وكان عباس في أول الجمع التي سمع فيها أباه يتدفق بالمديح له، وكان مؤمنا بما يقول فرحا به، ثم أصبح يتدفق بالمديح منافقا في بعضه صادقا في بعض منه آخر، ثم صار يتدفق به نفاقا جميعا، ثم ضاق بالتدفق فصار يقصر مديحه على كلمتين أو ثلاث أصبحت واحدة، ثم صار يدغمها فلا يسمعها أبوه وإنما يستنتجها. ولم تخف على الأب هذه التطورات التي مر بها مديح ابنه لخطبته، لكنه مع ذلك لم يعف ابنه من السؤال، أو يعف أذنه من تلمس هذه الكلمة المبهمة التي تنفرج عنها شفتا ابنه دون أسنانه.
أما رضوان أفندي فقد كان في كل جمعة يمدح عديله بنفس الهمة التي سمعه بها عباس أول ما سمعه، لم يفتر يوما، ولم ينقص كيل مديحة شيئا، هو هو منذ وعى عباس الصلاة. وقد كان عباس يعجب، كيف؟ والخطبة واحدة من عشر أو واحدة من عشرين لم يزد عليها شيئا منذ سمعها في الجمعات الأولى حتى هذه الجمعة التي يشرف على بواكيرها.
استيقظ عباس في الفجر مرغما على ذلك إرغاما، ووجد نفسه يذهب ليتوضأ، وأحس كأنه آلة، ثم وجد نفسه واقفا في الصف خلف أبيه. وبدأت مراسم الصلاة، ومرة أخرى أحس أنه يتحرك حركات آلية. قرأ القرآن فوجده في فمه ولم يحس به في قلبه. وكان يطرق بعينيه إلى الأرض، ولكنه لم يكن يحس الخشوع. وانتهت الصلاة، وعاد إلى حجرته، وراح يصلح الراديو الذي أحضره إليه صديقه شعبان. كان يفك المسامير ويربطها ممسكا في يده بالمفك، وأحس أن الصلة بينه وبين المسامير وبين قطع الراديو التي يصلحها قوية؛ فهو فرح أنه يلف المفك في يده فيربط المسمار، ويمسك السلكين ويلف أحدهما بالآخر فيرتبطان، وأنه يفتح زرا فيوقد مصباحا. أحس وهو يقوم بهذه العمليات جميعا أنه فرحان يستطيع أن يسيطر على هذه الآلة التي يصلحها، وأن يفعل بها ما يشاء. وأحس في الوقت ذاته أنه في بعض الأحيان يكون مثل هذه الآلة التي بين يديه، غير أنه أحس أيضا أن اليد التي تتولى الفك فيه والتركيب، لا تصلحه، وإن كانت تظن أنها تصلحه. داخله شعور أن هذه اليد تزيد نفسه تخريبا وهدما وتدميرا.
وحاول أن ينفض عن نفسه هذا الشعور ولكنه لم يستطع. وجاء نداء أبيه من البهو فوجد نفسه يقول في سرعة: حاضر.
ثم وجد نفسه يقوم إلى أبيه. وكانت مائدة الفطار معدة فجلس إليها. وانتهى الطعام فقال أبوه وهو يفتح الباب الخارجي: لا تتأخر. - حاضر.
ونزل أبوه وعاد هو إلى حجرته، ووضع ملابسه ومكث ينتظر صديقه شعبان، وما لبث الصديق أن جاء، ونزلا معا وراحا يضربان في الطرقات الضيقة حتى بلغا حارة البابلي، وهناك رأى الصديقان أطفالا يقفون أمام قراجوز وقد فغرت أفواههم لا ينطقون إلا بالضحك، وشخوص القراجوز منهمكة في تمثيلها. ووقف عباس وشعبان، وحاول شعبان أن يسخر من هذا الذي يسر الأطفال، ولكن عباس لم يستجب لسخرية صديقه، بل ظل واجما. لقد أحس أنه مثل هذه الدمى التي تتحرك، ووجد نفسه دون أن يفكر يحرك يديه في حركات كثيرة متباينة، يريد الوثوق أن الخيوط التي تحرك الدمى لا تمسك خيوط مثلها بأذرعه ويديه، ولكن حركاته لم تستطع أن تقنعه أنه حر.
وحاول أن ينفي عن ذهنه هذه الخواطر فخذله تفكيره، والتفت إلى شعبان فجأة وقال له: سلام عليكم.
والتفت عنه وسار، وقال شعبان في دهشة: ماذا؟
ولم يجب عباس، وعاد شعبان يقول في صوت مرتفع: أين ستصلي الجمعة؟
وقال وهو سائر دون أن يقف: لن أصلي.
अज्ञात पृष्ठ