع أرجاء العالم.
وفي مصر في ساحة الجامعة في الجيزة طالب يقول: «هذا نتيجة إنهاك العميد لنفسه وعدم مبالاته بالتعب، لقد سافر إلى مدينته نيس في فرنسا وانتهت زيارته هناك بإنشاء كرسي مصر لدراسات البحر الأبيض، وإلى روما حيث منح درجة الدكتوراه الفخرية، وحيث شارك في أعمال أكاديمية عالمية جديدة مثل مؤسسة نوبل تقريبا اسمها أكاديمية لينشي وقع عليه الاختيار ليكون أحد محافظيها، وإلى أثينا فاستقبله الملك والملكة هو وسفيرنا الأستاذ عدلي أندراوس استقبالا رائعا وانتهت الزيارة بإنشاء كرسي لتدريس اللغة العربية في اليونان، وسافر إلى مدريد حيث افتتح المعهد المصري للدراسات الإسلامية في ذلك البلد ذي الصلة الوثيقة بالإسلام والعرب، الذين عاشوا فيه مئات السنين ، وقد اشترك في الاحتفال أحد العلماء الإسبان البارزين وهو جارسيا جوميز الذي كان تلميذا لطه حسين، فتحدث عن فضل وزيرنا على العلم والعلماء في مصر وفي إسبانيا أيضا.» •••
وفي القاهرة، في كلية الآداب، يقول طالب من طلاب قسم التاريخ لزميل له: «أستاذنا شفيق غربال ألقى أمس محاضرة هامة عن كتاب «الحضارة العربية بإسبانيا» تأليف ليفي بروفنسال.»
ويرد زميله: «نعم عرفت، ومن حسن الحظ أن الأستاذ شفيق غربال بعد أن أصبح وكيلا لوزارة المعارف، لا يزال يبحث ويقرأ ويحاضر أيضا!»
ويقول الطالب الأول: «المحاضرة كانت ضمن سلسلة اسمها «حديث الكتب الجديدة»، المقصود منها تعريف المشتغلين بالتعليم بما يظهر من الكتب الهامة، وشفيق غربال انتهز مناسبة سفر الوزير طه حسين إلى مدريد لافتتاح المعهد المصري هناك فاختار هذا الكتاب ليحاضر عنه، وقد تعرض الكتاب لمسائل منها مسألة تأثير فتح العرب لإسبانيا على حضارة البحر الأبيض المتوسط، واستشهد بعبارات للكاتب الإسباني كلوديو سانشيز ألبورنز، الذي كان مديرا لجامعة مدريد ثم وزيرا لخارجية إسبانيا، قال فيها: «إن للإسباني أن يفتخر بما لإسبانيا الإسلامية من تأثير على حضارة أوروبا الغربية؛ لأن إسبانيا الإسلامية كانت من أهم أسباب نهضة أوروبا الحديثة.» ويقول زميله: لا شك أن في مثل هذا الحديث العلمي خير دعاية لنا نحن العرب.»
ويقول طالب آخر: «لقد سمعت أن طه حسين يعمل لإنشاء معهد مصري في الجزائر أيضا.»
ويرد الأول: «لقد سمعت أن هناك وزراء حاليين ينتقدون فتح المعاهد الثقافية المصرية في خارج البلاد.» •••
وينعقد مجلس الوزراء ذات يوم وينصرف الوزراء بعد الاجتماع، ويلزم الدكتور طه حسين منزله في اليوم التالي ليملي على سكرتيره خطابا إلى رئيس الوزراء يقول فيه:
حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء
1
أتشرف بأن أرسل إلى مقامكم الرفيع استقالتي من الوزارة بعد الدرس القيم الذي سمعته أمس من أحد الزملاء الوزراء، الذي علمني التواضع وأقنعني بأني لا أصلح للوزارة لأني أحسن القشور من إنشاء المعاهد التي لا تغني.
ولست أرى بأسا من أن يأخذ مجلس الوزراء برأي الزميل الكريم، فيعدل عن إنشاء معهد الجزائر، ويلغي معهد مدريد وكرسي محمد علي بمركز البحر الأبيض المتوسط بمدينة نيس وكرسي اللغة العربية بجامعة أثينا، فكل هذه قشور لا تحارب الاستعمار ولا تحقق استقلال الأمم العربية.
عزيز علي أن أشق على مقامكم الرفيع بهذه الاستقالة في وقت أنتم أحوج ما تكونون فيه إلى التفرغ لما تعنى به البلاد كلها من جلائل الأعمال، ولكن من تواضع لله رفعه، وصدق الشاعر حين قال:
ومن جهلت نفسه قدرها
رأى غيره فيه ما لا يرى
وقد كنت أجهل قدر نفسي إلى أمس فقد عرفته الآن.
ولمقامكم الرفيع أخلص تحياتي وأصدق مودتي وأمتن وفائي.
طه حسين
أول أكتوبر 1951 •••
وترفض الاستقالة.
وبعد أيام في مجلس الوزراء يتحدث وزير المعارف مع رئيس الوزراء، فيقول طه حسين: «فيما يخص معهد الجزائر، الإخوة أهل الجزائر يرحبون به بل يطالبون به، وكنت أتحدث في هذا الموضوع مع السفير الفرنسي في مصر فرحب به هو شخصيا، وكتب لحكومته التي أخذت تبعث بأسئلة واستيضاحات لا معنى لها ولا سبب إلا الرغبة في التسويف ثم الرفض.»
ويرد رئيس الوزراء النحاس باشا: «طبعا فرنسا تعتبر الجزائر جزءا منها، واللغة الفرنسية هي لغة المستوطنين الفرنسيين الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب البلاد، وإنشاء مصر معهدا للحضارة الإسلامية والعربية في الجزائر معناه مقاومة هذا الاتجاه الاستعماري، وهذا لن تسمح به باريس، لن تسمح به حتى يضطرها الجزائريون وتضطرها مصر ويضطرها العرب جميعا إلى ذلك!»
ويقول طه حسين: «وزارة المعارف كانت تفكر في التقدم لمجلس الوزراء بمشروع إنشاء مدارس مصرية ثانوية في شمال أفريقيا وغيرها، على مثال الليسيه التي تنشئها فرنسا خارج بلادها، ولو توافرت لنا الإمكانات لاستطعنا أن نفرض إنشاء هذه المدارس في البلاد العربية الواقعة تحت الاستعمار، وذلك بتهديدنا للحكومات الاستعمارية بإغلاق مدارسها عندنا إذا هي لم توافق على إنشاء مدارسنا في الأراضي العربية التي تحتلها.»
ويقول النحاس باشا: «طبعا، هذه الأفكار واردة في كتاب «مستقبل الثقافة»، وطبعا ستذكرني بأنني مرتبط، أنا غير ناس ... لكن واحدة واحدة.
والآن ندخل الجلسة وسترى أن أحدا من إخواننا لن يعارض آراءك.» •••
في منزل الوزير، الوزير يتحدث مع الدكتور الجراح محمد كامل حسين ومع الدكتور حسين فوزي والأستاذ توفيق الحكيم عن معهد الأحياء المائية المقام في قايتباي، ومجهود الدكتور حسين فوزي هناك، ويستطرد الحديث إلى الموسيقى وإلى دور الكونسرفتوار في مستقبل الموسيقى في مصر، يقول الدكتور حسين فوزي: إنكم ساعدتم على إحداث ثورة في التمثيل في مصر بإنشاء معهد التمثيل، وشاركتم في أول امتحان عقد في عام 1930 في نادي الموسيقى الشرقي للمتقدمين والمتقدمات للالتحاق بالمعهد.
يقول طه حسين: «نعم، كانت لجنة الامتحان برياسة الأستاذ محمد حسن العشماوي، السكرتير العام لوزارة المعارف في ذلك الوقت، وكان من أعضائها الأساتذة جورج أبيض وزكي طليمات وإبراهيم رمزي، ثم جاء الوزير حلمي باشا عيسى فألغى المعهد، ولكن حلمي باشا عيسى ذهب والمعهد بعث بعد ذلك من جديد، وكان له أثره الكبير في تطوير التمثيل.»
ويقول كامل حسين: «نريد مزيدا من الاهتمام بالمعاهد الثقافية في الخارج أيضا.»
ويرد طه حسين قائلا: «نحن الآن مشغولون بإنشاء معاهد للغة العربية والدراسات الإسلامية خارج مصر، إن اللغة العربية مهددة في الجزائر وشمال أفريقيا، ويجب على مصر أن تعين أهل المغرب في جهادهم للمحافظة على لغتهم وثقافتهم.»
كامل حسين: «إن كتاباتك وكتابات الأدباء المصريين تهرب إلى إخواننا في المغرب تهريبا، ومجلة مثل «الرسالة» يتداولها أهل الجزائر سرا، ويعرفون منها أن اللغة العربية لغة حية كاللغة الفرنسية، وليست لغة متحجرة منقرضة كما يريد المستعمر أن يفهمهم؛ ولهذا تحارب سلطات الاستعمار مؤلفات طه حسين وزملائه ومجلة الرسالة وما يماثلها.»
ويرد طه حسين: «هيهات! لن يفلحوا في أن ينسى أهل المغرب لغتهم، إن جامعة الزيتونة لها في المغرب مقام يقارب مقام الأزهر عندنا.» •••
وفي كلية الآداب يقول أستاذ لزميله: «ما هذا العيد الألفي لمدينة القاهرة والعيد الألفي لجامعة الأزهر اللذان لا يزالان يذكران منذ سنين، تستيقظ البلاد لتتحدث عنهما ثم تنام؟!»
ويقول زميله: «المفروض أن نحتفل هذا العام بالعيد الألفي للأزهر والعيد الفضي لجامعتنا المصرية .»
ويقول الزميل الأول: «العيد الفضي يعني مرور خمس وعشرين سنة، وقد مر على إنشاء الأزهر أكثر من ألف عام! مصر إذن ستحتفل بأقدم جامعة وأحدث جامعة في العالم هذا العام.»
ويقول الزميل الآخر: «نرجو ذلك، على أن جامعتنا الحديثة قد أخذت فعلا في إعداد الاحتفال، وأرسلت الدعوات وعينت المواعيد.» •••
ويقام حفل كبير في «أنشاص» للمدعوين للاحتفال بعيد جامعة القاهرة الفضي، يتجولون في الحدائق ويتحدثون عن معرض الفن الإسلامي الذي أقيم في مناسبة هذه الاحتفالات في سراي المانسترلي في موقعها البديع المطل على النيل في منيل الروضة، وقد أبرز المعرض معالم الحضارة في مصر والحواضر الإسلامية على مدى ألف وأربعمئة عام. كذلك يتحدث المدعوون عن الحفل الذي سيدعى إليه سفراء الدول جميعا في القاهرة في مناسبة عيد الجامعة، وعن معهد الصحراء الذي سيفتتحه الملك في هليوبوليس ويحضره جميع المدعوين للمشاركة في احتفالات العيد الفضي للجامعة.
وفي معهد الصحراء في هليوبوليس، يفتتح الملك فاروق المعهد، ووزير المعارف «طه حسين» يتحدث أمامه عن أهمية الصحراء في العالم العربي والإسلامي كله، وأهمية دراسة إمكاناتها دراسة كاملة مستفيضة، بحثا عن معادنها ومياهها، وصيانة لمعالمها وآثارها، ويذكر فضل بعض كبار المصريين الذين عنوا بالصحراء واقتنوا مجموعات نافعة متصلة بحياة الصحراء، وقد أهدوها الآن إلى هذا المعهد، الذي سوف يتوفر على دراسة كل ما يهم العلماء، وكذلك كل ما يهم العاملين لخير مصر والعرب من أمور الصحراء.
ينتهي الاحتفال والملك يشكر الوزير بعد انتهاء الحفلة يقول له: «متشكر يا «باشا».» •••
في منزله بالزمالك عام 1951 يدخل طه حسين «باشا» الصالون وهو يحمل صندوقا متوسط الحجم، وزوجته تستمع إلى أسطوانة موسيقية تدور على «الفونوغراف» الذي اشترته عام 1934.
يقول طه: «الدنيا تطورت، هذا الفونوغراف استهلك.»
وترد سوزان: «لا، إنه يؤدي المطلوب منه، ما هذا؟»
ويقول طه: «هذا «ماجنتفون» أو ما يسميه الإنجليز «ريكوردر» ... خليفة الفونوغراف الذي توفي إلى رحمة الله!»
وتقول سوزان: «أنت تعرف أنني لا أفهم كثيرا في هذه الآلات.»
فيشرح طه حسين لها بالتفصيل ماذا يجب أن تفعل ، وهي تعمل ما يطلبه، والريكوردر يشتغل، وتسمع ألحانا من أوبرا حلاق أشبيلية.
وتقول سوزان: «حلاق أشبيلية! هذا تسجيل للفرقة الإيطالية التي كانت هنا في الشتاء الماضي! تذكر عندما ذهبنا ...؟» وتسكت وهي تتخيل دار الأوبرا وبنوار الوزير وهو يسمع بانتباه، وتستعيد المنظر على مسرح الأوبرا وطه حسين يتابع الموسيقى ووقع خطوات الراقصين.
وتقول سوزان: «هل تذكر الخطاب الذي وصلنا في اليوم التالي؟»
ويرد طه: «نعم، الشاب المسكين الذي قال إنه كان يعاني من مصاعب وشدائد في حياته.»
وتقول سوزان: «لقد كتب لك أنه عندما رآك في الأوبرا أقسم أنك لم تكن تتابع الموسيقى فقط، بل كنت تتابع الرقص التوقيعي أيضا، وأنه بعد أن رأى ذلك وأدرك كيف واجهت أنت بنجاح كل صعب وتحملت بنبل كل حزن، اتضح له أن مشاكله هو وأحزانه لا وزن لها، وأحس وهو يراك أنه يتخفف تماما مما كان يثقله من المشاكل، وأنه ينتصر هو أيضا على أحزانه.»
ويقول طه: «نعم، أذكر الخطاب ولا أعرف من صاحبه حتى الآن، أذكر أنه قال إنه كان زميلا لأولادنا في المدرسة. الانتصار على المشاكل ممكن، أما الحزن فإنه لا يعلن للناس، والناس لا تعرف إن كانت أحزاننا قد هزمت أم لم تهزم ... كيف لهم أن يعرفوا؟»
ويقطع الحديث خادم يقول إن أحد إخوة الدكتور يتكلم من مدينة المنيا بالتليفون، ويتناول طه حسين التليفون فيسأل: «كيف كان ذلك؟ متى؟» ثم يقول: «في أول قطار.»
وتسأل سوزان: «أول قطار! هل تسافر؟! خير؟!»
ويقول طه: «أمي، كانت في أحسن ما تكون من الصحة والنشاط، ثم نامت وفي نومها أسلمت الروح.»
وترد سوزان في حنان قائلة: «خفف عنك، واترك دموعك تنزل، لا تبك بغير دموع، متى نسافر؟ تنام قليلا؟»
طه حسين (يحدث نفسه) :
إذا كان الصباح ووصل القطار إلى المنيا، ووصلت أنا إلى البيت وصعدت السلم، وأردت أن آخذك بين ذراعي، فلن أجدك، لن أراك بعد الآن.
سوزان :
ماذا تقول؟
طه حسين :
سيكون البيت خاليا منها هذه المرة، كما خلا من قبل من والدي ، هي المرأة الأولى في حياتي وأثرها باق عظيم.
البرلمان المصري يقرر إلغاء المعاهدة البريطانية المصرية المعقودة عام 1936.
رئيس الوزراء مصطفى النحاس يقول في البرلمان يوم 8 أكتوبر 1951: «باسم مصر أمضيت المعاهدة وباسم مصر ألغيها.» الإنجليز يرفضون هذا الإلغاء، وتتصاعد الأحداث، ويهاجم جيش الاحتلال البريطاني مركز البوليس في الإسماعيلية، فتدافع عنه القوة الموجودة فيه دفاع الأبطال.
وفي 26 يناير 1952 يقع حريق القاهرة، وفي اليوم التالي تسقط وزارة مصطفى النحاس.
وفي منزل طه حسين يحضر عدد كبير من الأساتذة والصحفيين للزيارة بعد إعلان سقوط وزارة النحاس باشا، منهم الأستاذ إبراهيم مصطفى والأستاذ مصطفى عبد الرازق والدكتور محمد كامل حسين، كذلك ويحضر عدد من الزائرين من بينهم بعض أفراد أسرة رفاعة الطهطاوي ومعهم هدية الدكتور طه حسين وهي صورة لجدهم وعليها إهداء، هو: ... إلى طه حسين الذي أحيا في النصف الثاني من القرن العشرين مدرسة الألسن، التي أنشأها جدنا رفاعة الطهطاوي في عهد محمد علي باشا عام 1836.
ويقول طه حسين: «أنا متأثر حقيقة لتقديمكم هذه الهدية، إن صراع مصر الثقافي طويل، نعم، محمد علي باشا أنشأ المدرسة، كانوا يدرسون فيها الإنجليزي والطلياني والتركي والفارسي، ولكن خلفاء محمد علي أغلقوها.»
وبعد انصراف أكثر الزوار يقول الدكتور محمد كامل حسين للوزير السابق: «مبروك، تعود إذن للإنتاج، لا أقول تأخذ شيئا من الراحة!»
ويقول طه حسين: «نعم، سأجد وقتا أكثر للمجمع ولجانه، وكذلك لإملاء الجزء الثاني من كتاب الفتنة الكبرى، خطتي أن يصدر الكتاب في أربعة أجزاء لم يصدر منها حتى الآن سوى الجزء الأول عن سيدنا عثمان، الآن أبدأ الجزء الثاني، وقد اخترت عنوانه وسيكون «علي وبنوه».
لا بد من الدراسة العميقة لكل هذه الأحداث الخطيرة التي أدت إلى مصرع الخليفة عثمان، والتي انتهت بانقسام العالم الإسلامي، وقد كان من بين هذه الأسباب سخط المصريين لما نزل بهم من المظالم.»
ويقول إبراهيم مصطفى: «يظهر أن المظالم مكتوبة على المصريين منذ زمان بعيد ... وأن سخطهم لا يتأخر أيضا، لو سمعت تعليقات الناس هذه الأيام على تصرفات السراي ...» •••
وفي دار المجمع اللغوي طه حسين يقول لأمين سر المجمع «الدكتور إبراهيم بيومي مدكور»: «في هذا المبنى ومع أعضاء اللجان أتذوق لذة العمل المخلص، الذي يتحاشى الأضواء، في خدمة اللغة التي هي أساس القومية العربية، لا أجد هنا الفائدة فحسب بل أجد الراحة أيضا. صديقنا الأستاذ محمود عزمي - أطال الله بقاءه - يستعمل تعبير «بلاد العربية» لأن الحقيقة أن الرابطة بين هذه الملايين هي أساسا اللغة الفصيحة، التي يصونها هذا المجمع الذي يتصدى لهجمات المطالبين باستعمال اللهجات العامية، وهذه مطالبة شديدة الخطر لا على لغتنا فقط، بل على تراثنا الفكري وعلى قوميتنا العربية.»
ويقول الدكتور مدكور: «إن زميلنا عبد العزيز باشا فهمي يرى - كما تعلم - أن نكتب العربية بالحروف اللاتينية.»
ويرد طه حسين: «عبد العزيز باشا فهمي عقله من أكبر العقول في مصر، ولغته العربية فصيحة بليغة، وهو كما تعلم صديق من أعز الأصدقاء، ولكني أرفض رأيه هذا وأحاربه حربا لا تتوقف حتى نقضي تماما على هذه الفكرة. اللغة التركية يمكن أن يكتبها أهلها باللاتينية، أما اللغة العربية فلا، اللغة التركية ليست لها حروف خاصة بها أصلا.» •••
مايو عام 1952.
طه حسين في مكتبه بالمنزل يملي على سكرتيره الجزء الثاني من كتاب «الفتنة الكبرى»، يقول: «... وكان شديد الحرص على أن يحقق المساواة بين الناس في قوله وعمله وفي وجهه، وفي قسمته لما كان يقسم فيهم من المال، بل كان يحرص على هذه المساواة حين يعطي الناس إذا سألوه ... جاءته امرأتان ذات يوم تسألانه، وتبينان فقرهما، فصرف لهما حقهما، وأمر من اشترى لهما ثيابا وطعاما وأعطاهما مالا، ولكن إحداهما سألته أن يفضلها على صاحبتها لأنها امرأة من العرب وصاحبتها من الموالي، فأخذ شيئا من تراب فنظر فيه ثم قال: ما أعلم أن الله فضل أحدا من الناس على أحد إلا بالطاعة والتقوى.»
ويتوقف الإملاء للرد على التليفون.
ويسمع طه حسين حديث محدثه ثم يضع السماعة.
ويقول طه حسين: «وزارة جديدة! إن الوزارة السابقة لم تكمل شهرا واحدا! مسكينة مصر، كيف يمكن العمل في هذا الجو؟!»
ويقول السكرتير: «لن ننتهي إذن من هذا الكتاب قبل السفر.»
ويرد طه: «لا بأس، نكمله في إيطاليا، قبل أو بعد مؤتمر اليونسكو في البندقية في سبتمبر القادم إن شاء الله، لا تنس أن نأخذ معنا كتاب «بحار الأنوار» وكتاب «فرق الشيعة».»
ويقول السكرتير: «جاهزان، وهل نأخذ أيضا الكتاب الذي كنا نقرأ فيه أمس؟»
ويقول طه حسين: ««الأصول المهمة في معرفة الأئمة» لابن الصباغ؟ نعم، أرجو أن يكون لدينا الوقت في الصيف لمراجعة هذا كله ثم لإتمام الكتاب.»
ويقول السكرتير: «وهناك كذلك البحث الذي يجب إلقاؤه في مؤتمر البندقية.»
ويرد طه حسين: «ربنا يهون ... أظن أن عندنا بعض الخطابات؟»
ويقول السكرتير: «هذا خطاب بشأن وصول السيدة هيلين كيلر إلى مصر وطلبها مقابلتكم.»
ويقول طه حسين: «هذه هي السيدة الأمريكية التي لا تبصر ولا تسمع ولا تتكلم والتي تغلبت بعزيمتها الحديدية على كل هذه المعوقات، لا، أنا الذي أذهب إلى زيارتها في الفندق، أظنه فندق «سميراميس»، وأظن أن زوجتي وولدي يحبان أن يذهبا معي، ولكن كيف يكون الحديث معها؟»
ويقول السكرتير: «الخطاب يقول إن معها سكرتيرة اسمها «مس طومسون» تعرف كيف تتحدث إليها، وتنقل ردودها.»
ويقول طه حسين كأنه يخاطب نفسه: «إنها لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم ... إنها لا تتكلم!»
الثورة
في فندق في قرية «كولي إيزاركو» في شمال إيطاليا على حدود النمسا يجلس طه حسين مع سكرتيره وهو مستمر في إملاء كتاب «علي وبنوه» يتوقف ويسأل: «أظن فات موعد وصول البريد؟ انظر هل هناك خطابات وجرائد من مصر، مفروض أن الأستاذ عبد العزيز أحمد يرسلها بنظام.»
ويعود السكرتير ليقول: «لا يوجد بريد من مصر، يوجد خطاب من اليونسكو بشأن مؤتمر الفنانين والأدباء في سبتمبر، في ظرف يحوي أوراقا كثيرة، هل أبدأ قراءتها؟»
ويقول طه حسين: «لا، ليس الآن، كنت أرجو أن تصل خطابات من مصر.»
ويدخل مدير الفندق مسرعا يقول: «تليفون من روما، من السفارة المصرية لمعالي الدكتور.» ويحضر التليفون ويضعه أمامه ليتحدث فيه يقول: «نعم، أنا طه حسين ، أهلا سيادة السفير، ثورة؟ في مصر؟ سمعتم إذاعة القاهرة بأنفسكم؟ ... والملك؟ والإنجليز؟ شكرا سيادة السفير، سأنتظر بجوار التليفون.» ويضع السماعة وينادي منفعلا: «سوزان! سوزان قامت الثورة في مصر، ثورة ضد الملك.»
وتسأل سوزان: «الثورة؟ كيف علمت؟ بالتليفون؟ تليفون من السفارة؟»
ويرد طه: «نعم ... أظن نعود إلى مصر.»
وتقول سوزان: «نسمع الإذاعة أولا، هذا خبر ستذيعه قطعا كل إذاعات العالم.»
ويقول طه: «طبعا، كما أني طلبت أن يوالوني بالأخبار من روما.»
