Lessons from the Migration - Attia Salem
دروس الهجرة - عطية سالم
शैलियों
الهجرة النبوية [١]
1 / 1
مقدمة في فضل النبي ﷺ والصحابة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين وبعد: فإن أنسب ما يتناوله المتحدث ويناوله الناس في هذه الآونة، بل وفي هذا الوقت، مواضيع تتعلق بأحداث الساعة، وقد تحدثت بها الإذاعات والصحف ومجالس الناس، وأحاديث عن حدث الهجرة، وما فيها من مواعظ ودروس وعبر، وحيث أن الكل له أهميته، ويرغب البعض الآن أن يكون الحديث عن الهجرة النبوية، فتحقيقًا لهذه الرغبة نقدم ما يسر الله في أمر الهجرة.
1 / 2
أهمية الحديث عن الهجرة النبوية
لنعلم جميعًا أن الحديث عن الهجرة والحديث عن أي حدث من أحداث الرسول ﷺ، إنما هو جزء من سيرته العطرة، والسيرة النبوية بصفة عامة تعتبر التطبيق العملي لتعاليم الإسلام بكاملها؛ لأن الرسول ﷺ هو المطبق والمنفذ لما أوحي إليه من ربه، والله سبحانه جعله ﷺ أسوة للأمة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:٢١] وذلك لأنه صلوات الله وسلامه عليه من البشر، وتجري عليه أحكام البشر، ويطبق عمليًا ما يمكن للبشر أن يطبق.
والهجرة عند الدارس المتأمل تعتبر همزة الوصل التي تصل بين شقي الزمن: شق الماضي وشق المستقبل، والماضي نوعان: ماض بعيد في عهد النبوات والمرسلين، وماض قريب ابتداءً من بعثة النبي ﷺ.
وكانت الهجرة نقلة انتقلت الدعوة من مهدها الأول بعد ثلاث عشرة سنة، وجاءت إلى المدينة لعشر سنوات فقط وبها تمت الرسالة.
أما ما قبل البعثة فقد أشار النبي ﷺ بأن الله نظر إلى العالم فمقتهم؛ لما كانوا عليه من عبادة الأصنام ومن جاهلية جهلاء، وصفها جعفر الطيار رضي الله تعالى عنه عند النجاشي رضي الله تعالى عنه حينما خرج مهاجرون من المسلمين إلى الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة وذلك بتوجيه من النبي ﷺ على ما تأتي الإشارة إليه، فأرسلت قريش -لتنتقم من المسلمين- أرسلت إلى النجاشي تستعيد وتسترد أولئك المهاجرين الأولين، وقالوا: إن طلبتنا وثأرنا بالحبشة.
ويهمنا في كلمات جعفر عند النجاشي: كنا في جاهلية جهلاء: يأكل قوينا ضعيفنا، نأتي المحرمات، نقطع الأرحام، نغدر بالعهود -أشياء كثيرة ذكرها في جاهليتهم- فبعث الله فينا رجلًا منا نعرف نشأته ونسبه وولادته، فأمرنا بعبادة الله وحده، وأمرنا بالصدق، ونهانا عن الكذب، وأمرنا بصلة الأرحام، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن كل منكر وعدد محاسن الأخلاق.
1 / 3
إرادة الله الخير للناس ببعثة محمد ﷺ
كانت الحياة في مكة على ما وصف جعفر، ولما أراد الله ﷾ الخير لبني آدم أو للإنسانية جمعاء بعث النبي ﷺ.
وبعثة المصطفى ﷺ تاريخها طويل، وذلك أن الله سبحانه بعلمه وقدرته وإرادته ورحمته رسم ذلك من قبل أن يوجد المصطفى ﷺ، بل وقبل أن توجد هذه الأمة، وأخذ العهد على جميع الأنبياء أنه إذا جاءهم ليؤمنن به ولينصرنه، وجاء عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وأعلن البشارة بمجيئه صلوات الله وسلامه عليه لقوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف:٦] فسماه باسمه.
بل إن المولى سبحانه يسجل لرسول الله حق الرسالة، ويسجل لأصحابه الذين معه صفاتهم ومثلهم في الأمم الماضية قبل مجيئهم، وذلك في أواخر سورة الفتح في أمر الحديبية من أول السياق: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي﴾ [الفتح:٢٧ - ٢٨] (هو) ضمير الشأن راجع إلى المولى سبحانه: ﴿أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [الفتح:٢٨] و(الدين) اسم جنس أي: على الأديان كلها: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح:٢٨].
لاحظوا يا إخوان هذا السياق: جاء في سورة الصف: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف:٩] وفي سورة الفتح: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح:٢٨] وفي سورة التوبة: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:٣٣] وتذييل القرآن الكريم على السياق الواحد بتذييلين متغايرين يدل على مغايرة الموقف؛ لأن الموقف في سورة الفتح تكريم لرسول الله ولأصحابه معه؛ لأنه بعد السياق: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح:٢٨] أي: على هذا الوعد: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ [الفتح:٢٧ - ٢٨] يعني: هو الذي يتولى أمره، ولم يكله إليكم، أي: ما دام هو الذي أرسله سيتولى تمديد وإبلاغ تلك الرسالة بتأييد من عنده.
وكفى بالله شهيدًا على إتمام ذلك وإنفاذه، ثم تأتي شهادة من عند الله بالجملة الاسمية: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ [الفتح:٢٩] وهذا ردٌ على ما جاء به سهيل بن عمرو حين جاء يفاوض وكتبوا الاتفاقية، وقال النبي ﷺ: (اكتب يا علي: هذا ما صالح أو عاهد عليه محمد رسول الله) قال: لا تكتب! لو كنت أعلم أنك رسول الله ما صددتك عن البيت، اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، اكتب اسمك واسم أبيك، فكأن المولى تعالى يقول: إذا هم لم يشهدوا أنك رسول الله، فإن الله يشهد أنك: (محمد رسول الله) ولو أبى أولئك الناس.
