ومرة أخرى بكى ، ونظر إلى أخيه محمد وهو يبكي، فبكى محمد هو الآخر، وتصاعدت من حناجرهما أصوات متحشرجة مختلطة بالدموع تعاتب بدري وتدعو عليه وتطلب من الله أن يظهر الحق ويجازي كل ظالم على ما يرتكبه .. أما بدري فقد وقف زائغ النظرات يصرخ فيهما، وينهر أخاه الأوسط ويعجب كيف يوجه له اتهاما كهذا .. القصد منه - لا شك - أن يحاكم ويفصل من وظيفته، وهو يعلم تمام العلم أن أخاه مجنون وأنه على حق .. أما فرحانة فكانت قد انسحبت من الحجرة، تاركة المشهد يحتله الإخوة الثلاثة ووراءهم يقف العسكري الرسمي صامتا، بليد الملامح، وكأنه لا يرى ولا يسمع ولا يفقه مما يدور أمامه حرفا.
وهكذا وجدت يدي تمتد، وتقطع الاستمارة، ووجدت نفسي أعود مرة أخرى لفحص قوى محمد العقلية، بنظرة محايدة جديدة، ولدهشتي وجدت إجاباته كلها معقولة، ولدهشتي الأشد لم أجد إجاباته تختلف كثيرا عن الإجابات التي بنيت عليها احتمال جنونه، نفس الجمل تقريبا، بنفس الألفاظ. كل الفرق أنني أسمعها بأذن محايدة .. إذ الظاهر أنه يكفي أن تفرض الجنون في إنسان حتى تجد في كل ما يقول أو يهمس به أدلة تثبت جنونه، ويكفي أن تفترض العقل في إنسان، حتى لو كان غير متمالك لقواه العقلية حتى تجد في كلماته وإجاباته ما يدعم إيمانك بأنه عاقل.
واتضح أن حكاية القراريط الثلاثة صحيحة، والتهديد صحيح، والضرب والتعذيب قام بهما الأخ الأكبر فعلا ليرغم أخاه على بيع الأرض له بعقد صوري!
ليس هذا فقط، بل بمكالمة تليفونية مع القسم، اتضح أن القسم لا علم له بالورقة المحولة إلي، وأنه هو الذي كتبها ووقعها .. واستصحب العسكري الذي كان لا يزال منتصبا في مكانه لا يفقه حرفا مما يدور.
وحين عدت إلى مسرح الأحداث في وسط الحجرة، كان الأخ الأوسط يحتضن الأصغر، وتتبادل عيونهما الدموع، وبدري الأكبر واقفا شاحب الوجه يدافع بآخر رمق عن نفسه، وكلما تكشف الموقف عن دليل جديد ضده كلما ازداد شحوبه ونبت على جلده العرق الصغير الأصفر.
وأمرت بفك القميص عن محمد وبدأت أتأمل الموقف بيني وبين نفسي لأعرف ماذا يجب أن أفعله إزاء بدري، وهل أحيله إلى النيابة، أم أكتب بلاغا لمأمور القسم ليتصرف معه .. واستقر رأيي على إبلاغ القسم. وبكل الحقد الذي بدأ يغلي في صدري على هذا الأخ المجرم، أمسكت بالسماعة أريد أن أملي بنفسي الإشارة التي ستكلفه وظيفته وأشرطته الحريرية الأربعة والقراريط التي ورثها وزوجته الحلوة التي بدأت تولول في الخارج وتعوي، وأكثر من هذا حريته؛ إذ بالتأكيد سيحكم عليه بالسجن، ولن يقل سجنه عن أعوام!
وهنا وجدت المارد الضخم ينهار، وهو الذي راح هذه المرة يبكي، وقد جفت دموع أخويه، ويستعطف ويتهاوى على الأرض، يريد أن يقبل قدمي، وكلما رأيت هذا كله، ازداد الحقد في صدري عليه .. ازداد إلى درجة رحت معها أهدهد على الأخوين بكلماتي وأذكر لهما أن أخاهما الآثم وقع في الحفرة وأنه لن يخرج منها.
وصاح الأخ الأوسط: ينصر دينك يا شيخ .. يحيا العدل!
وقال الأصغر بصوت واهن: مش قلتلك يا بيه؟!
وقال بدري في هلع: أنا في عرضك .. أنا صاحب عيال.
अज्ञात पृष्ठ