وتقول سوزان: «نسمع الإذاعة أولا، نعود إلى مصر! ومؤتمر البندقية الذي لم يبق على موعد انعقاده سوى أسابيع قليلة، وأنت، أنت مقرر لجنة الأدب في المؤتمر؟!»
ويقول طه حسين: «نعم، وقد وصل هذا الصباح خطاب آخر من اليونسكو وداخله وثائق جديدة لم أقرأها بعد، اليونسكو يكتب بانتظام لإبلاغي كل التطورات، إن المشرف على المؤتمر يرسل لي كل الوثائق، ويلخص لي كل الأوراق، ولا ينسى حتى أن يصف لي اللوحات والتماثيل التي سيراها أعضاء المؤتمر في البندقية وصفا دقيقا جميلا.»
وتقول سوزان: «هذا جميل ومؤثر، ويدل على مدى اهتمامهم بك وتقديرهم لك. خطابك في اليونسكو في سبتمبر سيكون أول خطاب يلقى باسم مصر بعد الثورة، خطاب مصر الجديدة، مصر التي لم تتجاوز الشهر الثاني من عمرها، أظن من الضروري حضور المؤتمر، ثم نسافر فورا إلى مصر.»
ويقول طه حسين: «نسمع أخبار الإذاعة أولا، وننتظر الأخبار من السفارة.» •••
في مدينة البندقية، في القاعة التي ينعقد فيها مؤتمر اليونسكو، في الأسبوع الأخير من سبتمبر 52، طه حسين يلقي خطابه:
في هذه الحقبة المضطربة في حياة الإنسان، لا من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية فقط، بل من الناحية النفسية أيضا، في هذه الحقبة التي يتساءل فيها الإنسان عن مصيره، يجدر بالكاتب أن يلقي ضوءا على موقفه من نفسه ومن قرائه ومن مجتمعه ...
نحن في عصر تتقدم فيه الصناعات، وتتعدد فيه وسائل التسلية واللهو، ويتضاءل فيه لذلك دور الكاتب في تكوين الثقافات، وهناك من الكتاب من يتبسط ليجتذب القراء، فيفرط فيما يفرضه الضمير من ضرورة الالتزام بقواعد الفن وحدها ...
1 •••
وفي الصباح التالي يجلس طه حسين مع زوجته في غرفتهما بالفندق يتناولان طعام الإفطار.
تقول سوزان: «خذ قطعة من التوست وإلا فإني لن أقرأ لك ما نشر عنك في الجرائد الإيطالية في هذا الصباح.»
ويقول طه: «هل تعرفين أني أهتم؟»
وتقول سوزان: «يجب أن تهتم، عندما أردت أن تعود إلى مصر بعد الثورة مباشرة تتذكر أنني عارضت وقلت لك إن خطابك في اليونسكو سيكون أول خطاب دولي لمصر الجديدة، التي ستكون قد بلغت الشهر الثاني من عمرها يوم إلقائك الخطاب.»
ويقول طه: «اقرئي إذن.»
وتقول سوزان: «خذ التوست.»
ويأخذ طه حسين قطعة الخبز.
وتقول سوزان: المقال للسنيور فراري، وقد جاء فيه:
يعقد الآن مؤتمر اليونسكو دورته في مدينة البندقية، ومقرر اللجنة الأدبية هو الكاتب المصري طه حسين، ملهم الثورة الاجتماعية والاقتصادية القائمة في مصر.
ويقول طه حسين: «أستغفر الله!»
وتقول سوزان وهي تتابع القراءة: «وطه حسين عضو في الأكاديمية الإيطالية بروما، وعضو مراسل لأكاديمية الآداب الرفيعة في باريس، والمهمة ...»
ويقول طه حسين ضاحكا: «مصيبتهم سودة ... نسوا مجمع اللغة العربية في مصر، لطفي باشا لن يغفر لهم هذا ...»
وتستمر سوزان في القراءة فتقول: «والمهمة الخطيرة التي عهد بها إليه في المؤتمر الدولي المنعقد الآن في البندقية توطد دعائم صيته الذائع في أرجاء العالم.»
ويقول طه: «كفاية ...» وتتجاهل سوزان طلبه فتقول: «جريدة ثانية تقتبس جزءا من خطابك، الجزء الذي قلت فيه: «كل كاتب وكل فنان لا يستطيع الإبداع إلا بالإخلاص والصدق، شأنه شأن بطل الشاعر دانتي الذي كان يحمل المصباح معلقا إلى ظهره لينير الطريق للذين يتبعونه.» ثم تقول: «والجريدة الأخرى.» ولكنها تتوقف وتقول: «لا ... لا بد أن تأكل التوست قبل أن أقرأها لك.»
ويقول طه: «حاضر.» ويأكل التوست!
وتقول سوزان: «الجريدة الأخرى فيها عنوان رئيسي «مانشيت» أفرحني بالنيابة عنك وعن مصر كلها، إن «المانشيت» هو: هونيجر، وهنري مور، وطه حسين، ورو، يدافعون عن كرامة الفنان.»
وتمر فترة صمت ثم تقول سوزان: «هل تسمع؟ من بين المئات من أدباء القارات الخمس التي تحضر مؤتمر اليونسكو في البندقية الآن تلمع أربعة أسماء وترتفع إلى «المانشيت»، من هذه الأسماء الأربعة اسم أحد الكتاب العرب، اسم طه حسين، مندوب مصر، مندوب مصر الجديدة، ألا تسمع؟»
ويقول طه: «سمعت، ولكني كنت أفكر في شيء آخر، كنت أفكر في أول مرة سمعنا فيها موسيقى هونيجر.»
وتقول سوزان في رقة: «نعم، في إقليم سافوا، في سنة 1926، أذكر ذلك، كان هونيجر قد كتب مقطوعته «جوديت»، وكنت قد أحضرت أسطوانتها لك؛ لأنك ...»
ويقول طه: «لأنها كانت سنة 1926، وكانت الأصوات التي أسمعها في مصر لا تطربني، وكنت مضطرا إلى الصمت، كنت ... كنت مثل «هيلين كيلر» لا أستطيع الكلام، كنت مضطرا ألا أتكلم، خوفا على الجامعة التي كان يراد لها أن تخنق في المهد، كنت مثل هيلين كيلر لا أتكلم، ولكني كنت أسمع.»
وتقول سوزان: «على ذكر هيلين كيلر، هل تعرف أنها صرحت بعد مقابلتك بأن يوم مقابلتها لطه حسين كان أجمل يوم من أيام حياتها؟»
ويقول طه: «وأنا كتبت لها قصيدة وأرسلتها إليها.»
وتقول سوزان: «لم تخبرني.»
ويرد طه: «كانت كلمة شكر في الحقيقة. الآن سنعود إلى مصر الجديدة، والأصوات التي سنسمعها في مصر ستبعث فينا النشاط وتملأ نفوسنا رضا إن شاء الله، وسنتكلم، سنتكلم الآن بصراحة وبوضوح، سنتكلم لأن هذا هو واجب كل رجل من رجال الفكر، ولأن قادة مصر الجديدة سيرحبون، فيما أرجو، بآراء المفكرين، ويطلبون، فيما أرجو، سماعها في صراحة ووضوح وباستمرار، لن يصدهم الحكم عن سماع أصوات المفكرين.» ثم يسأل - في شيء من الشك - بعد لحظة صمت: «أم ترى سوف يصدهم الحكم يوما عن سماع أصوات المفكرين؟» •••
في مصر، في أوائل أغسطس عام 1952 تظهر جريدة الأهرام وفيها مقال لطه حسين عن الثورة تقرؤه جماعات مختلفة، في الجامعة، وعلى مقهى من المقاهي، وفي القرية، وغير ذلك من الأماكن.
طه حسين يقول في مقاله إن ما تم في يوليو 1952 كان ثورة ولم يكن انقلابا ولا حركة مباركة أو غير ذلك، إنه يؤمن أن الجيش قد استجاب للمطالب الحقيقية للشعب في الخلاص من حكم الفرد وفي العمل لإنهاء الاحتلال.
ويقرأ طالب في الجامعة هذه الفقرات من المقال: «وأخص ما تمتاز به الثورة الأصيلة الخصبة أنها تفكر بالأمس لتمحو سيئاته، وتفكر في اليوم لتصلح شئونه، وتفكر في الغد لتبني فيه مستقبل الشعب على أساس صالح متين.» «وتفكيرها في الماضي يهيئ لها طريق العظة والاعتبار، وتفكيرها في الحاضر يمهد لها طريق العمل والإنتاج، وتفكيرها في الغد هو الذي يحقق لها الإنتاج الخصب ويقيم الدليل على أنها لم تكن شيئا طارئا، أثارته الشهوة ودفع إلى الهوى، ولم تكن سطحية جاءت اليوم لتذهب غدا كما تجيء الأحداث العارضة وتذهب، وإنما كانت صدى صادقا مخلصا لصيحة صدرت من أعماق نفس الشعب وضميره، وكانت مظهرا لتفكير عميق، عكف عليه قوم أولو حزم وعزم، يعرفون مصادرهم ومواردهم، ويحققون في نفوسهم ما يريدون، لا يأتون شيئا إلا عن إرادة وروية وأناة، ولا يدعون شيئا كذلك إلا عن إرادة وروية وأناة.» «وما أشك في أن ثورتنا هذه القائمة هي ثورة أصيلة، لا يكفيها أن تسقط حكومة وأن ينفى ملك، وإنما سقوط الحكومة ونفي الملك عندها وسيلة لإصلاح أعمق وأكمل وأشمل.» •••
وفي مديرية المنيا يقرأ بعض المتعلمين مقالا آخر لطه حسين في جريدة الأهرام أيضا: ... إن ثورتنا إذن صادقة، تصور طموح الشعب إلى الحياة الكريمة النقية، وأمل الشعب في المستقبل الكريم المجيد، وهي من أجل ذلك ثورة إصلاح شامل عميق بأدق معاني هذه الكلمات، وهناك نواح مختلفة لهذا الإصلاح الشامل العميق: ناحية الإصلاح السياسي، ولست أعرض لها الآن.
وناحية الإصلاح الاجتماعي، الذي يمس نظام الشعب في حياته اليومية، ليجعل فقر الفقير محتملا، ومرض المريض يمكن علاجه، حتى يأتي اليوم الذي يعصم فيه الشعب من التعرض للفقر والمرض، ولست أعرض لهذه الناحية لأن غيري أجدر بالحديث عنها مني.
وهناك ناحية الإصلاح التعليمي، الذي يحقق للشعب كرامته، ويحقق له شعوره بواجباته، وشعوره بحقوقه بعد ذلك.
وما أعرف شيئا يجب على الثورة أن تأخذه بالحزم والعزم والقوة والجد كشئون التعليم، فكل إصلاح اجتماعي أو سياسي في شعب جاهل لا قيمة له، ولا بقاء.
وما أظن أن مصريا - بعد الثورة - يحب أن يصلح غذاء الشعب وصحته دون تعليم، كما يصلح أصحاب القطعان غذاء قطعانهم وصحتها، وإنما المصريون يريدون أن يصلحوا غذاء الشعب وصحته. على أنه شعب من الناس الذين يعقلون ويشعرون ويعرفون أنفسهم ويريدون أن يعرفهم غيرهم من الناس.
والسبيل إلى ذلك كله واحدة ليس لها ثانية، وهي التعليم قبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، التعليم الذي يجعل المصري إنسانا يحتال للفقر حتى يخرج منه، ويحتال للعلة حتى يبرأ منها، ويتحدث إلى الناس فيفهمون عنه، ويتحدث إليه الناس فيفهم عنهم، وينهاه المصلحون عن الشر فينتهي، ويدعوه المصلحون إلى الخير فيجيب. •••
وتمتلئ غرفة مكتب العميد في منزله بعدد من الأساتذة الشبان والطلبة والصحفيين وضابط، يتحدثون عن هذا المقال الأخير وعما جاء فيه من نواحي الإصلاح الثلاث التي أشار إليها.
أستاذ شاب يسأل طه حسين عن أسباب ركود الفكر في مصر.
ويقول طه حسين: «الأسباب واضحة، هناك الظروف السياسية، بما في ذلك الرقابة التي استمرت خمسة عشر عاما، إن الحرية هي قوام الحياة الأدبية الخصبة ... إذا ذهبت أجدب الأدب وعقم الفكر.»
ويضيف أحد الأساتذة الحاضرين: «وهناك أيضا مشكلة النشر.»
فيقول طه حسين: «نعم، وهذا سبب ثان، إن الشباب يكتب فلا يجد قبولا من الناشرين ولا تشجيعا من شيوخ الأدب للأسف. وهناك سبب ثالث وهو طريقة تدريس الأدب في مصر، إن الأدب يدرس الآن في المدارس والمعاهد والجامعات على نحو يحزن أكثر مما يسر، وإنتاج الأساتذة ضعيف، والمتخرجون في قسم اللغة العربية بالجامعات الآن لا يعرف بعضهم كيف يبحثون في كتاب «الأغاني» لأنهم لم يسمعوا عن الفهرس الذي وضعه له الأستاذ «جويدي».»
ويقول طالب من الحاضرين: «سيادة العميد، صحيح أن التعليم في الجامعات قد ضعف، ونحن نحتاج إلى نهضة جامعية حقيقية بعد الثورة، لقد كتبت كتابك «مستقبل الثقافة في مصر» ردا على تساؤل بعض زملائنا عن مستقبل الثقافة بعد معاهدة 1936 ودخول مصر في مرحلة الاستقلال، الآن وقد دخلت مصر مرحلة ما بعد الثورة، ما عسى أن يكون مستقبل جامعاتنا؟ ماذا يجب، في رأيك، أن تكون جامعاتنا عليه غدا؟»
ويرد طه حسين قائلا: «ماذا يجب أن تكون عليه جامعاتنا غدا؟» قبل أن نحاول أن نرد على هذا السؤال يجب أن نسأل سؤالا آخر وأن نجيب عليه، وهو: ماذا نريد أن نكون نحن غدا؟
أنريد أن نظل كما نحن، نلم بأطراف من المعرفة دون تعمق؟ أنريد أن نظل كما نحن خاطفين، نخطف العلم من هنا وهناك دون أن يكون مستقرا بيننا، متأصلا في نفوسنا، ودون أن نبرأ من هذه الغربة الغريبة المنكرة التي يجدها كل واحد منا حين يريد أن يتقن حقا فنا من فنون المعرفة؟
أنريد أن نظل كما نحن، ننتظر الخير الثقافي والعقلي والفني من الترجمة، ننقلها عن هذه اللغة أو تلك، ونسعى إليها في هذا الوطن الأجنبي أو ذاك، أم نريد أن نكون أصلاء في هذا كله، وأن نترجم، لا عن حاجة، بل عن ميل إلى الاستطلاع، وأن نترجم من الفرنسية، لا لأننا محتاجون إلى الترجمة، بل لأننا نحب أن نعرف ماذا يقول زملاؤنا الفرنسيون، ولأننا نحب أن يترجم الفرنسيون عنا وأن يعرفوا ماذا يقول زملاؤهم العرب، وقولوا مثل ذلك بالنسبة للإنجليز، والألمان، والأمريكيين، والإيطاليين، والروس، وما شئتم من الأمم الكبرى.
إن كنا نريد أن نظل كما نحن، فمستقبل الجامعة بسيط، وهو أن تظل حيث هي، كما نظل نحن كما نحن، أشبه بالضفادع في قاع فيه ماء ضئيل تتصايح، ويصح فينا قول الأخطل:
تنق بلا شيء شيوخ محارب
وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلمات ليل تجاوبت
فدل عليها صوتها حية البحر
وأؤكد لكم أن حيات البحر كثيرة، وأنها تراقبنا، لا نريد إذن - فيما أعتقد - أن نظل ضفادع تتجاوب في ظلمات الليل، وندل على أنفسنا المستعمرين من هنا وهناك.»
ويقول الطالب: «طبعا نريد أن نكون رجالا، وأن نترك طور الضفادع إلى طور الرجال.»
ويقول طه حسين: «يجب إذن أن تتطور حياتنا إلى حيث نبلغ ما نريد، وسبيلنا إلى التطور هي الجامعات أولا والجامعات أخيرا والجامعات قبل كل شيء، والجامعات بعد كل شيء.
إن التطور لا يأتينا من خارج، وإنما يأتينا من ذات نفوسنا، يأتينا من ذات نفوسنا عندما نهذب هذه النفوس، وعندما نصفي أذواقها ونزكي قلوبها وعقولها، وعندما نريد لها أن تقوى فيها الملكات المدركة القاهرة الواعية التي تتسلط على الحس والشعور، والتي تتسلط على قوى الإنسان فتدفعه إلى الأمل، ثم تدفعه إلى العمل، ثم تدفعه إلى الإنتاج، ثم تجعله وكأنه شجى في حلق الذين يريدون به المكروه.»
وتطل السيدة سوزان من الباب فيستأذن الحاضرون في الانصراف، ولكن طه حسين يستبقي الأستاذ يوسف السباعي.
يقول له طه حسين: «يا يوسف، روايتك عظيمة، وإن كانت طويلة قليلا، سأسميها المطولة عندما أكتب عنها! أهنئك بها، ولكن اللغة يا يوسف ...»
ويرد يوسف السباعي: «أنا في غاية السعادة بهذا التقدير يا سيدي العميد، أما اللغة فإن والدي كان يوصيني باللغة أيضا، والتوصية كانت أحيانا تكون بالضرب، وكنت أطلب إليه الرحمة وأنا أطلبها منكم الآن! سأنتظر مقالكم بفارغ الصبر، وأعد بالعناية باللغة كما تأمر يا سيدي العميد، والآن أستأذن فقد أخذت من وقتك أكثر مما كنت أطمع فيه.»
طه: يرحم الله والدك! لقد علمني أنا أيضا عندما كنت أقرأ ترجمته للقصص الروسي.
ويقف الأستاذ يوسف السباعي ويقول للسكرتير فريد: «أظن أنني تركت «الكاب» في الخارج.»
ويسأل طه: ««كاب» إيه؟»
ويقول يوسف السباعي: ««الكاب» بتاعي؛ لأن عندنا اليوم طوارئ ولا بد من الزي العسكري الكامل.»
ويسأل طه حسين: «زي عسكري بتاع إيه؟»
ويرد السباعي: «بتاعي، أنا ضابط.»
ويسأل طه حسين: «ضابط؟ لم أكن أعرف ذلك، كنت أعرف أنك ابن محمد السباعي، ضابط وأديب! على كل حال هناك سوابق، محمود سامي البارودي مثلا ...»
ويقول السباعي: «وأين أنا من البارودي يا سيدي العميد؟ شكرا جزيلا مرة ثانية، والآن أستأذن، يظهر أن السيدة تنتظركم للغداء.»
ويرد طه حسين: «لا ليس للغداء، موعد الغداء لم يحن بعد، ولكن زوجتي مصممة على نزهة قصيرة في طريق حلوان، قبل أن نعود للغداء والقهوة وسماع القرآن ثم الراحة قليلا قبل حضور «مدام غنيم» للقراءة، إنها تقرأ معي آخر ما يرد إلينا من المؤلفات الفرنسية. مع السلامة، وخلنا نراك، ونرى عملا ثانيا لك، يحترم النحو ويتحدى الانتقاد.» •••
وفي الطريق إلى حلوان يجلس طه حسين والسيدة سوزان في سيارة بويك سوداء موديل 49.
تقول سوزان: «النيل سحر كله، ومياهه تعكس، في جمال، ما يقوم على شاطئه الشرقي من النخيل.»
ويقول طه حسين: «النخيل في طريق حلوان، عندنا شعر عربي قديم يتحدث عن نخلتي حلوان ... النخيل دائما مقترن في ذاكرتي بمصر، وعندما أكون في أوروبا أحلم دائما بالنخيل.»
وتقول سوزان: «على ذكر أوروبا، لم نرد بعد على خطاب السنيور «لابيرا» الذي يدعوك فيه للاشتراك في مؤتمر السلام.»
ويقول طه حسين: «منذ انتخب «لابيرا» عمدة لفلورنسا، وهو مصمم على أن يجذب إليها الناس، وأن يعيد إشعاع النور منها. نرسل ردا مساء اليوم.»
وتسأل سوزان: «بالقبول طبعا؟»
طه حسين: «لا، بالاعتذار، لا أدري ماذا نقول عن السلام، نحن الذين فرضت علينا الحرب، المظلوم والمعتدى عليه يجب أن يحارب، إنه إن لم يحارب لرفع الظلم عن نفسه يكاد يكون شريكا في هذا الظلم ... ثم إن عنوان المؤتمر هو السلام والحضارة المسيحية، لماذا الحضارة المسيحية وليس الحضارة الإسلامية مع أن لفظ الإسلام نفسه مشتق من السلام؟!»
وتقول سوزان: «هذا كلام جميل، تقول هذا الكلام إذن في المؤتمر، إنه خطبة كاملة!»
الجمهورية
في فندق صغير في الطريق من روما إلى فلورنسا، في صباح التاسع عشر من يونيو عام 1953.
يجلس طه حسين وزوجته يتناولان الإفطار مبكرا، وأمتعتهما تنزل إلى سيارة صغيرة يسافران فيها من روما التي غادراها مساء أمس إلى مدينة فلورنسا، وكان طه حسين قد طلب أن تقدم له صحيفة الصباح مع هذا الإفطار المبكر.
والسيدة سوزان تلقي نظرة على الصحيفة فتقول: «لقد أعلنت الجمهورية في مصر، أعلنت الجمهورية أمس، الثامن عشر من يونيو 1953.»
ويقول طه حسين: «أعلنت الجمهورية!»
وترد سوزان : «هذا هو الخبر: القاهرة، في الثامن عشر من يونيو ...»
وطه حسين لم يعد يسمعها، إنه يفكر فيما بينه وبين نفسه: «ما أعظم الفرق بين حياتنا التي نحياها منذ اليوم وحياتنا التي كنا نحياها من قبل، والتي كان آباؤنا وأجدادنا يحيونها منذ الآلاف المؤلفة من السنين! المصريون القدماء كانوا يعبدون ملوكهم ويتخذونهم آلهة مقدسين، يرفعون إليهم الصلوات والقرابين، المصريون القدماء كانوا يخضعون للولاة والملوك الأجانب الذين كانوا يأتونهم من أقطار الأرض المختلفة، كانوا يعبدون قياصرة روما.
المصريون القدماء كانوا يشترون ملوكهم بالمال، يجلبونهم من بلاد الشركس والقوقاز رقيقا أطفالا يخطفهم النخاسون.
المصريون تقطع الصلة بينهم وبين العالم الخارجي بغزو الترك العثمانيين، تستيقظ أوروبا وهم نيام، يستيقظون في القرن الماضي يقظة مقيدة بسلطان الترك العثمانيين الذي يأتيهم من الخارج. وبهذه الولاية المتوارثة التي استقرت فيهم، ثم بهذا الملك المتوارث الذي فرضته عليهم حماية الإنجليز. وهاهم يتخلصون من هذا كله، وسيرفعون إلى رياسة الدولة المصرية رجلا لا يمتاز عن سائر المصريين بمولد، ولا بثروة، ولا بقوة أجنبية تسنده ...»
وتسأل سوزان: «أين أنت؟ إنني أقرأ وأتحدث إليك وأنت غائب ... غائب عني وعن كل ما حولك.»
ويرد طه حسين: «كنت أفكر في مصر وأعجب ... احتملت مصر ما احتملت وقاست من الخطوب ضروبا وألوانا، دون أن تفقد شخصيتها ودون أن تنسى كرامتها، ودون أن تفتر لحظة واحدة عن الجهاد في سبيل تلك الشخصية وهذه الكرامة، ودون أن تقصر لحظة عن المشاركة في ترقية الحضارة الإنسانية؛ فاستيقنت أثناء هذا التفكير أن مصر هي المثل الرائع للوطن الأصيل الذي لم يخلق ليفنى في غيره، والذي لم يخلق ليذعن لغيره، وإنما خلق ليفرض نفسه على الدهور، ولتعيش أمته خالدة كما أنه هو خالد، كريمة كما أنه هو كريم، عزيزة كما أنه هو عزيز، قاهرة للأحداث والخطوب كما أنه قاهر للأحداث والخطوب، قادرة على أن تنفذ من المشكلات مهما تكن، وتقهر المصاعب مهما تعظم!»