1 / 4
صفات النبي ﷺ وأصحابه في القرآن
إن الله ذكره باسمه فقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ [الفتح:٢٩] فالرسالة اصطفاء واختيار، والله قد اصطفاه من قبل أن يولد ويولد آباؤه، وبشر به عيسى بني إسرائيل من قبل، ولكن الذين معه أفراد في الأمة، ليسوا رسلًا ولا أنبياء، ولكن القرآن يأتي بذكرهم في معرض التكريم، وبيان عظيم الشأن ورفعة المكانة: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح:٢٩].
(محمد رسول الله) إخبار من الله بصحة رسالة محمد ﷺ، ثم يتناول من معه، بعض العلماء يقول: تلك المعية (معه) أي: في الحديبية، أو معه في عصره من عموم الصحابة، أو معه على الإسلام أي: أن المعية هنا إما عامة أو خاصة أو أخص.
عامة: في كل مسلم مع رسول الله على الإسلام، خاصة: في الصحابة الذين في عصره، أخص من ذلك كله: الذين شهدوا الحديبية؛ وكل ذلك محتمل.
يهمنا (والذين معه) ما شأنهم؟ هذه الطبقة التي اختارها الله لتكون مع رسوله، كما جاء في بعض الآثار في كنز العمال أو في غيره: إن الله اصطفى رسوله واصطفى معه أصحابه.
﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح:٢٩] الشدة والرحمة متغايران ومتنافيان، فحيثما وجدت الشدة فلا رحمة، وحيثما وجدت الرحمة فلا شدة، ولكن يقول علماء البحث والمناظرة: إذا اختلفت الجهة -انفكت الجهة- وتغاير المتعلق فلا مانع، والشدة والرحمة ليستا متوجهتين على متعلق واحد، وإنما على متعلقين متغايرين (أشداء) على الكفار، (رحماء) على المؤمنين، (رحماء بينهم).
إذًا: هم لهم جانبان، والجانبان لهما متعلقان: جانبٌ خارجي: علاقتهم بالكفار الشدة: ﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة:١٢٣].
وجانب داخلي: علاقته فيما بينهم رحماء، وفي الحديث: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) فيجمع أصحاب رسول الله ﷺ هذين الوصفين بهذين الاعتبارين المتغايرين، ولذا قال في الموطن الثاني: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة:٥٤]، فهم على الكافرين أعزة بقوة لا يلينون معهم، ولا يخضعون إليهم، ولكن فيما بينهم أذلة، وليس معنى الذل الهوان! بل كما قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء:٢٤] لأن الرحمة والرأفة تعتبر مدحًا في حق الشخص، وبعض الناس ربما يعتبر لين بعض الأشخاص ضعفًا؛ لأن الرحمة إذا كانت عن قوة تكون مدحًا، أما إذا كانت عن خوف ربما لو تنازل عن حقه يكون غصبًا عنه.
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة:٥٤] كأنه يتلطف مع المؤمن ويعامله في صورة المتذلل له، وذلك مبالغة في إكرامه والتلطف به، ثم يصفهم بوصفهم: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ [الفتح:٢٩] ما قال: راكعين ساجدين، باسم الفاعل، قال: (رُكّعًا) (سُجّدًا) على وزن (فُعّلْ) وهي من صيغ المبالغة، كأنه يصفهم بإقام الصلاة المفروضة وزيادة، يصلون النوافل مع الفرائض: ﴿رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ [الفتح:٢٩].
وبين حقيقة مقصدهم وشهد الله لهم بأنهم صادقون في ركوعهم وسجودهم: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح:٢٩] وينبه العلماء هنا في قوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح:٢٩] على أنه ما قال: يبتغون أجرًا من الله؛ لأن الذي يبتغي الأجر يعتد ويحتسب بعمله، يقول: أنا عملت لك عملًا فأعطني أجرة؛ لكن عندما يأتي ويقول: أعطني من فضلك، هل يعتد لنفسه عندك بعمل أم يعتبرك متفضلًا عليه بما تعطيه؟! إنما يطلبك من واسع فضلك وإحسانك، وهكذا المؤمن يقدم الطاعة والعبادة لله، ويبتغي فضل الله لا يحتسب بعمل يعده على الله يطالبه بمقتضاه، فانظر الدقة واللطافة في أسلوب القرآن الكريم! ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح:٢٩] يعني: يعملون لمرضات الله، وإن كان كل إنسان يرغب في الأجر، ولكن فرق بين أن تقول: أعطني أجري وقد ركعت وسجدت، وبين أن تقول: أنا أديت الواجب الذي فرضته عليّ وأنا أسألك من فضلك.
وهناك شفافية! وإعجاز في كتاب الله: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح:٢٩] السيماء: العلامة، والسيماء من الوسم، والوسم عند العرب: هو الوسم الذي يميز إبل القبيلة عن إبل قبيلة أخرى، وكذلك الاسم للإنسان وللبلد وللكتاب ولغيره علامة تميزه عن غيره، (علي ومحمد وحسن وحسين) هذه أسماء تميز هذا عن هذا، وإلا فالكل إنسان بعينين وفم سواء، فالأسماء هي التي تميز الأشخاص، والكل من السمو والارتفاع، بل اسمك شيء سما وعلا، أي: علا صاحبه، مثلما تأتي بلوحة وتعلقها على المحل، فإنها تميز هذا المحل عن ذاك المحل، وأنت علقتها فوق ما رميتها في الأرض.
