الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
لؤلؤ وأصداف
لؤلؤ وأصداف
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
كان المستشار عزام أبو الفضل وهو يجلس إلى الكرسي الذي تعود أن يجلس عليه في منزله يفكر في حفل الوداع الذي عاد منه في يومه هذا. كان زملاء المستشار مدكور نبهان يحتفلون بإحالته إلى المعاش عند زميلهم عبد العزيز البرعي، وكان عزام يحب زميله الذي صاحبه فترة طويلة من حياته القضائية، وما هي إلا دقائق من جلوسه حتى وجد نفسه يقول في صوت مرتفع وكأنه يكلم شخصا موجودا معه: كلها كام سنة وتقام لنا نحن أيضا حفلات التوديع. الحمد لله قاربنا الشاطئ ونحن ما نزال أصحاء في ضمائرنا وفي أجسامنا. وكم شهدنا ... كم شهدنا ...
ثم وجد نفسه يمضي مع الذكريات ويستجيب لها. يستعذب الحلو فيها ويشعر بالسعادة أيضا أنه مر من أزماتها وأنه استطاع أن يجتاز عصيبها في صلابة وإباء. وأنه كان قادرا أن يخفي ما يمور في دخيلة نفسه من اضطراب أو قلق.
حتى زوجته مجيدة التي كانت تصل إلى البعيد من أغواره لم تكن تستطيع أن تبلغ مواطن الاضطراب في نفسه عند الأزمة.
अज्ञात पृष्ठ
فارق كبير بين ابنه ياسر الأصغر الذي تخرج في كلية التجارة وابنه البكر وجدان الذي تخرج في كلية الحقوق. وقد حصل الابنان على الثانوية العامة من كلية فيكتوريا، فكلاهما يتقن الإنجليزية كل الإتقان. وقد جعل هو من نفسه مدرسا لهما في اللغة العربية فأتقناها هي أيضا إتقانا لا يتوفر لكثير من زملائهما حتى أولئك الذين تلقوا تعليمهم بالمدارس المصرية.
وقد كان وجدان هاويا للدراسة لا يؤديها مكرها، وإنما كان شغوفا بها، فلم يكن عجيبا أن يكون متفوقا دائما. ولم يكن عجيبا أيضا أن يحصل على تقدير جيد جدا حين تخرج. وكان من الطبيعي أن يلتحق بالنيابة ويسير في الطريق الذي سار فيه أبوه. ولكن وجدان رغب إلى أبيه أن يكون محاميا، وكان عزام حريصا دائما أن يترك لولديه حق الاختيار المطلق، ولكنه كان أيضا يقدم رأيه وكأنه صديق ثم يترك لمن يناقشه منهما الحرية الكاملة في اتخاذ القرار.
ويوم جلس إليه وجدان ليعلنه أنه اختار المحاماة: لماذا؟ - أنا أملك لغتي العربية وأتقن الإنجليزية ودرست الفرنسية. وأنا أحب القانون، فلماذا لا أنتفع بكل هذا في ميدان المحاماة؟ - لك ما شئت، ولكن ما مصير القضاء في مصر إذا قال كل متفوق ما تقوله؟ - أنت تعرف يا بابا أن القضاء الواقف يخدم العدالة مثل القضاء الجالس. - على أن يكون القضاء الواقف أمينا. - وما رأيك في ابنك؟ - أرى العهد الذي نبدؤه اليوم مليئا بالمغريات المادية. - ألا تراني أهلا أن أقاومها؟ ثم أليس لكل عهد مغرياته، ولكل مهنة أيضا؟ - أنا قاض وعسير علي أن أحكم قبل أن أرى ظروف الدعوى. - ما ظنك بي؟ - إن معرفتي بك تزيدني خوفا عليك. - هل أمانتي هشة؟ - يا ليتها كانت كذلك. - أكاد أفهمك. - ستدخل في صراع عنيف أخاف عليك منه. - وأنت يا بابا حين كنت تجلس على كرسي القضاء وتحكم على إنسان ما بالقتل أو بالحرمان من الحرية، ألم تكن تتعرض لصراع؟ - في أول عهدي بالقضاء نعم، أما فيما بعد ... - بل قد كنت أشهدك وأنت عائد بعد الجلسة ذاهلا تبتلع لقيمات وتسارع إلى غرفتك متظاهرا أنك تريد أن تنام، وكنت أكاد أراك تتقلب في فراشك، وكنت أوشك أن أسمع نبضات قلبك تصيح أنك ربما ظلمت أو تشددت أو قسوت أو تهاونت. - هل كنت تحس هذا جميعا؟ - كنت أحسه أنا وياسر وماما، وينظر بعضنا إلى بعض ولا نتكلم. فقد كنا تعودنا، ولكن التعود لم يستطع أن يجعلنا ننجو من الإشفاق عليك والقلق على صحتك. - لكل مهنة متاعبها، ولكن أخشى أن يغريك المال فتنسى ضميرك. وأنا أعلم أنك تحب ضميرك حبا يكاد يكون قاتلا. - سأجرب نفسي. - الميدان الذي تدخله مليء بالأنياب والأظافر الشرسة القاتلة ويندر أن يجد صاحب الضمير طريقا فيه. - لعلي أشق هذا الطريق. - فشأنك إذن. ولكن ليكن قرارك النهائي بعد أن تؤدي الخدمة العسكرية. - وهو كذلك.
ويذكر عزام هذا الحوار جميعه وينفطر قلبه على ولده وجدان، فها قد مرت سنة وبعض السنة وهو في مكتب إسماعيل العدوي المحامي، وقلما يحدثه عن شأن من شئون قضاياه.
إن وجدان يذكره بنفسه وهو في غضارة الصبا ونضارة الشباب ومطالع الفتوة.
كان أبوه عبد المجيد أبو الفضل عمدة الديدمونة علمه بعض القرآن في القرية، ثم استأجر هو وعمه بيتا أقامت فيه أمه نفيسة وأقام هو معها. فكان الأب يزور أسرته كلما سمح له عمله وكان يصحبه إلى القرية في كل الإجازات. وكان احترام الناس له منذ هو طفل يجعله دائما يشعر بأنه ينبغي عليه ألا يرتكب ما يجلب له الاحتقار. وقد كان هذا في الطفولة والصبا أمرا هينا، ولكنه حين شب عن الطوق وخطت به السنون إلى الشباب كان الأمر عسيرا.
شاب في مقتبل العمر ليس مضيقا عليه في الرزق، يقيم مع أمه في القاهرة، والشباب فتوة وقوة وعرق ينبض، والرغبة سعير، والإغراء لهيب، وما يهفو إليه قريب قريب لو مد يده لناله. وهو بعد فتي السمات جذاب الملامح، فيه أصالة المصري تضيئها براءة السنوات الخضر، ومشاعل الشباب التي تجعل الحياة كلها نورا. وحوله الصحاب، وما أكثر ما يروي الصحاب! منهم الصادق ومنهم المبالغ ومنهم المختلق. ولكن كل ما يرويه الصحاب يثير في نفسه ما يحاول أن يكتمه من رغبات.
إنه يريد. بكل ذرة من ذرات جسمه يريد. وبكل قطرة من قطرات دمه يريد، ولكن شيئا ما يمنعه.