وتسأل سوزان: «فكرت أنت في هذا كله، وأنا أقرأ لك خبرا في صحيفة، على عمود، في عدة سطور؟! أبحرت بعيدا عني وأنا أحاول أن أقرأ لك الأخبار؟ أنت ترى أنني لا أستحق أن تستمع إلي ...»
ويأخذ طه حسين يديها في يديه ويقول: «لا، كنت أستمع إليك، كان صوتك العذب يساعدني - كعهده دائما - على التفكير!»
وتقول سوزان: «المهم، أتركك الآن، سأعود لنسمع معا نشرة الأخبار التالية، ثم يجب أن نغادر هذا الفندق سريعا لنذهب إلى فلورنسا، ومبارك عليك جمهورية مصر!» •••
وفي فلورنسا ينعقد اجتماع مؤتمر الحضارة والسلام، وبين المدعوين قناصل الدول، ومنهم قنصل «جمهورية» مصر العام مصطفى السعدني، وبين الأعضاء طه حسين يمثل مصر في المؤتمر وإلى يمينه زوجته.
ويقول رئيس المؤتمر وهو على المنصة: «والآن يسرني أن أدعو الكاتب المصري الدكتور طه حسين للكلام.»
ويقول طه حسين لزوجته: «لقد كنت فهمت أنني أشارك في المؤتمر مستمعا، لم أعد شيئا لهذا المؤتمر، طوال هذا الأسبوع الذي قضيناه هنا لم أقرأ شيئا غير القرآن.»
وتقول سوزان: «إنهم يصفقون لك ... الكلام الذي كنت تقوله لي في طريق حلوان، وكلمة شكر، هذا يكفي ثم تعود للاستماع.»
ويسير مؤنس مع والده إلى المنصة، فيجلس عليها، ويبدأ حديثه بالفرنسية يقول: «أحب - أيها السيدات والسادة - أن أتحدث إليكم حديثا قصيرا عن الصلة بين السلام وبين ديننا الإسلام ... إن اسم الإسلام اشتق من السلم، وإن المسلم في القرآن هو الذي يسلم الناس من لسانه ويده، وإن إبراهيم أبا الأديان السماوية قد جاء ربه بقلب سليم، وقد أسلم وجهه حنيفا، فالمسلمون أهل السلام.»
بين أعضاء المؤتمر أستاذ فرنسي تجلس إلى جانبه سيدة من شيلي، تقول السيدة: «هذا حديث بديع، بغير أوراق ولا مذكرات ...!» ويقول لها جارها الفرنسي: «وكيف تريدين أن يستعمل الأوراق والمذكرات ...؟» وتقول السيدة: «لقد انتقل الآن إلى الحديث عن «الصلاة»، يظهر أن معنى الكلمة الأصلي في اللغة العربية هو «الدعاء»، إنه يقول: إن هناك نصا تاريخيا لدعاء كان النبي يدعو به.»
ويتابع طه حسين الحديث قائلا: «كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يدعو بهذا الدعاء إذا تهجد في الليل، وهذه ترجمتي للدعاء، وهي لا تصور إلا قليلا بلاغة وجمال الأصل العربي، الدعاء هو: «اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض، أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والموت حق، والساعة حق».»
وتقول السيدة لجارها: «أريد أن أكتب هذا لأسجله.»
ويستمر طه حسين في محاضرته قائلا: «ويستمر الدعاء أيها السادة والسيدات فيتضمن فقرة كانت دائما أمام ناظري»
وتقول السيدة لجارها: «أمام ناظريه؟!»
ويقول طه حسين مستمرا في حديثه: «تضيء لي الطريق في حياتي كلها ...»
وتقول السيدة: «تضيء له الطريق؟!»
ويقول طه حسين مستمرا: «تضيء لي الطريق في حياتي كلها، وهي: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت إلهي لا إله إلا أنت.»
وتدوي القاعة بالتصفيق، ويتقدم مؤنس لينزل معه والده من فوق المنصة.
وتجري مندوبة دولة شيلي نحو طه حسين تقول له: «سيدي الدكتور، سيدي الدكتور، أرجو أن تعطيني نسخة من هذا الدعاء، دعاء رسول الإسلام؛ لأنني أريد أن أعيش به، أن أعيش بهذا الدعاء، أدعو به كل ليلة، وأريد أن تحمل أنت إلى دينكم الإسلام، الذي حببتني فيه منذ اليوم، أن تحمل إليه حبي ودموعي.»
ويرد الدكتور طه: «حبك كفاية يا سيدتي، لا داعي للدموع ... سأطلب إلى مؤنس أن يعطيك نسخة من الدعاء، وشكرا جزيلا.»
ما زال التصفيق يدوي والمهنئون الآخرون يتزاحمون.
ويقول قنصل مصر العام لطه حسين: «رفعت رأس مصر يا سيدي ورأس العرب ورأس المسلمين، سأكتب لمصر فورا، وسيسعد مصر الجديدة أن تعرف ما جرى اليوم.»
ويقبل سينيور لابيرا، رئيس المؤتمر، على طه حسين ويقول للقنصل المصري: «معذرة يا سيدي القنصل، طه حسين عندكم في مصر طوال أيام السنة، اترك لي هذه اللحظة لأقول لطه حسين: إنك جعلت هذا اليوم خالدا في تاريخ مدينتي فلورنسا، لقد بشرت فيها بالعدالة أساسا للسلام وللتعاون، بشرت بها لشعوب البحر الأبيض، لجميع شعوب العالم، اليوم يدرك الجميع أنك وشعب مصر وشعوب العرب جميعا تنشدون العدالة أساسا للسلام، وتستحقون الوصول إلى العدالة للوصول إلى السلام.»
وعندما يحين موعد الانصراف تقول السيدة سوزان لزوجها وهما يخرجان: «هذا أنت تتفوق على نفسك.»
ويقول مؤنس: «وأنت ... أنت كنت تقول لنا إنك لم تكن تدري ماذا تقول؟!»
ويقول طه حسين: «حقيقة لم أكن أدري، لم أعد نفسي للكلام طوال الأسبوع كما قلت لكم، كنت أقرأ القرآن، ومع ذلك فإنني في الواقع راض عن نفسي وراض عن حديثي اليوم، وما تعودت أن أرضى عن نفسي أبدا، وما رضيت من قبل عن حديث ألقيته في أي وقت من الأوقات، ولكن كيف كانت اللغة، كيف كانت لغتي الفرنسية؟»
ويقول مؤنس مداعبا: «شنيعة ...»
وتقول سوزان: «ألا تكف عن هذه الأسئلة في هذه اللحظة المفعمة بالعزة والفخر؟ ألن ترضى عن نفسك أبدا؟ كانت لغتك طبعا كالعادة رائعة.»
ويقول طه حسين: «لقد قلت لك إنني راض عن نفسي اليوم، وهذا الدعاء ... لقد تلوته لنفسي قبل أن أنام أمس، ولكن تلاوتي لترجمته اليوم علنا كان لها تأثير غريب في نفسي، لقد حرك فيها شوقا قويا إلى زيارة أرض الحجاز، ومدينة الرسول.»
وتقول السيدة سوزان: «أما أنا فقد كنت أفكر في والدك، كنت أريد أن يسمعك أبوك، وكنت أريد أن تسمعك والدتك، كما كنت أريد أن تكون بنتك حاضرة.»
طه حسين :
أمينة في أمريكا مع زوجها، طال غيابها عنا، بنتهم الثانية ولدت هناك ولم نرها حتى الآن ... ترى ما هو شكل هذه المولودة الأمريكية، لقد سموها «منى»، ومحمد أخبرني أنهم في المستشفى طلبوا إليه اسما ثانيا على عادة الأمريكان فسماها باسم والدته: بديعة، وكنت أنا أفضل اسم «آمنة» والدة الرسول
صلى الله عليه وسلم
على اسم «منى».
سوزان :
سنراها ونراهم أخيرا، كتبت إلي أمينة أنهم سيحضرون لزيارتنا في الجبل في إيطاليا، في الصيف القادم في طريقهم لقضاء الإجازة بمصر. •••
في صيف العام التالي، يلتقي طه حسين وزوجه بابنتهما أمينة وزوجها وأولادهما الثلاثة في قرية من قرى شمال إيطاليا اسمها «كولي إيزاركو»، وطه حسين يجلس في حديقة الفندق في الصباح عندما تقبل عليه حفيدته. «سوسن» بنت ابنته المولودة في الإسكندرية، وعمرها الآن ثلاث سنوات، تلقي بنفسها بين ذراعيه، وتقول له: «أنا اللمبة ... اللمبة جاءت لك.»
ويعانقها طه حسين ويقول لها: «تعالي إذن يا نور حياتي ... ويجلسها على حجره.»
وتحضر أمينة ابنته، ومعها طفلتها الثانية «منى» وعمرها سنتان.
فيقول طه حسين: «تعالي يا منى.»
وترد منى قائلة: «لا ...»
ويسأل طه حسين: «ليه لا!»
وتقول منى: «بابا بيقولي إنك علمته يقول لا ...»
ويقول طه حسين: «لم أعلمه يقول لا عمال على بطال، يقول لا لما يلزم يقول لا ... تعالى.»
وتقول منى: «وتحكي لي حكاية؟»
ويرد طه حسين: «تعالى أحك لك حكاية أمير المؤمنين عمر.»
فتقول منى: «أنا لا أحب الأمراء.»
ويقول طه حسين: «سيدنا عمر لم يكن أميرا من الأمراء الذين لا تحبينهم، لقد كان أميرا للمؤمنين، يعني رئيسا للمسلمين، كان رجلا بسيطا يلبس ملابس بسيطة ويخرج بالليل ويمشي ليطمئن على أحوال الناس، وذات ليلة ...»
وتقطع حديث طه حسين لحفيدته سيدة إيطالية تقبل ملوحة بمجلة في يدها، وتقول في انفعال ظاهر: «إكسلانس، هل تسمح لي أن أتحدث إليك دون سابق معرفة ... هذه المجلة صدرت اليوم وفيها صورتك، مع تسع وتسعين صورة أخرى، إنهم المئة رجل الذين تقول المجلة في مقال بإمضاء «دونالد روبنسون» إنهم أعظم رجال الدنيا المعاصرين، عرفتك من الصورة، وقلت: إذن معنا في هذا الفندق في هذه القرية الإيطالية واحد من أعظم مئة رجل من الأحياء الذين يؤثرون في العالم، معذرة لتطفلي! ولكني قد اشتريت المجلة اليوم واطلعت عليها الآن ورأيتك تجلس في الحديقة ... أستأذن.»
ويقول طه حسين: «شكرا يا سيدتي، ثم يلتفت لأمينة ابنته ويسألها: أين حسن وأبوه؟»
وترد أمينة: «حسن مع أبيه يسيران في الجبل منذ الصباح. وعلى فكرة الأولاد فضحونا، مساء أمس تجولوا في الجبل وقطفوا ثمار التفاح من فوق الأشجار، لم يتصوروا أن تكون الجبال ملكا لأحد، حتى جاء الفلاح غاضبا فطاروا أمامه إلى الفندق ...»
وتدخل السيدة سوزان في خطوات نشطة تطلب إلى زوجها أن ينهض للسير للنزهة.
ويقول طه حسين: «لم أكمل القصة لمنى.»
وتقول سوزان: «هذا وقت النزهة، نكمل القصة لما نرجع، ثم إنني أريد أن أشتري مجلة معينة يقولون إن فيها شيئا يهمني.»
ويقول طه حسين: «كلام فارغ! دونالد روبنسون الكاتب الأمريكي الذي زار مصر أيام حريق القاهرة، أخرج كتابا عن مئة رجل من رجال العالم ويظهر أنه ذكرني.»
وتتساءل سوزان: «وكيف علمت ذلك؟! من أخبرك؟! فريد لم يكن معك هذا الصباح؛ إنه ذهب إلى البنك والبوستة، وأمينة لم تنزل من الغرفة إلا الآن، ومحمد في الجبل مع ابنه حسن، وسوسن ومنى لا تستطيعان القراءة بعد ... من أخبرك؟!»
ويرد طه حسين مبتسما ابتسامة ماكرة: «وهل تعتقدين أنك المرأة الجميلة الوحيدة في هذه الفندق التي تقرأ الصحف والمجلات؟»
ويصل فريد السكرتير حاملا الصحف المصرية والخطابات، يقول: «مجلة روزاليوسف نشرت بشكل بارز تصريحك الذي تقول فيه إن أساس التعليم الصالح هو اختيار الطالب للدراسة التي يرغب فيها. يوجد كذلك خطاب من لجنة وضع الدستور الجديد الذي اخترتم عضوا فيها، وخطاب من ...»
وتقاطعه السيدة سوزان بقولها: «سنقرأ هذا كله بعد النزهة، والجرائد والرسائل تستطيع أن تنتظر عودتنا.»
ويتساءل طه حسين: «منى، أين منى، كنت أحكي لها؟ وأين حسن وأبوه وسوسن؟ ألا ألقي نظرة على الصحف وأنا في انتظارهم؟»
وترد سوزان: «كلهم سيلحقون بنا، ومن جهة الصحف والرسائل فإننا سنكون في مصر بعد وقت قريب جدا، وسنجد هناك يوميا كل الصحف وكل الرسائل وكل التليفونات وكل الكتب وكل الزيارات وكل الاستقبالات ... الآن نمشي تحت هذه السماء الجميلة، وفي ظل هذه الأشجار الشامخة التي لن تحضر معنا إلى مصر.» •••
وتعطي الجرائد والرسائل للسكرتير وتقول: «احتفظ بها حتى نعود.»
في مصر، في منزل طه حسين بالزمالك، في غرفة المكتب وقد عادت أسرة طه حسين إلى مصر وعاد طه حسين إلى برنامجه اليومي، يقول السكرتير: «وصلنا خطاب باليد بإمضاء «سير كلود ماكنزي» يطلب موعدا للزيارة.»
ويسأل طه حسين: «ومن هو السير كلود ماكنزي؟»
ويقول السكرتير : «هذه نبذة مرفقة بخطابه عن تاريخ حياته: إنه خبير عالمي في شئون المكفوفين، وقد فقد هو نفسه بصره في الحرب العالمية الأولى، حرب سنة 1914، وهو الآن يزور عدة بلاد في أرجاء العالم، ويتوقف بمصر يومين فقط، ويسأل إن كان الوقت يتسع لزيارته.»
ويقول طه حسين: «يومين! إذن يحضر غدا الساعة الحادية عشرة إن كان هذا الموعد يوافقه.»
وفي اليوم التالي يخرج سير كلود ماكنزي من منزل العميد بعد انتهاء زيارته له وسيارته تنتظره وصحفيون ينتظرونه.
يقول سير كلود للصحفيين: «أعتقد أن مصر يجب أن تفخر بالدكتور طه حسين، فهو عبقرية فذة قل أن يجود الزمان بمثلها، إنني أغبطكم لأنكم تعيشون على الأرض التي أنجبت طه حسين، كما أغبط نفسي لأنني تعرفت إليه، وجلست معه هذا الوقت الطويل.»
ويقول له صحفي: «هل تخبرنا عن طبيعة عملك وعما تريد تحقيقه والوصول إليه؟»
ويرد سير كلود: «كل أملي في الدنيا هو أن يتمتع المكفوفون في العالم بحقوقهم كآدميين، فيجب أن يكون حب المجتمع لهم وعطفه عليهم هو النور الذي يهديهم سواء السبيل، من يدري؟ قد يكون بين هؤلاء المكفوفين هيلين كيلر أخرى أو طه حسين آخر.»
ويسأل صحفي آخر: «هل تحدثت مع الدكتور طه حسين عن عمله خارج ميدان التعليم والثقافة، فهو كما تعلم عضو في لجنة وضع الدستور الجديد؟»
ويرد سير كلود: «عرفت بالصدفة أنه معني بوضع المواد الخاصة بحقوق الإنسان في مشروع الدستور الجديد، دستور الثورة، وأنه يتعاون على صياغتها مع أحد أساتذة كلية الحقوق.
وهذا موضوع لا يهم العلماء ولا يهم المصريين فقط، لكنه يهم العالم كله، الناس جميعا في كل مكان يريدون أن تصان حقوق الإنسان، وأنا سعيد باهتمام طه حسين الشديد بهذا الموضوع.»
في اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية
في مقر الجامعة العربية بالقاهرة، وفي غرفة ملحقة بغرفة مدير الإدارة الثقافية يجلس الدكتور محمد عوض محمد والأستاذ شفيق غربال والأستاذ محمد بدران والأستاذ محمد فتحي والدكتورة سهير القلماوي والأستاذ مصطفى حبيب.
يتحدث الحاضرون مع بعضهم، لقد دعاهم الدكتور طه حسين لمقابلته اليوم باعتباره رئيسا للجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، وهو المنصب الذي طلب إليه عبد الخالق حسونة باشا الأمين العام للجامعة أن يتولاه.
يقول الدكتور محمد عوض للأستاذ محمد بدران: «ما دمت أنت قد دعيت لحضور هذا الاجتماع فلا بد أن الدكتور طه حسين سيحدثنا عن عمل من أعمال الترجمة.»
ويقطع السكرتير الحديث بدعوتهم للدخول، وطه حسين يرحب بهم، ويقول لهم إنه عندما عرض عليه حسونة باشا رياسة اللجنة الثقافية قبل مسرورا، لأن هذه اللجنة يمكن أن تكون أداة للعرب جميعا ليقوموا متعاونين بعمل عظيم الأثر في سعيهم نحو النهضة ونحو الوحدة، وإنه أراد أن يجتمع بزملائه الذين تفضلوا بالحضور اليوم ليبحث معهم مشروعا يفكر فيه، ويعتقد أن تنفيذه ممكن بتعاونهم وتعاون نظرائهم في البلاد العربية الأخرى كلها.
ويقول الدكتور عوض: «كنت أقول للأخ بدران لازم فيه ترجمة.»
ويقول الدكتور طه: «بالضبط، في عصر المأمون في بغداد كانت دار الحكمة تغص بالمترجمين إلى العربية من كل اللغات وفي كل العلوم، نحن سنكون أكثر تواضعا، نريد أن نترجم أهم الأعمال الأدبية العالمية، وأن نبدأ بترجمة أعمال شكسبير.»
يقول الدكتور عوض: «شكسبير! سنكون إذن سكسونيين!»
ويرد طه: «لا بد من إتاحة منابع الثقافة كلها لقراء العربية، وقد دعوتكم أولا لتبادل الرأي في المشروع نفسه، وفيمن يمكن أن يتعاون معكم من أدباء اللغة العربية في ترجمة الأعمال الكاملة لشكسبير، وقد كتبت فعلا إلى بعض الإخوة العرب مثل الأستاذ عبد الحق فاضل من أدباء ودبلوماسيي العراق، وغيره من الزملاء العرب، وأعتقد أن خير من يقدم هذه الأعمال مترجمة إلى اللغات العربية هو الأستاذ عباس محمود العقاد.»
ويقول الدكتور عوض: «هذا عمل عظيم يحتاج إلى جهد ضخم، وفقكم الله! واختياركم الأستاذ عباس محمود العقاد اختيار موفق جدا.»
ويستأنف الدكتور طه حسين حديثه فيقول: «وبعد شكسبير يأتي راسين.»
ويقول الأستاذ شفيق غربال: «أعتقد أن الزملاء كلهم يشاركونني الرأي في أن هذه الترجمات هي من أهم المشروعات التي يمكن أن تنهض بها الجامعة العربية في عهد رياستكم للجنة الثقافية، ولكن كيف يكون النشر؟»
ويرد الدكتور طه حسين قائلا: «سأعرض الموضوع أولا على اللجنة الثقافية، وعندما تتم الموافقة ثم عندما تتم الترجمة نبدأ النشر بالتعاون مع بعض الناشرين.»
ويقول الدكتور عوض: «وننتقل بعد شكسبير وراسين إلى الأدب الألماني والروسي والفارسي، وهكذا إن شاء الله!»
ويرد طه حسين قائلا: «إن شاء الله.»
ويدخل السكرتير فيقول: «حان موعد اجتماع اللجنة.»
ويقول الأستاذ شفيق غربال: «إذن نستأذن الآن في الانصراف، وعلى بركة الله! ويتقدم كل منا باقتراحاته عن المترجمين وعما يترجمون. ويخرج الجميع ويبقى طه حسين والسكرتير.»
يقول السكرتير: «وصلت دعوة من هيئة الدراسات العربية بالجامعة الأمريكية في بيروت لندوة تقيمها هناك في العام القادم.»
ويرد طه حسين: «الجامعة الأمريكية في بيروت؟ يجب أن تهتم البلاد العربية نفسها بثقافتها المشتركة، نحن محتاجون إلى تعاون الشعوب العربية وإلى مؤازرة حكوماتها، لقد تلقينا تبرعا كريما من مواطن عظيم الفضل من مواطني المملكة العربية السعودية، وبفضله سننشر كتابا من أهم كتب التاريخ العربي في القرون الثلاثة الأولى، نحن محتاجون إلى أن نثير اهتمام البلاد العربية بالعمل الثقافي العربي المشترك، ألا يمكن عقد اجتماع اللجنة الثقافية للجامعة العربية في العام القادم خارج مصر؟ سأثير هذا الموضوع مع أعضاء اللجنة.»
ويقول السكرتير: «أذكركم بتقرير الدكتور صلاح الدين المنجد مدير معهد المخطوطات، فقد ذكرتم أنكم يمكن أن تتحدثوا في موضوعه مع السادة أعضاء اللجنة.»
ويرد طه حسين: «آه، نعم، نريد أن نصل إلى توحيد منهج النشر لمخطوطاتنا العربية القديمة، والأستاذ المنجد أعد دراسة نظر فيها للمتبع في الخارج في جمعية «جيوم بيديه» وفي مجمع دمشق وغير ذلك، وعدد قواعد للنشر العلمي بأمل الاتفاق عليها في جميع البلاد العربية، وهذا خير، ومن الخير كذلك أن تتبادل الهيئات العربية المختلفة المعلومات عما هي بسبيل نشره من المخطوطات، وأعتقد أن الإدارة الثقافية بالجامعة العربية يمكن أن يكون لها هنا دور هام.»
وبعد الاجتماع بأيام يتحدث طه حسين في التليفون مع عبد الخالق حسونة باشا أمين الجامعة.
يقول طه حسين: «نعم، تقرر عقد اللجنة بالسعودية، وقد تلقينا ترحيب المملكة، وسوف تكون الاجتماعات برعاية سمو الأمير فهد وزير المعارف.»
ويوافق الأمين العام على أن الاجتماع في السعودية في حد ذاته يحقق هدفا من أهداف التعاون الثقافي العربي.
ويقول طه حسين: «سأحضر الاجتماع فإن شوقي لزيارة الحرمين كبير، وما زلت أعيش في تلك الأماكن المقدسة منذ أخذت في إملاء «على هامش السيرة».»
ويسأل الأمين العام عما إذا كان الدكتور سيسافر بالطائرة.
فيقول طه حسين: «لا، لقد طلبت أن يبحثوا إمكان سفري بالمركب، أنت تعرف يا باشا أنني لا أركب الطائرة أبدا، تعرف أن الشاعر القديم كان يقول:
لا أركب الماء إني
أخاف منه المعاطب
طين أنا وهو ماء
والطين في الماء ذائب
ويكفي إذن أن نركب الماء، لا ضرورة لركوب الهواء.»
ويقول: «يسافر معي إن شاء الله الأستاذ أمين الخولي والأستاذ محمد فتحي، كما يصحبني سكرتيري فريد.»
في مدينة جدة، يجلس طه حسين مع زملائه المصريين، ويقول لهم: «وصلت قصائد كثيرة من الإخوة السعوديين، حقيقة هنا شعراء بارزون لم يلقوا حقهم من الشهرة وذيوع الصيت كما يقال.»
في مدينة الرسول
«قرئت علي قصيدة مطولة من مكة المكرمة، من إنشاء الشاعر طاهر زمخشري، مطلعها:
تمد الدراري بالسنا حين تسفر
وتبهر أرباب النهى حين تجهر
وقصيدة من مكة المكرمة أيضا من الشاعر حسين عرب، فيها تعبير عن إحساس قومي عميق ودعوة متحمسة ليقظة العرب وتعاونهم جميعا للتقدم، يختمها ببيت جميل خرج به الكرم فيه إلى المبالغة كما فعل صديقنا طاهر زمخشري من قبله، يقول فيه:
جرى في الميادين سباقها
وقاد السفينة ربانها
وأنا أستغفر الله لهؤلاء الشعراء ولنفسي، أستغفره لهم لمبالغتهم فيما أسدوا إلينا من المديح، وأستغفره لنفسي لما أحسست به وأنا أسمعهم من الرضا، وإن كان الرضا إنما كان عن فنهم، وقد جاءتني أبيات من الشاعر فؤاد شاكر، يقول فيها:
واقبل تحيات فتى شاعر
يلتمس الإغضاء عن شعره
وليس في شعره ولا شعر زملائه ما يستحق الإغضاء، فإن أكثر ما قرأت أو سمعت من الشعر هنا يستحق كما قلت الرضا والإعجاب.»