سيماهم يعني: علاماتهم، وهل المراد: بالسيماء في وجوههم كما يظن بعض الجهلة أنه كلحة أو شيء في الجبين مثل الكلع، كما يقولون: تكلع البعير؟ لا، إنما هي بشاشة، ونور، وحلاوة، وارتياح، كما قال بعض العلماء: الولي لله من إذا رأيته ذكرك بالله، لأنك: تجد على وجهه سماحة وارتياحًا، وكما جاء: (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار)، فالسيما إنما هي سماحةٌ وطلاقة ونور في الوجه يعلوه لما كان منهم من كثرة الركوع والسجود.
﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح:٢٩] التوراة أنزلت على نبي الله موسى، وهو نبي بني إسرائيل، فأصحاب محمد ﷺ الذين معه مثلهم في التوراة ينزل وحيًا على موسى فيكتبه الله في الألواح، ويقرؤه بنو إسرائيل؛ بأن أصحاب محمد الذين سيكونون معه هذه صفاتهم، فأي منزلة أعلى من هذه؟! ثم يأتي مثل آخر: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ﴾ [الفتح:٢٩] والإنجيل أنزل على عيسى ﵇، وعيسى من أنبياء بني إسرائيل.
قال: ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ [الفتح:٢٩] وهذه صورة عجيبة جدًا! فالحبة تدفن، ثم يطلع العود الأول، ثم يرتفع من الأرض قليلًا، وقبل أن ينضج تخرج منه عيدان صغار، هذه الأعواد الصغار تلتف حول العود الأصلي، فيؤازر بعضها بعضًا، ويلتف هذا الزرع بعضه ببعض حتى يستوي على سوقه، ومع التفافه يكون في نظارته وحسنه وروائه ونمائه: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ [الفتح:٢٩] لأن الزراع هم الذين يعرفون حسن الزرع وجماله ونجاحه، ثم يبين: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح:٢٩] أي: في التفافهم وتآزرهم وتعاونهم وترابطهم.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح:٢٩] وهذا تفضل من الله.
1 / 5
الفرق بين أصحاب النبي ﷺ وبين اليهود والنصارى
من إعجاز القرآن في أسلوبه وسياقه لا في ألفاظه أن ذكر مثلين لأصحاب رسول الله: الأول: (ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا).
والثاني: (كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى).
فقوله: ﴿رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ [الفتح:٢٩]، جعل مثلًا لأصحاب موسى الذين هم اليهود، والثاني لأصحاب عيسى الذين هم النصارى، وكلا المثالين ثابتان لأصحاب رسول الله، ولو أخذنا المثالين ونظرناهما في التوراة والإنجيل لم يختلف وصف أصحاب محمد، فالوصفان ثابتان، ولكن هذا التوزيع المدرج شيء مقصود متلائم مع سياقه.
ولهذا يجب علينا أن نتوجه إلى الله العلي القدير أن يشرح صدورنا لفهم كتاب الله، إذا نظرنا إلى المثل الأول نستطيع أن نجعل له عنوانًا: ﴿مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح:٢٩] عبّادًا راكعين ساجدين يبتغون فضلًا من الله، كأنهم زهاد في الدنيا.
وإذا جئت للمثل الثاني فإذا هو: زرع وماء ورواء وشدّ! وكأنها عملية استثمار وإنماء، وعملية إعمار للأرض، فكأنهم مشغولون بالدنيا.
وكلا المثالين لأصحاب رسول الله في كمال المدح؛ لأنهم جمعوا بين أمر الدنيا والدين معًا، في الدنيا زرع ونماء، وفي الدين ركّع سجّد، بخلاف اليهود والنصارى، فاليهود كان موقفهم من أمور العبادات ما قص الله في قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٧٥] فاستحلوا ما حرم الله بالحيل، وكانت تغلب عليهم الماديات، حرم الله عليهم العمل يوم السبت، وامتحنهم في الحيتان: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ﴾ [الأعراف:١٦٣] فألقوا الشباك يوم الجمعة وذهبوا، وجاءت الحيتان يوم السبت شُرّعًا ووجدت الشباك فأمسكتها، وتركوها في الشباك ثم يوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك، فهل عملوا يوم السبت شيئًا؟ قالوا: ما عملنا شيئًا، احتالوا على ما حرم الله، فكانت الماديات غالبة عليهم.
فعندما يأتيهم مثل أصحاب محمد (ركعًا سجدا) وأنه يكون هذا المثال في الأمة التي ستأتي بعدهم، ويأتي ذكرها على سبيل المدح، فإنه يكبح جماحهم في الماديات، ويأتيهم بالمثل المثالي الذي ينبغي أن يرجعوا إليه، وأن يؤدوا حق الله في العبادة تأسيًا بأصحاب محمد ﷺ الذين سيأتون فيما بعد.
والنصارى أصحاب عيسى كانت طبيعتهم الروحانيات، قال تعالى ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد:٢٧] كان الغالب على النصارى القبوع في الأديرة وعدم التعرض للدنيا، وحتى كانوا يقولون: (إذا ضربك على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن!).
فتركوا الدنيا ورضوا بالذلة؛ ولذا غلب عليهم اليهود، فهؤلاء يأتيهم مثل لا ليزيدهم في الرهبانية (ركعًا سجدًا)، بل ويأتيهم المثل الذي يقول لهم: اخرجوا وانتشروا وامشوا في الأرض، وذللوها واستخرجوا ثمارها وازرعوا.
إذًا: المثل الذي ضربه الله لأصحاب رسوله ﷺ للنصارى يتناسب معهم ليرشدهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه، وكلا المثالين لأصحاب رسول الله ﷺ بمجموعهما كان لهم الكمال؛ لأن اليهود غلبت عليهم المادية، أي: أن الإنسان من روح وجسد، والروح تتطلب إلى غذائها، وغذاء الروح العبادات، والجسم غذاؤه النباتات، فهذا الجسم هو من الطين ويرجع إليه، والروح من أمر الله، أمرها علوي إلهي رباني، فهي تسمو وتصعد إلى الله.
