بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
عونك اللَّهُمَّ
الْحَمد لله أهل الْحَمد ومستحقه وَأشْهد أَن لَا إِلَه لَا الله وَحده لَا شريك لَهُ فِي إبداع خلقه وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله ﷺ وعَلى اله أَصْحَابه والشاهدين بصدقه مَا سح سَحَاب بوابله وودقه
أما بعد فَإِن علم الْعَرَبيَّة من أجل الْعُلُوم وَفَائِدَة وأفضلها عَائِدَة وَحِكْمَة وافرة جمة ومعرفته تُفْضِي إِلَى معرفَة الْعُلُوم المهمة والكتب الْمُؤَلّفَة فِيهِ تفوت الإحصاء عدا وَتخرج عَن الضَّبْط جدا وأنفعها أوسطها حجما وأكثرها علما
وَهَذَا مُخْتَصر أذكر فِيهِ من أصُول النَّحْو مَا تمس الْحَاجة إِلَيْهِ وَمن علل كل بَاب مَا يعرفك أَكثر فروعه الْمرتبَة عَلَيْهِ وَقد بذلت الوسع فِي إيجاز أَلْفَاظه وإيضاح مَعَانِيه وَصِحَّة أقسامه وإحكام مبانيه وَمن الله سُبْحَانَهُ أَسْتَمدّ الْإِعَانَة على تَحْقِيق مَا ضمنت وإياه أسأَل الْإِصَابَة فِيمَا أبنت
1 / 39
بَاب بَيَان النَّحْو وأصل وَضعه
اعْلَم أَن النَّحْو فِي الأَصْل مصدر (نحا ينحو) إِذا قصد وَيُقَال نحا لَهُ وأنحى لَهُ وَإِنَّمَا سمي الْعلم بكيفية كَلَام الْعَرَب فِي أعرابه وبنائه (نَحوا) لِأَن الْغَرَض بِهِ أَن يتحَرَّى الْإِنْسَان فِي كَلَامه إعرابا وَبِنَاء طَريقَة الْعَرَب فِي ذَلِك
فصل
وَحده عِنْدهم أَنه علم مستنبط بِالْقِيَاسِ والاستقراء من كَلَام الْعَرَب وَالْقِيَاس أَلا يثنى وَلَا يجمع لِأَنَّهُ مصدر وَلكنه ثني وَجمع لما تقل وَسمي بِهِ وَيجمع على (أنحاء وَنَحْو)
1 / 40
بَاب القَوْل فِي الْكَلَام
الْكَلَام عبارَة عَن الْجُمْلَة المفيدة فَائِدَة يسوغ السُّكُوت عَلَيْهَا عِنْد الْمُحَقِّقين لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه مُشْتَقّ من (الْكَلم) وَهُوَ الْجرْح وَالْجرْح مُؤثر فِي نفس الْمَجْرُوح فليزم أَن يكون الْكَلَام مؤثرا فِي نفس السَّامع
وَالثَّانِي أَن الْكَلَام يُؤَكد بِهِ (تَكَلَّمت) كَقَوْلِك تَكَلَّمت كلَاما والمصدر الْمُؤَكّد نَائِب عَن الْفِعْل وَالْفَاعِل وكما أَن الْفِعْل وَالْفَاعِل جملَة مفيدة كَذَلِك مَا يَنُوب عَنهُ الْكَلَام
1 / 41
الثَّالِث أَن الْكَلَام يَنُوب عَن التكليم والتكلم وَكِلَاهُمَا مشدد الْعين وَالتَّشْدِيد للتكثير وَأدنى درجاته أَن يدل على جملَة تَامَّة
فصل
وَإِنَّمَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ إِن الْكَلَام اسْم للمصدر وَلَيْسَ بمصدر حَقِيقَة لِأَن المصادر تبنى على الْأَفْعَال الْمَأْخُوذَة مِنْهَا وَالْأَفْعَال الْمَأْخُوذَة من هَذَا الأَصْل (كلمت) ومصدره التكليم و(تَكَلَّمت) ومصدره (التَّكَلُّم) و(كالمت) ومصدره (المكالمة) و(الْكَلَام) وَالْكَلَام لَيْسَ بِوَاحِد مِنْهَا إِلَّا أَنه يعْمل عمل الْمصدر كَمَا عمل (الْعَطاء) عمل (الْإِعْطَاء)
فصل
وَأما القَوْل فَيَقَع على الْمُفِيد لِأَن مَعْنَاهُ التحرك والتقلقل فَكل مَا يمذل بِهِ اللِّسَان ويتحرك يُسمى (قولا) وَهَذَا مَا يتركب من (ق ول) فِي جَمِيع تصاريفها وتقلب حروفها نَحْو القَوْل والقلو والتوقل وَغير ذَلِك
1 / 42
بَاب أَقسَام الْكَلم
إِنَّمَا علم كَون الْكَلم ثَلَاثًا فَقَط من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن الْكَلَام وضع للتعبير عَن الْمعَانِي والمعاني ثَلَاثَة معنى يخبر بِهِ وَمعنى يخبر عَنهُ وَمعنى يرْبط أَحدهمَا بِالْآخرِ فَكَانَت الْعبارَات عَنْهَا كَذَلِك
الثَّانِي أَنهم وجدوا هَذِه الْأَقْسَام تعبر عَن كل معنى يخْطر فِي النَّفس وَلَو كَانَ هُنَاكَ قسم آخر لم يُوقف عَلَيْهِ لَكَانَ لَهُ معنى لَا يُمكن التَّعْبِير عَنهُ
1 / 43
فصل
وَإِنَّمَا فرق بَين هَذِه الْعبارَات فِي التَّسْمِيَة لاخْتِلَاف الْمعبر عَنهُ
فصل
وَإِنَّمَا خص كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالِاسْمِ الَّذِي وضعوعه لَهُ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا ان المُرَاد الْفرق بَين الاسماء ليحصل الْعلم بالمسميات وَأي لفظ حصل بِهَذَا الْمَعْنى جَازَ
وَالثَّانِي أَنهم خصوا الْمخبر عَنهُ وَبِه بِالِاسْمِ لِأَنَّهُ أَي علا الْقسمَيْنِ الآخرين إِذْ كَانَ أَحدهمَا يخبر بِهِ فَقَط وَالْآخر لَا يخبر بِهِ وَلَا عَنهُ وَسموا مَا يخبر بِهِ فعلا لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من الْمصدر الَّذِي هُوَ فعل حَقِيقَة وَلم يسموه زَمَانا وَإِن دلّ على الزَّمَان لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَن دلَالَته على الْمصدر أقوى إِذْ دلَالَته على الزَّمَان تخْتَلف وَيصِح أَن تبطل دلَالَته عَلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَأما دللاته على الْمصدر فَلَا يَصح ذَلِك فِيهَا
وَالثَّانِي أَنه لَو سمي زَمَانا لم يدل على الْحَدث بِحَال وَإِنَّمَا سمي فعلا لِأَنَّهُ دلّ على الْحَدث لفظا وعَلى الزَّمَان من طَرِيق الْمُلَازمَة إِذْ يَسْتَحِيل فعل الْمَخْلُوق إِلَّا فِي زمَان وَلم يسم عملا لِأَن الْفِعْل من الْعَمَل وَكَانَ يَقع على كل حَرَكَة
1 / 44