ويقول الأستاذ أمين الخولي: «قدم إلي أحد أعضاء الوفد السعودي، وهو الأستاذ علي حسن غالي، قصيدة تحية وتقدير لكم أيضا، مطلعها:
حار فيك التقدير والتبجيل
يا عميدا عماده التحصيل
فعلى الرحب أيها العبقري ال
فذ والعالم الكبير الجليل
ويقول لي فيها: يا أمين التدريس والبحث والتنقيب والمنهج الذي لا يحول.
وقد أحسست أنه جعلني بهذا من علماء البحث عن الآثار!
ويقول طه حسين: «اقرأ القصيدة كلها.»
ويقرأ أمين الخولي القصيدة، ويصل إلى هذه الأبيات:
جمعتنا مشاعر الأمل الباسم يهفو له الغد المأمول
سوف نحيا جميعنا وسنمضي في ثبات وهمنا التذليل
ننشر العلم في الربوع ضياء إنما العلم للحياة رسول
ثم يصل إلى ختام القصيدة، فيقرأ مديح الشاعر للعاهل المفدى سعود ثم لوزير المعارف الأمير فهد، فيقول:
ولنا فهدنا وزير الثقافات وقد لاح للثقافات جيل
ألمعي الفؤاد يحمي حمى التعليم جم الفعال شهم أصيل
عاش يمشي بنا إلى العلم فالعلم على جبهة العلا إكليل
ويقول طه حسين: «أنا سعيد حقيقة بما يلقاه هذا الاجتماع العربي في المملكة من إكرام من جلالة الملك ومن سمو الأمير فهد، وزير الثقافات كما يسميه الشاعر، وقد أسعدني أن كل عضو من أعضاء اللجنة، وهم من مختلف البلاد العربية، يحس أنه هنا في بلاده وبين إخوانه.»
ويقول الأستاذ أمين الخولي: «وقد وجدنا هذا الشعور نفسه عند المصريين المقيمين هنا ومنهم البعثة الأزهرية.»
ويرد الدكتور طه حسين قائلا: «نعم، قابلونا بالترحيب والفرح حقيقة.»
ويقول الأستاذ الخولي: «إن الشاعر السعودي حسين عرب جعلكم من العدائين، ولكن الشاعر المصري الشيخ محمد متولي الشعراوي عضو البعثة الأزهرية جعلكم من العدائين ومن الحدائين - إن كان هذا التعبير صحيحا - فقد قال:
يا حداة الآمال بالله زيدوا
فمهيج الركبان حلو الحداء
وثقوا بالمنى فإن زمام العلم
قد صار في يدي عداء
هو منه في خير كل قديم
وجديد على نبوغ سواء»
ويقول طه حسين: «أستغفر الله لأخينا الشعراوي ولأنفسنا كذلك! لقد قرأت قصيدته وهي طويلة جيدة جدا.»
ويقول الشيخ أمين الخولي: «إنه طويل النفس حقا، القصيدة أكثر من مئة وعشرة أبيات، وقد جمعت فأوعت كما يقولون، انظر كيف ذكر كتبك عن الإسلام ذكرا جميلا حين قال:
وجمال الإسلام في «وعدك الحق» تجلى فيه جلال الفداء
صور لا تكون في غير حق خلدتها مصارع الشهداء «هامش السيرة» الحبيبة فيه تغني سماحة الأنبياء
فهو في الأذن معبدي خفيف وثقيل الميزان يوم الجزاء
وهو عن نعمة البيان زكاة ولهذا أدركت سر النماء»
ويقول طه حسين: «لقد أثرت في نفسي أبيات من قصيدته تحدث فيها عن هذه البلاد، التي كان صديقنا الدكتور محمد حسين هيكل يسميها منزل الوحي.»
ويقول أمين الخولي: «لا شك أنك تقصد الأبيات التي يقول فيها:
ركب طه هنا مطالع طه وانبثاق الشريعة السمحاء
كل أرجائها جلالات ذكرى لهدى الله خاتم الأنبياء»
ويقول طه حسين: «نعم، «كل أرجائها جلالات ذكرى»، متى نزور مدينة الرسول؟»
ويرد أمين الخولي: «لقد ذكرت لأعضاء الوفد السعودي رغبتك في القيام بزيارة المدينة المنورة وسيبلغوننا بما يمكن تدبيره اليوم، ولكن قصيدة الشيخ متولي الشعراوي وحديث الدكتور هيكل عن منزل الوحي يذكرانني بالقصيدة البديعة الطويلة، خمسة وأربعين بيتا، التي نظمها الشاعر حسن عبد الله القرشي، ويقول فيها:
مرحبا في منازل الوحي كم ضاءت رباها بسيد المرسلينا!
إنها مشرق الرسالة مهد النور قدما ومشرع الواردينا
إيه طه حللت أهلا وعذرا ألا يكون القريض معينا
فيك سر القرون من أمة العرب تتحدى الدهاة والجاحدينا»
ويقول طه حسين: «أعود فأستغفر الله لهم جميعا، وأستغفره لنفسي أيضا.» •••
وفي اجتماع اللجنة الثقافية في جدة، يقول طه حسين: «هؤلاء العرب الذين خرجوا من جزيرتهم هذه، وليست لهم في الحضارة سابقة، ولا حظ لهم من العلم إلا ما علمهم الله في كتابه الكريم؛ خرجوا فوجدوا حضارات كثيرة قوية بعيدة الأثر في الحياة الإنسانية، متنوعة مختلفة الألوان والفنون والعلوم، فلم يمض عليهم إلا قرن واحد حتى كانوا قد أساغوا كل هذه الثقافات، ثم لم يكتفوا بإساغتها وتمثلها، وإنما أخذوا يضيفون إليها ويزيدون فيها ويضيفون إلى كنوز الإنسانية في العلم والمعرفة كنوزا ... ثم لم يكفهم هذا حتى أشركوا فيه الإنسانية كلها، ثم لم يستأثروا لأنفسهم منها بشيء، وإنما أشركوا الأمم التي كانت تستظل بظلهم فيه، اتخذوهم أول الأمر معلمين، ثم أصبحوا لهم أساتذة ومعلمين، ثم أصبحوا لهم إخوة يدعونهم إلى الخير، ويستعينون بهم على الحق، ويجدون معهم في إغناء فنون العلم والثقافة والأدب من جميع وجوهها، ثم لم يكفهم هذا حتى نشروا هذه الثقافة في أقصى أقطار الأرض التي عرفوها، وأتاحوا بعد ذلك للأجيال التي ستخلفهم على الحضارة، والتي أتيح لها التفوق في هذه الأيام، أن يتعلموا وأن يتقنوا وأن يعرفوا أنفسهم وأن يعرفوا أصول ثقافتهم.
وثقوا أننا لا نغلو ولا نكثر ولا نفاخر بالباطل إذا قلنا إن الغرب الأوروبي والأمريكي الآن، على تفوقه، إنما هو مدين بتفوقه كله، وبعلمه كله لهذه الأصول الخصبة الدائمة التي نقلها العرب إلى أوروبا في القرون الوسطى. ولا ينبغي مطلقا أن نتحرج من أن نطالب الأوروبيين - وقد طالبتهم كثيرا - بأن يردوا إلى الشرق دينهم عنده، وألا يكونوا ملتوين بما عليهم من الدين، وأن يشعروا بأن للشرق العربي عليهم جميلا يجب أن يقدروه، وأن يشكروه، لا أن يسرفوا في العزة والإثم، ولا أن يبغوا على الذين أحسنوا إليهم وعلموهم كيف يكون الإحسان.» •••
بعد انتهاء اجتماع اللجنة، جاء صحفي سعودي يطلب حديثا ...
قال الصحفي: «سيدي الدكتور، ماذا تحب لكل عربي؟»
وأجاب الدكتور طه: «أنا أحب لكل عربي، فيما بينه وبين نفسه، أن يزكي نفسه بالعلم والثقافة والمعرفة، حتى إذا لقي الأمريكي أو الأوروبي لم يحس لهذا الرجل أو ذلك تفوقا عليه، ولم يحس في نفسه بالاستحياء، ولم يشعر بأنه من وطن قليل الحظ من العلم والثقافة.»
وسأل الصحفي: «وإلى جانب الثقافة العربية الخالصة، هل تنصح البلاد العربية بالاتصال بثقافة أخرى؟»
وقال طه حسين: «يجب أن تفتح الأمم العربية نوافذها على مصاريعها لكل لون من ألوان العلم، ولكل فن من فنون الثقافة، ولكل ضرب من ضروب المعرفة، وأن تكون قلوبنا جميعا هي التي تستقبل هذا كله، فتميز منه الخبيث من الطيب وتستبقي منه ما يلائم طباعنا وأمزجتنا، وننتفع به في ترقية الحضارة العربية بحيث لا نكون عيالا على الأوروبيين والأمريكيين حتى في أيسر حاجيات حياتنا.»
قال الصحفي: «أي إن علينا أن ندرس ثقافتنا الأصيلة، وأن نتعرف بعد ذلك إلى الثقافات الأخرى ونختار ما يلائم ثقافتنا فنضيفه إليها ونرفض ما لا يلائمها.»
وأجاب طه حسين: «نعم، ولكن هذا لا يكفي، يجب أن نعيش في الأرض منتجين لا مستهلكين فقط، يجب أن نعطي وأن نأخذ، وأن يكون ما نعطيه من العلم والثقافة أكثر مما نأخذه من العلم والثقافة، كذلك كنا من قبل ... وما ينبغي أن يقصر الأبناء عما بلغه الآباء، وإنما الأصل أن يضيف الأبناء إلى ما أنشأ الآباء، يجب أن تذكروا دائما أن العرب القدماء فعلوا كثيرا في سبيل العلم والثقافة والإنسانية، وأننا نحن إلى الآن لم نفعل شيئا.»
وفي فندق الكندرة في جدة يسأل طه حسين الأستاذ أمين الخولي والأستاذ فتحي: «هل سألتما عن كيفية الوصول إلى المدينة المنورة؟»
ويقول الأستاذ فتحي: «لا سبيل إلا بالطائرة.»
ويرد الدكتور طه حسين قائلا: «أنا لا أركب الطائرة، ألا توجد سبل أخرى إن عمر فريضة الحج أكبر من عمر الطائرة؟»
ويقول الأستاذ أمين الخولي: «فتحي عنده حق، لقد عملت كل شيء، وحاولت كل طريقة، وكلمت سمو الأمير ولكن الطريق البري مقطوع بسبب السيول الغزيرة التي هطلت هذا العام، ألا تؤجل زيارة المدينة المنورة هذه المرة؟»
ويقول طه حسين: «لن أغفر ذلك لنفسي أبدا، شوقي إلى هذه الزيارة يتزايد منذ أكثر من سنتين؛ أي أنواع الطائرات تطير إلى المدينة؟»
ويرد محمد فتحي قائلا: «أخشى أنها الطائرة الصغيرة، طيارات «داكوتا»، الركوب فيها غير مريح.»
ويقول طه حسين: «لا، لن أتعب ... لقد كنت أعيش بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عاما منذ بدأت أكتب «على هامش السيرة» حتى الآن، وهنا، في جدة، أحسست أنني أعيش فيها بفكري وعقلي وجسدي جميعا.»
ويقول السكرتير : «إن سفير سوريا السيد عمر بهاء الدين الأميري ترك رسالة يأسف فيها أسفا شديدا لأن مشاغل اللجنة تجعل من المستحيل الاستجابة لرغبات السفارات العربية هنا في إقامة حفلات لتكريمكم.»
ويقول طه حسين: «حقيقة، وشكرا للسيد السفير.»
ويقول السكرتير: «وهو يبدي إعجابه العظيم بكلمتكم في افتتاح اللجنة الثقافية، وخصوصا بحديثكم عن «تعريب قلوب المسلمين غير العرب» بمساعدتهم على فهم القرآن بلغته.»
ويسأل طه حسين: «يعني أعجبه التعبير؟ أعجبته كلمة «تعريب القلوب»، أم أعجبته الدعوة للعمل في البلاد الإسلامية غير العربية؟»
ويقول السكرتير: «يقول إنه كان وزيرا مفوضا لبلاده في الباكستان وإن أهل الباكستان متلهفون على مثل هذا التعريب.»
ويقول الأستاذ أمين الخولي: «أنا قابلت السفير الأميري وقال لي نفس الكلام، وكان أيضا يتكلم بإعجاب عن مناظرتكم في العام الماضي مع السيد رئيف خوري التي ذهب فيها الأديب اللبناني إلى أن الأديب يكتب للكافة، وذهبتم أنتم فيها إلى أن الأديب يكتب للخاصة.»
ويقول طه حسين للأستاذ الخولي: «أنت تعرف طبيعة هذه المناظرات، لقد ذكرت في أول حديثي عندما تكلمت في المناظرة الحقيقة، وهي أنني تسلمت دعوة كريمة من جمعية المقاصد الإسلامية أمضاها الصديق الأستاذ سهيل إدريس، وعرض فيها أن تكون المناقشة حول الكتابة هل هي للخاصة أم للكافة، وعرض علي أن أتحدث عن أن الكتابة هي للخاصة، قلت للسامعين الحقيقة وهي أن هذه المناظرة شيء مصطنع، لسبب بسيط وهو أنني في كل ما كتبت لم أفهم عامة ولا خاصة بالقياس إلى الأدب، ولست من الذين تفتنهم هذه الآراء الكثيرة الخطيرة الحديثة التي يشغل الأوروبيون أنفسهم بها منذ زمن.»
ويقول أمين الخولي: «نعم، هذا أشبه بالعميد.»
ويقول طه حسين: «المهم الآن حجز التذاكر بالطيارة للمدينة المنورة.» •••
في القاهرة بعد العودة من المملكة العربية السعودية وفي منزل طه حسين بالزمالك، يجلس الأستاذ كامل الشناوي مع العميد في مكتبه، وهو يسأل: «هل زرتم الأماكن المقدسة مرتين؟»
الدكتور طه حسين يقول: «لا، مرة واحدة، وكنت في هذه المرة الواحدة مع الناس ومع نفسي في وقت واحد .»
ويقول كامل الشناوي: «هذا كلام يحتاج إلى إيضاح.»
ويرد طه حسين: «إليك الإيضاح: لقد جرت العادة عندما يصل المرء إلى الكعبة أو المسجد الحرام أن تتسلمه طائفة من أناس يسمون في مكة بالمطوفين، أي الذين يقومون بإجراءات الطواف بالكعبة، ويسمون في المدينة بالمزورين، أي الذين يقومون بإجراءات الزيارة لقبر الرسول عليه الصلاة والسلام.»
ويقول كامل الشناوي «مقاطعا»: «علمت أنكم سافرتم للمدينة المنورة في طائرة صغيرة خطرة مع أنكم لا تركبون الطائرات أبدا، وسبق أن رفضتم دعوات هامة جدا لأمريكا ولروسيا والهند ... لأن تلبيتها كانت تستلزم ركوب الطيارة، ولم تلبوا حتى دعوات ابنتكم وصهركم لزيارتهما وهما في أي منصب في السلك الدبلوماسي في أي بلد لهذا السبب.»
ويقول له طه حسين: «لم يكن من الممكن أن أتخلف عن هذه الزيارة، ولم تكن هناك طريقة أخرى غير الطيارة، كنت أحس أنه لا بد لي من زيارتها، لولا خوف الغرور لقلت إنها كانت دعوة من خارج نفسي ... دعوة آمرة!»
ويستفهم كامل الشناوي: «دعوة آمرة؟!»
ويقول طه حسين: «دعوة آمرة لا بد أن تلبى.»
ويقول كامل الشناوي بعد سكوت: «نعود إلى المطوفين والمزورين.»
ويقول طه حسين: «حاولت جهدي أن أتخلص من المطوفين والمزورين ولكن محاولاتي ذهبت هباء، ووجدتني بين أيديهم أردد بلا وعي ما يقولونه، ووجدتني في الوقت نفسه وحدي وإن كنت في صحبتهم، كنت شخصية واعية بلا كلام، وشخصية متكلمة بلا وعي؛ كانت الشخصية المتكلمة تردد كلام المطوفين والمزورين، وكانت الشخصية الواعية بلا كلام تناجي ربها في صدق وصمت وخشوع.»
ويسأل كامل الشناوي: «وبماذا ناجيت ربك في صمت وصدق وخشوع؟»
ويقول طه حسين: «بدعاء سبق أن ألقيته في فلورنسا، فأثار الدموع في عيون السامعين من غير المسلمين، وأثار الشوق في قلبي أنا لزيارة مدينة الرسول.
أوله: اللهم لك الحمد.
وآخره: أنت إلهي لا إله إلا أنت. أنت نور السموات والأرض.» •••
بعد خروج الأستاذ كامل الشناوي دخلت السيدة سوزان تسأل زوجها: «طال الحديث، أثقل عليك؟»
ورد طه حسين: «لا، لم أحس بطول الحديث، كنت أتحدث عن رحلة الحجاز، أجد في نفسي راحة كبيرة عندما أتحدث عنها فلا أحس بأن الوقت قد طال. تذكرين ما كتبته إليك وأنا هناك؟ لقد كتبت إليك: «إن الإسلام هو دين الصفاء.»
وتقول السيدة سوزان: «نعم، أنت سعيد برحلتك إلى السعودية وأنا سعيدة بسعادتك، ولكن الآن أريد أن أحدثك في موضوعات أرضية؛ أولا: موضوع البيت الذي نبنيه في طريق الهرم ومشاكل المباني المتعبة، الحلم ببناء المنزل كان حلما كله سعادة، تحقيق الحلم أو خطوات تحقيق الحلم كلها متاعب، وأخشى أنك لا بد أن تشاركني في البحث عن الحلول. ثانيا: أريد أن تملي علي رد خطاب الدعوة لحضور مؤتمر البندقية، وهناك أيضا دعوة لمؤتمر في بيروت عن «مهمة الجامعة في العالم العربي».»
ويقول طه حسين: «نعم هذه دعوة قديمة ومهمة، الجامعة في العالم العربي موضوع حيوي، وقد سبق أن قبلت الدعوة لأهمية هذا الموضوع.» •••
يخرج الدكتور طه من قاعة الاجتماع في بيروت، ويلتف حوله عدد من الشباب اللبنانيين يسألونه عن اللغة العامية والأدب العامي ...
وطه حسين يكسو وجهه الجد عند سماع السؤال، وكان قبل ذلك يبتسم مرحبا بالشباب، ويقول لهم جادا: «فلنحذر من أن نشجع الكتابة باللهجات العامية، فيمعن كل قطر في لهجته، وتمعن هذه اللهجات في التباعد والتنافر، ويأتي يوم يحتاج فيه المصري إلى أن يترجم لهجته إلى كتب السوريين واللبنانيين والعراقيين، ويحتاج أهل سوريا ولبنان والعراق إلى مثل ما يحتاج إليه المصريون، كما يترجم الفرنسيون عن الإيطاليين والإسبانيين.»
ويسأل شاب لبناني: «وأي بأس في أن نكون مثل فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا؟»
ويرد طه حسين: «أيهما خير؟ أن يكون للعالم العربي كله لغة واحدة وهي الفصحى يفهمها أهل مراكش كما يفهمها أهل العراق، أم أن تكون له لغات بعدد الأقطار التي يتألف منها؟ أما أنا فأؤثر وحدة الفكرة، وأثق الثقة كلها بأن لها النصر آخر الأمر، وأرى أن وحدة اللغة خليقة بأن يجاهد في سبيلها المجاهدون.» •••
وعلى الباخرة إسبريا يقول طه حسين لزوجته، وقد ركبا الباخرة من بيروت: «لقد أوشكنا على الوصول، هذه هي الإسكندرية.»
وترد سوزان: «ما أشد شوقك إليها!»
ويقول طه: «وأنت، ألا ترين منذ الآن وجوه المصريين تبتسم لك؟»
وترد سوزان: «نعم، أرض مصر كلها تبتسم ... وهذه المرة ستجد كثيرا من المستقبلين، تذكر عندما عدنا عام 1949؟»
ويقول طه: «في عام 1949 كان الملك موجودا، وكان الملك غاضبا علي، ولم يكن من الحكمة استقبال رجل قد غضب عليه الملك.»
وتقول سوزان: «والآن لحسن الحظ لا غضب ولا ملك، ولكن لسوء الحظ لا أمينة ولا زوجها أيضا ولا الأولاد؛ حسن الزيات الآن في السادسة من عمره، وسوسن في الخامسة، ومنى في الرابعة، وكلهم في طهران.»
ويقول طه: «محمد يقوم بعمل ممتاز هناك فيما أسمع، إنه قائم بأعمال السفارة كما تعرفين، وقد كتب يلح علينا في أن نزورهم.»
وتسأل سوزان: «ألا نستطيع؟»
ويقول طه حسين: «لا سبيل للوصول إليهم إلا بالطيارة! ولولا ذلك لأسرعت بالسفر لأني أريد أن أزورهم، ولأني أريد أن أزور إيران أيضا؛ الحضارة الإسلامية والعربية ملأى بأسماء من إيران، وكل اسم من أسماء هذه المدن يثير في النفس الذكريات، تذكرين الأبيات التي كنت أغنيها لحسن؟
ألا يا أيها الساقي أدر كاسا وناولها
كه عشق أسان نمود أول ولي افتاد مشكلها»
وتسأل سوزان: «هذا شعر شاعر فارسي؟»
ويقول طه: «نعم، شعر حافظ الشيرازي، وشعراؤنا العرب زاروا إيران أيضا وتغنوا بجمالها، المتنبي ركب حصانه هناك وسار في واد اسمه «شعب بوان»، فتن بالأرض الخضراء حوله ترتفع جبالا، والماء يسيل منها إلى الوادي، فدفعه ذلك إلى مخاطبة حصانه.»
وتتساءل سوزان: «إلى مخاطبة حصانه؟!»
ويقول طه: «نعم، والمهم أن حصانه قد رد عليه.»
وتسأل سوزان: «رد عليه بالعربي؟! ولكن ألم يكن الحصان فارسيا؟!»
ويقول طه حسين: «تذكرين عندما أخذنا أمينة وهي صغيرة إلى فرنسا لأول مرة؟»
وتتذكر سوزان: «نعم، وسألتني عن الخيل التي رأيناها في فرنسا هل جنسيتها فرنسية! لكن قل لي ماذا قال الحصان في إيران؟»
ويقول طه: «المتنبي هو الذي نقل إلينا ما قاله، قال:
يقول بشعب بوان حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعان؟
أبوكم آدم خلق المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
لكن قولي لي يا سوزان هل آدم هو الذي خلق المعاصي أم حواء؟»
وتقول سوزان: «لا أرد على هذا الكلام. إذا لم نذهب قريبا إلى إيران فأرجو أن يحضروا هم إلى مصر، عملت ترتيب إقامتهم في بيتنا الجديد.»
ويقول طه حسين: «بيتنا الجديد!»
وترد سوزان: «حديقة المنزل ستكون متسعة، يلعب فيها الأطفال الثلاثة، لكن المهم أن تنتهي الأعمال المرهقة التي يسمونها «التشطيب»، وأن تنتهي ليلى ومؤنس من إعداد سكنهما.»
ويعود طه حسين للتأمل ويقول: «بيت لنا، وحديقة، وأمينة وزوجها، وأطفال لهما يلعبون في الحديقة، ومؤنس وزوجته في مسكنهما الهادئ معنا في «رامتان»! اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض!»
رامتان!
في المنزل بالزمالك، طه حسين وزوجته يتناولان القهوة، وقد خلا المنزل من أثاثه الذي تم نقله إلى المنزل الجديد في طريق الهرم.
تسأل سوزان: «هل سيكون لمنزلنا الجديد اسم؟»
ويرد طه حسين: «نعم، إن أردت.»
وتقول سوزان: «أريد، ماذا نسميه؟»
ويقول طه حسين - بعد تفكير: «رامتان!»
