Lessons by Sheikh Safar al-Hawali
دروس للشيخ سفر الحوالي
शैलियों
الحكم بغير ما أنزل الله
تكلم الشيخ حفظه الله عن الحكم بغير ما أنزل الله من المنطلق التاريخي، مبينًا أن بداية البشرية كانت على التوحيد، وظلت عشرة قرون حتى بدأ الخلاف وظهر الشرك، فانقسم الناس إلى قسمين: مؤمنين ومشركين، وأول ما بدأ الحكم بغير ما أنزل الله عن طريق العمل بالأعراف، ثم ظهرت بعض القوانين المكتوبة كقانون حمورابي أو القانون الروماني ثم قامت الثورة الفرنسية، وظهرت خلال ذلك الدساتير المكتوبة.
ومع سقوط الخلافة العثمانية بدأت الدول الإسلامية بالاقتداء بالغرب، وهكذا دخلت الدساتير أكثر البلاد الإسلامية.
ثم تحدث الشيخ حفظه الله عن موضوع الحكم بما أنزل الله، مبينًا أهميته، ثم ذكر كلامًا للشيخ الشنقيطي ﵀ في تفسير قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [الشورى:١٠]، وذكر الآيات التي تدل على صفات من يستحق الحكم، وأن هذه الصفات كلها خاصة بالله ﷿، وعلى هذا فلا يحق أن يحكم خلق الله إلا وفق شرع الله.
1 / 1
مراحل التشريع على وجه الأرض
نبدأ باستعرض تاريخ الحكم بغير ما أنزل الله، ونشأته في الجماعة الإنسانية منذ أن خلقها الله ﵎ إلى اليوم.
1 / 2
عشرة قرون يتحاكمون إلى شرع الله
فنقول: إن آدم وذريته من بعده كانوا على التوحيد عشرة قرون، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فكانوا يتحاكمون إلى شرع الله، وهذه أول قضية نخالف فيها من يكتبون في تاريخ التشريع في العالم، لأنهم يزعمون أن الإنسانية تطورت وبدأت أولًا بالأعراف وأحكام شيخ القبيلة، ثم القوانين غير المكتوبة، ثم لما اكتمل التطور الذي ظهر في العصر الحديث وما قبله في العصر الروماني، ظهرت القوانين المكتوبة المدونة الآن بما يسمى الدساتير، ثم القوانين بفروعها المدني والتجاري والإداري إلى آخره، ثم اللوائح التنفيذية لها، وهذا هو الفرق بين قولنا نحن المسلمين وبين قولهم.
1 / 3
بداية الشرك والخلاف
والقصد أنه لما وقع الاختلاف ووقعت الأمة في الشرك، بعث الله النبيين، وأرسل الرسل، وأنزل الكتاب، والكتاب هنا اسم جنس، والمقصود به جنس الكتب، وأنزل الله تعالى الكتب لتحكم بين الناس فيما يختلفون فيه، فلم يترك الله ﵎ الإنسانية هملًا، ولم يترك الجماعة البشرية بلا كتاب ولا شريعة تنظم حياتهم، فلا يزعم زاعم أن الكتب السماوية إنما نزلت لتنظيم ما يسمونه بالجانب الروحي فقط، وتركت للناس الاحتكام إلى الطواغيت أو الأهواء أو الشرائع الوضعية عامة.
1 / 4
انقسام تاريخ الإنسانية إلى خطين
انقسم تاريخ الإنسانية إلى خطين: الأول: أصحاب اليمين: وهؤلاء موجودون على مدار التاريخ وهم يحتكمون إلى شرع الله.
الثاني: المنحرفون المشركون التاركون لدين الله ولشرعه، الذين يحتكمون إلى الطواغيت على اختلاف أنواعها كما سنذكر.
أما أصحاب اليمين فهؤلاء كانوا كما في القرآن والسنة على نوعين: النوع الأول: الأنبياء والرسل، وهذا واضح جدًا ولا تخفى الأمثلة على ذلك، مثل: داود وسليمان: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء:٧٨ - ٧٩] وهكذا بقية الرسل، ولهذا قال الله تعالى عن التوراة: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ [المائدة:٤٤].