لا ينسى يوم صحبه عثمان صديقه إلى الماخور ودفع الأجر وجلس ينتظر دوره. ولكن ما هي إلا دقائق معدودات حتى وجد نفسه يفتح الباب الخارجي ويجري هاربا ومن ورائه عثمان يناديه وهو لا يلوي عليه ولا يجيب. كان في هذه اللحظة لا يريد شيئا إلا أن يهرب، وهرب.
وفي يوم آخر قال له فريد: أتكون خائبا يا ولد يا عزام؟
अज्ञात पृष्ठ
ونظر إليه عزام طويلا ثم قال: يا ليت. - فما هذا الذي يرويه عنك عثمان؟ - لا أدري، لا أتصور أن أصنع شيئا إذا عرفه عني أهل بلدتي يحقرون أمري. - الظاهر أن الولد عثمان لم يعرف كيف يتصرف معك. - كيف؟ - المسألة تحتاج إلى تمهيد. - لا أفهم. - وكيف يمكن أن تفهم؟ اسمع، ما رأيك أن نسهر الليلة في الأريزونا؟ - في الأريزونا؟ - في الأريزونا. - وماذا سنفعل؟ - لا، لا تخف. لن تذهب إلى الراقصات هناك. ما زال الطريق أمامك طويلا حتى تصل إلى الراقصات. - فلماذا نذهب إذن؟ - اليوم حفلة خيرية. ومعي تذكرة اعتذر صاحبها. - وماذا في الحفلة الخيرية؟ - سأعرفك بفتيات من رائدات الحفل مثلنا. - فتيات مرة واحدة. - ولك أنت أن تختار.
الليل نهار من كثرة النور. والضياء يخبو مع الجمال الساطع من أولئك الفتيات. كل مليحة منهن بمذاق. رائحات غاديات كأفكار جميلة تخطر على أذهان شعراء. كأملاك السماء إن تجسدت الملائكة في أزياء آدمية. السمراء عذبة رقراقة مشرقة كفرحة، مقبلة كقبلة، مدبرة كحلم. والشقراء أمل تحقق، أو دنيا تغدق بالعطاء، أو موسيقى تعزفها السماء.
عزام في تيه من البهر، وفريد يمسك بيده وكأنه طفل لا يعرف الطريق، وقد كان فعلا في هذه اللحظات طفلا لا يعرف الطريق. وفي لسان متعثر وعقل غائب يقول لفريد: أين نحن؟
ويقول فريد وعيناه تجوسان خلال الحفل جميعا: اسكت. - وهل أنا قادر على الكلام؟ أنحن في مصر؟ - في مكامن أضوائها، بين المصابيح المصرية والجمال الذي لم تره خيبتك من قبل. - ولكن أنا تائه. - طيب اسكت قبل أن أتوه أنا الآخر. - إياك، فلا أمل لي هنا إلا أنت. - اسكت، انتظر، ها هما. - من هما؟ - تعال.
وقاد يده المطيعة وجسمه الذي أصبح بلا وزن إلى مائدة جلست إليها فتاتان؛ إحداهما شقراء والأخرى سمراء. وقبل أن يصلا وقف فريد وسأله: أترى هاتين الفتاتين؟ - ما لهما؟ - أتريد الشقراء أم السمراء؟ - ماذا؟ - انطق قبل أن تراني إحداهن.
وقال دون وعي: الشقراء. - إذن تعال.
ورحبت الفتاتان بهما ترحيبا عجيبا لا مبالغة فيه، ولكنه في نفس الوقت يحمل كل معاني الإقبال. وقالت السمراء: تأخرت.
وقال فريد: أنا أبحث عنكما منذ نصف ساعة، صديقي وزميلي عزام أبو الفضل.
وصاحت الشقراء: أهو أنت؟
وفغر عزام فاه ووقف مشدوها، ثم وجد نفسه يقول: وتعرفينني يا ست؟
अज्ञात पृष्ठ
وتضحك ضحكة فارهة يضيع صداها في ضجيج الحفل، ويرتجف قلب عزام، وتكمل الفتاة: كل المعرفة.
ويخشى فريد من الربكة التي غمرت عزام، ويسارع قائلا: الآنسة نرمين.
وفي ذهول يقول عزام: تشرفنا.
وتقول الأخرى: أهلا، وأنا سعيدة.
ويقول عزام وكأنه يرد التحية ولكن دون أن يقصد إلى النكتة: سعيدة مباركة.
ويحس الجميع أن الإجابة صدرت منه وكأنه جالس على مصطبة أبيه في البلدة، ودون أن يقصد إلى المفارقة التي وضحت في اللهجة، فينفجر ثلاثتهم في قهقهة عالية ارتفع صداها على صخب الحفل، حتى لقد بدأت بعض العيون تنظر إليهم. فينتبهون إلى ارتفاع ضحكهم، وعزام في غمرته لا يزال، وتضع نرمين يدها على فمها وتصدر عنها تلك «الهش» التي يطالب الناس بها بعضهم البعض بالصمت، أو بخفض الصوت. وينتبهون أيضا أنهم ما زالوا واقفين. وتقول سعيدة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. اقعد، اقعدوا.
وتنظر إلى فريد. - هذا موديل لم أره في حياتي.
ويقول فريد: ابعدي عنه فهو ليس قدك. عليك أنت به يا نرمين، فربما فهم لغتك. إنما سعيدة لا يفهمها إلا أنا.
وتفهم الفتاتان أن الصديقين قد اتفقا على هذه القسمة وهما في طريقهما إليهما. ولم تكن الصلة بين أي من الفتاتين وبين فريد وثيقة، إنما هي صلة محددة المعالم لا تسمح لنرمين بالغضب من فريد أنه اختار سعيدة. صلة الفتاتين بفريد صلة محددة المعالم واضحة الأغراض. وليس من بين معالمها حب يثير الغيرة أو حتى يدعو إلى التظاهر بها. وكان عزام يظن أن نرمين ستثير حملة شعواء على فريد، ولكنه دهش أنه وجد الأمور تجري طبيعية. بل وجد من نرمين إقبالا عليه وسعادة للتعرف به جعلته يترك دهشته ويلتفت بجميعه إلى الجديد من تجارب الحياة. وأدرك أنه لا بد أن يكون في كامل استعداده حتى لا يثير سخرية الفتاتين وصديقه فريد.
وقال فريد: هل نشرب شيئا؟
अज्ञात पृष्ठ
وقالت سعيدة: إذا كنت تريد.
وقال فريد: أظن أن كأسا من الويسكي لا بأس به.
وقالت نرمين: لا يكون هناك بأس مع الويسكي أبدا.
وقال فريد: وهو كذلك يا متر.
وقال عزام: متر! ما متر هذه؟
وضحكوا جميعا. وقال فريد: وكيف أناديه؟
وقال عزام: ولكن متر هذه لقب المحامين.
وضحكوا مرة أخرى. وقال فريد: ولقب الخادم هنا أيضا.
وفي ذهول حقيقي يقول عزام: متر؟!
ويستمر الضحك ويقول فريد: متر.
अज्ञात पृष्ठ
ويقول عزام: مثل المحامي.
ويقول فريد: ولو أن المعنى مختلف.
ويقول عزام: كيف؟
ويستمر الضحك. ويقول فريد: المتر هنا اختصار لمتر دي أوتيل؛ أي رئيس الخدم أو رئيس المكان.