وتسأل سوزان: ««رامتان» كلمة عربية؟»
ويقول طه حسين: «نعم، الرامة موضع بالبادية يستريح لديه المسافر، وتثنى الكلمة فتصبح «رامتان» ما دام البيت الجديد سيتكون من سكنين، سكننا وسكن مؤنس وليلاه.»
سوزان: «الاسم جميل، والمثنى جميل ... رامتان، سيكون في البيت سكنان، أرجو ألا نفترق عن مؤنس كما افترقنا عن أمينة. لكن رامتان هل سيفهم الناس وخاصة الأصدقاء العرب معنى هذه الكلمة؟»
ويقول طه حسين: «في المثل العربي القديم: «تسألني برامتين سلجما» يعني تطلب منه أن يحضر لها السلجم، والسلجم هو «اللفت»، وهما في رامتين، ومن أين يأتي لها باللفت في البادية؟!»
وتقول سوزان: «من يريد «اللفت» في رامتان؟ رامتان لن يوجد فيها لفت، سيوجد فيها بساط أخضر تمشي عليه في هدوء كما تحب، وسنزرع فيها أشجار الفتنة التي تحب عطر زهورها، وقد استبقيت في الأرض أشجارها القديمة الطويلة، لتدعو إليها الطيور وليغني في سمائها الكروان.» •••
الاسم «رامتان» مكتوب على باب الفيللا الخارجي.
في الحديقة طه حسين مع ولده مؤنس يسيران عائدين إلى المنزل بعد جولة فيها.
يدخل الوالد وولده إلى غرفة الطعام وفيها السيدة سوزان وليلى، ويدخل الطباخ «محمد» الذي كان يعمل في سكن الدكتور طه في الزمالك، والذي انتقل مع الأسرة إلى المسكن الجديد، فيحييه مؤنس، ويدخل «السفرجي» الذي انتقل أيضا مع الأسرة من الزمالك، يقدم القهوة، ثم تنسحب ليلى للراحة ويتناول الثلاثة القهوة، ويتحدثون عن خطاب وصل من أمينة من طهران تصف فيه زيارتين قامت بهما مع زوجها وأولادهما الثلاثة إلى ساحل بحر قزوين ومدينة شالوس المشهورة بصناعة الحرير ومدينة رامسار على ساحل بحر قزوين، وتقول إن ابنهما «حسن» يذهب إلى المدرسة الأمريكية، و«سوسن» وأختها إلى مدرسة الليسيه، وهم جميعا موفقون في دراستهم والحمد لله!
بعد القهوة، يصعد طه حسين إلى غرفته للراحة، وإلى جانب السرير جهاز راديو، يفتحه ليستمع إلى القرآن الكريم، وفي الساعة الثالثة تصل مدام غنيم لتقرأ عليه كتابا من الكتب الفرنسية الحديثة الوصول إلى القاهرة، وفي المساء ينزل إلى مكتبه، ويحضر سكرتيره فريد ليقرأ له ما يريد، وقد يحضر الأستاذ إبراهيم الإبياري أو الأستاذ محمد الدسوقي من رجال المجمع لقراءة بعض النصوص العربية القديمة، وقد يحضر بعض الأصدقاء مثل الدكتور سليمان حزين، والدكتور كامل حسين، والشيخ أبو رية، والأستاذ عبده حسن الزيات، والمهندس عبد المجيد حسين شقيق الدكتور الأصغر، والدكتور محمد عوض محمد، والدكتور سهير القلماوي، والدكتور يحيى الخشاب، والأستاذ ثروت أباظة، والأستاذ كمال الملاخ، والأستاذ يوسف السباعي الذي يحدثه في شئون نادي القصة واتحاد الكتاب والمجلس الأعلى للفنون والآداب، ويحضر أحيانا الأستاذ لطفي السيد الذي لم ينقطع عن زيارته مع بعد المسافة بين منزليهما الآن، بين مصر الجديدة والهرم. كل من يدخل المنزل لأول مرة يهنئ العميد بأول دار يملكها.
وبعد العشاء يجلس مع زوجه في الصالون يسمعان بعض الموسيقى، ثم تقرأ له زوجه في كتاب.
المقطوعة الموسيقية هذا المساء هي موسيقى موزارت المسماة «القيثارة السحرية»، أما الكتاب فأحد مؤلفات الكاتب الإيطالي إنجاريتي، فلقد طلبت إحدى الصحف الإيطالية من الدكتور طه حسين مقالا عن الكاتب «إنجاريتي»، لنشره في العدد الخاص الذي تصدره عنه، وطه حسين يقرأ الكتاب تمهيدا لكتابة كلمته وإرسالها للمجلة، زوجته تذكره بالفصل الجميل الذي كتبه عام 1949 في الكتاب الذي أصدرته منظمة اليونسكو عن الشاعر الألماني «جيته»، فبين فيه أثر الحضارة الإسلامية في مؤلفات الشاعر الألماني. •••
في نفس الصالون يسمع طه حسين إعلان الرئيس جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس من الإسكندرية، بعد سحب العرض الأمريكي لمشروع السد العالي في أسوان.
يحس طه حسين بالقلق لتطور الأحداث، ولكنه معجب بمصر المستقلة التي تبادر فترد عن نفسها كل إهانة.
ويقع العدوان الثلاثي على مصر وتشترك إنجلترا وفرنسا مع إسرائيل في العدوان.
طه حسين شديد الغضب على العدوان، يتحدث بالتليفون مع الأستاذ عبد القادر حاتم مدير إدارة الاستعلامات، الذي يريد إصدار كتاب بأقلام عدد من الكتاب البارزين في مصر ضد هذا العدوان، سيكتب طه حسين أول فصل من فصوله.
ويترك التليفون ويتحدث مع زوجته عن موقف فرنسا؛ إن فرنسا لا يمكن أن تؤمن بالحرية لنفسها وأبنائها وتنكر هذه الحرية على غيرها من الأمم والشعوب، ويسأل عن شعار الثورة الفرنسية «الحرية» هل هو للفرنسيين فقط؟ و«الإخاء» هل هو للأوروبيين فقط؟ وكذلك «المساواة»؟ •••
وفي المكتب، يطلب طه حسين إلى سكرتيره أن يقرأ عليه المقال الذي كان قد نشره في جريدة «الجمهورية» منذ عامين تقريبا بمناسبة اعتقال فرنسا للمراكشيين، الذين ثاروا عليها بعد اعتقالها ونفيها للسلطان محمد الخامس.
السكرتير يقرأ: «ثار المراكشيون العام الماضي حين أراد الفرنسيون العبث بعرشهم وخلعوا سلطانهم بغيا وعدوانا، وكان في هذه الثورة صدام بين الظالمين والمظلومين وكان فيها قتلى من الفريقين، وقد تغلب الأقوياء بالطبع وأخذ المغلوبون من أصحاب الحق وألقوا في غياهب السجون على أنهم ثاروا لحقهم، وغضبوا لكرامتهم، وأبوا أن يحكم عليهم من لا يحبون، فكان هذا في نفسه إنكارا لأصل من أصول الثورة الفرنسية وانحرافا عن أساس من أسس الديمقراطية التي تنكر الظلم، وتبيح للمظلومين أن ينكروه، وأن يصلحوه ما وسعهم إصلاحه.»
ويقول طه حسين: «اقرأ الفقرة الختامية للمقال.»
ويقرأ السكرتير: «هيهات لن تحترم حقوق الإنسان ولن ترعى كرامته، ولن تسمو الحضارة الحديثة إلى المثل العليا، ولن تلغى الفروق بين الأقوياء والضعفاء إلا يوم يلغى نظام الاستعمار إلغاء، ويوم لا يباح لفريق من أصحاب المطامع والمنافع أن يستغلوا ويستذلوا شعوبا بأسرها، وأن يضحوا في سبيل منافعهم ومطالبهم ومطامعهم بحياة الناس وحقوقهم وكرامتهم، ومن يدري؟ عسى أن يكون هذا اليوم قريبا، وعسى الله أن يكون أقرب مما يظن المستعمرون.»
ويقول الدكتور طه: «نعم، وأظن أن هذا اليوم قد حل فعلا، إن هذا العدوان على السويس عدوان ترتكبه دول ثلاث مدججة بالسلاح على شعب يريد أن يمارس حقه في أرضه ومائه، هذه نهاية عصر الاستعمار ويجب أن تعلم إنجلترا وفرنسا ذلك، ويجب أن تعلمه مصر، وتعلمه كل الشعوب المستعبدة، ولكن ... اتركني الآن وسنبدأ الإملاء بعد قليل.»
ويترك الدكتور طه المكتب عائدا إلى الصالون حيث تجلس زوجته.
ويقول لها: «سوزان، تذكرين وسام اللجيون دونور الذي منحته الحكومة الفرنسية لي من طبقة جراند أوفيسيه؟»
سوزان: «تقوم إلى دولاب في الصالون فتفتحه وتخرج منه علبة وتقول نعم، وقد أحضرته، هذا هو، إنك تريد أن ترده على فرنسا؟»
ويقول طه: «أنت تقرئين دائما صفحة ضميري.»
وتقول سوزان: «وضميرك لن يغفر لفرنسا أنها شاركت في العدوان.»
ويقول طه: «سوزان، أين مبادئ الحرية والإخاء والمساواة التي تربيت عليها؟ ما مقام فرنسا في المغرب وتونس والجزائر بالرغم من أهلها واستغلالهم لهذه البلاد ولبلاد الشام بالقوة والعنف؟ والآن ما هذا العدوان على مصر وهذا الانحدار إلى التواطؤ عليه مع إنجلترا وإسرائيل عقابا لنا لمطالبتنا بتحرير المستعمرات الفرنسية وخاصة الجزائر وفقا للمبادئ التي تتأسس عليها الدولة الفرنسية نفسها؟!»
وتقول سوزان: «ألا يتركونك لما يهمك من شئون الثقافة؟»
ويرد طه حسين: «وهل تنفصل شئون الثقافة عن شئون الحكم وشئون الاستعمار؟ تذكرين عندما كنت أريد أن أنشئ معهدا للدراسات العربية والإسلامية في الجزائر؛ وافقت فرنسا أولا عملا بما تفرضه حرية الثقافة ، ولكنها رفضت أخيرا عملا بما تفرضه سطوة الاستعمار؟»
وتقول سوزان: «أذكر.»
ويقول طه حسين: «وعندما أردت إنشاء معهد عربي في مدينة طنجة، قامت الدول الاستعمارية المتحكمة هناك بمقاومة الفكرة بعنف شديد وساندتها فرنسا أو قولي دفعتها فرنسا إلى المقاومة!»
وتقول سوزان في مرارة: «ذلك أن فرنسا تعرف خطر الثقافة، لك الحق كل الحق، إن فرنسا قد اعتدت على مصر، ومصر محقة في غضبها وفي وقفتها ضد المعتدين، وأنت محق في غضبك. إنك سترد الوسام الفرنسي، على أنك إنما ترده على الحكومة الفرنسية التي أمرت بالعدوان، والتي أعتقد أن الشعب الفرنسي لا يمكن أن يوافق على تصرفاتها.»
ويقول طه: «إنما يغضب الشعب الفرنسي إذا فشلت الحكومة الفرنسية في عدوانها، وليس إذا نجح العدوان! وهذا سبب جديد لضرورة المقاومة وإيقاع الهزيمة بالمعتدين.»
وتقول سوزان: «وهل يتيسر مقاومة ثلاث دول مدججة بالسلاح، وإيقاع الهزيمة بهذه الدول الثلاث؟»
طه :
نعم، نقاوم، وننتصر، بإيمان المظلوم بعدل كفاحه، ومعرفة المعتدي بظلم عدوانه
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله
صدق الله العظيم. •••
في حديقة رامتان يقول مؤنس لوالده: «كل شيء في الجامعة جميل، الدراسة والتدريس، الطلبة، وكثير من الزملاء المشتغلين بالدرس والتدريس، ولكن ...»
طه حسين :
ولكن؟
مؤنس :
هناك من الجامعيين الآن عدد لا يشتغل لا بالدرس ولا بالتدريس.
طه :
ممن يسمون أنفسهم بالجامعيين؟
مؤنس :
أنت تخرف طبعا، لقد أهديت أحد كتبك إلى الذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس.
طه حسين :
وأنت ترى أن هذا يا مؤنس لم يمنعني من مواصلة العمل.
مؤنس :
قرأت مرة أن وودرو ويلسون عندما انتخب رئيسا للولايات المتحدة حذره بعض أصدقائه من مؤامرات ودسائس السياسيين في واشنطن، وأن ويلسون رد بقوله: وماذا تكون هذه المؤامرات والدسائس في عاصمة الحكم؟ لا بد أنها ستعتبر من أعمال الهواة إذا قيست بمؤامرات ودسائس الجامعيين!
طه حسين :
لا شك أن الرئيس ويلسون كان يبالغ؛ لأنه إذا أصيبت جامعة بمثل هذا الداء فلن يكون لها بقاء بين الجامعات. أريدك أن تعرف يا ولدي أن الخير هو الأصل، وإنما يفزعنا الشر ويروعنا لأنه شاذ، وأن العمل والاجتهاد هما الأصل وغير ذلك استثناء يؤسف له، ولكنه استثناء.
مؤنس :
أنت تشجعني، وأنا في الحقيقة محتاج إلى تشجيعك؛ الغيرة والدسائس قبيحة، ولكنها أقبح ما تكون عندما تمتلئ بها صدور المقربين إلينا ممن يلبسون لباس الأصدقاء، ولكن لندع هذا لأن لدي خبرا أريد أن أسرك به ... لقد ذهبت ليلى إلى الطبيب هذا الصباح ...
طه حسين :
وإذن سيكون لنا حفيد جديد؟
مؤنس :
ما أسرع ما فهمت عني! ولكنك طه حسين.
طه حسين :
وماذا يكون خبر أسر له يرتبط بزيارة ليلى للطبيب غير ذلك؟ لقد أدخلت على قلبي الفرح يا مؤنس، إنني أراها الآن، أرى طفلتك يا مؤنس تملأ «رامتان» حياة. والأشجار هذه سيصبح لها معنى عندما يتسلقها أو تتسلقها ابنك أو ابنتك.
مؤنس :
أنت حيران بين المذكر والمؤنث، من يدري ربما يلزم استعمال المثنى! تصبح على خير يا أبي! لا بد أن أذهب إلى ليلى.
ويتأهب مؤنس للانصراف، ويقول له والده: «قبل عني ليلى، قبلها مرتين أو ثلاثا إذا شئت!
وفي رامتان بعد ثمانية أشهر ... •••
يقول طه حسين لزوجته وهو يتأهب للذهاب للنوم: «ألم يقل لنا الطبيب أن نترقب الحادث السعيد هذه الليلة؟»
وترد السيدة سوزان: «ومتى كان الطبيب يستطيع أن يحدد اليوم والساعة؟ على أنه مطمئن جدا؛ الحالة عادية تماما.»
ويقول طه حسين: «أذكر بالألم والرعب تعبك.»
وترد سوزان: «لم أعد أذكر مولد أمينة ومولد مؤنس إلا بالرضا والحب والحنان.»
ويقول طه حسين: «وإذن ننتظر خبرا من المستشفى هذه الليلة.»
وترد السيدة سوزان: «ليس هذه الليلة قطعا، هذا ما أكده الطبيب، اذهب لتنام ... سأستيقظ مبكرة في الصباح.»
طه حسين :
ألم يكن من الخير أن نكون معها؟
سوزان :
والدتها السيدة أمينة معها ومؤنس معها، والمهم الآن أن تستريح أنت.
طه :
إن مؤنس غير مستريح في الجامعة، جميل أن يرث الولد عن أبيه مودة الصديق، ولكن من القبيح أن يرث الأولاد بغضاء من أرادوا بآبائهم الشر، بعض زملاء مؤنس يزعمون أن حصوله على الأجريجاسيون قبل الدكتوراه أمر لا يعتد به في حساب أقدميته؛ لأن مصر لا تعرف شهادة الأجريجاسيون.
سوزان :
مؤنس لا يفكر الآن لا في الأجريجاسيون ولا في الدكتوراه، إنه يفكر في زوجته وفي مولودهما، وهو لذلك قلق ولكنه أيضا سعيد. تصبح على خير.
وتعود ليلى من المستشفى بعد عشرة أيام، تحمل ابنتها سعيدة بها وتقول بصوت عال، وهي ما زالت في الحديقة: «أقدم لكم الآنسة أمينة مؤنس طه حسين»، وينهض طه حسين ويسرع مع زوجته متجهين إلى مسكن مؤنس لاستقبال الآنسة أمينة مؤنس طه حسين وعمرها أسبوع. •••
في يونيو 1957 تدعو حكومة تونس طه حسين لزيارتها للإشراف على لجنة امتحانات آخر العام لشعبة اللغة العربية والآداب في دار المعلمين العليا. طه حسين أول مصري وأول عربي يقوم بهذا العمل في تونس بعد استقلالها عام 1956، الرئيس الحبيب بورقيبة يحتفل به احتفالا كبيرا؛ إنه يذكر كيف أحسن طه حسين استقباله عندما فر لاجئا إلى مصر، وكيف قدم طه حسين إليه وإلى حركة الاستقلال التونسية كل معونة ممكنة، وكيف دعاه للتحدث في الإذاعة المصرية، ويتذكر بورقيبة كيف أن بعض رجال الإذاعة لم يعنوا به وهو لاجئ لا مكانة له، وكيف أن طه حسين هو الذي آزره ومكنه من استعمال إذاعة مصر. لقد كان طه حسين مؤمنا بضرورة الكفاح وجدواه، واثقا كل الثقة أن الاستعمار الفرنسي سينحسر عن تونس أمام مقاومة أهلها الصادقين الصامدين.
وفي تونس يقرأ طه حسين مقالا لأحد علماء تونس «البشير بن سلامة»، يقول فيه:
إنني أذكر عندما كان الاستعمار الفرنسي جاثما على البلاد التونسية كيف كنا نستقبل طه حسين في الأربعينيات ونحن تلاميذ بالمدرسة الصادقية، وكيف كانت أفكاره ولغته تروي غلتنا التواقة إلى الجديد. وكانت آراؤه وأفكاره تبعث فينا الاعتزاز بانتسابنا إلى الحضارة العربية الإسلامية الناهضة المتوثبة في مصر آنذاك، وتحفزنا إلى الأمل الأكيد في الخروج من الهيمنة الاستعمارية والتبعية الفكرية، وكانت مواقفه الذائدة عن الكيان المتحمسة إلى صيانة الثقافة العربية الإسلامية بالتجدد والخلق؛ تعيننا أكثر على الكفاح من أجل حماية شخصيتنا التي كانت مهددة بالمسح والتذبذب والذوبان.
ويقول طه حسين: «أستغفر الله! يظهر أن أهل تونس بطبيعتهم مبالغون!» •••
وفي يونيه 1958 يدعو المغرب طه حسين لزيارته فيستقبله الملك محمد الخامس أعظم استقبال، ويمنحه أكبر الأوسمة، فهو شديد التقدير لعلم طه حسين وأدبه، وهو لم ينس نهوض طه حسين بالدفاع عنه ضد الفرنسيين عندما نفوه عن عرشه وعن بلاده، ويحضر الأمير الحسن (الملك الحسن الثاني الآن) المحاضرة التي يلقيها طه حسين في كلية العلوم بالرباط عن مكانة اللغة العربية والأدب العربي بين اللغات والآداب العالمية، وفيها يبين الدكتور طه حسين كيف انتشرت العربية بقوتها الخاصة وبقوة الإسلام وقوة القرآن الكريم، فاستطاعت أن تكون لغة عالمية بأوسع معاني هذه الكلمة، ويبين أنها لم تكن لغة حديث فحسب ولكنها كانت لغة حديث ولغة سياسة ولغة إدارة ولغة الدين، وكانت في الوقت نفسه لغة التفكير والإنتاج الأدبي والعصري، ويقول إنها في أقل من قرنين أساغت كل الثقافات التي كانت معروفة في العصور القديمة، وتمثلتها.
ثم يقول: «وبعد ذلك جاءت المعجزة الكبرى، وهي أن هذه اللغة التي انتشرت بهذه الطريقة المدهشة أنشأت أمة جديدة قوامها اللغة العربية والدين الإسلامي عند الكثرة، والمسيحية والإسرائيلية عند القلة، وكل هذه الأمم امتزجت والتأمت وأصبحت أمة واحدة هي الأمة الإسلامية العربية وجعلت عناصرها المختلفة تتعاون على إنشاء هذه الحضارة الإسلامية العليا، التي لا أعرف أن حضارة أخرى سبقتها في عالميتها وفي انتشارها.» •••
وحيثما قابل طه حسين شباب المغرب ومثقفيه كان يسمع منهم طويلا ويتحدث إليهم، كانوا يستصعبون النحو العربي فيقول لهم إن من اللازم ومن الممكن تيسيره، ويشكلون الكتابة العربية التي لا بد أن يفهمها الإنسان أولا ليقرأها صحيحة بعد ذلك، فيقول طه حسين: «لقد أعلنت مرارا وأعلن الآن أنه لا بد من إصلاح الكتابة العربية مع رفضي التام للكتابة بالحروف اللاتينية، ويجب على هذا الجيل من العرب أن يبحث عن أحسن الوسائل لإتمام هذا الإصلاح المطلوب والضروري.»
ويقول طه حسين ردا على سؤال عن قدرة اللغة العربية على التعبير عن مصطلحات السياسة والحضارة الحديثة: «إن مجمع اللغة العربية بالقاهرة يسلك في هذا الشأن مسلكا حميدا، وهو البحث عن الاصطلاح العربي القديم إذا وجد واستعماله إذا كان ملائما أشد الملاءمة وأدقها للمعنى العلمي الذي يؤديه المصطلح الأجنبي، وإلا عرب المصطلح الأجنبي نفسه. وليس في التعريب أي حرج، فإن كل الدول الأوروبية مثلا تستعمل اللفظين اليونانيين أكسيجين وهيدروجين، ولا داعي لأن نحاول ترجمة هذين اللفظين للغة العربية.» •••
ويزور طه حسين مدن الرباط ومكناس والدار البيضاء وفاس (حيث يستقبله الزعيم علال الفاسي) وتطوان، ويصعد بالسيارة في جبال الأطلس إلى مراكش، ويتوقف عند قرية في الجبل أمام محل صغير وقد استرعى نظر زوجته رداء مغربي أبيض جميل توقفت لشرائه.
وأمام المحل الصغير في القرية المغربية يتجمع بعض أهل القرية يتحدثون فيما بينهم عن الزائر الذين عرفوا أنه طه حسين، ويتقدم رجل عجوز من سكرتير طه حسين ويقول له: «إن الأستاذ لا يعرفني طبعا، أنا رجل من عجائز هذه القرية، ولكني أرسلت من هنا برقية إلى طه حسين في القاهرة منذ سنين.»
ويلتفت طه حسين للعجوز ويسأله: «أرجو أن تذكرني ... ماذا كان موضوع البرقية؟»
العجوز :
كنت أنت قد خطبت في الجامعة الأمريكية في القاهرة فقلت إنكم في مصر تتحدثون عن المشرق العربي كثيرا ولكنكم يجب أن تذكروا أيضا المغرب العربي، وأن تهتموا كثيرا ببلاد المغربي العربي. وعندما قرأت تلخيص حديثك في بعض الصحف التي وصلت إلينا هنا أرسلت لك برقية أشكرك باسم المغرب العربي.
طه حسين :
نعم، نعم، أذكر حديثي في الجامعة الأمريكية، وأذكر برقيتك، وأذكر أنك لم تذكر فيها عنوانك فلم نرد عليك، وأذكر أن السيد السنوسي قد أرسل إلي من ليبيا برقية تشابه برقيتك. لماذا لم تذكر عنوانك؟
العجوز :
لأني اعتبرت أن البرقية مرسلة إليك منا جميعا، من المغرب العربي وليس مني أنا فقط.
وداخل المحل تقول السيدة سوزان: «ما أجمل هذا الرداء! سوف يكون جميلا عندما ترتديه أمينة بنت مؤنس، سأعطيه لها عندما تحضر مع والديها لقضاء يومين معنا في إيطاليا، في تريستا، قبل عودتنا إلى مصر.»
صاحب المحل يحاول أن يقدم الرداء هدية، ثم لا يتقاضى في آخر الأمر إلا أصل ثمنه دون أخذ أي ربح من طه حسين.