فكان النبيون يحكمون -عمومًا- في جميع مراحل التاريخ، حيثما وجد النبي فإنه يحكم بين المؤمنين وبين أتباعه فيما يشجر بينهم، ثم منهم من تقام له دولة كبيرة كما كان لسليمان ﵇، ومنهم من يكون أقل، فالمقصود أن أتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يحتكمون إلى الرسل، وكما صح أيضًا عن رسول الله ﷺ قال: ﴿إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي﴾.
النوع الثاني: الملوك العادلون الذين يحكمون بين الناس بما أنزل الله ويتبعون شرعه، وإن لم يكونوا أنبياء، وهذا كثير في التاريخ أن ملوكًا آمنوا بدين الله، واتبعوا هديه، وورثوا شريعة من شرائعه، أو بعث فيهم نبي من أنبيائه فآمنوا به أمثال طالوت فقد كان ملكًا، وكان الأنبياء في عهده يخبرونه بحكم الله، وكذلك ذي القرنين من أعظم ملوك الدنيا الذي ذكره الله ﵎ في القرآن -وهو غير ذي القرنين الذين يسمونه المقدوني الوثني اليوناني، فذاك على الإيمان والتوحيد كما ذكر الله ﵎، وهذا مشرك ملحد- ثم جاء من بعدهم الكثير.
1 / 5
كيف نشأ الحكم بغير ما أنزل الله
أما النموذج الثاني الذي هو موضوع حديثنا، وهو كيف نشأت القوانين الوضعية، وكيف نشأ الحكم بغير ما أنزل الله حتى أصبح الناس يتحاكمون إلى شرع غير شرع الله؟ فأما كيف وجدت هذه الشرائع فبحسب ترتيبها.
1 / 6
الاحتكام إلى الأعراف
أول ما وجد عند الناس من الانحراف هو الاحتكام إلى الأعراف والعادات والتقاليد وشيوخ القبائل والملوك المتسلطين المتألهين، فلم تكن القوانين مكتوبة.
فالمرحلة الأولى من مراحل الانحراف لم تكن القوانين مكتوبة، فلم يضاهوا فيها شرع الله، وهذه المرحلة موجودة في كثير من الأمم البدائية، وما تزال إلى هذه اللحظة عند الأمم البدائية التي لم تعرف الكتابة، فيحتكمون إلى هذه الأعراف والتقاليد والأوضاع المألوفة كما في البوادي، حتى في البلاد الإسلامية وجزيرة العرب.
1 / 7
بداية تدوين القانون
ومع ذلك فإن التاريخ القديم قد سجل لنا بعض الأحكام التي وجدت والتي ربما نقشت أو كتبت، ومن أشهرها قوانين الملك الآشوري القديم حمورابي، والتي يعتبرها القانونيون أساسًا للتشريع الحديث، وأن هذا الرجل من تجديداته وإبداعاته أنه وضع شرائع، فالرجل إذا قتل رجلًا أو سرق ثورًا فله حكم كذا وكذا من العقوبة، ويجعلون هذا عصرًا جديدًا للتقنين ولمعرفة الأحكام، بينما نحن نعتقد أن هذه القوانين -على ضئلتها وقلتها- ما كان فيها من خير وحق فإنه يحتمل أن يكون أُخِذها عن شريعة نبي لم يذكر، وإما من بقايا كتب ورسالات أنزلها الله ﷾، وإما أن يكون اجتهادًا ووافق بعض الصواب، ثم جاء بالباقي من عند نفسه كأي طاغوت من الطواغيت يضع من عنده تشريعات، فنجد فيها ما يوافق الحق أحيانًا اتفاقًا، وأما الباقي فهو مردود عليه، ولا يعد ذلك فتحًا ولا تجديدًا، وإنما يعد انحرافًا واحتكامًا إلى الطاغوت، ولو أنهم رجعوا إلى دين الله وإلى شرعه لوجدوا خيرًا كثيرًا، فكل أمة أنزل الله ﵎ لها من الشرع والدين ما يكفل لها حياتها ونظامها.