ويقول عزام: وهل نحن في أوتيل؟
ويقول فريد: هذا لقب اصطلاحي.
ويقول عزام: لقب اصطلاحي يجعل خادم السكارى مثل المحامين الذين نشقى ربع قرن من حياتنا لنصبح مثلهم حاملين لقب متر. يناله هذا النادل القريب في اسمه العربي من النذل دون أي جهد.
ويرتفع الضحك على المنضدة مرة أخرى. ويقول فريد: وأي فارق بين الاثنين؟ - أنت لا ترى فارقا؟ - مطلقا. - فاترك كلية الحقوق يا أخي واعمل هنا. - يا ليت. - هل جننت؟ - أتعرف أن هذا الذي تسخر منه يكسب خمسة جنيهات في اليوم على الأقل. وقد يكسب أكثر؟ - يا نهار أسود من الحبر الكوبيا.
ويضج الثلاثة بالضحك حتى تلتفت إليهم العيون مرة أخرى. ويكمل عزام: مائة وخمسون جنيها في الشهر ... مائة وخمس...
ويقول فريد وهو يغالب الضحك: ماذا يكسب المحامي؟ - إن كسب عشرة جنيهات في الشهر في أول حياته تكون نعمة. - أرأيت؟ - وبئس ما رأيت. - ومع ذلك، أي فارق بين الاثنين؟
अज्ञात पृष्ठ
ويقول عزام في غضب: يا أخي لا تجنني.
ويقول فريد: أليس كل منهما يؤدي حاجة للمجتمع ؟
ويقول عزام في غضبه لا يزال: شتان، هذا يسقي الناس الخمرة.
وتضحك الفتاتان. ويقول فريد: لا تقل هذه اللفظة هنا أبدا. - لماذا؟ أليست خمرة؟!
ويهمس فريد في جدية: يا أخي اخفض صوتك، لا تفضحنا.
ويخفض فريد صوته: أليست خمرة؟!
ويهمس فريد: ولكننا هنا نسميها مشروب أو الكول؛ يعني الكحول، أو ويسكي ونخلص. - خلاص على كيفك، نسميها مشروب، ونسأل كيف تقارن هذا الذي يحمل المشروب بالمحامي؟ - أليس المحامي يؤدي ما يطلبه الزبون؟
ويقاطعه عزام: الموكل. - لن نختلف، ولكن أليس الموكل زبونا؟
ويصمت عزام قليلا ويقول: لنفرض.
ويقول فريد كأنه ينتصر: وهذا أيضا يؤدي للزبائن طلباتهم.
अज्ञात पृष्ठ
ويقول عزام: خلاص، انتهى الأمر. لا فارق بين محام درس القانون ويخدم العدالة ويبين للقضاء وجهة النظر القانونية في القضية المطروحة و...
ويقاطعه فريد: نهارك أسود! هل ستترافع؟ خلاص يا سيدي، أنا غلطان. ولكن ماذا أصنع الآن؟ لا بد أن أقول يا متر حتى يأتي ويكون مشكورا لو أتى أيضا. فماذا تريدني أن أناديه؟ آه لو عرفت الوظائف الأخرى التي يقوم بها.
وتنفجر الفتاتان بالضحك، ويقول عزام في دهشة زادت من ضحكهما: وله وظائف أخرى أيضا؟! - هامة كل الأهمية. - غير الخمرة، أقصد المشروب. - أهم بكثير. - مثل ماذا؟ - يوفق بين الرءوس. - في الحلال؟ - ليس هنا حلال. - يا نهار أسود! يعني ... يعني ... - نعم. - وتقول له متر؟ خيبة الله عليك وعليه في لحظة واحدة! - اسمه كذا. - تشرفنا. - هل تسمح أن أناديه؟ - تفضل.
وكانت الفتاتان قد كادتا أن يغمى عليهما من كثرة الضحك. وصاح فريد: يا متر!
وجاء الساقي وقال فريد: أربعة ويسكي.
ويصيح عزام في صوت مرتفع: انتظر، انتظر يا ريس. لمن الرابع يا أستاذ فريد؟
وبحسم يقول فريد: لي أنا! أنا سأشرب اثنين. هل عندك مانع؟
وتنخذل غضبة عزام وهو يقول: إن كان الأمر كذا فأنت حر، اشرب عشرة إذا أردت. أنا أريد ليمونا.
ويقول الساقي: ليس عندنا ليمون يا بك.
يحسم فريد الموقف في خبرة: هات كازوزة يا متر.
अज्ञात पृष्ठ
وينصرف الساقي وهو يقول: أمرك يا سعادة البك .
وتمسك نرمين بيد عزام بكلتا يديها وهي تقول: شربات، شربات مكرر.
ويقول عزام: وهل أجد هنا شربات؟ يكون أحسن.
ويعود الضحك وتقول نرمين: ليس هنا شربات إلا أنت.
ويسعد عزام ويحس بدبيب نشوة تتسرب في أعراقه: يا ست الله يخليك، كل ما في الأمر أنك أنت دمك خفيف.
وتقول سعيدة: الله! إذن فأنت تشنع عليه يا فريد. إنه يغازل في براعة لا تقدر عليها أنت.
ويقول عزام: أنا والله أقول الحق.
وتقول نرمين: أو الباطل، لا يهمك، المهم أنني أصدقك. قل أنت ما تشاء ولا تهتم بسعيدة، فهي تغار مني لأن فريد لم يقل لها شيئا.
ويقول عزام: فريد، فريد في هذا الميدان أستاذنا. وأين أنا من فريد؟ طيب والله يا ست نرمين أنا لم أكلم حرمة غريبة عني طول عمري إلا ذا الوقت.
ويعود إليهم الضحك وتقول نرمين: الذي يبدو من كلامك أنك قديم في الكار.
अज्ञात पृष्ठ
ويصيح عزام في شبه سخرية بنفسه: يا ست الله يفتح عليك! أنا والله ما أعرف هذا الكار إلا اليوم.
وتجيء الطلبات. ويضع الساقي أمام كل فتاة كأسا، ويضع كأسين أمام فريد، ويضع الكازوزة أمام عزام، وينصرف.
ويقول فريد: عزام. - أفندم. - لي معك كلمتان. - قل مائة. - بشرط. - وهو؟ - تسكت حتى أنتهي من كلامي. - موافق. - وبشرط آخر. - نعم؟ - إذا اقتنعت تنفذ ما أقوله لك. - وإذا لم ... - ترفض ولن أتكلم في الموضوع أو ألح عليك فيه. - الشرطان عادلان ومقبولان. - إذن قل لي لماذا جئت معي اليوم؟
ويرتج على عزام لا يجد جوابا وينقذه فريد: إنك تمر بتجربة جديدة لتعرف نوعا من الحياة جديدا عليك. أليس كذلك؟ - كذلك. - لا تتم التجربة حتى تكون خضتها إلا بكأس من الويسكي.