وفي السيارة في طريق العودة إلى مدينة الرباط تعرض سوزان على زوجها الرداء الذي اشترته لحفيدتهما، بنت مؤنس، ويقول طه حسين: «لقد طالت غيبتهم عنا، ولقد تفرق الجميع؛ إن أمينة بنتنا مع زوجها وأولادهما في مقر عمل زوجها في الصومال، في مقديشو، ومؤنس وزوجته وابنته في مقر عمله باليونسكو في باريس.»
وتسأل سوزان: «ألم يحن موعد استقلال الصومال بعد؟ أنا مشتاقة جدا إلى إعلان استقلال الصومال، فإن مهمة محمد هناك كما أخبرني موقوتة بانتهاء الوصاية الإيطالية على الصومال وإعلان استقلاله.»
ويرد طه حسين فيقول: «إن الموعد المحدد لإعلان الاستقلال حسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة هو الثاني من ديسمبر 1960، ولكن محمد أخبرني أنهم يجتهدون في تقديم الموعد إلى صيف 1960، وأنا واثق أنه سينجح. لقد أرسلت مصر إلى الصومال شبابا من أحسن شبابها، تذكرين كمال الدين صلاح مندوبنا الذي استشهد هناك والذي حل محله محمد؟ سنقابل أمينة وأسرتها الصيف القادم إن شاء الله، أما في هذا الصيف فسوف نرى ليلى ومؤنس وابنتهما في «تريستا» بعد قليل.» •••
وفي تريستا نرى أمينة بنت مؤنس مع أمها في الرداء الأبيض الذي اشترته لها جدتها من بلاد المغرب، ونرى مؤنس يتحدث مع والده عن أعمال اليونسكو، يقول له إن أحد زملائه قد لفت نظره إلى مقال لوالده يتحدث فيه عن الأمم المتحدة، وقرأ له منه فقرات جاء فيها: «لم أومن قط بهيئة الأمم المتحدة، لأن هيئة أخرى شبيهة لها قامت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لم تكف معتديا، ولم تقمع باغيا، ولم تقر أمنا، ولم تشع عدلا، ولم تزد على أن أنفقت مالا كثيرا، وملأت الأرض كلاما وأوهاما، وأغرت الضعفاء أن يطمئنوا إلى ضعفهم، والأقوياء بأن يتزيدوا من قوتهم»، والمقال الآن بين يدي مؤنس وهو يقرؤه على والده بكامله، يقول لأبيه: «أنت تنهي المقال بقولك: «إن الخير كل الخير أن نذود عن حوضنا بسلاحنا، وألا نظلم أحدا، وألا نرضى أن يظلمنا أحدا».» ويسأل طه حسين ولده: «أليس هذا صحيحا؟ ما اعتراضك على هذا المقال إذن؟»
فيقول مؤنس: «على كل حال نحن الآن في 1959، وولدك يعمل في اليونسكو، وهي منظمة من منظمات الأمم المتحدة، وصهرك مشغول بإعداد الصومال للاستقلال باسم الأمم المتحدة.»
ويرد طه حسين: «أنا لم أقل شيئا ضد اليونسكو، بالعكس هذه منظمة هامة تعمل في ميدان عظيم الخطر، وأنت تعرف أنني شاركت في أعمالها وأنني شاركت من قبل ذلك في أعمال لجنة التعاون الفكري التي كانت متصلة بالمنظمة الدولية السابقة؛ أي عصبة الأمم، إن الثقافة ميدان من الميادين التي نرجو أن يتحقق فيها تعاون البشر للخير والحضارة والتي يتيسر فيها هذا التعاون. وفيما يخص إعداد الأمم المتحدة للصومال للاستقلال، فهذا فضل واضح وخير عظيم، وأنا سعيد جدا بعمل محمد هناك، وقد سبق لي أن كتبت أطالب بإلغاء نظام الاستعمار من أساسه، ولكن الفضل الحقيقي في استقلال الصومال، عندما يستقل، لن يكون للأمم المتحدة، ولكن «الفضل» سيرجع إلى هزيمة المستعمر الإيطالي في الحرب العالمية الأخيرة، وإلى أن المنتصرين، وهم الأمريكان والإنجليز والروس والفرنسيون، لم يستطيعوا أن يتفقوا على من يرث الصومال، فانتهوا إلى أن يرفعوا أيديهم جميعا عنها. هذه هي الحقيقة المؤلمة التي لا تغض من مجهودات مصر ولا من مجهودات زوج أختك، فقد كان من الممكن جدا أن يستقر الاستعمار الإيطالي في الصومال لولا هذه المجهودات المشكورة.»
ويقول مؤنس: «أنت متشائم، وعهدي بك التفاؤل.»
ويرد طه حسين قائلا: «أنا في الحقيقة متفائل، ولكني أريد أن يقوم التفاؤل وخاصة تفاؤل الشعوب على أساس من التعقل والاحتياط. المهم كيف عملك الآن في اليونسكو؟»
ويقول مؤنس: «تعرف أننا نشرف على ترجمة التراث الإنساني إلى اللغات الحية باسم مجموعة «الروائع» الإنسانية، وفيما يخص التراث العربي فإن اللجنة الدولية لترجمة الروائع، التي سبق أن تقرر أن يكون مركزها بيروت، ستصدر قريبا كتاب «الأخلاق والسير» لابن حزم، وستترجم كذلك كتاب الغزالي «أيها الولد» وكتابه «المنقذ من الضلال»، كما ستترجم «المقدمة» لابن خلدون و«فصل المقال» لابن رشد، وغيرها.»
ويسأل طه حسين عن العملية العكسية؛ عن ترجمة الروائع الأجنبية إلى العربية.
ويجيب مؤنس: «تتم الآن ترجمة «مقال الطريقة» لديكارت، و«مسامرات الأموات» للوسيان، و«العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، و«السياسات» لأرسطو ... صديق لطفي باشا.»
ويقول طه حسين: «نعم، وصديقي أيضا، إنك تذكر كتاب «نظام الاثينيين» لأرسطو الذي ترجمته منذ ثلاثين عاما.»
ويلاحظ مؤنس أن هذا الكتاب أيضا قد ترجمه راهب لبناني للعربية، ويقول: «وأخشى أنه لم يشر إلى ترجمتك التي سبقته بها بثلاثين عاما.»
ويقول طه حسين: «إن هذا لا يليق، وإن يكن غير مهم، فلعله لم يعرف أنني ترجمت الكتاب، المهم أن تصدر هذه الترجمات، وأن تكون بين أيدي قرائنا العرب، إن الترجمة العلمية الدقيقة وسيلة لتعارف الشعوب وتفاعل الأفكار الإنسانية وتلاقي الحضارات ... ولم توجد نهضة إنسانية إلا وقد اقترنت بها حركة كبرى من حركات الترجمة سواء كان ذلك في بغداد على عهد الرشيد والمأمون عندما أخذ العرب عن غيرهم، أو في أوروبا على عهد النهضة (الرينسانس) عندما أخذت أوروبا عن العرب. إنك تبدو راضيا عن عملك موفقا فيه يا مؤنس فلله الحمد، وإن كانت القاهرة تبدو موحشة من غيرك أنت وأختك، ومن غير أسرتيكما ... ورامتان التي كنا نحلم بها سنوات عديدة موحشة بغيركم الآن. ثم يقول بعد فترة سكوت: «في بعض الأيام، أحس ونحن وحدنا في رامتان بشيء من الوحشة التي يحس بها المرء أحيانا قبيل الغروب.»
قبيل الغروب
في القاهرة، وفي مبنى مجمع اللغة العربية نرى طه حسين يتحدث مع رئيس المجمع لطفي السيد باشا.
يقول لطفي باشا: «رأيته آخر مرة هنا في المجمع، يجادل عن اللغة العربية وعن إصلاح الكتابة العربية، ويحاول ما استطاع أن يتم هذا.»
ويقول لطفي باشا: «عاد جسما بلا روح ...»
ويرد طه حسين قائلا: «كان ذلك يوم الخميس، ثم سافر إلى الحجاز، وبعد يومين إلى نجد، ثم لم يمكث إلا أياما قليلة حتى عاد إلى وطنه.»
ويقول لطفي باشا: «عاد جسما بلا روح ...»
ويرد طه حسين: «الموت حق، وعبد الوهاب عزام كان خير من يعرف ذلك، وإنما أفكر من جديد فيمن يبقون في هذه الدنيا بعد رحيل أصدقائهم، إنهم يموتون قليلا بموت الصديق، منذ أقل من ستة شهور قمنا في هذا المجمع بتأبين زميلنا الأستاذ «ليتمان»، ومنذ حوالي سنتين ودعت صديقي «هيكل».»
لطفي باشا : «كان وداعك لهيكل شديد الفعل في النفوس، قلت إنه كان زميل الشباب وصديق الكهولة وأخ الشيخوخة.»
ويقول طه حسين: «قلت إن قلوب الأصدقاء قبور حية ... كل واحد من أصدقائنا الذين سبقونا إلى جوار الله يحيا في قلوبنا بمقدار ما نحيا نحن، على أن هيكل وعزام وأمثالهما يعيشون أيضا في ذاكرة أمتهم.»
ويرد لطفي باشا: «نعم، لقد كتب هيكل القصة، وشارك معك في تذليل الكتابة السياسية الصحفية، شارك في جعل اللغة العربية ملكا للذين يكتبونها والذين يتكلمون بها ويطوعونها لحاجاتهم، ومهد معنا طريق الحرية للأجيال المقبلة، حرية الرأي وحرية التفكير وحرية التعبير، وكتبه الكثيرة ستبقى، ستعيش بعد موته.»
ويعلق طه حسين بقوله: «أذكر منها الآن كتابا ليس هو أكثر هذه الكتب شهرة، كان قد فجع هو وزوجه بموت ولدهما، فحملها على السفر معه إلى أوروبا، يريد أن يلهيها عن حزنها، فكان هذا السفر مصدر هذا الكتاب الرائع الذي ألفه بعنوان «ولدي»، ومصدر ما جاء فيه من أوصاف الجبال والبحار والسماء والأجواء.»
ويلاحظ لطفي باشا أن هذا كتاب أملته على «هيكل» عواطف الحزن والحب والحنان.
ويرد طه حسين بقوله: «متى نفع الحزن من يحزنون؟ إنما نحن غرض لسهام لا نستطيع أن نجد عنها محيدا ...»
ويقول لطفي باشا: «لقد تأثرت كثيرا بالبيتين اللذين بدأت بهما اليوم وداعك لعزام.»
ويردد طه حسين البيتين:
لا يبعد الله إخوانا لنا ذهبوا
أفناهمو حدثان الدهر والأيد
نمدهم كل يوم من بقيتنا
ولا يعود إلينا منهم أحد
ويقول: «ألا يصور هذان البيتان ما نحس به أصدق وأدق تصوير؟
ألسنا نمد الراحلين عنا كل يوم فيزدادون عددا ويقل عددنا نحن الباقين بعدهم؟» •••
وتمر أيام فنرى طه حسين مع ولده وزوجته في مكتبه في «رامتان»، ومؤنس يقرأ على والده صحف الصباح.
يقول مؤنس: «هذا خبر من روما: «قرر رئيس الجمهورية الإيطالية إيفاد السنيور مديتشي إلى مدينة مقديشو مندوبا عنه للاشتراك في احتفالات استقلال الصومال، وتتضمن مراسم الاحتفال تسليم مندوب رئيس الجمهورية الإيطالية السنيور مديتشي وثائق الاستقلال لرئيس مجلس الأمم المتحدة الاستشاري للصومال الدكتور محمد حسن الزيات ممثل مصر في المجلس، الذي يسلمها للرئيس المنتخب لجمهورية الصومال السيد آدن عبد الله عثمان، في أول ساعة من اليوم الأول من شهر يوليو عام 1960.»
ويقول طه حسين: «لقد كتب محمد إلي يخبرني بذلك، لقد وفق هو وزميلاه في المجلس الاستشاري للأمم المتحدة إلى الاتفاق مع إيطاليا ومع مجلس الوصاية الدولي للتعجيل بالاستقلال، فهو سيعلن قبل الموعد الذي حددته الأمم المتحدة بستة أشهر.»
ويقول مؤنس: «المهم الآن هو أن أمينة ستعود هي وزوجها وأولادها إلى القاهرة قريبا، وإذن فلن تحسوا بفراغ عندما نترككم أنا وزوجتي وابنتي للعودة إلى عملي في اليونسكو بباريس.»
ويقول طه حسين: «إن استقلال الصومال، إن تم، ستكون له نتائج بعيدة الأثر في كل أفريقيا، إن لبلادنا أن تفخر بعملها في الصومال لتحقيق استقلاله. وحضور أمينة ومحمد وأولادهما سيسعدنا بطبيعة الحال ولكنه لن يملأ الفراغ الذي سوف يحدثه سفركم.» •••
وينقضي الصيف ويتبعه الخريف ويقبل شتاء عام 1961.
فنرى الدكتور محمد كامل حسين في فيلا رامتان وهو يخرج منها إلى الحديقة مع طه حسين بعد أن قام بفحصه فحصا دقيقا، وطه حسين يسير متعبا وكامل حسين يبدو مهموما ولكنه متمالك لنفسه، ويجلس الصديقان على مقعدين متجاورين في الحديقة.
ويدخل الخادم بصينية عليها ستة أكواب ماء، فإنه يعرف أن الدكتور كامل حسين يحس بالعطش دائما وأنه يطلب الماء باستمرار، ويضحك كامل حسين، ويفسر ضحكه لمضيفه فيضحك معه، ولكنه يسأل بعد قليل: «ماذا وجدت يا كامل؟ وإن كان هذا السؤال لا يعني أنني سأثق فيما تقول ... أنت ناظر مدرسة المنافقين، وقد قال تعالى:
إذا جاءك المنافقون ... .»
وهنا تدخل أمينة وأمها، وأمينة تتلو ختام الآية:
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون .
ويقول كامل حسين: «يا ستي أنت راجعة من الصومال شديدة الرضا عن نفسك، زوجك أعلن بنفسه استقلال الصومال من شرفة الجمعية التشريعية الصومالية في منتصف الليل كما أخبرتنا الصحف، وأنت عدت لنا بسلامة الله وما زلت فاكرة الآية الكريمة التي يستعملها والدك في اتهامه لي بمنافقة والدتك.»
وتتساءل أمينة: «اتهام؟ وأنت تنكر التهمة يا دكتور؟»
ويضحك كامل حسين ويقول: «لا، لا، هذا الاتهام في نفسه شرف، ثم إن هذه تهمة عمرها الآن أكثر من عشر سنين ونحن نبقيها تهمة معلقة، لا نثبتها ولا ننفيها ... تعالي نبحث عن زوجك لنشرح له أصل الموضوع ولأحاول أن أقول لك الرد على سؤالك!»
ويدخل كامل حسين وأمينة إلى المنزل وينضم إليهما زوجها.
ويقول كامل حسين في جد: «لا بد من نقل الدكتور إلى المستشفى حالا، العمود الفقري يحتاج إلى عملية ضرورية قطعا وإلا واجهنا خطر الشلل، ومن حسن الحظ عندنا الآن أستاذ من أكبر أساتذة هذه العملية في العالم، جراح أعصاب سويدي اسمه أوليفا كورونا يجري عملياته الآن في مستشفى الطيران، المستشفى الفرنسي سابقا، وطبعا سنجري هناك كل الفحوص وسيكون معنا كل من يلزم من الأطباء ... مسئوليتكم كبيرة والسرعة لازمة.»
وتسأل أمينة: «متى؟»
ويرد الدكتور كامل: «حالا!»
وتقبل عليهم السيدة سوزان وتسأل: «ما الحالة يا دكتور؟» وتترك أمينة والدتها وتخرج من المنزل لتجلس مع والدها في الحديقة.
ويقول طه حسين: «كامل إذن يرى أن الحالة خطيرة، هل يرى ضرورة للانتقال إلى المستشفى؟»
وترد أمينة قائلة: «يظهر أن هناك أستاذا سويديا كبيرا اسمه «أوليفا كورونا» موجود الآن في مستشفى الطيران بالعباسية لمدة أيام، والدكتور كامل يقترح أن تذهب لاستشارته.»
ويرد طه: «لا يا ابنتي أبوك لا يرضى بنصف الحقائق. وينادي كامل.»
ويقبل الدكتور كامل ومعه السيدة سوزان ومحمد. •••
وفي اليوم التالي، في مستشفى الطيران بالعباسية ترى أمينة وأمها وليلى العلايلي ومحمد الزيات خارج غرفة العمليات.
وتقول السيدة سوزان : «مر أكثر من نصف ساعة على دخوله قاعة العمليات.»
ويرد محمد قائلا: «هذا منتظر، الدكتور أوليفا كورونا قال إنها ستستغرق أكثر من ساعتين.»
وتقول السيدة سوزان: «لم يرضوا أن أدخل معه، منعوني من الدخول معه ...»
وتقول أمينة: «لم يدخل مع أوليفا كورونا إلا الدكتور البنهاوي والطاقم الذي حضر مع الدكتور أوليفا كورونا من السويد.»
وتقول السيدة سوزان: «لم يكن حضوري سيضايقهم، كنت فقط أريد أن أكون معه.»
وفي القاعة الخارجية للمستشفى يتجمع عدد كبير من الأطباء والأصدقاء والأساتذة والطلبة وهم ينتظرون في سكون، يحاولون إخفاء قلقهم على المريض العزيز.
ويخرج الدكتور البنهاوي مساعد «أوليفا كورونا» في العملية ويطمئن الموجودين.
يقول الدكتور البنهاوي: «الدكتور العميد نقل لغرفة الإنعاش، وكل شيء سار كما كنا نرجو أن يسير، والحمد لله.»
وفي الداخل أمينة ومؤنس مع أمهما وهي متوترة الأعصاب، وابنتها تقول لها: «يا أمي إن أهل شمال أوروبا، ومنهم السويديون، لا يعرفون التلطف في ذكر الحقائق، كل ما قاله هو أننا يجب أن نعرف أن بين الاحتمالات ...»
وتقاطعها أمها تقول: «لقد قال إنه من المحتمل ألا يستطيع السير أبدا.»
ويقول مؤنس: «لماذا لا تتذكرين أيضا أنه قال إن العملية نجحت، وإن المرض قد أوقف تقدمه، وإن من المرجو أن يستعيد أبي قدرته على السير قبل مرور زمن طويل.»
وترد السيدة سوزان: «لأن ما قاله مخيف، مخيف!»
وتقول أمينة: «الطبيب هو الله، وما أظن إلا أنه سيشمل برحمته رجلا يحبه وهو طه حسين.» •••
في صالون في فيلا رامتان عام 1962، الأستاذ عبد الرحمن بدوي مدرس الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة يقدم لطه حسين كتابا عنوانه «إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين»، معتذرا عن تأخر إعداده وطبعه، ويقرأ عليه بصوت عال مقدمة الكتاب:
إلى العلم الشامخ في الأدب المعاصر
إلى الساحر بفصاحة لسانه، ونصاعة بيانه، وعذوبة موسيقى أسلوبه، وإيقاع كلماته ونبراته
إلى الدكتور طه حسين
يهدي نفر من أصدقائه ومريديه، العارفين بعظيم فضله وبالغ أثره في الأدب والفكر بعامة، والبعث الروحي العربي بخاصة، يهدون هذه الدراسات التي تدور حول موضوعات كان له فيها جميعا مكان الصدارة، ومنزلة الملهم الأكبر، والفاتح لكثير من أغلاقها، والمثير لعديد من مشكلاتها، والدارس الواعي المبين من نواحيها الدقيقة والجليلة.
ويقول طه حسين: «إنني متطلع إلى قراءة هذه البحوث كلها، وهي بريئة فيما أرجو من هذه المبالغات التي ألاحظها في المقدمة. هل تقرأ علي أسماء الباحثين العرب؟»
ويرد الأستاذ بدوي: «نعم، الأسماء هي: عبد العزيز الأهواني وبحثه هو أطول البحوث، وخليل يحيى نامي، وعبد الهادي شعيرة، وشوقي ضيف، والأب جورج قنواتي، وعبد القادر القط، ومحمد كفافي؛ من المصريين. ومن الدول العربية حسن باشا حسني عبد الوهاب، ومحمد عبد العزيز الحبابي. ومن أوروبا ...»
طه
مقاطعا :
سبق أن ذكرت لي أسماء الباحثين الأجانب. إن الذين شاركوا في هذا الكتاب من الإخوة العرب هما أستاذان من أساتذة المغرب العربي؛ حسني عبد الوهاب من تونس، والحبابي من المغرب.
لا غرابة في أن تقتصر المساهمة على علماء المغرب العربي، لأننا يظهر أننا في هذا العام نلفت رأسنا، في كثير من الحزن، عن المشرق العربي؛ في سبتمبر تم انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، وفي ديسمبر انحل اتحاد الدول العربية وانتهت بذلك محاولة المشاركة مع اليمن. لقد تركنا طموحنا يسبق قدراتنا، ونسينا، في تلهفنا، أن أساس النهضة في كل بلد من بلادنا وأساس التقارب والتضامن هو العلم، الذي لا بد أن يتكافأ حظ شعوبنا منه، لنعرف على هداه أهدافنا وغاياتنا، ولنتبين ونسلك سبيلنا إلى تحقيق هذه الأهداف والغايات.
ويرد الأستاذ عبد الرحمن بدوي قائلا: «نحن نتابع مقالاتك في جريدة الجمهورية عن هذا الموضوع بالإعجاب الذي تعودته من تلاميذك، من تلاميذك في كل بلاد العالم العربي.»
ويرد طه حسين قائلا: «أشكرك وزملاءك جميعا من جديد، هذا الكتاب ليس هدية جميلة فقط، بل هو هدية عظيمة الفائدة أيضا، ثقوا أنني سأقرأ هذه البحوث جميعا، وسأقرؤها لأستفيد، لأستفيد من علم تلاميذي وليس فقط من علم الزملاء.» •••
وتمر الأسابيع ويقبل اليوم الحادي والعشرون من إبريل عام 1963، ونرى الدكتور طه حسين وزوجته في السيارة متجهين إلى دار مجمع اللغة العربية.
ويقول طه حسين: «عرفته وأنا في سن الثامنة عشرة، هي إذن صداقة دامت أكثر من نصف قرن.»
وترد سوزان: «وعرفته أنا معك منذ حضورنا إلى مصر، مدة تجاوزت الأربعين عاما، وتبدو لي الآن أكثر من ذلك، إن عمر الصداقة لا يقاس بمرور السنين.»
ويقول الدكتور طه: «هو الذي حدثني لأول مرة عن أوروبا، هو الذي ذكر لي أسماء لم أكن قد سمعت بها من قبل، أسماء فولتير، وجان جاك روسو، وديدرو، ومونتسكيو.»
وتقول سوزان: «ومع ذلك كان مصريا صميما، تذكر لهجته؟»
ويرد الدكتور طه: «نعم، كان يحب أن يحتفظ بلهجة إقليم الشرقية.»
ويتبارى في ذلك مع صديقنا الأستاذ مصطفى عبد الرازق ومعي، ونحن نتحدث بلهجتنا الصعيدية.
وتقول سوزان: «كانا أخوين بالنسبة لك.»
ويرد طه: «كان لطفي أبا وأخا، كان يحدثنا عن السياسة المصرية والسياسة العالمية في غير تكلف، منه سمعت ألفاظ الديمقراطية والأرستقراطية وحكم الفرد وحكم الجماعة وآراء الفلاسفة، وكنا نقرأ في مقالاته أن الأمة فوق كل مقام.»
وتسأل السيدة سوزان: «فوق كل مقام؟! ألم يكن ذلك حديثا شديد الجرأة في تلك الأيام؟»
ويقول لها زوجها: «نعم، كان يقول إن الحكام ليسوا في حقيقة الأمر إلا خداما أجراء للشعب، يخدمونه ويأخذون منه أجرهم.»
وتقول السيدة سوزان: «ألم تذكر لي أن صاحبك أبا العلاء قال شيئا مثل هذا؟»
ويرد الدكتور طه: «نعم، قال أبو العلاء عن بعض الحكام الجائرين:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
على أن لطفي السيد هو نفسه الذي حببني إلى أبي العلاء، وقد أسعدني جدا رضاؤه عن الرسالة التي كتبتها عن أبي العلاء وقدمتها للحصول على درجة الدكتوراه من مصر.»