فاليهود غلبوا جانب الجسم وأشبعوه بالمادة وخنقوا الروح، والنصارى أمعنوا في جانب الروح وأضعفوا الجسم، والجسم هو وعاء الروح التي تسكنه، وإذا كنت تسكن بيتًا قويا فسيحًا فإنك تنشرح وتنشط، وإذا كنت تسكن في عشة أو في بيت متهاوٍ فتكسل وتضيق، فجاء الإسلام وجمع بين الحسنيين، فأعطى الجسم حقه دون إفراط ولا تفريط، وأعطى الروح حقها دون إفراط ولا تفريط.
ولذا جمع سبحانه بين الأمرين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ﴾ [الجمعة:٩ - ١٠] أي: أنهيتم مهمة العبادة وإجابة الداعي وسعيتم إلى ذكر الله، وقضيتم هذا الواجب الحق عليكم لله ﴿فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ﴾، لا تمكثوا في أماكنكم، ﴿فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [الجمعة:١٠] ابتغوا من فضل الله بعمل الدنيا من بيع وزراعة وصناعة واذكروا الله، أي: اجمعوا بين الأمرين، ولا تلتهوا بالدنيا، قال تعالى: ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ﴾ [النور:٣٧] وهم من هذه الأمة الإسلامية.
1 / 6
صور من مواقف البطولة لدى الصحابة رضوان الله عليهم
هيأ الله ﷾ للمصطفى ﷺ خير رفقة كما قال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح:٢٩] إلى آخر السياق.
1 / 7
موقف خديجة ﵂
فلما بعث ﷺ، وأتى إلى خديجة، وذكر لها ما رأى في غار حراء، ويقول وهو ترتعد فرائصه: زملوني! دثروني! قالت: قم معي، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل وكان رجلًا يقرأ الكتب القديمة، قالت: اسمع من ابن أخيك ماذا يقول، والعرب تقول لابن العم أو للمقارن أخ.
فقص عليه، فقال: يا ابن أخي! هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني أكون جذعًا فأنصرك حينما يخرجك قومك! قال: أومخرجي هم؟ قال: ما جاء أحدٌ بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي.
وكم من الأنبياء قتل، في سبيل الدعوة إلى الله!! إذًا: عندما جاء ﷺ إلى الناس بأمر بعيد عنهم حين ذلك كانت المجابهة والمصادمة، ولكن الله سبحانه من بادئ الأمر جاء بمثل هؤلاء الذين معه، والذين ادخرهم الله لصحبة رسوله، من هؤلاء الذين يساندونه ويقفون معه، فتأتي خديجة زوجه، وتكون أول من وازره وسانده.
وهذا الموقف منها عظيم عندما يأتيها كزوج ترتعد فرائصه وخائف، ما جعلته ينام وتغطيه، بل تأملت في الأمر، فإذا به شيء على غير العادة! فقالت: نذهب ونسأل ونتعرف، فلما ذهبت وأخبرت تبين الحق بأن هذا ليس أمرًا شيطانيًا، وأن هذا مما كان ينزل به الوحي على الرسل من قبله، وأنه بدأ طريقًا جديدًا.
وجاء أمر الصديق رضي الله تعالى عنه، ثم بدأ كل يدعو من كان معه، وجاء عثمان عن دعوة أبي بكر، وجاء طلحة وفلان وفلان ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ﴾ [الفتح:٢٩] شخص وراء شخص حتى خرجوا واختفوا في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
1 / 8
موقف حمزة بن عبد المطلب ﵁
ثم أسلم حمزة، وكان إسلامه على أمر عجيب أيضًا! فـ حمزة عم الرسول ﷺ شاب قوي ذو حمية، كان من أهل القنص، والذي يهوى القنص والصيد لا يكون إلا صاحب الفروسية النشط من الشباب، وكان إذا خرج إلى قنصه ورجع قبل أن يذهب إلى بيته يأتي إلى الكعبة، فيطوف بها ويسلم على الأندية أو على مجموعات حول الكعبة من قريش فإذا سلم عليهم ذهب إلى بيته.
وفي يوم من الأيام جاء من قنصه متوشحًا قوسه ومر على محل الصفا الآن فإذا بأمة تقول: يا أبا عمارة: لو سمعت ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم؟! أبو الحكم هو أبو جهل، كان كنيته عند قريش أبو الحكم، والرسول كناه أبا الجهل؛ قالت: لقد أسمعه ما يؤذيه وما أجاب محمد بشيء، ومضى لسبيله، انظر الحكمة! يسبه ويتكلم عليه وهو لم يجبه بشيء.
فذهب أبو عمارة ووقف على أبي جهل في نادي قومه، وقال: أبلغ بك أن تؤذي ابن أخي وتسمعه ما يكره، أما علمت أني على دينه؟ وضربه بالقوس على رأسه فشجه، ثم قال: فُردّ عليّ قولي إن استطعت؟! قال: أنا على دينه، وقبل هذا ما كان على دينه لكنها إرادة الله، إذا أراد كرامة إنسان سبب له الأسباب، واستمر حمزة على ذاك، كان أولها حمية لابن أخيه، ولكن صارت هداية إلى النهاية.
فلما ضرب أبا جهل وهو سيد القوم وفي وسط ناديه قام نفرٌ ليكفوا حمزة عنه قال: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد أغلظت القول لابن أخيه، اعترف بخطئه! فلما أسلم حمزة رضي الله تعالى عنه سأل عن رسول الله ﷺ؟ فقالوا: هو مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فذهب إليه.
إنها إرادة الله تسير القدر لهذا الكون وفق الخطة التي رسمها المولى سبحانه قبل أن يوجد هذا العالم، الدولة اليوم عندما تجتهد تضع ميزانية وتقول: الخطة الخماسية أي: مقيدة بخمس سنوات؛ ماذا نفعل فيها؟ وتنفذها سنة سنة، خطوة خطوة، المولى سبحانه وضع خطة العالم قبل أن يخلقه -كما جاء في بعض الروايات- بخمسمائة عام.