وعزم وَلِهَذَا يَقُول من بنى حَائِطا قد عملت وَقد فعلت وَإِذا تكلم قَالَ قد فعلت وَلَا يُقَال عملت
وَسمي الْقسم الثَّالِث (حرفا) لِأَن حرف كل شَيْء طرفه والأدوات بِهَذِهِ الْمنزلَة لِأَن مَعَانِيهَا فِي غَيرهَا فَهِيَ طرف لما مَعْنَاهَا فِيهِ
فصل
وللاسم حد عِنْد الْمُحَقِّقين لِأَنَّهُ لفظ يَقع فِيهِ اشْتِرَاك وَالْقَصْد من الْحَد تَمْيِيز الْمَحْدُود عَمَّا يُشَارِكهُ
فصل
وَمن أقرب حد حد بِهِ أَنه كل لفظ دلّ على معنى مُفْرد فِي نَفسه وَقَالَ قوم هُوَ كل لفظ دلّ على معنى فِي نَفسه غير مقترن بِزَمَان مُحَصل دلَالَة الْوَضع
1 / 45
فصل
واشتقاقه عِنْد الْبَصرِيين من (سما يسمو) إِذا علا فالمحذوف مِنْهُ (لامه) لِأَن الْمَحْذُوف يرجع إِلَى مَوضِع اللَّام فِي جَمِيع تصاريفه نَحْو سميت وأسميت وسمى وَسمي وَأَسْمَاء وأسام وَلِأَن الْهمزَة فِيهِ عوض من الْمَحْذُوف وَقد ألف من عاداتهم أَن يعوضوا فِي غير مَوضِع الْحَذف
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ هُوَ من السمة فالمحذوف (فاؤه) وَهُوَ خطأ فِي الِاشْتِقَاق وَفِيه الْخلاف وَهُوَ صَحِيح فِي الْمَعْنى
فصل
وَإِنَّمَا سمي هَذَا اللَّفْظ (اسْما) من معنى الْعُلُوّ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه سما على صَاحِبيهِ فِي الْإِخْبَار كَمَا تقدم وَالثَّانِي أَنه يُنَوّه بِالْمُسَمّى لِأَن الشَّيْء قبل التَّسْمِيَة خَفِي عَن الذِّهْن فَهُوَ كالشيء المنخفض فَإِذا سمي ارْتَفع للأذهان كارتفاع المبصر للعين
فصل
وَالْألف وَاللَّام من خَصَائِص الْأَسْمَاء لِأَنَّهُمَا وضعا للتعريف والتخصيص بعد الشياع وَلَا يَصح هَذَا الْمَعْنى فِي الْفِعْل والحرف أَلا ترى أَن قَوْلك (ضرب
1 / 46
يضْرب) يقعان على كل نوع من أَنْوَاع الضَّرْب وَلَا يَصح تخصيصهما بضربة وَاحِدَة كَمَا يكون ذَلِك قَوْلك (الرجل) فَإِنَّهُ يصير بهما وَاحِدًا بِعَيْنِه
فصل
وحروف الْجَرّ تخْتَص بالأسماء لَان الْغَرَض مِنْهَا إِيصَال الْفِعْل الْقَاصِر عَن الْوُصُول إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ وَالْفِعْل لَا يقتضى إِلَّا الِاسْم فَصَارَ الْحَرْف وصلَة بَين الْفِعْل وَمَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ
فصل
وتنوين الصّرْف والتنوين الْفَارِق بَين الْمعرفَة والنكرة نَحْو (صه) من خَصَائِص الْأَسْمَاء لِأَن مَا دخلا لَهُ يخْتَص بالأسماء وَهُوَ الصّرْف وتمييز الْمعرفَة من النكرَة
فصل