وينتفض عزام: أنا. - اسكت حتى أنتهي. - سكتنا. - أليس لكل قاعدة قانونية أركان؟ - طبعا. - من أركان هذه التجربة كأس ويسكي. - وإن سكرت؟ - عيب أن تظهر كأنك مغفل وأنت الذي أوشكت على الانتهاء من دراسة الحقوق، وأنت الذي تقف دائما في الصدارة من دفعتك. - وهل يمنع هذا جميعه أن أسكر. - هل عمرك سمعت أن إنسانا مهما يكن شأنه يسكر من كأس واحدة؟ - أظن لا. - إذن. - واحدة. - واحدة. - اشرب. - عظيم. اشرب رشفة رشفة وانس تماما أنك تشرب ويسكي واتركه يصنع مفعوله دون أن تضايقه.
ويقول عزام: وهل الويسكي أيضا يتضايق؟ - مثلي ومثل نرمين ومثل سعيدة، إذا كنت رفضت أن تشرب هذه الكأس. - وهل أجرؤ على مضايقة الست نرمين والست سعيدة؟
وتقول سعيدة: أنا ونرمين نتضايق ونتعب ويصيبنا الغم من كلمة الست التي تمسك بها هذه.
ويقول عزام: ولا أقول ست؟ ولكن يعني ... أهذا يصح؟
وتقول نرمين: بل لا يصح إلا هذا يا أخف دم في الدنيا.
الفصل الثاني
अज्ञात पृष्ठ
عجيبة تلك الصلة التي تقوم بين مجيدة زوجته وزوجة ابنها ميرفت. فلو كان لمجيدة ابنة ما أحسنت معاملتها وأحبتها قدر ما كانت مجيدة تحب ميرفت. حتى إذا اختلف وجدان مع أمه كانت ميرفت تقف إلى جانب حماتها لا إلى جانب زوجها، وتدافع عنها بشتى وسائل الدفاع، فتلجأ إلى وجدان بالحق والمنطق أحيانا. فإن خذلها حق أو وقف بها منطق لجأت في ذكاء إلى عاطفة البنوة وما تنتظره الأم عند ولدها. وقد كانت أم ميرفت سعدية هانم النبوي تكاد تغار من حب ابنتها لحماتها. إلا أنها لم تحاول أن تفسد هذه العلاقة أو تمسها. عن فضل منها كان ذلك أو عن يأس أو عن كليهما معا، لا أحد يدري.
وكان عزام سعيدا بهذه العلاقة غاية السعادة. وكان حين يحاول أن يقدم الحيثيات لهذا الواقع المضيء في بيته يجد الأسباب حاضرة من قريب.
فزوجته مجيدة ابنة عمه عزت أبو الفضل. وقد كانت صلة عمه عزت بأخيه عبد المجيد والد عزام صلة أخوة وثيقة، حتى إن عزت أقام بالزقازيق المدينة تاركا لأخيه الإشراف الكامل على الأرض جميعا. أما عزت فقد تفرغ للجلوس مع الأصدقاء في قهوة باروخة في الصباح، والجلوس في النادي بعد الظهر يلعب النرد أو الضمنة سعيدا بفراغه هذا غاية السعادة، لا يسمح بشيء في العالم أن يعكر صفوه أو يفسد متعته. وقد كانت متعة بريئة لا يشوبها منكر. فقد يلعب مع أصدقائه برهان، ولكنه رهان هزيل، لا يخيف ولا يهدد أية ثروة مهما يكن مقدارها ضئيلا. كان إذا خسر عشرة في النرد يدفع عشرين قرشا، فإذا حمي الوطيس وغلت الدماء في العروق وطغى حب الانتقام عليه إذا وقعت عليه الغلبة ارتفع مقدار الرهان وارتفع، ثم لا يعدو الخمسين قرشا فقط.
أما في الضمنة فقد كان يخسر عشرين قرشا إذا خسر. فإذا ذكرنا أن اللاعب في هذه الميادين لا يخسر دائما ولا يكسب دائما، نجد أن نفقات عزت في متعته هذه كانت لا تمثل شيئا بالنسبة إلى ثروته.
ولم يرزق عزت من زوجته مبروكة النمر ابنة عمدة ميت ركاب الحاج طه النمر إلا ابنته مجيدة. وقد أسماها مجيدة تقربا من اسم أخيه وحبا فيه. وكأنما أراد أن يقول له: إن كنت لم تنجب إلا الأولاد فقد رزقك الله بالابنة في بيت أخيك.
وقد أدخل عزت مجيدة مدرسة الراهبات بالزقازيق، وظلت بها حتى حصلت على البكالوريا، فهي مثقفة ثقافة فرنسية عالية. وكان أبوها يصحبها شهرا أو شهرا وبعض الشهر إلى الإسكندرية أو رأس البر في المصيف، أما بقية الإجازة فقد كانت تحب أن تقضيها في العزبة عند عمها، وقد تزور جدها وجدتها في ميت ركاب، ولكن أغلب الوقت كانت تقضيه في بيت عمها.
وكان عزت كثير الزيارة للقاهرة حتى لتذكر مجيدة أن كل الإجازات التي كانت تحل أثناء العام الدراسي كانوا يقضونها في القاهرة في تلك الشقة التي أجرها عمها لتكون محل إقامة لوجدان أول الأمر، ثم أصبحت موئلا لأسرتي الأخوين، كلما قصد أحدهما أو كلاهما إلى القاهرة. وقد كان الحاج عبد المجيد بعيد النظر دائما؛ ولهذا فقد اختار الشقة واسعة غاية السعة، تستطيع أن تحتوي الأسرتين جميعا، لا تضيق بالسادة أو الخدم في وقت معا. وهكذا وجد من الطبيعي أن يستجيب لأخيه حين طلب إليه أن يشاركه في إيجارها. هكذا نشأت مجيدة في الزقازيق، ولكنها كانت على صلة وثيقة بالحياة، فقد كانت تذهب إلى السينما وتشاهد المسارح وتتابع بما وفره لها تعليمها الحركة الأدبية، فهي متفتحة الذهن رهيفة الحس. تعتبر البواكير الأولى للمرأة المتعلمة في العصر الحديث. وإن كان سخف العصر الحديث قد طغى على تعليم المرأة في بعض الأحيان، فإن أصالة تلك الفترة هي التي كانت تحيط بمجيدة في هاته الأيام. وأي أصالة أعظم من واقعها يمكن أن تحيط بها وهي ترى أسرة أبيها وأسرة عمها واحدة يجمعهم الحب الصادق لا زيف فيه ولا مين ولا خداع. ولماذا الخداع؟ وطلب كل فرد مجاب من الأسرتين جميعا بلا تفرقة، ولا حتى تفكير ما دام الطلب معقولا لا مبالغة فيه ولا تعسف. ولم يكن العنت يعرف طريقا إلى البيتين جميعا، فأبوها رجل سمح طيب المعشر ألوف، يحب الناس ويحبونه. وعمها رجل له وقاره ومكانته في قريته وعند الذين يعرفونه.
وهكذا كان عزام يجد أن مجيدة كان يستحيل عليها أن تكون غير هذه السيدة العظيمة في تربيتها لأبنائها، وفي حبها لزوجة ابنها ميرفت التي تقوم معها وزوجة ياسر أيضا سوسن التي تقيم مع زوجها في بيت خاص بهما.
أما مجيدة الزوجة فقد كان حبها لزوجها أمرا مقررا لا يحتاج إلى أي تفكير، فقد نشأ كل منهما في منبع واحد، وإن كان هو يكبرها بخمس سنوات وبضعة أشهر، فالذي لا شك فيه أن كلا منهما شهد طفولة الآخر وعرفه أوثق معرفة منذ بدأ كل منهما يعي الحياة والأسماء والأشخاص.