وتقول السيدة سوزان: «كذلك أذكر أنك لم تقدم رسالتك عن ابن خلدون إلى السوربون إلا بعد أن أرسلتها من باريس إليه في القاهرة فقرأها واستحسنها.» •••
ونحن نرى بعد ذلك داخل المجمع الدكتور طه حسين، نائب رئيس المجمع، ينهي خطابه في توديع الرئيس.
يقول طه حسين: «إني فقدت كثيرا من الأحباء الأعزاء علي، فوجدت ما يجد الإنسان من اللوعة والأسى، ولكني لم أجد قط مثل ما أجد الآن، بعد أن فقدت هذا الأب الرحيم والصديق الحميم، ولم يخطئ الشاعر القديم حين قال:
ليس على طول الحياة ندم
ومن وراء المرء ما يعلم
يموت والد ويخلف مولود
وكل ذي أب ييتم»
وينصرف أعضاء المجمع بعد انتهاء الجلسة ويبقى طه حسين مع الدكتور مدكور.
يقول الدكتور إبراهيم بيومي مدكور لطه حسين: «كان عسيرا علينا حبس الدموع، هذا لطفي باشا قد تركنا، الله المسئول أن يبارك لنا في عمرك.» •••
بعد خمسة شهور، في فندق صغير في قرية كولي إيزاركو في سبتمبر 1963، نرى طه حسين مع سكرتيره الذي يقرأ عليه البريد والصحف المصرية.
يقول السكرتير: «صدر قرار رئيس الجمهورية بتعيينكم رئيسا لمجمع اللغة العربية.»
يقول طه حسين: «يرحم الله لطفي السيد! ما أظن خسارة المجمع بوفاته يمكن أن تعوض، على أن العمل ينبغي أن يستمر، عندما نعود أريد أن يعرض علي الأستاذ إبراهيم الإبياري أعمال لجنة المعجم الكبير، إنني أريد أن نبذل مجهودا أكبر في هذه اللجنة.»
ويقول السكرتير: «وعندكم أيضا لجنة الأدب ولجنة ألفاظ الحضارة المتفرعة منها.»
وينقضي الصيف ويعود طه حسين إلى مصر، فنراه في مكتب رئيس المجمع، وقد انتهى الأستاذ إبراهيم الإبياري من عرض ما طلبه الرئيس فيستأذن في الانصراف، ويدخل الدكتور إبراهيم بيومي مدكور فيقول له طه حسين: مرت الآن سبع سنوات منذ نشر المجمع خمسمئة صفحة تقريبا من المعجم الكبير في طبعة محدودة ليتلقى عليها ملاحظات المتخصصين، هل ترى جاء الوقت بعد مرور هذه السنوات السبع لكي ينشر المجمع الجزء الأول من المعجم الكبير؟
ويرد الدكتور مدكور قائلا: «إن هذا المعجم يحظى كما تعلمون بما لم يحظ به معجم قبله من الدرس المتصل والمراجعة الدقيقة والمتابعة الواعية؛ المحررون، الذين دربوا في كنف المجمع وتحت إشرافه، يعملون في جد ومثابرة، والمتخصصون في اللغة العربية وكذلك اللغات السامية والشرقية يراجعون، ويعرض العمل بعد ذلك كله على لجنة المعجم الكبير، واللجنة لا تتردد في الرجوع إلى الزملاء المجمعيين من غير أعضائها في نواحي اختصاصهم، ثم يجيء بعد ذلك دور أعضاء مؤتمر المجمع ولهم دائما ملاحظاتهم وتوجيهاتهم السديدة، وهذا كله يستلزم وقتا وصبرا لا أرى أن يبخل بهما المجمع على هذا العمل الذي سيكون عملا خالدا في تاريخ اللغة العربية بإذن الله.»
ويقول طه حسين: «طبعا لا نريد التعجل، ولا نريد أن نبخل على هذا العمل بشيء، لا الوقت ولا الصبر ولا الجهد المضاعف، ولكن الزمن يمر، وأخشى ألا يكلل عمل المجمع ولجنة المعجم بما نأمله من النجاح في وقت معقول.»
ويرد الدكتور مدكور قائلا: «أرجو ألا يتأخر صدور الجزء الأول كثيرا، على أنه لن يتسع فيما أظن إلا للحرف الأول من حروف الهجاء.»
طه حسين : «أعمارنا قصيرة وآمالنا بعيدة الآماد، سمعت صهري أخيرا يقرأ شعرا فارسيا يقول: «العمر عمر الزهور والآمال آمال النسور»!» •••
وفي رامتان في شهر مارس 1964 وفي غرفة مكتب طه حسين نرى «لجنة الأدب» من لجان المجلس الأعلى للثقافة، وقد انتهت من اجتماعها برياسة طه حسين وأعضاؤها يأخذون في الانصراف.
ويسأل طه حسين الأستاذ يوسف السباعي: «كيف حال الأستاذ العقاد اليوم؟»
ويرد الأستاذ السباعي بقوله: «سمعت أن صحته تتقدم، وكان قد رفض الانتقال إلى المستشفى، ويظهر أنه كان مصيبا فهو يسترد الآن عافيته ونشاطه دون أن يغادر البيت.»
ويقول طه حسين: «مضى الآن أكثر من أربعين سنة وأنا أتابع كل ما يكتبه الأستاذ العقاد وهو يتابع كل ما أكتبه، وعندما يهدي إلي كتابا من كتبه يقول إنه ليس هدية ولكنه قرض ينتظر مني أن أؤديه بتأليف كتاب جديد وإهدائه نسخة منه!»
ويقول يوسف السباعي: «لقد دخلتما المجمع في يوم واحد.»
ويرد طه: «نعم، كنا عشرة، كان أحمد أمين يسميهم العشرة الطيبة: هيكل ومصطفى عبد الرازق وعلي إبراهيم والمراغي وعبد العزيز فهمي ولطفي وعبد القادر حمزة وأحمد أمين والعقاد وأنا، إنه زميل قديم وكاتب كبير. على أنه، وهذا هو الأهم، رجل بمعنى الكلمة، لقد جاءني بعض الشباب يوما فانتهى حديثهم إليه، وأخذوا يوجهون إليه من الانتقاد ما كانوا يعتقدون بغير شك أنه سيرضيني، فقلت لهم إن هناك في أغلب الظن، في نفس ذلك الوقت، شبابا مثلهم في مجلس العقاد يحاولون أن ينالوني بمثل ما تحاولون أنتم أن تنالوه به، وقلت إنني ما أظن العقاد سيسر بذلك أو سيعجب به، فإنني أنا لم أسر بما قلتموه الآن عنه، ولم أعجب به.
إن العقاد كان هو النائب الوفدي الوحيد الذي وقف في مجلس النواب يدافع عني ضد هجمات زملائه، وهو مدرك أن رئيس المجلس وهو سعد زغلول باشا ذاته، لم يكن يكره في ذلك الوقت أن تزداد نار هجومهم اشتعالا. وبعد سنوات، عندما أقصاني حلمي باشا عيسى عن الجامعة ثم عن الحكومة، كتب العقاد مقالا عنوانه أن حل مشكلة الجامعة هو أن يستقيل وزير المعارف، وختمه بأن أحدا لن يأسف على استقالة الوزير لا من خصومه ولا حتى من رجال حزبه!»
ويقول الأستاذ السباعي: «لقد قامت بينكما مساجلات في موضوعات شغلت الصحف المصرية كلها، مثلا خلافكما حول الثقافة اللاتينية والثقافة السكسونية، والذي استفاد حقيقة من هذه المساجلات هو جمهور القراء.»
ويقول طه: «لم يرد في هذه المساجلات لفظ واحد ينبو عنه الذوق السليم، ولقد كانت سببا ووسيلة لتنشيط حياتنا الأدبية.»
ويقول السباعي: «لقد أهديت قصتك دعاء الكروان إليه.»
ويرد طه قائلا: «نعم، قلت إنها تحية خالصة من صديق مخلص.»
ويقول السباعي: «ولكنك انتقدت بعنف بعض كتبه، مثلا كتابه عن أبي نواس.»
ويقول طه: «وهل ينتقد الكاتب من أعمال زملائه إلا ما يستحق العناية به؟ على أن انتقادي كتاب العقاد عن أبي نواس ناشئ أساسا عن استعمال العقاد فيه لأساليب المحللين النفسيين، ولست أدري حظ هؤلاء المحللين النفسيين من التوفيق في تعاملهم مع الأحياء، فكيف بتحليلنا لنفس الأموات؟ وعندنا الدكتور مصطفى زيور، وهو من تلاميذي الذين أحبهم، ولكني أداعبه دائما بالتشكيك في هذا العلم الذي تعلمه في باريس.»
وبعد لحظة سكوت يقول طه حسين: «أظن يحسن أن نسأل عن الأستاذ العقاد ولو أن الوقت متأخر.»
ويطلب السكرتير منزل الأستاذ العقاد بالتليفون ويتحدث طه حسين إلى من يرد عليه، ثم يقول: «الحمد لله، وإذن نراه في جلسة المجمع القادمة إن شاء الله.» •••
ولكن عباس محمود العقاد ينتقل إلى رحمة الله قبل أن يعقد المجمع هذه الجلسة، ونحن في اليوم التالي نرى طه حسين يملي على سكرتيره مقالا لجريدة الجمهورية، يقول فيه:
وكذلك فارقتنا أيها الأخ الكريم والصديق الحميم والزميل العزيز، فارقتنا فجأة على غير إذن لنا بهذا الفراق، وعلى غير انتظار من عوادك وأطبائك ومن أهلك الأقربين، الذين كانوا يحوطونك بعنايتهم ورعايتهم، والذين كنا نسألهم عنك فلا نسمع منهم إلا خيرا كل خير.
ولقد سألتهم أمس حين تقدم الليل فأنبئوني بأنك على خير حال، سعدت بذلك، وعرفت أن الملتقى في مجمع اللغة العربية قريب، ولكني أصبح فإذا النبأ يفاجئني فيقع علي موقع الصاعقة! وأقسم لقد ذهلت له ذهولا أفقدني الشعور بمن حولي وما حولي أو كاد يفقدني هذا الشعور.
إيه أيها الأخ الكريم، إن موتك لا يفجع أسرتك وحدها، ولا وطنك وحده، وإنما يفجع العالم العربي كله، فقد كنت علما من أعلام العروبة الشاهقة، ونجما من نجومها المشرقة، ملأت الدنيا أدبا وحكمة وفلسفة وعلما، تألق نورك بين مواطنيك منذ شبابك الأول وما فتئ أن تجاوز وطنك وأشرق على العالم العربي كله، ثم لم يلبث أن تجاوزه إلى المعنيين بشئون الأدب العربي في جميع أقطار الأرض.
أنت أيها الأخ الكريم والصديق الحميم والزميل العزيز ملأت الدنيا حقا وشغلت الناس حقا، وستشغلهم بعد وفاتك أكثر مما قد شغلتهم في حياتك.
ما أشد ما كان بينك وبيني من خصام في السياسة أحيانا وفي الأدب أحيانا أخرى! وما أحلى ما كان بينك وبيني على ذلك من مودة وإخاء ووفاء!
وينتهي طه حسين من الإملاء، ويطلب إلى السكرتير أن يأخذ المقال لجريدة الجمهورية، وأن يتركه وحده لا يدخل عليه أحد. •••
بعد قليل تدخل السيدة سوزان وتقول: «فريد قال لي إنك لا تريد أن يدخل عليك أحد.»
ويرد طه حسين: «نموت قليلا عندما يغادرنا في هذا الدنيا الأهل والأصدقاء، لقد كنت بالأمس أذكر الأعضاء العشرة الذين دخلت معهم المجمع عام 1940، لقد ودعنا منهم الآن لطفي وهيكل وعبد العزيز فهمي ومصطفى عبد الرازق، كما ودعنا علي إبراهيم والمراغي وعبد القادر حمزة وأحمد أمين والآن العقاد، لم يبق على قيد الحياة من الزملاء العشرة سواي!»
سوزان : «أليست هذه هي سنة الحياة؟ هل تريد أن تستريح في غرفتك؟»
ويقول طه: «لا، ابقي معي قليلا.»
فتقول سوزان: «وصل خطاب من أمينة من نيويورك، يظهر أن زوجها قد تقرر تعيينه سفيرا في الهند، وسيمرون علينا في طريقهم إلى نيودلهي.»
ويرد طه قائلا: «من نيويورك إلى الهند؟! سيبقون إذن بعيدين عنا بعدا عظيما ... سيمرون، تقولين إنهم سيمرون فقط؟ متى يسافرون إلى الهند وترى متى يعودون؟!» •••
في مارس 1965 يزور الدكتور طه حسين ابنته في منزلها بالمعادي، وقد عاد زوجها من الهند؛ حيث نقل الآن وكيلا لوزارة الخارجية، فيجد عند صهره عددا من سفراء الدول يدور الحديث معهم حول حاجة الدول المسماة بدول العالم الثالث إلى التعاون والتكامل فيما بينها أولا، لتتعامل بعد ذلك وتتعاون مع الدول الكبرى.
ويقول الدكتور طه حسين: «لا بد أولا أن تحقق كل هذه البلاد لنفسها الحرية الكاملة، وأن تحقق لشعوبها العدل الاجتماعي.»
ويرد سفير الباكستان قائلا: «الحرية والعدالة! إن كل المذاهب السياسية تدعي أنها تستهدف ذلك!»
ويقول طه حسين: «إن كثيرين منا يفكرون في العدل الاجتماعي ومظاهر المطالبة به والسعي إليه، ينظرون إلى الديمقراطية المعتدلة، وينظرون إلى الاشتراكية الدولية وإلى الاشتراكية الوطنية وقد ينظرون إلى الشيوعية في كثير من التردد والاستحياء، ولكنهم لا ينظرون أو لا يكادون ينظرون إلى فكرة المطالبة بالعدل الاجتماعي كما وجدها المسلمون قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة، ومع ذلك فقد كان للمطالبة بتحقيق العدل الاجتماعي في التاريخ الإسلامي أبطال من حقهم أن يدرسوا، وأظن أن شاعركم محمد إقبال قد ألف كتابا اسمه «مجلس الشيطان» تحدث فيه بشيء من ذلك، فقد حدثني مضيفنا اليوم الدكتور الزيات عن هذا الكتاب.»
ويقول سفير الباكستان: «نعم، الكتاب معروف، والشيطان في هذا الكتاب لا يخاف من كل هذه المذاهب، بل إنه يسر لما ينشأ عنها من اختلاف ونزاع، ولكنه يخشى الإسلام ويخاف مبادئه، وبهذه المناسبة كم تحب الباكستان لو استطعتم زيارتها!»
ويقول طه حسين: «عندما كان صهري سفيرا في الهند نقل إلي دعوة من رئيس الجمهورية الهندية لزيارة بلاده، وكم كنت أحب أن أزورها وأزور بلادكم أيضا! فأنتم شركاء في تاريخنا الإسلامي، وأنت شركاء في مستقبلنا أيضا، ولكن الوصول إليكم يستلزم ركوب الطائرة، وأنا لا أركب الطائرة، لم أركبها إلا مرتين؛ مرة لزيارة مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم
ومرة لزيارة المغرب، وكانت الرحلة إلى المغرب من باريس، أي عبر البحر الأبيض فحسب.»
ويقول السفير الباكستاني: «يمكن التفكير في رحلة بحرية من بورسعيد إلى كراتشي.»
ويرد طه حسين: «لا أظن أنه توجد الآن خطوط ملاحية منتظمة.»
ويقول السفير الباكستاني: «لا للآسف، ولكن نرجو أن توجد في المستقبل، لقد كنا نتحدث عن ضرورة تعاون دول العالم الثالث، وتسهيل المواصلات بين هذه الدول هو من أهم وسائل تعاونها.»
ويتدخل في الحديث السفير العراقي فيقول: «نحن ننتظر زيارتكم للعراق أولا، إن أهل العراق يتابعون كتاباتكم بنفس الاهتمام الذي يتابعها به المصريون، ولا أريد أن أقول باهتمام أكثر، ومنذ ستة أعوام كتبتم مقالا تستنكرون فيه مذابح الموصل التي كانت تزعج العالم العربي كله كما كانت تزعج ضمير العراق، فكان لمقالكم أثر في بلادنا دعا رئيس محكمة الثورة، السيد المهداوي، إلى وقف جلسات محكمته ليخصص جلسة للرد عليكم، وكان رده سبابا، وكان أثر هذا الرد في إثارة نفوس الناس ضد المهداوي وكل ما كان يمثله أشد وأعنف من تأثير مقالكم نفسه! وبهذه المناسبة لم نعد نقرأ لكم يا سيدي شيئا في جريدة الجمهورية منذ فترة.»
ويقول طه حسين في هدوء: «منذ فترة استغنوا عن خدماتي يا سيدي، علمت ذلك من خطاب وصلني بالبريد، جاء فيه أن الجريدة تستغني عن خدمات عدد من المحررين منهم طه حسين.»
ويهم السفير بالتعليق ثم يسكت، ويحل الصمت على المجتمعين، ثم يقطعه أحدهم بقوله: «لقد أوشكت الشمس على المغيب، ونحن هنا منذ وقت الغداء، نستأذن الآن، وقد أسعدنا حقيقة أن نلبي هذه الدعوة، ويشرفنا خصوصا أن نقابل فيها عميد الأدب العربي.»
وينصرف المدعوون وصاحب الدار يودعهم حتى الباب.
ويقول طه حسين لابنته: «أظن أن الأحسن أن نترك الحديقة وندخل البيت الآن، لقد أوشكت الشمس فعلا على الغروب.»
النفس المطمئنة
في الطريق إلى إيطاليا أو فرنسا، تتوقف بعض السفن القادمة من مصر في بعض الرحلات عند جزيرة صقلية، وقد يطول توقفها ساعات تغري ركابها بزيارة الجزيرة وما فيها من آثار، وقد لا يتسع الوقت لهذه الزيارة فيكتفون بإطالة النظر إلى شواطئها التي تنتشر فيها أشجار البرتقال والكروم وإلى هضابها التي تكسوها أشجار اللوز والزيتون.
وقد توقفت عند الجزيرة السفينة التي كانت تقل طه حسين في رحلة من رحلات الصيف، فأخذ يستعيد ذكرى العهد الذي كانت الجزيرة فيه موطنا من مواطن حضارة العرب والمسلمين، يتحدث أهلها بالعربية في الأسواق وفي أحواض الميناء، يلبون دعوة المؤذنين للصلاة، ويسمعون القرآن يرتله المرتلون تحت ظلال النخيل.
لقد طال بقاء العرب في جزيرة صقلية أكثر من مئتين وخمسين عاما، كانت الكتب العربية أثناءها متداولة بين أهل الجزيرة ينسخونها ويقرءونها سواء في ذلك ما كان منها يسيرا مثل كتاب ألف ليلة وليلة، وما كان منها يحتاج إلى الدرس الجاد مثل مؤلفات أبي العلاء. وعندما انتهى حكم العرب للجزيرة ووصل فردريك الثاني، ملك صقلية وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، إلى حكمها لم يستنكر استقرار الثقافة العربية فيها، ولم يسخطه تغلب الحضارة العربية عليها، بل أخذ هو نفسه يقلد سلاطين العرب في أزيائهم، وفي هواياتهم ومن أهمها القنص بالصقور، وأحاط نفسه بحراس من العرب، وتزوج منهم مسيحية سورية اسمها يولندا، ولم يكترث في ذلك كله باعتراضات خصومه وناقديه وحاسديه الذين كانوا يعيبونه لتأثره بعادات وثقافة المسلمين، ويلقبونه لذلك بالزنديق الكبير.
1
والوقوف بجزيرة صقلية لا شك قد استدعى إلى ذاكرة طه حسين كذلك ابن حمديس الصقلي وشعره، وجوهر الصقلي ومولاه، منشئ مدينة القاهرة وباني الجامع الأزهر، كما استدعى إلى ذاكرته النهضة التي قامت بها جامعة بالرمو، وهي أقدم جامعات القارة الأوروبية، متأثرة بتراث اليونان وعلوم الإسلام. •••
وفي عام 1965 أهدت جامعة بالرمو درجة الدكتوراه الفخرية لطه حسين، وكانت صحة طه حسين قد ضعفت بعد الجراحة التي أجريت له عام 1961 فلم يعد قادرا على تحمل مشقات السفر إلى بالرمو لتلقي الدرجة الفخرية من الجامعة، ولحضور الاحتفالات التقليدية التي تقام في مناسبة منحها، ولذلك كلفت الجامعة سفير إيطاليا في القاهرة «السنيور سورو» بأن يحمل درجة الدكتوراه الفخرية إلى طه حسين في مسكنه في رامتان، وقد حمل السفير معه - وهو يقوم بهذه الزيارة - ترجمة إيطالية للجزأين الأول والثاني من كتاب الأيام.
في رامتان قام السفير بتقديم درجة الدكتوراه إلى طه حسين، وتحدث عن مدينة بالرمو وكيف كانت تعرف في القرن الثالث عشر بمدينة اللغات الثلاث: اللغة اليونانية واللغة اللاتينية واللغة العربية، وكانت تفخر بأنها وارثة أعظم حضارتين من حضارات البحر الأبيض المتوسط وهما حضارة الإغريق، وحضارة العرب.
وقد قال طه حسين للسفير إن العرب المعاصرين مقصرون في دراسة تلك الفترة من فترات التاريخ، وكذلك إيطاليا مقصرة، وهو يرجو أن تعنى جامعاتنا بتقوية روابطها بجامعة صقلية، وأن يبذل الطرفان مزيدا من العناية بدراسة عهود الحضارة العربية والإسلامية في بلاد وجزر البحر الأبيض المتوسط، وأشار إلى أن مصر قد خطت خطوة في هذه السبيل عندما أنشأت معهد مدريد في إسبانيا، وإنها جديرة أن تضيف إلى هذه الخطوة خطوات مثلها وأكبر منها في المستقبل.
وينتقل الحديث إلى كتاب الأيام، الذي حمل السفير ترجمته الإيطالية، فيقول طه حسين إنه حقيقة لم يعد يعرف عدد اللغات التي ترجم إليها الكتاب في بلاد غرب أوروبا وفي شرقها وفي بلاد آسيا وأفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية.
ويقول السفير: «لقد سمعت أن الكتاب قد طبع أيضا بطريقة بريل للمكفوفين في كثير من اللغات»، فيقول طه حسين إنه قد طبع بهذه الطريقة في اللغة العربية أيضا منذ أكثر من عشر سنوات، وإنه قد أملى لهذه الطبعة مقدمة خاصة بها أعطاها لأحد تلاميذه وهو الدكتور عبد الحميد يونس، يتذكر أنه قال فيها: «إن المهم هو أن يلقى الإنسان حياته باسما لا عابسا، وجادا يحمل نصيبه من أثقالها، ويؤدي نصيبه من واجباتها، ويحب للناس مثلما يحب لنفسه، ويؤثر الناس بما يؤثر به نفسه من الخير، ولا عليه بعد ذلك أن تثقل الحياة أو تخف وأن يرضى الناس أو أن يسخطوا.»
ويقول طه حسين وهو يودع السفير ويشكره: «سنسافر هذا الصيف إلى إيطاليا كعادتنا الآن، ولعل الباخرة أن تتوقف عند صقلية هذه المرة، مع أنها نادرا ما تفعل ذلك، فيتاح لي أن أشكر رجال الجامعة شخصيا على هذا التكريم العظيم.» •••
وتقيم مصر عيد العلم في سنة 1965 فيفاجئ الرئيس جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية، الحاضرين بإعلانه منح قلادة النيل لطه حسين.
وقلادة النيل هي أعلى أوسمة مصر شأنا، يهديها رئيس الدولة لزملائه من رؤساء الدول، لم يسبق أن أهديت لمن هو دونهم في مراتب المراسم، فلم تهد لرئيس وزراء ولا لوزير، لا في مصر ولا في خارج مصر، ولكن رئيس الجمهورية يهديها الآن لرجل من عامة الشعب «أنفق حياته جادا لا لاعبا، وتحمل نصيبه من أثقال الحياة، وأدى نصيبه من واجباتها، وأحب للناس ما أحب لنفسه، وآثر الناس بما يؤثر به نفسه من الخير، ولم يبال بعد ذلك أن تثقل الحياة أو تخف وأن يرضى الناس أو أن يسخطوا.»