وَمن خَصَائِص الِاسْم كَونه فَاعِلا أَو مَفْعُولا أَو مُضَافا أَو مثنى أَو مجموعا أَو مُصَغرًا أومنادى وَسَنذكر عِلّة تَخْصِيص الِاسْم بِكُل وَاحِد من ذَلِك فِي بَابه إِن شَاءَ الله
1 / 47
فصل
وحد الْفِعْل مَا اسند إِلَى غَيره وَلم يسند غَيره إِلَيْهِ وَذكر الْإِسْنَاد هَهُنَا أولى من الْإِخْبَار لَان الْإِسْنَاد أَعم إِذْ كَانَ يَقع على الِاسْتِفْهَام وَالْأَمر غَيرهمَا وَلَيْسَ الْإِخْبَار كَذَلِك بل هُوَ مَخْصُوص بِمَا صَحَّ أَن يُقَابل بالتصديق والتكذيب فَكل إِخْبَار إِسْنَاد وَلَيْسَ كل إِسْنَاد إِخْبَارًا
وَلَا ينْتَقض هَذَا الْحَد بقَوْلهمْ (تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ) لِأَن (خيرا) هُنَا لَيْسَ بِخَبَر عَن (تسمع) بل عَن الْمصدر الَّذِي هُوَ (سماعك) وَتَقْدِيره (أَن تسمع) وَحذف (أَن) وَهِي مُرَاد جَائِز كَمَا قَالَ ١ -
(أَلا ايهذا الزاجرى أحضر الوغى ...) أَي عَن أَن أحضر وَدلّ على حذفه قَوْله وَأَن أشهد اللَّذَّات وَقيل حَده مَا دلّ على معنى فِي نَفسه مقترن بِزَمَان مُحَصل دلَالَة الْوَضع
1 / 48
فصل
وَإِنَّمَا اخْتصّت (قد) بِالْفِعْلِ لِأَنَّهَا وضعت لِمَعْنى لَا يَصح إِلَّا فِيهِ وَهُوَ تقريب الْمَاضِي من الْحَال وتقليل الْمُسْتَقْبل كَقَوْلِك قد قَامَ زيد أَي عَن قريب وَزيد قد يُعْطي أَي يقل ذَلِك مِنْهُ فَأَما قَوْله تَعَالَى ﴿قد نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ﴾ فَمَعْنَاه قد علمنَا
فصل
وَإِنَّمَا اخْتصّت (السِّين) بِالْفِعْلِ لِأَن مَعْنَاهَا جَوَاب (لن يفعل) وَكَذَلِكَ (سَوف) إِلَّا أَن (سَوف) تدل على بعد الْمُسْتَقْبل من الْحَال و(السِّين) أقرب إِلَى ذَلِك مِنْهَا وَلما كَانَت (لن) لَا معنى إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبل كَانَ جوابها كَذَلِك
فصل
إِنَّمَا دلّت تَاء التَّأْنِيث الساكنة على الْفِعْل لِأَن الْغَرَض مِنْهَا الدّلَالَة على تَأْنِيث الْفَاعِل فَقَط لَا الدّلَالَة على تَأْنِيث الْفِعْل إِذْ الْفِعْل لَا يؤنث وَلَا تَجِد تَاء تَأْنِيث
1 / 49
متحركة مُتَّصِلَة بآخر الْفِعْل وَإِنَّمَا ذَلِك فِي الْأَسْمَاء مثل (قَائِمَة) والحروف مثل (ربت) و(ثمت)
فصل
وَإِنَّمَا دلّ اتِّصَال الضَّمِير الْمَرْفُوع الْموضع بِالْكَلِمَةِ على أَنَّهَا فعل لِأَن الضَّمِير الْمُتَّصِل الْمَرْفُوع لَا يكون إِلَّا فَاعِلا وَالْفَاعِل لَا يتَّصل بِغَيْر الْفِعْل
فصل