ثم في التاريخ الوسيط -كما يسمونه- القرون الوسطى، نجد أن أشهر من وجدت عندهم من الأمم التشريعات والقوانين المكتوبة هم الرومان، ولذلك إلى الآن يقولون: إن القانون الروماني هو أفضل وأوسع وأشمل أنواع القوانين المعروفة في القرون الوسطى، لأنهم لا يعدون شريعة الإسلام ودين الله ﷾ شرعًا، ولا يعترفون به مع أنه كان يحكم الحياة جميعها، وهو تشريع مكتوب أيضًا.
فالمقصود أن المرحلة الثانية هي مرحلة تدوين القوانين، وأنها أول ما ابتدأت بشكلها القريب من المعاصر في عصر الامبراطورية البيزنطية أو الامبراطورية الرومانية، وأشهر هذه القوانين قوانين الامبراطور جوستنيان الذي ظهر في أوائل القرن السابع، أو في أواخر القرن السادس الميلادي، فهو معاصر لرسول الله ﷺ تقريبًا، وبلغت الامبراطورية الرومانية في عصره شأنًا عظيمًا، وكتبت القوانين المسماة قوانين جوستنيان.
وكان دينهم في ذلك الزمان هو النصرانية؛ لأن النصرانية دخلت إلى أوروبا عام (٣٢٥م) والامبراطور الذي اعتنق النصرانية وأدخلها في بلاده هو قسطنطين، وهو الذي جمع الأساقفة واختار دين التثليث، وترك مذهب التوحيد.
وأخذ هذا الدين المنحرف من المحرف الأكبر شاؤول الذي غير اسمه إلى بولس اليهودي.
وهنا نعرف قضية بني إسرائيل، فعيسى ﵇ كان رسولًا إلى بني إسرائيل خاصة بنص القرآن، وكما في الأناجيل أيضًا يقول: 'إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة'.
ولهذا يذكرون قصة المرأة الفينيقية أو السورية التي ذكرت في الأناجيل المحرفة أنها جاءت إلى عيسى ﵇ واشتكت أن فيها روحًا شريرة، أي بها مس من الجن وقالت: يا روح الله! عالجني أو أعطني مما أعطاك الله، فقال: يا امرأة من أين أنت؟ فقالت: فينيقية، أو قالت: سورية.
فقال لها: 'إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة' فبكت وتضرعت، وقالت: إن لم تعطني الخير فمن أين أذهب؟ حتى آواها ورضي أن يعلمها وأن تكون من المدعوين.
فالشاهد أن عيسى ﵇ أنزل الله ﷾ إليه الإنجيل مكملًا لما بين يديه من التوراة، وفيه زيادة أحكام مثل: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران:٥٠] وفيه تخفيف من الآصار والأغلال التي كانت على اليهود، وفيه تحليل بعض ما كان محرمًا في شريعة التوراة، فهو كتاب مكمل في حدود بني إسرائيل، هذه القضية الأولى.
والقضية الأخرى: أنه هل وصل هذا الكتاب نفسه -مع أنه لم يكن تشريعًا للعالم كله- إلى الرومان أو إلى غيرهم كما أنزله الله؟ فقد وقع التحريف والطمس والتبديل والتغيير على يد بولس وعلى يد أناس آخرين.
حتى أنه مرت مراحل كثيرة كان الامبراطور يأمر بكتابة الإنجيل من جديد وحذف ما لا يكون مناسبًا، فيأتي الأحبار والرهبان الكبار ويكتبون ويحرفون الكلم عن مواضعه ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة:٧٩] كما ذكر الله ﷾ عنهم، فلم يكن الإنجيل شرعًا عامًا، وما نراه اليوم من انتشار المنصرين في جيمع أنحاء العالم وطبع الإنجيل إلى أكثر من ألف ومائتي لغة، كل ذلك خارج عن الأصل الذي بعث الله ﵎ عيسى ﵇ من أجله، حتى لو كانوا يدعون إلى الإنجيل الحقيقي، فهو لم يكن شرعًا عامًا، ولا دينًا للإنسانية عامًا هذا أولًا.