كان عزام قد أجمع أمره على الزواج من مجيدة منذ بدأت مراهقته وعرف كما يعرف الناس جميعا أن الشاب ينبغي أن يتزوج.
अज्ञात पृष्ठ
ويخيل إليه أن مجيدة كانت تدرك ما أجمع عليه أمره دون أن يشير إلى ذلك بكلمة. وكانت الأسرة جميعا تدرك هذا المصير، ولكن أحدا منها لم يذكره لآخر، كان أمرا مقررا في داخل كل فرد من أفراد الأسرة، حتى لقد ظنوا أن الحديث في شأنه عبث لا معنى له. ولا يستطيع عزام أن يذكر الآن وهو في غمرة هذه الذكريات إن كان أحب مجيدة ذلك الحب الجارف الذي قرأه عنه والذي شهده يحيط بإخوانه وزملائه، أم أن اعتبار مجيدة هي زوجته المقبلة جعل حبه لها من نوع آخر لا يعرفه إلا قليل من الناس، أولئك الذين تشابهت ظروف حياتهم وظروف الحياة التي نما فيها عزام. كان حبه لها أمرا مفروغا منه ليس في الوجد، وفيم الوجد وهو يعلم أن شيئا لن يقف في سبيل زواجهما؟ ولا فيه الهيام ولا السهد، فما كان هناك داع إليهما. ربما كان يتشوق لرؤيتها، ولكن أليس الشوق أمرا طبيعيا بين أفراد الأسرة الواحدة؟
وهكذا كان يعيش حياته في القاهرة في اطمئنان على مستقبل البيت الذي سيقيمه للزوجية. وكان يسعى حياته في طهر؛ لأنه كان يرى أن هذا هو الأولى به والأخلق.
ثم ظهرت نرمين. فإذا الحياة عنده تسفر عن وجه من المتعة لم يتصور مقدارها قط قبل ليلته هذه في الأريزونا.
ذهب مع نرمين إلى شقتها. وحين حان موعد انصرافه تحير ماذا يفعل. وبخبرة المرأة المتمرسة قالت له: فلوس لا أقبل منك، ولكن أحضر لي هدية معك في المرة القادمة.
مرة قادمة، فكر قليلا وما لبثت متعته الجديدة أن صاحت به: ماذا بك؟ وهل في هذا تردد؟
وقالت نرمين: أم تراك لم تنبسط ولن تكون هناك مرة قادمة!
وصاح من فور الغريزة: بل مرات ومرات. المهم ألا تصرفيني أنت. - لا، اسمع، أنا أعرف أنك في السنة النهائية، وأعرف أنك دائما من الأوائل. وحتى أضمن دوام الصلة بيننا لا أحب أن أكون سببا في تأخرك عن التفوق.
وصمت عزام قليلا، فقد واجه العقل الغريزة وقال: كلام معقول.
وأكملت نرمين: من الطبيعي أن ترفه عن نفسك في كل يوم خميس. - معقول. - إذن فموعدنا الساعة الثامنة كل يوم خميس.
استمرت العلاقة كما اتفقا أن تكون. وكان يغدق عليها الهدايا، ولكنها هدايا طلاب على أية حال وإن كانت لا تخلو من ذكاء. فكان يحاول دائما أن تكون هديته من الذهب، وبدلا من أن يأتي لها كل أسبوع بهدية هزيلة يأتي لها كل شهر بما يوازي أربعة جنيهات ذهبية. وكان الجنيه الذهبي في ذلك الحين بخمسة جنيهات. وكثرت مطالبه بعض الشيء من أبيه، وكان الأب ذكيا يدرك ما قد يحتاج إليه الشباب من بعض الإنفاق. ولم يكن الأب واسع الثراء. ولكن المال لم يكن مشكلة بالنسبة إليه على كل حال، وكذلك كان الأمر بالنسبة لأخيه أيضا.
अज्ञात पृष्ठ
كان يوم خميس. لا يزال عزام يذكره وكأنه مر بالأمس القريب. وذهب في موعده إلى نرمين. وكانت الجلسة تبدأ بينهما بالحديث مع كأس ويسكي، وكان لا يزيد عن الكأس قط، وكان الحديث يتناول أمورا خلقتها الزيارات المتكررة. ولم يكن بينهما في الحديث جسور مشتركة، فلكل منهما حياته البعيدة كل البعد عن حياة الآخر. كان هو يذاكر بجدية كاملة، وإذا أراد أن يروح عن نفسه فديوان شعر لشاعر من القدماء أو شوقي أو حافظ. وكان معجبا بشوقي غاية الإعجاب، وكان يعتبره أعظم شاعر في التاريخ العربي قديمه وحديثه. وكان يقرأ كل ما يظهر لأدباء عصره، أولئك الذي نشأ الأدب العربي الحديث على أيديهم: طه حسين، ومحمد حسين هيكل، والعقاد، والمازني، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، والزيات، والرافعي. وكان جيل عزام يتلقف أدب هؤلاء نقطة نقطة، أو كتابا كتابا. كان جيله أشبه ما يكون بالجالسين على أبواب المطابع يختطفون كل كتاب يظهر. وهكذا كان الماء يصل إليهم رذاذا غير منهمر. فلم يكن العمالقة قد أكملوا أدبهم بعد، وإنما كانوا يصنعونه. وفي هذه الفترة التي يعيش عزام في ذكرياتها ظهرت مطالع روايات نجيب محفوظ وقصصه وقصص محمود البدوي ويوسف جوهر وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي القصيرة، وبدأ جيل عزام يتعرف عليهم. ولكن كل هذا كان لا يمد هواة الأدب بمدد الينبوع الدائم الجريان، فكان عزام يقرأ مع هؤلاء كتب التراث مثل الأغاني والعقد الفريد والعمدة وغيرها، ويقرأ الشعر العربي القديم والحديث وهو مدد لا ينفد. والشعر ليس كالرواية. فقد يستطيع الهاوي أن يقرأ القصيدة مائة مرة، ثم يعود إليها، أما الرواية فهي مرة واحدة، فإن أعجبته غاية الإعجاب فمرتين.
كانت هكذا حياة عزام . ففيم كان يمكن أن يجري الحديث بينه وبين نرمين وهي لا تعرف اسما واحدا من كل هذه الأسماء إلا ربما هيكل باشا؛ لأنه كان وزيرا. وكانت طبعا لا تدري لماذا أصبح وزيرا، ولا تعرف أي صلة بينه وبين الأدب. بل هي لا تعرف عن الأدب شيئا إلا ما تقوله عنه مجلات تلك الأيام مثل المصور وآخر ساعة وروز اليوسف. ومع هذا التنافر في الاهتمامات نشأ نوع من الحديث بين عزام ونرمين. وكان الحديث ممتعا لكليهما. فقد كانت تروي له عن صديقاتها وصلاتهن وأصدقائهن. وكان يروي لها عن زملائه وعن بيته وعن أبيه وعن أمه وعن مجيدة وعن عمه عزت.