وحدٌ الْحَرْف مَا دلّ على معنى فِي غَيره فَقَط وَلَفظ (دلّ) أوْلى من قَوْلك (جَاءَ) لِأَن الْحُدُود الْحَقِيقِيَّة دَالَّة على ذَات الْمَحْدُود بهَا وَقَوْلنَا (مَا جَاءَ لِمَعْنى) بَيَان الْعلَّة الَّتِى لأَجلهَا جَاءَ وَعلة الشَّيْء غيرُه وَلَا ينْتَقض ب (أَيْن) و(كَيفَ) لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنَّهُمَا - مَعَ دلالتهما على معنى فِي غَيرهمَا - دالان على معنى فِي أَنفسهمَا وَهُوَ الْمَكَان وَالْحَال وَقد حصل الِاحْتِرَاز عَن ذَلِك بقولنَا فَقَط
وَالثَّانِي أَن دلالتهما على معنى فِي غَيرهمَا من جِهَة تضمنها معنى الْحَرْف وَذَلِكَ عَارض فيهمَا
1 / 50
فصل
وَمن عَلَامَات الْحَرْف امتناعُه من دُخُول عَلَامَات صَاحِبيهِ لِأَن مَعَانِيهَا لَا تصُح فِيهِ
فصل
وَمن علاماته أَنه لاينعقد مِنْهُ وَمن الِاسْم وَحده وَلَا من الْفِعْل وَحده فَائِدَة وَهُوَ معنى قَوْلهم الْحَرْف مَا لم يكن أحد جزئي الْجُمْلَة فَأَما حُصُول الْفَائِدَة بِهِ وبالاسم فِي النداء فلنيابته عَن الْفِعْل وَلذَلِك دَلَائِل تذكر فِي بَاب النداء إِن شَاءَ الله
1 / 51
بَاب الْإِعْرَاب وَالْبناء
الْإِعْرَاب عِنْد النَّحْوِيين هُوَ اخْتِلَاف آخر الْكَلِمَة لاخْتِلَاف الْعَامِل فِيهَا لفظا أَو تَقْديرا وَيدخل فِي هَذَا إِعْرَاب الِاسْم الصَّحِيح والمعتل فالمقصور يقدر على أَلفه الْإِعْرَاب كاللفظ وَلَيْسَ كَذَلِك آخر الْمَبْنِيّ فَإِن آخِره إِذا كَانَ ألفا لَا تقدر عَلَيْهِ حَرَكَة إِلَّا أَن يكون مِمَّا يسْتَحق الْبناء على الْحَرَكَة
فصل
وَفِي أَصله الَّذِي نقل مِنْهُ أَرْبَعَة أوجه أَحدهَا أَنه من قَوْلهم أعرب الرجل إِذا أبان عَمَّا قي نَفسه والحركات فِي الْكَلَام كَذَلِك لِأَنَّهَا تبين الْفَاعِل من الْمَفْعُول وتفرق بَين الْمعَانِي كَمَا فِي قَوْلهم ماأحسن
1 / 52
زيدا فَإِنَّهُ إِذا عري عَن الحركات احْتمل النَّفْي والاستفهام والتعجُب وَكَذَلِكَ قَوْلك ضرب زيدٌ عمرا لَو عرَيته من الْإِعْرَاب لم تعرف الْفَاعِل من الْمَفْعُول وَالثَّانِي أَنه من قَوْلك أعرب الرجل إِذا تكلم بالعربيَة كَقَوْلِهِم أعرب الرجل إِذا كَانَ لَهُ خيل عراب فالمتكلَم بِالرَّفْع وَالنّصب والجرَ متكلّم كَلَام الْعَرَب وَلَيْسَ الْبناء كَذَلِك لأنَّه لَا يخصَّ الْعَرَب دون غَيرهم وَالثَّالِث أنَّه من قَوْلهم أعْرَبْتُ مَعِدةَ الفصيل إِذا عربت أيْ فَسدتْ من شرب اللَّبن فأصْلحتها وازلت فَسَادهَا فالهمزةُ فِيهِ همزَة السَّلب كَقَوْلِك عتب عليَّ فأعتبته وشكا فأشكيته وَالرَّابِع أنُّه مَأْخُوذ من قَوْلهم امْرَأَة عروب أَي متحبّبة إِلَى زَوجهَا بتحسُّنها فالإعراب يجبّب الْكَلَام إِلَى المستمع