والأمر الآخر أنه لم يصل إلى تلك الأمم الإنجيل الحقيقي، إذ قد حرف وبدل، ومع ما فيه من تحريف، فلا يوجد فيه من التشريعات والتنظيمات ما يكفل الحياة؛ لأن الناس إذا حرفوا شيئًا وطمسوه وبدلوه لا يمكن أن تكون فيه الديمومة والمنفعة الكاملة، وعليه فإن الأناجيل الموجودة بالجملة ليس فيها تشريعات كافية، مع العلم أن هذه الكتب أنزلت محدودة في الزمان والمكان إلى بعثة محمد ﷺ، فعندما أنزل الله القرآن وأرسل محمدًا ﷺ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ:٢٨] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧] لم يعد يُعمل بكتاب غير القرآن الذي أنزل على محمد ﷺ، والاحتكام إنما يكون إليه فقط.
ولما لم تجد الدولة النصرانية الكفاية في تسيير شئون حياتها وتلبية احتياجات الناس بسبب النقص الحاصل في التوراة، ووجدت نفسها أنها في حاجة إلى تنظيمات وإلى تشريعات، ووجدوا أن لهم أعرافًا وقوانين وأنظمة فجاء جوستنيان وأمثاله فنظموها، ثم كتب بعد ذلك عدة قوانين وانتشرت حتى سمي القانون الروماني، وهذه قصة التاريخ أو التقنين في العصور الوسطى كما يسمونها.
1 / 8
قيام الثورة الفرنسية
المرحلة الثالثة: وهذه هي المعلم الفاصل في تاريخ أوروبا الذي يعتبرونه فجر العصر الحديث والإنسانية كلها، وهي الثورة الفرنسية التي قامت سنة (١٧٨٩م)، فأقامت لأول مرة في تاريخ أوروبا النصرانية مبادئ لا تستند إلى الدين في شيء، وجعلت ارتكاز الحياة والاحتكام في الحياة إلى أهواء الناس، وكان شعارهم وهم يتظاهرون ويذبحون ويسفكون الدماء: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، أي: أنهم يقضون على الإقطاع الملكي من جهة وعلى الدين من جهة أخرى، لتقوم دولة علمانية لا تحتكم إلى الدين في شيء، كذلك نحيت التوراة والإنجيل وما فيها من أحكام، وابتدأ الناس في وضع الأحكام الوضعية والقوانين الوضعية، وأخذوا يفكرون في إنشاء دساتير.
1 / 9
طريقة الدساتير المكتوبة
وبعد الثورة الفرنسية ظهر نابليون الذي اجتاح معظم أوروبا، هذا الطاغوت الكبير عندما ظهر وضع لهم القانون الأول المكتوب في أوروبا وهو المعروف بقانون " نابليون " وضعه عام (١٨٠٤ م)، وهو عبارة عن مدونة في الأحكام أغلبها يتعلق في المعاملات وما أشبه ذلك، فانقسم بعد ذلك التاريخ الأوروبي التشريعي -أي: التقنيني- على فرعين: الفرع الذي أخذ بالاتجاه الفرنسي، وهذا يضع التقنينات التفصيلية في كل شيء، وفرنسا نموذج لذلك، فهناك قانون التجارة، وقانون القضاء، ودستور البلاد.
ثم القوانين الفرعية: القانون المدني، والقانون التجاري، والقانون الإداري، وكل ذلك نما مع الزمن وتطور وتتدرج إلى أن وصل إلى المرحلة التي نراها اليوم.
1 / 10
طريقة القوانين غير المكتوبة
وهذا الاتجاه قابله اتجاه آخر، وهو الاتجاه الذي ساد في بريطانيا ويمثله في الدرجة الأساسية الإنجليز، وهم لا يأخذون التقنين على أنه مواد مكتوبة، وإنما أخذوا طريقة العرف المتبع أو القوانين غير المكتوبة نظام السوابق، فيأتون إلى القضاء الإنجليزي، فإذا وقعت قضية إن كان لها سابقة رجع إلى ما كان قد عمل به وحكم به الأولون، وإن كانت قضية جديدة فهذه توضع وتكون سابقة، وهكذا، فيسمى نظام السوابق، وهو نظام غير مدون على الشكل الفرنسي.