في ذلك الخميس الذي لا ينساه صنعت له كأس الويسكي وصنعت لنفسها كأسا وجلسا، وبدأت تقول: هيه، ما الأخبار؟ - أخبار السياسة؟ - أعوذ بالله! لا أكره شيئا قدها. - الأخبار يا ستي أن عمي عزت كان يزورنا من يومين. - وهيه، وما أخباره؟ - الحظ يحالفه في هذه الأيام ويتغلب على كل منافسيه في الطاولة. وكسب الشهر الماضي خمسة جنيهات من الطاولة وحدها. - أصبح ثريا إذن. - أضاعها في الضمنة.
وضحكت نرمين وهي تقول كلمتها المأثورة: شربات.
وقال عزام وعلى وجه غلالة من الجدية: أتعرفين يا نرمين، أنا لا أحسد أحدا في حياتي إلا عمي عزت! - أعوذ بالله! أنت قلبك لبن حليب، لا يمكن أن يحسد أبدا. - لا، فعلا أنا أحسده. - أنت تحسد؟ - نعم. عمي عزت. - أنت تحبه؟ - لا أفرق بينه وبين أبي مطلقا، ولكني أحسده. - أنت تعني شيئا لا أفهمه، فحب وحسد لا يجتمعان. - ربما كان المعنى الذي أقصده لا تعبر عنه كلمة الحسد التعبير الدقيق. - إذن. - أتمنى أن أكون مثله. - يا شيخ لا قدر الله. - ولماذا؟ - بل قل لي أنت، لماذا تريد هذا الذي تريد؟ - لا أحمل هما، طيب، لا أزعل من أحد ولا أجعل أحدا يزعل مني، الدنيا عندي طاولة وضمنة وتسلية. زوجتي تحمل هم البيت، وأخي يشرف على الأرض، وأنا أسعد خلق الله.
ونظرت إليه نرمين مليا وبدأت مطالع دموع تفور إلى عينيها وهي تقول: أهذه حياة؟ - وما الحياة؟ - أي شيء إلا هذا. - أرى في عينيك ... - نعم. - هل ذكرك حديثي بشيء؟ - كان أبي مثل عمك، إلا أنه كان يغامر بمبالغ طائلة حتى أضاع ثروته كلها. - بالطبع ليس هذا الذي أقصده. - وكانت النتيجة ما ترى. وهو على قيد الحياة ويعرف المهنة التي أحترفها. - ولكن عمي شيء آخر. - عمك لن يضيع ثروته، ولكنه يضيع حياته.
وتماسكت نرمين وغاضت الدموع. - ولكنه سعيد ولم يؤذ أحدا في حياته، وربما أعان بعض الناس. - لا تؤاخذني، الحمار أيضا سعيد، والثور سعيد. في الحياة لا بد أن يكون هناك فرق بين الإنسان والحيوان. والحيوان أيضا لا يؤذي أحدا، وإن كان عمك أعان أحدا فربما تكون هذه هي الحسنة الوحيدة في حياته. أتراها تكفي؟! - عمي شخص محترم بين الناس، وهو صديق لصديقه، يعينه عند الحاجة، ورجل طيب بمعنى الكلمة.
وصمتت نرمين لحظات قصارا وقالت: عندما يقترب أجله - أطال الله عمره - ويحتويه الفراش الذي يقدمه إلى السماء، وينظر خلفه، بماذا يستطيع أن يلقى في نفسه سعادة؟ إنه صنع شيئا ذا قيمة. كل ما سيذكره المارس الذي تغلب به على أحد أصدقائه. - لحظة ويصبح عند الذي لا ينفع عنده مال ولا بنون. - هذه اللحظة هي العمر كله، هي وداع حياة بأكملها.
وكان الذهول يستولي على عزام كلما تحدثت نرمين، حتى إذا انتهت إلى جملته الأخيرة وجد نفسه يحتضنها في قوة: أنت تخفين بكأس الويسكي الذي نشربه ثروة من الإنسانية. - لا أطلع عليها إلا من أحب. - إذن ... - نعم أحبك، ولكن أرد نفسي عن حبك.
ولم يسأل لماذا وإنما يطرق ثم يرفع رأسه: نرمين، أنا نلت اليوم من المتعة ما يزيد على كل الأيام التي التقينا فيها. كأنما تجمعت أيامنا كلها وتضاعفت مئات المرات اليوم. أنا سأنصرف.
अज्ञात पृष्ठ
واحتضنها كما لم يحتضنها من قبل، وقبل جبهتها وخديها وانصرف. وتركها في نفسها مشاعر ليست غريبة عليها، ولكنها لا تريد أن تصدقها. •••
نزل إلى الشارع وبحث عن تليفون، ووجده عند بائع سجائر، وكلم والدته: نينا. - أين أنت ؟ - أنا في الشارع. - ما لك؟ خير؟ أنت قلت إنك ستتأخر؟ - اسمعي ولا تستغربي. - خير، خوفتني؟ - ليس هناك شيء مطلقا، ولكني أريد أن أرى أبي. - ماذا به؟ هل سمعت عنه شيئا؟ - من أين أسمع؟ التليفون بجانبك، ولو كان هناك شيء لا قدر الله لعرفت أنت قبلي. - أنا لا أفهم. - أتأتين معي إليه؟ - الآن؟ - الآن. - كيف ستذهب؟ - سأستأجر سيارة. - أمرك عجيب. على كل حال، وما له، خذني معك. - هذا فعلا أحسن. - لكن يا عزام الامتحان اقترب وهذا ليسانس، وأخشى أن يغضب أبوك الحاج. - إنه سواد الليل وبكرة نتغدى هنا في مصر. - الأمر لله، وتقول لي لا تستغربي. - ستعرفين كل شيء هناك. - هناك؟! - هناك. •••
حين وصل إلى بيت أبيه في البلدة كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بدقائق، وتعجب الحاج عبد المجيد، ولكن حين رأى ابنه وزوجته سالمين لم يمس مشاعره قلق. انفرد بهما فورا، ولم يتمهل عزام، بل سارع قائلا: أبي، أريدك أن تخطب لي. - أخطب لك! من؟ - مجيدة طبعا. وهل يمكن أن أخطب إلا مجيدة؟
وازداد تعجب الحاج: تجر أمك في عز الليل وتأتي إلي الساعة الحادية عشرة من مصر لأخطب لك مجيدة! - ولم لا؟ - وهل علمت أنها ستخطب الليلة إلى أحد آخر؟ - طبعا لا. - الكل يعلم أنها لك وأنت لها. - أعرف. - فما هذا الهبل الذي تصنعه؟
وكأنما كان عزام في غمرة وأفاق. ماذا صنع؟
وماذا يقول لأبيه الآن وهو يعلم أن أباه يعهده دائما عاقلا متزنا لا يأتي شيئا في غير روية وتفكير.
أيقول له إنه وجد نفسه في لحظة حاسمة من حياته أن عليه أن يختار بين أن يكون إنسانا ذا قيمة في المجتمع يحترم إنسانيته، وما وهب الله له من عقل ومن حرية في الاختيار، وبين أن يكون إنسانا يبحث عن المتعة وحدها.
أيقول له إنه أحب تلك الصلة بينه وبين نرمين، وخشي أن يتمادى فيها فيحس دائما أن ضميره غير راض عنه، فهو من نفسه في عذاب، وهو من متعته في هناء. وإنه أراد الليلة وفورا أن يختار الهناء النفسي لا الهناء الحسي.