ولم يتمكن طه حسين من حضور هذا الاحتفال لمرضه، فلم يتمكن الرئيس لذلك من تسليمه هذه القلادة بنفسه، وأوفد كبير الأمناء إلى «رامتان» فقدمها إليه، في حضور زوجته وابنته وزوجها، وحضور الدكتور محمد عوض محمد الذي تصادف وجوده زائرا في ذلك الوقت. •••
وفي إبريل 1966 يجري الأستاذ سامح كريم حديثا لمجلة الإذاعة مع طه حسين، وهو الآن على أبواب السابعة والسبعين، وفي إجاباته يؤكد طه حسين آراءه السابقة، يقول إن ما يذكره محدثه من وجود أزمة في الفكر علاجه العناية بالقراءة وبالكتاب الذي لا يغني عنه التليفزيون ولا الراديو ولا السينما. ويقول: «إن الثقافة لازمة للشعب لزوم العلوم التطبيقية، فلا ينبغي أن نهمل كليات الجامعة النظرية ونركز عنايتنا بالكليات العملية.» ويقول: «إن الترجمة عن اللغات القديمة والحية ضرورة لحياتنا الثقافية على أنها ينبغي ألا تتم خطفا على عجل وبقصد الربح فقط.» وهو يشير إلى منهج مجلس الفنون والآداب والعلوم، ويضرب به المثل على ما ينبغي للترجمة من العناية. ويجيب عن سؤال أخير عن التبادل الثقافي بين الشرق والغرب، فيقول: «إنه هام ومرغوب فيه، وقد سبق للغرب أن استفاد من ثمار ثقافة الشرق، ولا بأس لذلك على الشرق من أن يستفيد من ثمار الحضارة الحديثة في الغرب.» •••
ويقبل صيف عام 1967، ويغادر طه حسين وزوجته الإسكندرية فترافقهما ابنتهما وحدها إلى الميناء لأن زوجها مشغول في وزارة الخارجية بعمل هام. أجواء مصر السياسية ملبدة بالغيوم، علاقات بعض الدول العربية ببعضها الآخر قد صارت إلى درجة مزعجة من السوء، وحرب الدعايات لا تسمم الأجواء العربية فحسب، بل تسمم النفوس العربية كذلك. إن الدعاية التي كان طه حسين يتحدث منذ عشرين عاما في لبنان عن خطرها الكبير، قد ضاعفت من أهميتها أجهزة الإذاعة القوية الحديثة وخاصة الإذاعة المسموعة والمرئية، وإنها لتصيب أصحابها بأضرار ليست أقل مما تصيب بها الخصوم إذا أصبحت أداة تضليل بدلا من أن تكون أداة للتنوير. •••
ويعود طه حسين إلى مصر، بعد كارثة يونيه 1967، فينصرف إلى القراءة في كتب اللغة والأدب، ويولي لجنة المعجم الكبير في المجمع اهتمامه الشديد، «وإن كانت الشكوك قد بدأت تساوره في كفاية الجهد المبذول في تأليف هذا المعجم، وفي مدى الزمن اللازم للانتهاء من إعداده بكامل أجزائه»، وهو يواصل اهتمامه في اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية بتجميع وتصوير كل ما يمكن جمعه وتصويره من المخطوطات المتفرقة في أنحاء العالم، وهو لا يتخلف عن حضور جلسات لجان المجلس الأعلى للثقافة التي يرأسها والتي أصبحت الآن تعقد غالبا في مسكنه. •••
وفي عام 1968 يستجيب لطلب إحدى طالبات الجامعة اسمها الآنسة «وحيدة الدمرداش»، طلبت أن تتحدث إليه باسم مجلة القاهرة، التي كان اتحاد طلبة جامعة القاهرة يصدرها في ذلك الوقت، فيلقاها ويرد في رفق وود على أسئلتها؛ عن دور القصة التاريخية في مصر، وعن مدارس الأدب فيها، وعن رأيه في الشعر الحديث، وعن أدباء منهم الأستاذ يحيى حقي، فيقول إن كتابه «قنديل أم هاشم» رائع جدا، والأستاذ إحسان عبد القدوس فيقول إن كتابه «في بيتنا رجل» قد أعجبه. ثم تختتم وحيدة الدمرداش حديثها بأنها سألت طه حسين عن متاعب حياته، فقال: «لقد عانيت كثيرا، كان إخوتي يلعبون فلا أستطيع مجاراتهم، وفي الأزهر عانيت، وفي الجامعة أيضا قال لي سكرتيرها مرة: «ربنا ابتلاك بالعمى، فما لزوم أن تتعلم في الجامعة؟» ... أحداث كثيرة آلمتني وحزت في نفسي؛ خلافي مع صدقي باشا وطردي من الجامعة وقطع المعاش وتقديمي للمحاكمة مرات ومرات.»
وسألته الآنسة وحيدة عن الذين يهاجمونه، فقال في بساطة: «لا أرد ولا أسأل عما يكتب ضدي شخصيا، إن كثيرا من النقد اللاذع قد وجه إلي، بل لقد صدرت كتب كاملة ضدي، ولكني لم أهتم بأي كتاب منها.» •••
ويطلب سفير إسبانيا في القاهرة مقابلته، إنه يحمل إليه لا درجة واحدة من درجات الدكتوراه الفخرية، بل درجتين؛ واحدة من جامعة مدريد والثانية من جامعة غرناطة.
ويستقبل طه حسين هو وأسرته السفير الكريم في داره «رامتان»، ويقوم السفير فيها بالمراسم المطلوبة لتقديم الدرجتين الجامعيتين الكبيرتين واحدة بعد أخرى.
لقد زار طه حسين إسبانيا مرتين وأحبها كثيرا، ولاحظ أن أصحاب الدراسات العربية في مصر قد أهملوا الأدب العربي الإسباني، فدعا إلى دراسته، بل إنه قد أخذ نفسه بقراءة كل ما يستطيع من كتب الأدب الأندلسي في المطبوعات والمخطوطات التي كانت دار الكتب المصرية تيسر له الاطلاع عليها، وهو يتمنى أن تبدي كل من إسبانيا والدول العربية مزيدا من الاهتمام بدراسة الحضارة الأندلسية، وهي الحضارة التي بقيت آثارها زمنا طويلا بعد أن انتهت الحروب والمعارك وانمحت آثار النصر والهزيمة. •••
وفي خريف سنة 1969 تضطر أمينة إلى السفر مع زوجها وأسرتها إلى نيويورك مقر الأمم المتحدة، التي عين زوجها مندوبا دائما لمصر لديها، وطه حسين شديد الأسف لهذا السفر، فإن ولده مؤنس متغيب مع زوجته وابنته في عمله في المنظمة الدولية للتعليم والعلم والثقافة في باريس، وهذه ابنته تترك مصر هي وزوجها إلى مقر عمله الجديد في الأمم المتحدة في نيويورك.
ويقول طه حسين لابنته: «تعلمين أنني سأبلغ الثمانين في آخر هذا العام وأنت بعيدة عني.» ثم يدرك أنها قد تألمت فيقول لها: «لا عليك، لقد افترقنا من قبل والتقينا بعد الفراق في أحسن الأحوال، ألم أكتب عنك منذ سنوات هذه السطور:
ألمت فحيت، ثم قامت فودعت، فلما همت أن تنصرف ألقت في يدي شيئا صغيرا، وتولت وهي تقول: اجعل هذا وقاء لك من شر من تحسن إليه. ونظرت فإذا هو مصحف دقيق.
لك العهد يا ابنتي ألا يفارقني مصحفك هذا الدقيق حيا وميتا، ولك العهد ألا أتخذه وقاء من أحد، ولا وقاء من شيء، وإنما أحمله لأن حمله محبب إلي.»
ويخرج طه حسين من أحد جيوبه مصحف «أمينة» الصغير يريه لها، ثم يبارك لها في سفرها، ويقول لها إنه ينتظر لها إقامة سعيدة، وعودة سريعة، ويعرف أن زوجها سيخدم مصر والعرب، وسيبذل في ذلك أقصى ما يستطيع من الجهد، وهو شيء عظيم. •••
وفي عام 1970 يخرج المجمع الجزء الأول من «المعجم الكبير» الذي كان طه حسين قد بدأ يخشى ألا يصدر في حياته، وهو الآن يرجو أن يتيح الله للمجمع ورجاله القدرة على مواصلة الجهود - بل والجهاد - لإتمام تأليفه وإصداره.
وفي عام 1970 أيضا يكتب طه حسين إلى عبد الخالق حسونة باشا، الأمين العام للجامعة العربية، يطلب منه أن يسمي غيره لرياسة اللجنة الثقافية، ولكن مجلس الجامعة يقرر في شهر مارس 1970 بالإجماع تمسكه برياسة طه حسين للجنة: «لأن العمل الثقافي العربي بحاجة إلى علمه وخبرته وإرشاداته، ولأن مكانته العلمية ومقدرته وخدماته الثقافية لا يمكن أن يغني عنها غيرها.» •••
ويقبل عام 1971، وطه حسين وزوجته وحدهما في رامتان، وهو حريص - مع مرضه - على أن يحضر جلسات المجمع اللغوي لا يتخلف عنها مهما عانى من المشقة، وهو لا يزال يقرأ كثيرا، ولكنه لا يملي كثيرا، يستقبل العدد القليل من الأصدقاء والزملاء والتلاميذ الذين يحضرون لزيارته مع ما يجدون من صعوبة المواصلات في القاهرة؛ يوسف السباعي وثروت أباظة وعبد المجيد حسين زوار منتظمون، وكمال الملاخ لا ينسى أعياد ميلاد العميد، وطه حسين يعتب لأن كثيرا من الكتاب المصريين لم يعودوا يرسلون إليه كتبهم، يعلن ذلك في بعض أحاديثه، فيتلقى خطابات اعتذار عن هذا التقصير، ويقرأ خطابا منها أكثر من مرة لأن صاحبه الكاتب الأستاذ إحسان عبد القدوس يقول له فيه إنه لا يرسل إليه كتبه لأنه بعد سنين طويلة من التأليف قد أخذ يشك في قيمة ما يكتب، ويعتقد أنه لا يستحق أن يقرأه طه حسين. يقول طه حسين: «إن هذا الإحساس هو دليل على أن صاحبه أديب حقيقي.»
وتستأذن مديرة إحدى المدارس في الزيارة، ولكنها لا تحضر وحدها، بل يحضر معها اثنتا عشرة فتاة، يفاجئن «العميد» بغناء جميل موضوعه طه حسين، يؤدى بإحساس صادق صادر من قلوب بريئة يتأثر به طه حسين أعمق تأثير.
ويقبل أديب من إيران، يأذن له العميد فيدخل غرفة المكتب، لا يكاد يسلم حتى يأخذ، واقفا، في إلقاء نص الجزء الأول من كتاب الأيام باللغة العربية، وقد حفظ الكتاب كله غيبا، عن ظهر قلب. وعبثا يحاول العميد أن يرجوه التوقف، أو الجلوس، أو أن يقنعه بأنه هو قد سبق أن اطلع على هذا الكتاب!
وفي أول عام 1972 يسعده أن يعلم أن ابنته وأسرتها في طريقهم إلى القاهرة، فقد عين زوجها وزيرا للدولة للإعلام في وزارة الدكتور عزيز صدقي، وطه حسين ينتظر لقاء ابنته وأولادها وقد فارقوا مرحلة الصبا؛ فإن «حسن قد تزوج بهية الترجمان، وحصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة كولومبيا، وهو يعمل للحصول على درجة الماجستير من جامعة كارينجي ميلون، وسوسن قد حصلت على الليسانس من كلية سمث، وهي تدرس لدرجة الماجستير من جامعة برنستون، ومنى طالبة مخطوبة لضابط في سلاح الإشارة هو أبو المعاطي عون، وستواصل دراستها، عند عودتها، في الجامعة الأمريكية في القاهرة.» •••
وتعدل الوزارة ويسند إلى صهره منصب وزير الخارجية، وطه حسين يقول له: «لن تكون لنا وزارة خارجية جديرة بهذا الاسم ما بقي جزء من أرضنا يعاني الاحتلال.»
وتستقيل وزارة الدكتور عزيز صدقي ويؤلف رئيس الجمهورية وزارة جديدة برياسته، يعين فيها الدكتور الزيات وزيرا لخارجيته، وذلك للإعداد السياسي للمعركة العسكرية التي ستخوضها مصر في السادس من أكتوبر عام 1973.
ختام
في فجر اليوم الثامن والعشرين من شهر أكتوبر عام 1973 بتوقيت مدينة نيويورك، طلبني مدير مكتبي في وزارة الخارجية بالقاهرة السفير محمد شكري لينعي إلي طه حسين.
كنا في اليوم الثاني والعشرين من أيام الصراع العسكري والسياسي الذي بدأ في السادس من أكتوبر، في العاشر من رمضان، وكان مطار القاهرة مغلقا أمام طيارات المدنيين، ولكن القاهرة أبلغتني أن طائرة عسكرية مصرية ستنتظرني في مطار روما، فركبناها ولم يكن فيها من الركاب سواي أنا وزوجتي وابنتي «منى».
وتحركت الطائرة، ثم حلقت، وأرسلت البصر من نافذتها إلى حقول إيطاليا جرداء بعد موسم الحصاد، وإلى جبالها وقد ابيضت قممها بعد ابتداء موسم الثلوج، ثم لم أعد أرى وقد أصبحنا في سماء البحر الأبيض المتوسط سوى الماء والسحاب، فأغلقت عيني أدعو إليهما النوم دون أن يستجيب، وتزاحمت على جفني المغلقين خواطر الحرب والسلام.
جعلت أتذكر الرحلة التي بدأتها في أول الصيف بالقاهرة وانتهت إلى بكين، وزرت فيها موسكو، وبلجراد، ولندن، وفيينا، وباريس، ثم نيويورك، في جهاد للوصول إلى العدل أساسا للسلام الكامل الذي لن يدوم السلام على أساس سواه، وأرى هذه الرحلة بما صاحبها من صراع تقارب الآن نهايتها، وأتساءل: كيف يكون الختام؟
وتتزاحم على جفني المغلقين في نفس الوقت صورة من حياة الرجل الذي ينتظر جثمانه في أحد مستشفيات القاهرة وصولنا لنشيعه إلى مقره الأخير، والذي حرمتني هذه الرحلة من أن أراه قبل الرحيل.
لقد ذهبت أودعه في غرفة نومه قبل سفره إلى إيطاليا في أول الصيف وأعتذر عن مصاحبته لوداعه بالإسكندرية كعادة كل عام لانشغالي، قال لي: ماذا يشغلك؟ وماذا يفعل وزير الخارجية في القاهرة؟ ماذا يفعل كل المسئولين في القاهرة وفي العالم العربي وقد مضى على احتلال أراضينا سبعة أعوام؟
قلت: إن القاهرة تردد بيت الشعر الذي تعلمته أنا منك وهو: «ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم» ... فسكت لحظة، وارتفعت هامته، وسأل في جد شديد: وإذن لا نسافر هذا الصيف؟ قلت: بل تسافر في حفظ الله، وتعود مستريح الجسم مطمئن النفس والضمير.
وساد صمت قطعه بالسؤال عن عدد الجامعيين الذين تم تجنيدهم في القوات المصرية المسلحة. •••
وفي الثالث من أكتوبر عام 1973 وصلت الباخرة إسبريا إلى الإسكندرية تحمل طه حسين وزوجته عائدين من رحلة الصيف.
وفي السادس من أكتوبر عام 1973 عرف طه حسين أن جيش مصر قد تحدى ما جمع العدو له من قوة لترهبه وتقهره وتضطره إلى ذل الاستسلام، وأن جيش سوريا يقوم بنفس التحدي.
ولست أشك في أن طه حسين قد تخيل الجيش المناضل وهو يضم الشباب المتعلم الذي سبق أن سأل عن عدده، تخيله يحارب وهو يدرك لماذا يحارب، وبماذا يحارب، ولمن يحارب.
لست أشك في أنه تخيل من بينهم شباب جامعته الأولى جامعة الأزهر، وشباب جامعته الثانية جامعة القاهرة، ثم شباب الجامعات التي أنشأها هو جامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس وجامعة أسيوط؛ تخيل شباب هذه الجامعات يحاربون إلى جانب إخوانهم الذين لم يحصلوا على ما حصلوا عليه هم من التعليم، ولكنهم يساوونهم في الإخلاص والعزيمة والتصميم.
فمنذ سمع طه حسين بشاعة مصرع زميله أحمد ضيف في الحرب العالمية الأولى، التي لم يكن لمصر فيها ناقة ولا جمل، ومنذ قتل ابن أخته في الحرب العالمية الثانية ولم تكن مصر عند ذاك طرفا فيها؛ وطه حسين يسأل نفسه: «ألن تحارب مصر دفاعا عن نفسها هي، ولخلاصها هي؟»
ولقد كان يدرك مع ذلك أن للحرب ضحايا من البشر، ويعرف آلام الأمهات الثكالى وجزع الآباء واليتامى، وهو لا شك قد تساءل: «هل يستطيع الإنسان يوما أن يتغلب على نفسه فيردها عن العنف، ويروضها على الإيمان بالقانون، ويعلمها أن تحترم ما تلوكه ألسنتها من عبارات ميثاق الأمم المتحدة؟»
لقد آمن هو بهذا الميثاق، وقبل أن تحرر وتعلن نصوصه كان قد كتب نصوصا مشابهة في خطاب الكتاب المصريين إلى نادي القلم الدولي إعلانا لموقفهم أثناء الحرب العالمية الثانية، ولرؤيتهم لعالم ما بعد تلك الحرب.
ولكنه قد شك دائما في قدرة الدول على أن تعيش بهذا الميثاق وطبقا لأحكامه، وأدرك دائما أن القوة تغري بالعدوان فلا يلد العنف إلا العنف، ولا بد أن تمضي سنوات وسنوات، وأن تقع الكوارث بعد الكوارث حتى تبلغ الإنسانية مرحلة الرشاد. •••
كنت أجلس في مقعدي بالجمعية العامة للأمم المتحدة عندما أقبل الأستاذ عمرو موسى «السفير الآن» ليخبرني أن الأمم المتحدة قد اختارت طه حسين بين العشرة الذين ستمنحهم المنظمة الدولية جائزة حقوق الإنسان ذلك العام، وأن رئيس الجمعية العامة سيبرق إليه يهنئه بالجائزة ويرجوه الحضور إلى نيويورك في شهر ديسمبر (1793) ليتسلمها بنفسه.
وقد وصلت البرقية، فقرأتها السيدة سوزان عليه وهو على وشك الرحيل، وكانت ابتسامته الخفيفة هي آخر حركة له قبل أن يلبي نداء مولاه. •••
وفي رامتان، في الدار التي خلت من صاحبها، استقبلت الأستاذ «يوسف السباعي» وزير الثقافة و«الدكتور صوفي أبو طالب» وكيل جامعة القاهرة. منذ ذاك كان «يوسف السباعي» يرى أن يبدأ تشييع جنازة طه حسين من جامع عمر مكرم؛ حيث توجد الجماهير التي يمكن أن تشارك في تشييع الجنازة، ولكني كنت أفضل أن يبدأ تشييع جنازة طه حسين من بيته الذي أحبه، من جامعة القاهرة. •••
ويتجمع المشيعون في قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة، فتمتلئ بجموعهم فليس فيها - كما يقال - موضع لقدم، ويتحرك موكب الجنازة يتقدمه نائبا رئيس الجمهورية السيد حسين الشافعي والدكتور محمود فوزي، ومؤنس طه حسين الذي عاد من باريس رغم صعوبة المواصلات، وإلى جانبهم ومن خلفهم رجال الدولة وممثلو الدول الأجنبية وأساتذة الجامعات المصريون وغيرهم، ورجال القلم والإعلام، والطلاب من تلاميذه ومريديه.
ولا يكاد الموكب يخرج من حرم الجامعة حتى تنضم إليه جماهير الشعب، يعبرون معه النيل من الغرب إلى الشرق، ويتوقفون ألوفا أمام مسجد صلاح الدين ريثما نصلي على الجثمان، وفي عيونهم وعيوننا دموع لا يخجل منها الرجال.
ويقول رجل من جمهور الواقفين لابنه الشاب، وكلاهما يبكيان: «أنت يا بني تبكي طه حسين لأنك تعلمت منه وقرأت له وسمعت أحاديثه في الإذاعة.
أنا يا بني لم أتعلم من طه حسين، ولم أقرأ كتبه، ولم أسمعه يتحدث في الإذاعة إلا نادرا ومصادفة.
ولكني أبكيه يا بني لأنه هو الذي مكنني - منذ ثلاثة وعشرين عاما - من تعليمك، وهذا أنت قد حققت لنفسك ولأسرتك من الثقافة والكرامة والخير ما حققت.
أبكيه يا بني لأن الله تعالى أكرمه بالعلم فلم ينس الجاهلين، وأغناه فلم ينس المعوزين، وأسعده فلم ينس من في الأرض من المعذبين.»
محمد حسن الزيات
طه حسين
صور من حياته
طه حسين الشاب الأزهري المعمم. صورة تعود إلى السنوات الأولى من بداية القرن العشرين حينما كان يدرس بالأزهر ومجاورا له.
لقطتان تعودان إلى بداية العشرينيات من هذا القرن: حينما أنهى العميد رسالته للدكتوراه في فرنسا، وأكمل نصف دينه، ثم عاد إلى مصر مع زوجته الشابة سوزان. ولقطة لطه حسين الأب مع زوجته وابنته أمينة وابنه مؤنس.
الشيخ حسين علي والد الدكتور طه حسين. كانت هذه أول صورة مأخوذة من أرشيف مؤلف «ما بعد الأيام».
طه حسين والأسرة مكتملة في إحدى الزيارات الصيفية لأوروبا.
العميد مع ابنته أمينة على ظهر باخرة عام 1937 أقلتهما إلى فرنسا.
صورة تذكارية لأساتذة جامعة فؤاد يرى فيها أحمد لطفي السيد والدكتور طه حسين واقفا. هذه الصورة عام 1925.
تسابقت الجامعات في تقديم الدرجات العلمية للدكتور طه حسين. وهاتان لقطتان من جامعة مدريد وإحدى الجامعات الإيطالية.
الملك محمد الخامس ملك المغرب يقلد طه حسين أعلى أوسمة المغرب عام 1959.
العميد مع الدكتورة هيلين كيلر التي لا تسمع ... يضحك لفكاهتها.
كان طه حسين يشجع الأوبرا، ويحرص على حضور حفلاتها. والصورة له مع سليمان نجيب، وطاهر باشا، ومستر كليمنت كروس.
كان طه حسين الملاذ لنساء مصر لنيل حقوقهن. واللقطة له مع الفنانة راقية إبراهيم.
رغم أن طه حسين ترك الجامعة، فلقد ظلت صلته بها كأستاذ غير متفرغ حتى الستينيات، وكانت الجامعة دائما تقدم لعميدها الجوائز عرفانا. وهنا يتسلمها من د. كامل مرسي مدير الجامعة.
الدكتور طه حسين حينما كان وزيرا في وزارة الوفد، وقال إن التعليم كالماء والهواء وأصر على مجانيته. وهو هنا يتحدث إلى رئيس الوزراء في تلك الفترة من أواخر الأربعينيات. ولقطة أخرى للعميد بجانب لطفي باشا السيد والنحاس باشا في حفل زفاف.
أعلى: طه حسين يستقبل الكاتب اليوغوسلافي إيفو أندريتش، صاحب قصة «جسر على نهر درينا». وتحت: العميد يتحدث إلى چورچ أبيض، بينما حرمه السيدة سوزان تتابع الحديث.
طه حسين يتلقى جائزة الدولة التقديرية في العلوم والفنون والآداب من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وفي الصورة يبدو الأديب يوسف السباعي.
ميدالية باسم عميد الأدب العربي طه حسين. ولقطة عائلية تضم د. محمد حسن الزيات وقرينته السيدة أمينة طه حسين ووالدتها السيدة سوزان، بعد وفاة العميد في عام 1973.
السيدة سوزان طه حسين، وكما وصفها هو في الأيام «ملاكه الحارس». ولقطة لها بينما العميد يستند إليها لدخول مؤتمر مجمع اللغة العربية، ويرى د. مختار الوكيل.
العميد قبل وفاته بعدة أشهر في عام 1973 أثناء حضوره مؤتمر مجمع اللغة العربية الذي عقد بمبنى الجامعة العربية، وترى السيدة سوزان، ود. إبراهيم بيومي مدكور.
अज्ञात पृष्ठ