والعالم الإسلامي نقل النموذجين فتجد هنالك دولًا أخذت الطريقة الفرنسية فتكتب الدستور مائة مادة أو مائتين مادة، ثم بعد ذلك تغيره، وكل أمر من أمورها ترجع فيه إلى مادة من مواد الدستور، وبعضهم جرى على الطريقة الإنجليزية -الأنجلو سكسونية- وهي طريقة الرجوع إلى الأعراف، فيقال: قد سبق أنه في عام كذا صدر مرسوم بكذا، وهكذا تدرس اللجنة القضائية القضية وتتخذ فيها حكمًا، ثم يصبح سابقة، وتأتي قضية أخرى تدرسها كذلك، فيسمى نظام السوابق.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية حصل فيها دمج بين النظامين، فمن جهة الدستور فمكتوب، وهو الذي يفخر به الأمريكيون؛ لأنهم وضعوه عند قيام اتحاد الولايات الأمريكية، وفي نفس الوقت نجد أن الأنظمة في أمريكا كالقانون المدني والتجاري وما أشبه ذلك على الطريقة الإنجليزية ليس مكتوبًا، وإنما هو حسب السوابق، فهذا مجمل للكيفية التي يحتكم بها هؤلاء المتحاكمون إلى الطواغيت وإلى القوانين.
1 / 11
القوانين الغربية
أما كيف نشأت هذه القوانين وتسربت إلى العالم الإسلامي فنقول:
1 / 12
ظهور أول نموذج في العالم الإسلامي
النموذج الوحيد الذي عرفه العالم الإسلامي من القوانين هو نموذج الياسق أو الياسا، الذي أتى به التتار، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية تكلم في فتواه المشهورة عن التتار، وهو أكثر من فصّل في الياسق، وما هو حاله وشأنه وتاريخه.
وكذلك المقريزي في كتاب الخطط عندما تكلم عن المماليك في مصر، وأنهم كانوا يتحاكمون إلى الياسق، قال: وهذا الياسق عبارة عن كتاب وضعه جنكيز خان.
والحافظ ابن كثير ﵀ ذكر ذلك باقتضاب في تفسير قول الله ﵎: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة:٥٠] قال: مثل ما يتحاكم به التتار إلى كتابهم الذي يسمى الياسق، وجنكيز خان من أكبر الطواغيت في العصر الوسيط أو التاريخ الإسلامي، فقد جمع القبائل الهمجية من المغول في أواسط آسيا ثم اكتسح بهم والجانب الشرقي من العالم الإسلامي بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد عظيمة فسيحة جدًا، وكان في أيام الدولة الخوارزمية، وما كان أحد يأبه لهذه القبائل، واجتاحت هذه القبائل بعد حروب دامية الجانب الشرقي من العالم الإسلامي ودمرته، ثم أتوا على بلاد السند التي تسمى الآن باكستان، وبلاد خراسان وأفغانستان، وشمال إيران ثم بلاد فارس، ثم وصل حفيده هولاكو إلى بغداد عام (٦٥٦هـ) التي كانت فيها وقعة التتار المشهورة في بغداد، وكانوا يعتقدون أنه إله، وأنه ابن الشمس، ولهذا شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في رده عليهم يقول: 'هذه شمس، نزلت إلى الخيمة، ثم حملت به أمه ودخلت الخيمة' كيف هذا؟! فهذا اعتراف منهم بأنهم لا يعرفون له أبًا، فهو ابن غير شرعي -نعوذ بالله- والشاهد أن هذه العقيدة هي التي يعتقدها أكثر المجوس إلى الآن، حتى اليابانيون يعتقدون أن الامبراطور من سلالة الشمس، وهي نفس العقيدة القديمة الموجودة عند البوذيين المجوس في شرق آسيا.
فقالوا إن هذا الرجل لما كان بهذه العظمة وبهذه المنزلة جمع هذه القبائل ووضع لهم تشريعات وقوانين، وكتبها كما يقول المقريزي في ألواح من الفولاذ، وجعلها شرعًا في بنيه يحتكمون إليها، وهو أقرب إلى القوانين العسكرية المعروفة الآن.