أيقول له إنه يعد نفسه لأن يكون قاضيا، وإن القاضي إذا لم يكن شريفا في داخله فهيهات له أن يكون شريفا في أحكامه.
ماذا يقول؟ أطرق طويلا ثم رفع رأسه إلى أبيه: أنا آسف يا بابا. - لا بد أن تكون آسفا. - فعلا آسف.
अज्ञात पृष्ठ
وقالت الأم: أتأتي بي في الظلام لهذا؟! الله يخيبك يا عزام يا ابن بطني!
قال عزام مرة أخرى: يا نينا اعتبريها جنونة وقامت بدماغي.
وقال الأب في تؤدة: ثم أنت الآن داخل على امتحان الليسانس. فلماذا لا تنتظر حتى تأخذ الشهادة؟
وقال عزام في حسم: أنت تعرف أنني سآخذها. - وهل تريد أن أخطبها لك الآن أم أنتظر حتى الصباح؟ - هذا إليك. - الأمر سيان.
ومد يده إلى التليفون وطلب أخاه في الزقازيق وصاح: عزت! - خير يا أخويا الحاج، هل هناك شيء؟ - أنت نمت؟ - أنا داخل من النادي الآن فقط. - طيب اسمع يا سيدي.
وروى له ما صنع عزام. وتمت الخطبة. •••
حين عاد عزام إلى القاهرة اشترى هدية ثمينة بخمسين جنيها وذهب إلى بيت نرمين في وقت كان واثقا أنه لن يجدها فيه. وفتح الباب بالمفتاح الذي معه، وترك الهدية في مكان لا تخطئه العين في البهو، ومع الهدية المفتاح، ولم يكتب شيئا. وحين عادت نرمين ووجدت الهدية والمفتاح عرفت كل شيء، وأدركت أن مشاعرها يوم تركها لم تخادعها. •••
منذ ذلك الحين البعيد وعزام يحن إلى تلك الأيام غير البريئة، ويحس بها تدغدغ في حواسه، ويحس في نفسه شوقا إليها تواقا إلى مرحها. حتى إذا جلس على كرسي النيابة الذي أصبح كرسي القضاء أصبح عزام الذي يعرفه الناس، ولا يعرفون عنه إلا البعد كل البعد عن موطن الشبهات.
كان إنسانين في إنسان، ونفسين في نفس، وقلبين في قلب، وضميرين في ضمير. ضمير يهون عليه اللهو والمتعة حتى وإن تبعها سكوت على الباطل ورضا بالخطيئة على أي لون لها. وضمير هو الأصيل فيه، طريقه الحق، وسبيله أني أخاف الله رب العالمين.
وكانت آراؤه في كل شيء تنشد المثل الأعلى، ولكنه كان يغفر في نفسه لمن يحيد عنها حتى وإن حكم عليه بأحكام القانون. فالإنسان فيه يعرف ضعف الإنسان ويرحمه ويغفر له. والقاضي فيه يعرف حق القانون ويستقر في نفسه في ثقة تقترب من ثقة الإيمان بالله أن العالم بغير قانون فوضى، الغابة خير منه. فالغابة - وهي الغابة - لها قانون، أما إذا غفا القانون في دولة أو ناله مساس من استهانة فالحياة كلها ضياع.
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الثالث
ولد وجدان في عام 1950، فحين جاءت الثورة كان طفلا يحملونه على الأكتاف. وحين بلغ السادسة رأى الشعب في حالة ثورة لا يعرف أسبابها، ورأى أباه في حالة حزن وأسى لم يكن أيضا يعرف لهما سببا في ذلك الحين، ثم رأى الشعب يتحول من ثورة في الشوارع والطرقات إلى جنون فرحة تعم الجميع إلا أباه الذي ظل حزينا دون أن يدري وجدان لماذا يجد أباه دائما في حالة تختلف عما يراه في المدرسة والشارع. يذكر طبعا أن المدرسين قالوا لهم شيئا عن تأميم القناة، ويذكر أنه كان هناك أمر للجميع أن يفرحوا، ففرحوا. ثم قالوا لهم العدوان الثلاثي وتحالف قوى الشر. وكان يسمع الألفاظ ويرددها دون أن يدري ماذا يقال له؟ حتى لقد دخل أبوه عليه مرة في البيت ووجده يقول لمربيته: يحيا التحالف الثلاثي.
وتسمر أبوه مكانه ووجم هنيهة، ثم انطلق يقهقه وهو يقول له: وقعتك سوداء. - هكذا علمونا في المدرسة.
ويصيح الأب وهو يضحك: لا يمكن. - التحالف الثلاثي يا بابا. - يسقط يا وجدان، علموك في المدرسة أنه يسقط ولا يحيا. - وهل أعرف يا بابا؟ نقول يسقط كثيرا ولا نعرف لماذا. ونقول يحيا كثيرا ولا نعرف لماذا. حاجة تلخبط.
ويقول أبوه وهو يضحك لا يزال: نعم، لكن اللخبطة في هذه المسائل تؤدي إلى مصائب لا يعلمها إلا الله. - مصائب لمن يا بابا؟ - طبعا لك أنت لا يمكن. كل المصائب ستكون على دماغي أنا. - إذن يسقط التحالف الثلاثي. - أتعرف أحسن شيء يا وجدان؟ - نعم يا بابا؟ - نحن يا بني لا شأن لنا. - أليست بلدنا؟ ألسنا الشعب؟ - لم تعد بلد الشعب يا بني. إنها بلد شخص واحد. ونحن لا شأن لنا. - إذن فلا أقول يسقط؟ - ولا يحيا.
وقال وجدان في براءة وفي غير مبالاة: أحسن، واحنا ما لنا، بلاش أحسن، واحنا ما لنا.
وذهل يومذاك عزام، فقد أحس أن الذي قاله الطفل في براءة من غير فهم، والذي ردده كأنه ببغاء، كان ضمير الشعب بأكمله، حتى أولئك الذين يصرخون في الشوارع بالهتافات الموضوعة على ألسنتهم.
وحين بلغ وجدان الثامنة رأى فرحا مجنونا يندلع في المدرسة والشوارع، وتحيا الوحدة، وتحيا سوريا. وكانت سن وجدان تجعله يعي بعض الشيء، ولكن الكلمات لم تكن واضحة المعالم بالنسبة إليه.
وحين وقع الانفصال بدأ رأسه يدور وهو يرى تناقضا عجيبا في بيانات الانفصال. كان يعجب كيف يحدث الانفصال في سوريا وينزل الحاكم عقابه على مصر؟!
وحين أعلنت حرب اليمن كان قد بدأ يقرأ الجرائد. وكان في أشد الحيرة، الأفراح تملأ الجرائد بالانتصارات. والأحزان تملأ بيوت مصر على القتلى وعلى مصير مصر.
अज्ञात पृष्ठ
كان وجدان حائرا، ولكنه لم يكن رافضا للحكم. فهو لم يعرف غيره حتى يرفضه، بل ربما تصور أن دول العالم كلها تحكم على هذا المنوال. ولم يكن أبوه يتصور أنه يستطيع أن يناقشه. ولكنه كان يفهم من أحاديث أبيه مع أمه أن أباه رافض. وكان يسمع من زملائه في المدرسة أن آباءهم رافضون هم أيضا. واقتنع هو وزملاؤه أنهم جيل الثورة، وأن آباءهم جيل متخلف يدين بالولاء للملك الفاسد وللأحزاب المستغلة المؤلفة من الساسة المحترفين.