1 / 9
إسلام عمر بن الخطاب أعز الله به الإسلام
كان عمر بن الخطاب كان أشد الناس على أصحاب رسول الله، وكان ﷺ يدعو ويقول: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين عمرو أبو الحكم -الذي هو أبو جهل - وعمر بن الخطاب).
فيقدر الله أن يدخل عمر على الرسول ﷺ، فبينما هو يمشي في شوارع مكة يريد أن يقتل محمدًا قال له أحدهم: اذهب وانظر أختك وزوجها الذين صبئوا! فذهب إلى أخته فسمع هينمة قبل أن يدخل، فإذا عندهم أحد الصحابة يعلمهم الإسلام سرًا، فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها؟ قالت: لم تسمع شيئًا، قال: بلى سمعت، وما هذه الصحيفة التي في يدك، ولطمها فأسال دمها، فلما رأى ما وقع لأخته أمامه تأثر، وقال لها: أعطيني الصحيفة التي كانت بيدك، فقالت: لا أعطيك أنت رجلٌ نجس، وهذا كتاب الله (لا يمسه إلا المطهرون) فاذهب واغتسل وسأعطيك إياها.
ذهب واغتسل، ثم جاء وأخذ الصحيفة، فقرأها فإذا فيها من كتاب الله سورة طه أو غيرها، فقال: ما أحسن هذا! أين يوجد رسول الله؟ ذاك الصحابي الذي كان يعلم أخته وزوجها وكان مختبئًا، لما نظر إلى هذا الإقبال من عمر قال: يا عمر! إلحق لعل دعوة رسول الله تصيبك، والله لقد سمعته يقول: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، إلحق وأدركها، قال: أين هو؟ قال: في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فذهب عمر إلى دار الأرقم، ولما طرق الباب جاءوا ونظروا من شق الباب فإذا هو عمر! البيت كله ضجّ: ما يريد عمر؟! فقال حمزة -وكان موجودًا وأسلم قبل عمر بثلاثة أيام: ما بالكم؟ قالوا: عمر على الباب، فقال: وإن كان! إن يرد خيرًا فهو له، وإن يريد غير ذلك قتلناه.
وقتلُ عمر ما هو بالشيء الهين، لأن وراءه قريشًا بكاملها؛ لأنه كان السفير إلى القبائل، لكن انظر القوة والتأييد من الله! قال: افتحوا له الباب، وتقدم حمزة وأخذ بيده وأخذ آخر بيده الأخرى، ولما دخل إلى رسول الله ﷺ، قال: اتركوه، ثم أجلسه وقال: (أما آن لك أن تسلم يا ابن الخطاب؟!) انظر القوة! كلهم خائفون منه.
حتى إن بعض الصحابة كان يستبعد أن يسلم عمر ويقول: لا يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب، مستبعدين ذلك منه جدًا، فلما جذبه رسول الله ﷺ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، يقولون: كان إسلام عمر تتمة الأربعين رجلًا.
فنحن يا إخوان عرجنا على هذه النواحي ولابد أن نلفت الأنظار إلى تراجم وسير الصحابة، فلهم حق كبير علينا، وهم أسوتنا.
ولما أعلن عمر إسلامه، قال: يا رسول الله! على ماذا الاختفاء؟ ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: لماذا لا نخرج، قال: لأنا قلة، قال: لا بد من خروج.
يقول بعض علماء السيرة والتاريخ: فاصطفوا صفين، وكان حمزة في مقدمة أحد الصفين، وعمر في مقدمة الصف الثاني، انظر المنظر! حمزة في مقدمة صف، وعمر في مقدمة الصف الثاني! وخرجوا صفين منتظمين.
وكانوا في عزة لم يجرؤ أحد على الاعتراض لهم، لأن حمزة وعمر لا يستطيع أحد أن يتقدم على هذه الصفوف وهما فيها؟! وانظر أيضًا إلى التنظيم والاحتياط، وهذا الواجب على المسلمين في مبادرة، ومجاهرة بأمرٍ له خطره، والعدو له وزنه.
نقول: هؤلاء الصحب الكرام الذين اختارهم الله لصحبة رسوله ﷺ، وعرفهم للأمم الماضية في التوراة وفي الإنجيل؛ فنحن أحق بتلك المعرفة، ويجب على كل مسلم أن يعرف من ترجمة أصحاب رسول الله وسيرتهم ومناهجهم أكثر مما يعرف عن أبيه وأمه.
1 / 10
ذهاب النبي ﷺ إلى الطائف وما حصل له
مكث ﷺ إلى السنة التاسعة وهو في حماية عمه أبي طالب، ومعاونة زوجه خديجة بمالها وجاهها، وفي سنة تسع توفي عمه وتوفيت خديجة، فكان يسمى عام الحزن، اشتد الأمر على رسول الله، وتجرأ المشركون عليه وأصحابه بما لم يكونوا يجرئون به من قبل، فلما رأى الشدة على أصحابه أذن لهم وقال: (إن بالحبشة ملكا عادلا، أو ملكا لا يظلم أحدٌ بجواره، فلو ذهبتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجا)، فخرجوا الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم شاع وذاع خبر إسلام بعض الناس، لما قرأ ﷺ سورة النجم، وسجد وسجدوا معه، فرجع بعض الناس، ثم وجدوا أن القضية على خلاف ذلك، فبضعهم رجع إلى الحبشة وبعضهم بقي.
1 / 11
من أحداث الطائف
خرج رسول الله ﷺ في تلك السنة إلى الطائف لعله يجد عند ثقيف من يناصره ويساعده على تبليغ الدعوة، ولعله يجد موطنًا للدعوة خيرًا من مكة، فما كان من ثقيف إلا أن أساءوا استقباله، وسلطوا عليه سفهاءهم وكان منهم ما كان، ورجع ﷺ بعدما أصابه ما أصابه، ولكن الله عوضه.