لكن كما يقول ابن كثير ﵀: 'اشتمل على بعض الأحكام من المجوسية واليهودية وبعض الأحكام اقتبسها من الشريعة الإسلامية، وأحكام أخرى وضعها من عنده فجمع وغيَّر وبَدَّل كما يشاء ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:٨٢] '.
ولما غزا هولاكو بغداد واجتاح التتار العالم الإسلامي، حصل أن بعض التتار أسلموا لكنه كان ضعيفًا كإسلام كثير ممن يعيش في دول الغرب ليس لهم من الدين إلا الاسم، وكانت قوة الإسلام متمركزة في بلاد الشام ومصر.
وهنا تأتي فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ﵀ في التتار ذلك الحين، التي كان سببها كما ذكر الحافظ ابن كثير ﵀ في البداية والنهاية أن الناس اختلفوا في شأن التتار، فقال قوم: كيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذه الشبهة القديمة الحديثة المتجددة، وقال قوم: يقاتلون قتال البغاة، وقال قوم: يقاتلون قتال الخوارج فاختلف الناس في أمرهم، وصارت ضجة ولم يحسم العلماء الموقف في شأنهم، فيقول الحافظ ابن كثير: فأصدر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ﵀ فتواه في شأنهم، فاجتمعت عليها الكلمة، واتفقت عليها الأمة والحمد لله، وهو أنه قال: إنهم يحتكمون إلى الياسق الذي وضعه الطاغوت جنكيز خان فلم يحكموا بشرع الله، فهذا مما يبرر قتالهم قتال الخارجين على شريعة الله تعالى ودينه، فبناءً على ذلك وفق الله تعالى المسلمين كما يقول الحافظ ابن كثير ﵀ واجتمعت كلمتهم وخرجوا ومعهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ﵀، لقتال التتار صفًا واحدًا، وكان شَيْخ الإِسْلامِ ﵀ يقاتلهم ويبشر المسلمين بالنصر، حتى كسر الله ﷾ شوكة التتار وخفض أمرهم وانتصر عليهم المسلمون.
1 / 13
بداية دخول القوانين الوضعية
وجاءت بعد ذلك الدولة العثمانية وظل الإسلام والشرع كما هو في كتب الفقه، حتى تدنت هذه الأمة في الحضارة، وانحطت في جميع المجالات، وظهر الغرب بقوة عصرية مادية تنظيمية، فحصلت الفتنة بالكفار وركوب سننهم وطرائقهم، والدخول فيما دخلوا فيه، كما أخبر النبي ﷺ.
فقال المسلمون: لا بد أن نقتبس من الغرب هذه الحضارة، وظهر أعداد من الذين يسمون المستنيرين في مصر وتركيا، فظهر الشيخ رفاعة الطهطاوي وظهر خير الدين التوسي، وأما في تركيا فقد ظهرت على مستوى رئيس الوزراء وأمثاله، فكانت هناك دعوة إلى اقتباس هذه النظم المفيدة حسب زعمهم.
وظهرت في تركيا الدعوة المسماة بالتنظيمات، وصدر قانون التنظيمات الأول لعام (١٢٥٥هـ)، وقيل: إنه لا بد من الاقتباس من تنظيمات الأمم الراقية، واعتبار أن هذه القوانين قوانين راقية، وأنها جديرة بأن تقتبس.
وكالعادة بدأت القوانين تحاصر الشريعة الإسلامية، فأول ما ابتدأت بالمعاملات والتنظيم العسكري، واستقدم خبراء من السويد وفرنسا لتنظيم الجيش العثماني ليكون من الجيوش الحديثة.
وفي المجال التجاري كانت الدولة تتعامل مع أوروبا تجاريًا، فأخذوا القوانين الفرنسية التجارية، وأخذوا نفس المواد، وغيروا فيها شيئًا ما حتى أصبح يسمى القانون العثماني التجاري، والتنظيمات الإدارية أخذوا بها عندما ظهرت فكرة البرلمانات والمجالس النيابية في أوروبا.
وهكذا شيئًا فشيئًا حتى ظهر ما سموه الدستور عام (١٩٠٨م) أيام السلطان عبد الحميد، ولما ظهر الدستور قالوا: الآن وصلنا إلى أن نكون أمة حديثة وأمة راقية متمدنة لها دستور تحتكم إليه، وتتعامل بمقتضاه، ويكفل حرية جميع المواطنين، ثم حدثت مشكلة الثورة على الدستور وإلغاء الدستور.