وحين أعلن الحكم الثورة الثانية على الإقطاع كان وجدان قد بلغ سنا تسمح له بالمناقشة، ولهذا تصدى لأبيه حين وجده ثائرا ثورة عارمة، غاضبا كل الغضب، لا يكف عن مهاجمة ما يحدث لأعراض الناس وحياتهم وكرامتهم.
قال لأبيه: أليس من حق الثورة أن تحمي نفسها؟! - تحمي نفسها من ماذا؟! - من أعدائها. - أين هم؟ - هؤلاء الإقطاعيون. - ماذا يملكون؟ - المال. - ألم تأخذ الثورة أموالهم؟ - ولكنها وجدت عندهم غيره. - وإن كان هذا صحيحا ، فما الذي يستطيعون أن يصنعوه به؟ - يستطيعون أن يحاربوا الثورة بالمال. - ثورة يحميها جيش بأكمله يحاربها بضعة أفراد ببقايا مال تتوهم الثورة أنهم يملكونه. - أهي تتوهم؟! - لا شك، بعد قوانين الإصلاح الزراعي والمصادرات والتأميم والاستيلاء، أي ثروات يمكن أن تبقى؟ - بابا، أنا أعرف أنك قمة في العدل، ولست أنا فقط الذي يقول عنك هذا، بل كل من يعرفك. ثم إن الثورة لم تمس شيئا من أرضك ولا من أرض أمي. - أرضنا معا أقل من كل القوانين. - ولكني مع ذلك أخاف أن يكون كرهك للثورة سببه أنها جعلت الفلاحين أصحاب كرامة.
وأوشك عزام أن يغضب، ولكنه مال إلى بعض الهدوء وهو يرى ابنه يحاول أن يستنتج ويحاول أن يناقش: الفلاحون أصحاب كرامة طول حياتهم. وكانت صلتهم بأصحاب الأرض صلة مشاركة. والكرامة لا يعطيها أحد لأحد. الكرامة بذرة في النفس لا تزول عن صاحبها مهما ناله من ظلم. والبلاء الذي يقع اليوم يقع على الفلاحين؛ لأن كل المصريين فلاحون. ولم يكن بينهم أحد لا يعتبر فلاحا إلا الأسرة المالكة؛ لأنها أسرة غبية، لم تحاول أن تلتحم بالشعب، بل كونت لنفسها طبقة مستقلة، وأحاطت نفسها بسور من العظمة الكاذبة، وابتعدت عن الشعب، حتى اللغة العربية لغة الشعب لم تحاول أن تتعلمها. تعلمت لغات العالم أجمع ولم تحاول أن تتعلم لغة البلاد التي جعلت منها أسرة مالكة.
وفي فرحة غامرة صاح وجدان: الله! بابا، إذن فأنت لا تحب الملك. - وما الذي جعلك تظن أنني أحبه. - زملائي يقولون: إن آباءنا جيل ملكي يرفض الثورة. - بل إنني أكره الملك، وأعتقد أنه هو السبب الرئيسي فيما حل بنا. ولكني يا بني أكره الظلم. ليس لأنني قاض، ولكن لأنني إنسان. - أترى في الاستيلاء على بعض الأموال ظلما؟
وقال القاضي: الاستيلاء على مليم ليس لك ظلم. هكذا شرع الله، ومن شريعة الله جاء القانون، والقانون يطبق لينشر العدالة، وما لا يتفق مع العدالة ظلم. ويا ليت الأمر وقف عند الاستيلاء على الأموال، وإنما تعداه إلى الاعتداء على أعراض الناس . أتتصور أن ترى أمك عارية أمام شهود يهددك أحدهم بالاعتداء عليها؟
وانتفض وجدان قافزا صائحا: لا، لا، لا! - ألم تسمع أنهم يصنعون هذا؟ - إنه تشنيع. - يا ليت يا وجدان يا بني، يا ليت! ولكني أنا أعرف، فأعضاء النيابة في هذه الأماكن هم الذين يخبرونني. إنهم يعرفون كل ما يقع في البلاد، في الأرياف والسجون والمعتقلات. - لا يمكن، غير معقول، لا يمكن. - والاعتداء على الأرواح، والاعتداء على الكرامات، وبيد من؟ بيد الحكم الذي قال إنه وهب الكرامة للشعب المصري. - ولكن أننكر يا أبي أن اسم مصر أصبح على كل لسان؟ - قل لي يا وجدان أيهما المهم، الشهرة أم نوع الشهرة؟ - لا أفهم. - أقصد هل هو شيء عظيم أن تصبح لصا شهيرا وقاتلا شهيرا؟ - طبعا لا. - إذن المهم هو نوع الشهرة. إن تشتهر بالأمانة، بالحق، بالخلق. انظر إلى شهرتنا، قلنا لرئيس أمريكا إذا لم يعجبه البحر الأبيض يشرب من البحر الأحمر. وترجموه هناك بالإنجليزية: فليذهب رئيس أمريكا إلى الجحيم. ورئيس الدولة هو رمزها. والاعتداء عليه اعتداء على الدولة كلها. وهكذا هاجمنا أقوى دولة في العالم، وربما في التاريخ، ولم نترك زميلتها في القوة، فهاجمنا رئيس الاتحاد السوفيتي، وقلنا عن الشعب الإنجليزي تحكمه امرأة، وقلنا للشعب الألماني ينفلق، لن ندفع له دينه، وقلنا: إن موقف المدين أقوى من موقف الدائن. وفي الساحة العربية عيرنا الملك حسين باسم والدته. ولا أدري أي عيب أن يكون اسمها زين. واعتدينا على ملك بلاد الإسلام المقدسة الرجل الوقور الذي يحظى بالتقدير من كل العالم وتحدثنا عن ذقنه. وبهذا يا وجدان يا بني نلنا الشهرة. ولم نكتف بهذا، بل أقحمنا أنفسنا في حروب لا شأن لنا بها، ونحن شعب فقير، ولكننا مع ذلك أخذنا الأموال التي يجب أن تنفق على مرافقنا من كهرباء وماء وصرف وتليفونات، ننفقها في حرب اليمن والكونغو ومالي. وبهذا يا بني نلنا الشهرة. أتعجبك هذه الشهرة؟!
وأطرق وجدان لحظات في وجوم شديد، ثم قال: يا أبي، إنني من جيل نشأ في هذه الثورة. وهي أملي، وإن فقدت أملي فيها فقدت أملي في مصر. أنا أصغر من أن أناقشك، ولكنني ما زلت مقتنعا أن الثورة ورئيسها هما أملنا الوحيد. - وأنا يا بني لن أحاول أن أخيب أملك. ولكن أرجو أيضا ألا تخيب الثورة نفسها ثقتك فيها، فليس هناك أبشع من جيل بلا أمل.
وحين وقعت كارثة 67 قال وجدان لأبيه: اليوم يا بابا أصبحنا جيلا بلا أمل.
ونظر إلى أبيه فوجد الدموع تجري مدرارا على وجنتيه. - تبكي يا أبي. ألم تكن تتوقع؟! - فرق كبير يا وجدان يا بني بين توقع الكارثة ووقوعها.
अज्ञात पृष्ठ