ومن أحداث الطائف ما حدث في عودته ﷺ: أنه هو وزيد بن حارثة دخلا بستانًا لابني ربيعة عتبة وشيبة فأشفقا عليه، وأرسلا غلامًا عندهما اسمه عدّاس من نينوى من العراق بقطف عنب، قالوا: اذهب إلى ذاك الرجل وصاحبه وأعطهما هذا القطف، فأخذاه، ولما تناول منه ﷺ قال: باسم الله، فسمع ذلك عدّاس فقال: إن هذه الكلمة لا يعرفها أهل هذا الحي من العرب، فمن أين جئت بها؟ قال: ومن أين أنت؟ قال: من نينوى، قال: بلد النبي الصالح يونس! قال: وكيف تعرفه؟ قال: (هو نبي وأنا نبي) يعني: نحن إخوة (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد) وأبناء العلات: الإخوة لأب والأمهات مختلفة، فالشرائع متنوعة ولكن مصدر الوحي للجميع واحد، فأكب عليه عدّاس وقبّله وأسلم، فلما رجع إلى شيبة وأخوه عتبة قال أحدهما للآخر: والله لقد رجع غلامك بوجهٍ غير الوجه الذي ذهب به! (سيماهم في وجوههم) فقد كان وجهه وجه كافر مشرك، والآن أصبح وجه مسلم.
إذًا: نواة الإيمان في القلب، الشمعة اشتعلت وأضاءت، فكم من شمعة مطفأة، فلما أوقدت بنور الإيمان أصبح لها وضاءة في الوجه، وهذا يا إخوان شيء نشاهده نحن الآن، ما يمر شهر في المحكمة إلا ويأتي اثنان أو أربعة أو عشرة أو عشرون من العمال الموجودين في المدينة الشرق الأوسط أو شرق آسيا، فيعلنون إسلامهم، فأول ما يقدمون تجري معهم الإجراءات وينطقون بالشهادتين ويقرءون بعض الآيات أو بعض العبارات، يشهد الله ويعلم الله أننا نرى التغير في وجوههم في الحين، فعندما يأتون ويجلسون أمام اللجنة نرى وجوهًا، وبعدما تنتهي الإجراءات وينطقون بالشهادتين ويقرءون الفاتحة وبعض السور الصغيرة نرى وجوهًا أخرى، نحس بتغير! نحس بطلاقة الوجه وسماحته؛ نحس بآثار الإيمان فعلًا تظهر على وجوههم.
يقول: لقد رجع إليك غلامك بوجهٍ غير الوجه الذي ذهب به، وهذا صحيح.
1 / 12
ملك الجبال يأتي لنصرة النبي ﷺ
خرج رسول الله ﷺ وصاحبه من البستان، وفي طريقهما إلى مكة، أتى جبريل ﵇ ومعه ملك الجبال فقال: (يا محمد! هذا ملك الجبال معي، لقد ضجّت الملائكة مما لقيت من ثقيف، وأذن الله لملك الجبال أن يكون رهن طلبك إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل) والأخشبان جبلان يحيطان بمكة، فماذا يقول ﷺ وهو في حاجة الضيق والشدة؟ الناس الآن يقولون: إذا كان هناك اعتداء وظلم وبغي ولم تجد إلا نصرة من الشيطان فلا مانع من أن تتعاون معه؛ لأنه ينصرك على الظالم الباغي المعتدي، والظالم الباغي المعتدي إذا لم ترده قوة لم يرجع إلى صوابه، إذا لم يسمع إلى كلمة الحق، ولم يستجب إلى نداء الآخرين ماذا نفعل معه؟ ليس إلا القوة، وإذا لم نجد إلا قوة الشيطان تردعه، إذًا: يأتي ملك الجبال ويعرض النصرة على رسول الله، فيقول: (إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله) فيصبر ويتحمل رجاء أن يولد من أصلابهم فيما بعد قوم يشهدون أن لا إله إلا الله، بينما نبي الله نوح لما اشتد به الأمر ويئس من قومه قال ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح:٢٦ - ٢٧]، حتى يئس ممن سيولد، والرسول ﷺ ما يئس، الرسول ﷺ قال: (أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله).
ولذا قال في حديث الشفاعة: (لكل نبي دعوةٌ مستجابة، فدعا ربه بها، وادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) اللهم اجزه عنا أحسن الجزاء، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، وقلنا: إنه تضرع إلى المولى قبل مجيء ملك الجبال فقال: إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أو إلى بعيد ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، فتضج السماء بالملائكة وينزل جبريل ومعه الملك ويعرض عليه النصرة فيأباها ويأتي إلى نخلة ويقول: نصلي في الليل ويعوضه الله خيرًا من ثقيف.
1 / 13
الجن يسلمون على يد النبي ﷺ عند عودته من الطائف
قال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف:٢٩].
سبحان الله ما أحسنهم أدبا! ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ﴾ [الأعراف:٢٠٤] ماذا؟ ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ [الأعراف:٢٠٤] هذا من الأنفس.
﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الأحقاف:٢٩] ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ [الأحقاف:٣٠] سمع ﴿سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ [الجن:١ - ٢].
إذًا في تلك الليلة أو في تلك الرحلة، إن لم تأت ثقيف فقد جاءت الجن وهم أحد الثقلين، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، التقديم والتأخير في القرآن له دلالة فلماذا قدم الجن؟ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ﴾ [الذاريات:٥٦] الإنس لا شك أنهم أفضل من الجن، ولكن قدم الجن لماذا؟ تقدم ذكر الجن مراعاة للتقدم التاريخي، لأن الجن أسبق في الوجود بالخلقة من الإنس.
ولذلك الملائكة لما عرض الله عليهم خلق آدم وقال: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة:٣٠] من أين أتوا بهذا؟ لما رأوا من الجنّ والبن قبل الإنس من الإفساد في الأرض، قالوا: قد جربنا ونظرنا؛ ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٣٠] فتقديم الجن هنا: لأنهم أسبق في الوجود.