فالمقصود أن العملية انتهت بإلغاء نظام الخلافة على يد كمال أتاتورك عام (١٩٢٤م)، وانتهت بذلك كل الأحكام الشرعية تقريبًا، وما بقي منها شيء في تركيا، ومسخوا الإسلام مسخًا كليًا، حتى أنهم ألغو الأذان وغيروه، فأصبح المؤذن لا يؤذن باللغة العربية، وألغو الحروف العربية، ومزقوا الحجاب، وفرضوا هذه القبعة الصليبية، وكل ما فيه تغريب فرضوه بالقوة، هذا في تركيا.
وفي العالم الإسلامي بدأت المحاولات أيام سعيد باشا وحلمي باشا لتطوير البلاد، وأول ما وضع الدستور المصري عام (١٩٢٣م)، وأعلن عند الناس وافتخرت مصر بأنها وضعت دستورًا، وأصبحت أمة حديثة تسير على القوانين الحديثة، والتحقت بركب الأمم الراقية التي هي في الحقيقة أمم غاوية، ثم توالت بعد ذلك الدول العربية والإسلامية بالأخذ بالقوانين حتى عمت هذه القوانين أكثر أنحاء العالم الإسلامي.
وهناك دولة أخرى لا ينبغي أن ننساها وهي الهند فعندما جاء الإنجليز كانت الشريعة الإسلامية هي الأصل، وكان ملوك المغول الذين يحكمون الهند مسلمين، ومنهم أرونق زيب هذا الملك العالم وأمثاله.
فقامت الحكومة الإنجليزية بإلغاء الشريعة الإسلامية، وأعطت الأفضلية لعباد البقر، وهم الأكثرية لأن المسلمين اشتغلوا ببناء تاج محل، وبناء القباب، وبناء المشاهد، واشتغلوا باللهو والطرب، بل وصل ببعضهم الأمر إلى الإلحاد، وتركوا الدعوة إلى الله، وظل عباد البقر، يعبدون البقر فجاء الإنجليز فطمسوا شريعة الله، وحكموا بين الناس القوانين الوضعية التي قبلها ورضيها عباد البقر.
ولذلك نجد أن الهند وباكستان وبنجلادش التي هي باكستان الشرقية هي أكثر الأمم تقريبًا في العالم تقليدًا وتبعية للنظام الإنجليزي، فنفس الطريقة في الأحكام والبرلمان والانتخاب واختصاصات رئيس الدولة، واختصاصات رئيس الوزراء؛ لأنها مأخوذة حرفيًا من الإنجليز، ومن أشهر القانونيين الذين وضعوا القوانين أو الدساتير في العالم العربي عبد الرزاق السنهوري، فقد وضع القانون المدني المصري، ثم انتدب لوضع قوانين في عدة بلاد عربية أخرى.
وبذلك وصلت الأمة إلى الحالة التي ترونها اليوم من غياب حكم الله، والاحتكام إلى غير شرع الله في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وأخذ الناس يتحاكمون إلى الطاغوت الذي قال الله ﵎ فيه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [النساء:٦٠] إلى آخر الآيات، فالتحاكم إلى الطاغوت هو السائد في العالم الإسلامي، وإن تعرضنا لشمال أفريقيا فإنها تعرضت كذلك لمسخ أكبر على يد فرنسا والله المستعان.
1 / 14
موقع الحكم بما أنزل الله من الدين وأهميته
قال المصنف رحمه الله تعالى: 'وهنا أمر يجب أن يُتفطَّن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرًا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرًا إما مجازيًا وإما كفرًا أصغر، على القولين المذكورين.
وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه به أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاصٍ، ويسمى كافرًا كُفرًا مجازيًا أو كفرًا أصغر.
وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده، واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأ، فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور'.