فصل
وَالْإِعْرَاب معنى لَا لفظ لأربعة أوجه
1 / 53
أحدُها أنَّ الْإِعْرَاب هُوَ الِاخْتِلَاف على مَا سبق فِي حدّه وَالِاخْتِلَاف معنى لالفظ والثانى أنَّه فاصل بَين الْمعَانِي والفصل والتمييز معنى لالفظ وَالثَّالِث أنَّ الحركات تُضَاف إِلَى الْإِعْرَاب فَيُقَال حركات الْإِعْرَاب وضمَّه إِعْرَاب وَالشَّيْء لَا يُضَاف إِلَى نَفسه وَالرَّابِع أنَّ الْحَرَكَة والحرف يكونَانِ فِي المبنيّ وَقد تَزُول حَرَكَة المعرب بِالْوَقْفِ مَعَ الحكم بإعرابه وَقد يكون السّكُون إعرابًا وَهَذَا كلّه دَلِيل على أنَّ الْإِعْرَاب معنى
فصل
وَالْأَصْل فِي عَلَامَات الْإِعْرَاب الحركات دون الْحُرُوف لثَلَاثَة أوجه أحدُها أنَّ الْإِعْرَاب دالٌّ على معنى عَارض فِي الْكَلِمَة فَكَانَت علامته حَرَكَة عارضة فِي الْكَلِمَة لما بَينهمَا من التناسب والثانى أنَّ الْحَرَكَة أيسر من الْحَرْف وَهِي كَافِيَة فِي الدّلَالَة على الْإِعْرَاب وَإِذا حصل الْغَرَض بالأخصر لم يصر إِلَى غَيره وَالثَّالِث أنَّ الْحَرْف من جملَة الصِّيغَة الداَّلة على معنى الْكَلِمَة اللَّازِم لَهَا فَلَو جعل
1 / 54
الْحَرْف دَلِيلا على الْإِعْرَاب لادَّى ذَلِك إِلَى أَن يدلَّ الشَّيْء الْوَاحِد على معنيَيْن وَفِي ذَلِك اشْتِرَاك وَالْأَصْل أنْ يُخصَّ كلُّ معنى بِدَلِيل
فصل
فأمَّا الْإِعْرَاب بالحروف فلتعذُّر الْإِعْرَاب بالحركة وسترى ذَلِك فِي موَاضعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل
وإنَّما كَانَت ألقاب الْإِعْرَاب أَرْبَعَة ضَرُورَة إِذْ لَا خَامِس لَهَا وَذَلِكَ أنَّ الْأَعْرَاض إمَّا حَرَكَة وإمَّا سُكُون والسكون نوع وَاحِد والحركات ثَلَاث فَمن هُنَا انقسمت إِلَى هَذِه العدَّة
فصل
وَالْإِعْرَاب دخل الْأَسْمَاء لمسيس الْحَاجة إِلَى الْفَصْل بَين الْمعَانِي على مَا سبق وَقَالَ قُطْرُب دخل الْكَلَام اسْتِحْسَانًا لأنَّ المتكلَّم يصل بعض كَلَامه بِبَعْض وَفِي
1 / 55
تسكين أَوَاخِر الْكَلم فِي الْوَصْل كُلْفة فحرَّك تسهيلا على الْمُتَكَلّم وَلَو المكتلّم لَو كَانَ الْإِعْرَاب لحَاجَة الْفَصْل وللفرق لَا ستغني عَنهُ بِتَقْدِيم الْفَاعِل على الْمَفْعُول ولكان الاَّتفاق فِي الْإِعْرَاب يُوجب الأتفاق فِي الْمعَانِي وَلَيْسَ كَذَلِك أَلا ترى أنَّ قَوْلك زيد قَائِم مثل قَوْلك هَل زيدٌ قَائِم وقولك إنَّ زيدا قَائِم مثل قَوْلك زيد قَائِم فِي الْمَعْنى وَالْجَوَاب عَّما قَالَه من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن السّكُون أسهل على المتكلَّم من الْحَرَكَة والثانى أنَّ الْغَرَض لَو كَانَ مَا ذكر لَكَانَ المتكلَّم بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ حرَّك بِأَيّ حَرَكَة شَاءَ وأنَّ شَاءَ سكَّن وَأما التَّقْدِيم فَجَوَابه من وَجْهَيْن أَحدهمَا أنَّه لَا يُمكن فِي كلَّ مَكَان أَلا ترى أنَّ التَّقْدِيم فِي قَوْلك ماأحسن زيدا غيرُ مُمكن والثانى أنَّ فِي لُزُوم التَّقْدِيم تضييقًا على المتكلَّم مَعَ حَاجته إِلَى التسجيع وَإِقَامَة القافية
1 / 56
وأمَّا اخْتِلَاف الْإِعْرَاب مَعَ اتَّفاق الْمَعْنى وَعَكسه فشيء عَارض جَازَ لضرب من التَّشْبِيه بالأصول فَلَا يُنَاقض بِهِ
فصل
وَاخْتلفُوا هَل الْإِعْرَاب سَابق على الْبناء أم الْعَكْس فالمحقَّقون على أنَّ الْإِعْرَاب سَابق لأنَّ وَاضع اللُّغَة حَكِيم يعلم أنَّ الْكَلَام عِنْد التَّرْكِيب لَا بدّ أَن يعرض فِيهِ لَبْس فحكمته تَقْتَضِي أَن يضع الْإِعْرَاب مُقَارنًا للْكَلَام
وَقَالَ الْآخرُونَ تكلَّمت الْعَرَب بالْكلَام عَارِيا من الْإِعْرَاب فلمَّا عرض لَهُم اللبْس أزالوه بالإعراب وَهَذَا لَا يَلِيق بحكمتهم
فصل
وَاخْتلفُوا فِي حركات الْإِعْرَاب هَل هِيَ أصلٌ لحركات الْبناء أم بِالْعَكْسِ أم كلُّ وَاحِد مِنْهُمَا فِي مَوْضِعه أصل فَذهب قوم إِلَى الأوَّل وعلته أَن حركات الْإِعْرَاب دوالٌّ على معَان حَادِثَة بعلَّة بِخِلَاف حركات الْبناء وَمَا ثَبت بعلَّة أصل لغيره
1 / 57
وَذهب قوم إِلَى الثَّانِي وعلَّته أَن حَرَكَة الْبناء لَازِمَة وحركة الْإِعْرَاب منتقلة وَاللَّازِم أصلٌ للمتزلزل إذْ كَانَ أقوى مِنْهُ وَهَذَا ضَعِيف لِأَن نقل حركات الْإِعْرَاب كَانَ لِمَعْنى وَلُزُوم حَرَكَة الْبناء لغيره معنى
وَذهب قوم إِلَى الثَّالِث لأنَّ الْعَرَب تكلًّمت بالإعراب وَالْبناء فِي أول وضع الْكَلَام وكلّ وَاحِد مِنْهُمَا لَهُ علَّة غير علَّة الآخر فَلَا معنى لبِنَاء أَحدهمَا على الآخر
فصل
وإنَّما كَانَ مَوضِع حَرَكَة الْإِعْرَاب آخر الْكَلِمَة لثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أنَّ الْإِعْرَاب جِيءَ بِهِ لِمَعْنى طَارِئ على الْكَلِمَة بعد تَمام مَعْنَاهَا وَهُوَ الفاعلية والمفعوليَّة فَكَانَ مَوضِع الدالّ عَلَيْهِ بعد اسْتِيفَاء الصِّيغَة الداَّلة على الْمَعْنى اللَّازِم لَهَا وَلَيْسَ كَذَلِك لَام التَّعْرِيف وَألف التكسير وياء التصغير لأنَّ التَّعْرِيف والتكسير والتصغير كالأوصاف اللَّازِمَة للكلمة بِخِلَاف مَدْلُول الْإِعْرَاب
1 / 58