إبليس كانوا يقولون له: عبد الله السجّاد، يقولون: ما من شبر في الأرض إلا وله فيه سجدة، لكن لما جاء آدم وجاء الحسد والتكبر، وكانت هذه سيئة، فترتبت عليها سيئة أكبر منها حتى طرد من رحمة الله.
إذًا: كان في تلك الرحلة والعودة منها: استجابة أحد الثقلين إلى رسول الله ﷺ وانطلاقهم دعاةً إلى الله، فأصبحت الرحلة كاسبة، لا كلفوه قتالًا ولا آذوه ولا شيء، بل إنه ﷺ أخبر بليلة الجن فقال لصحبه: (الجن أحسن منكم استماعًا)، لأنه لما قرأ عليهم سورة الرحمن، كان كلما قرأ: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب، ولما قرأها على المسلمين كانوا ساكتين، فقال لهم: (الجن أحسن منكم)، فهذه رحلة موفقة.
1 / 14
الرسول يُمنع من دخول مكة بعد عودته من الطائف
جاء الرسول ﷺ إلى مكة يريد أن يدخل، فمنع من ذلك؛ لأنه طلب من ثقيف أن يكتموا عنه فامتنعوا وأرسلوا لقريش بالخبر.
إذًا: قريش منعته أن يدخل، يقولون: خرج ليستعين علينا بغيرنا والآن جاء! فلن يدخل مكة، حتى اضطره الحال أن يدخل في جوار رجلٍ من أهل مكة.
الرسول ﷺ سيد الخلق، وبالأمس كان معه ملك الجبال يمكن أن يطبق عليهم الأخشبين، يمكن أن يدخلها بالقوة رغمًا عنهم، ولكن تلطف معهم وطلب جوار رجل منهم، ودخل في جوار رجل مشرك.
إذًا: لا مانع من الاستعانة برجل مشرك ما دام في ذلك نصرة للحق، وليس فيه اعتداء ولا ظلم ولا بغي على جهة أخرى، فيأتي رجل مشرك وهو مطعم بن جبير وعنده أربعة أولاد ويلبس السلاح، وكل واحد من أولاده يقف عند ركن من أركان الكعبة، ويأتي هو مع رسول الله ويطوف به ويقول: أجرت محمدًا.
1 / 15
الهجرة النبوية [٢]
2 / 1
وصول النبي ﷺ إلى المدينة والأعمال التي قام بها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة السلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فلما وصل النبي ﷺ المدينة استقبل كأحسن ما يكون الاستقبال، وقيل في ذلك: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع إلى آخر تلك الأبيات.
2 / 2
بناء النبي ﷺ للمسجد
قال أنس رضي الله تعالى عنه: (أقبل النبي ﷺ المدينة، فاستنارت وأنار منها كل شيء، وتوفي ﷺ فأظلمت وأظلم منها كل شيء).
استقر النبي ﷺ ببيت أبي أيوب، ثم اشترى أرض هذا المسجد وبناه، ثم جدده بعد عودته من خيبر في السنة السابعة، ثم توالى التجديد عليه.
وهناك بعض الجزئيات ربما يتساءل عنها بعض الناس في خصوص هذا المسجد نشير إليها إشارة خفيفة، بعد أن بينا ارتباط المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي، في اختصاصها بشد الرحال إليها ومضاعفة الأجر فيها، وسواء كان في الصلاة أو غيرها على ما هو مدونٌ في تاريخها.
مما يتعلق بسؤال البعض وخاصة المالكية في مضاعفة الأجر في هذا المسجد، والحديث المكتوب على الجدار الأعلى في السقف في الواجهة هنا: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).
ويتطلع البعض إلى كلمة: (مسجدي هذا) ما حكم الزيادة التي طرأت على هذا المسجد بعد النبي ﷺ؟ وتلك الزيادة بدأت من زمن عمر رضي الله تعالى عنه، ثم عثمان، ثم بعد ذلك الخلفاء والملوك والأمراء، وقد وضح ذلك عمر رضي الله تعالى عنه حينما رأى بعض الناس يتجنبون الصلاة فيما زاده، وقد زاد فيه من جهة الغرب وجهة الجنوب، ولم يزد من الشمال ولا من الشرق، فقال لهم: (والله لولا أني سمعت رسول الله ﷺ يذكر الزيادة ما زدته، ثم إن المسجد ضاق بالمسلمين ثم قال: والله إنه لمسجد رسول الله ولو امتد إلى ذي الحليفة).
وبعضهم يذكر رواية: (ولو امتد إلى صنعاء) فهو مسجد رسول الله ﷺ، ومضاعفة الصلاة موجودة لمن صلى في أي طرف من أطراف المسجد.
واتفق العلماء على أن كل ما كان محجورًا بسور لا يدخل إليه إلا عن طريقه، فإنه من المسجد تصح فيه الجمع، وتنعقد فيه الجماعة، ويصح فيه الاعتكاف وله أحكام المسجد من تجنب الجنب والحائض.
2 / 3
إبرام النبي ﷺ للمعاهدات مع بعض الطوائف في المدينة
ثم توجه النبي ﷺ لبناء الأمة، وذلك كما أشرنا أنه ﷺ واجه في المدينة تيارات متعددة بخلاف مكة، مكة كان أمامه فيها تيار الشرك والوثنية، وكانت أمة فطرية ساذجة قوية في عقيدتها، فإذا وجدت الحق سرعان ما انتقلت إليه، وتقدمت لنا النماذج والأمثلة في موقف عمر وحمزة وغيرهم.
عمر يذهب إلى أخته وزوجها لينتقم منهم ويعذبهم على إسلامهم، فيخرج من عندهم إلى رسول الله ﷺ ليعلن إسلامه، وما ذلك إلا أنه سمع من كتاب الله وقرأ من الوحي المنزل شيئًا من سورة طه.
وهكذا لما جاء مصعب بن عمير إلى المدينة مع أهل العقبة الثانية، وكان يزور الأوس والخزرج على مياههم وجاء إلى بني عبد الأشهل في العالية، وجاءه سعد بن عبادة وقال: اذهب عنا لا تفسدنّ علينا شبابنا ونساءنا وسفهاءنا، والحربة بيده، فما كان منه إلا أن قال: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تجلس وأسمعك مما عندي، فإن وجدت شيئًا تقبله فبها ونعمت، وإلا كففت عنك، قال: أنصفت -وهذا هو العقل- فجلس وقرأ عليه من كتاب الله، فما كان منه إلا أن شهد شهادة الحق.
وجاء سعد بن معاذ وقال: ما أغنيت عني شيئًا، ماذا فعلت مع الرجل؟ قال: قلت له الذي قلت لي، فقال: لم تغن عني شيئًا، وجاء بنفسه وهو سيد القوم، فقال جليس مصعب: اصدق الله في هذا الرجل، فإنه إن يسلم يسلم قومه كلهم.
فجاء متوعدًا ومهددًا فقال له مقالته الأولى: تسمع فإن وجدت شيئًا يرضيك فبها ونعمت، وإلا كففت عنك؟ قال: أنصفت، فجلس وسمع من كتاب الله وقرأ عليه آيات؛ فما كان منه في الحال إلا أن قال: ما أحسن هذا! ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يغتسل غسل الجنابة ويتشهد شهادة الحق، فذهب واغتسل وتشهد وذهب إلى قومه وقال: يا معشر بني عبد الأشهل! ماذا تعرفونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وأميرنا، قال: كلامكم عليّ رجالكم ونسائكم حرام حتى تسلموا جميعًا، يعني: ذاهب يهدد ويتوعد فينقلب داعية إلى الله! كان الأمر عندهم عنادًا، لكن الإقناع إن يسر الله كان سهلًا.
لكن كان في المدينة أصحاب ديانة سابقة، وأصحاب حقد وحسد: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة:١٠٩] إذًا فيواجه عدوًا لدودًا حاسدًا حاقدًا، والحاسد لا يرضيه إلا زوال النعمة التي عندك، والله ﷾ يقول: ﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة:١٠٥].
فهنا وثنيون مثل الذين كانوا في مكة، لكن انظروا إلى اليهود فهم أهل كتاب، ثم نبتت نابتة نفاق، ويوجد أقلية مسلمة، فأصبح الآن جو المدينة مركبًا من مسلمين قلة، ومن مشركين من العرب، ومن يهود من أهل الكتاب، ومن منافقين بين هذا وذاك، إذًا: كيف يواجه ﷺ تلك التيارات ويضمن السلامة للقلة المؤمنة؟! كتب المعاهدة، ومن أراد من طلبة العلم أن يرجع إليها فهي في كتب السيرة لـ ابن هشام أو ابن كثير أو غيرهم، ومضمونها أنه ﷺ جمع الجميع وقال: هذا كتاب محمد ﷺ على أهل المدينة، أن كل قبيلة تحمل مسئوليتها، أي: أن كل فرد من قريش ومن لف لفها قومٌ ومن جنى منهم جناية فهم المسئولون عنه، والأوس قوم، ومن جنى جناية منهم فهم مسئولون عنه، وكذلك أهل الكتاب، وكل قبيلة حملها مسئولية بعضها البعض، أي: فإذا جنى إنسان جناية من قبيلة فقبيلته مسئولة عنه، يعقل بعضهم عن بعض، وهو الموجود الآن من أن دية قتل الخطأ على العاقلة.
ومن جنى جناية أو دفيعة ظلم فلا يحق لأحد أن يخفيه ولو كان ولد أحدهم، وما تنازعوا في شيء فمرده إلى رسول الله ﷺ، وأخذ العهد على الجميع بأن الكلمة والمرجع في إدارة المدينة إلى رسول الله ﷺ.
ومن هنا: أمن شرور أولئك الطوائف وتلك الاتجاهات المتعددة، بعدما تم ذلك وأصبحت المدينة موحدة سياسيًا.
2 / 4
مؤاخاة النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار
توجه النبي ﵇ بعد ذلك إلى بناء الأفراد، فآخى بين المسلمين، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة مولاه، ليس هناك شرف نسب ولا علو الحسب، فـ حمزة عم رسول الله ﷺ يؤاخي بينه وبين مولاه زيد بن حارثة، وبينه وبين علي.
الشاهد: آخى بين المهاجرين أنفسهم وبين المهاجرين والأنصار، وأصبحت تلك الأخوة بمثابة أخوة النسب، بل مقدمةٌ عليها إذا لم يكن الإسلام موجودًا، فلو أن شخصًا آخى بينه وبين شخص آخر وهما مسلمان، ولأحدهما أخ كافر، فإن الأخوين بالمؤاخاة في الإسلام يتوارثان، والأخ الكافر لا يرث أخاه المسلم، فحلت المؤاخاة محل النسب إلى أن نزلت آية المواريث: ﴿وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأحزاب:٦].
السؤال هنا: كيف سلك الإسلام طريق المؤاخاة وماذا جنى من ورائها؟! المتأمل في منهج القرآن الكريم والسنة النبوية في المنهج العلمي، لإيجاد الأخوة بين أبناء المسلمين، ونتائج تلك الأخوة يجدها وحيدة لم توجد قبل الإسلام، ولم توجد أي طائفة ولا أي نظام ولا أية دعوة في العالم كله وصلت إلى ما وصل إليه الإسلام في تلك المؤاخاة، ولا جنى أحد من وراء أي مؤاخاة ولا ارتباط كما جنى الإسلام من تلك المؤاخاة.
2 / 5