موضوع الحكم بما أنزل الله موضوع مهم وخطير وعظيم الشأن، وقد كثر فيه الجدل والنزاع في القديم، ولكنه في هذا الزمن أصبح أكثر مما سبق، ولا بد للمؤمن الذي يريد أن يعرف دينه، وأن يعرف معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أن يعلم حقيقة هذا الأمر ومنزلته ومكانته من دين الإسلام، وهذا -إن شاء الله- الذي سنجعله تقدمة أولى لكلام المصنف ﵀، فسنتحدث عن أهمية الحكم بما أنزل الله، وما موقعه، وما مكانته، وما علاقته بتوحيد الله تعالى والإيمان به؟ ثم نتحدث -إن شاء الله- بعد ذلك عن تاريخ الانحراف في حياة البشرية عن الحكم بالكتب التي أنزلها الله تعالى، وهي كتاب واحد باعتبار أن غايتها واحدة وهدفها واحد ودعوتها الأساسية واحدة، ومتى ظهرت القوانين الوضعية؟ سواء منها المكتوب أو العرفي غير المكتوب؟ ثم ما وصلت إليه الحالة في العالم الإسلامي المعاصر بهذا الشأن.
وبعد ذلك -إن شاء الله- سوف نتكلم بالتفصيل في آيات الحكم، ولا سيما قول الله ﵎: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة:٤٤] ونبين ما وقع عندها من إشكال عند بعض الفرق والطوائف، وما هو منهج أهل السنة والجماعة ومذهبهم في هذا الشأن.
فهذه الثلاث الأصول لا بد من معرفتها ثم بعد ذلك نشرع في كلام المصنف ﵀، لأن هذا الموضوع المهم لم يكن علماء العقيدة وعلماء السلف الصالح قديمًا يكثرون من الحديث عنه، وإن كانوا قد تكلموا فيه كما تكلموا في سائر الأمور؛ لأنه لم يكن في عصرهم من ينكر حكم الله، أو يخرج على حكم الله، أو يجاهر بأنه لا يتحاكم إلى شرع الله، ومع هذا يزعم بأنه مسلم، وإنما ذكر الله تعالى هذه الحالة عن المنافقين: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء:٦٠] فهذه حالة شاذة وقعت في عهد النبي ﷺ.
فأول فقرة هي: موقع الحكم بما أنزل الله وأهميته.
ونقول: إن الحكم بما أنزل الله هو جزء من التوحيد، فعندما يقول المسلم كلمة التوحيد التي بها يدخل الإنسان في الإسلام، فمعنى ذلك أنه قد التزم وأقر بألا يتحاكم إلا إلى الله وإلى شرعه، وإلى ما أنزله، وأنه كافر بالطاغوت، لأن معنى شهادة أن لا إله إلا الله هي -كما بين الله تعالى-: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة:٢٥٦].
فهذه هي شهادة أن لا إله إلا الله مكونة من ركنين: ركن النفي: لا إله، وهو الكفر بالطاغوت.
وركن الإثبات: إلا الله، وهو الإيمان بالله، والشهادة بأن محمدًا رسول الله ﷺ ومعناها طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
فمعنى الشهادة بأنه رسول الله ﷺ هو أن يحكَّم قوله الذي هو الوحي سواء كان مبلغًا إياه عن الله أم من عند نفسه؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ﷺ، ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات:١] فلا يقدم بين يديَّ الله ولا بين يديّ كلام رسول الله ﷺ برأي ولا هوى، ولا معقول كما كان يسميه الأولون من علم الكلام أو أي شيء يعارضه.
فكلمة مسلم أو مؤمن تعني: أن الإنسان مذعن منقاد مستسلم لأمر الله ﷾، ولا يتحاكم إلى غير الله ﷿ أبدًا، وإنما ذكر الله من يريد أن يتحاكم إلى غير شرع الله عن المنافقين، سواء كانوا في الأمم السابقة كاليهود: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [آل عمران:٢٣] أو كانوا منافقي هذه الأمة: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [النور:٤٨] ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ [النور:٤٩] ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [النور:٥٠].
فهذا حالهم وهذا شأنهم، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، فهم ليسوا مقرين حقيقةً بأن الله هو الإله ﷾ وأن الرسول ﷺ هو رسول الله، ولم يشهدوا بذلك حقًا، ولو شهدوا به حقًا وآمنوا به صدقًا لما عدلوا عن التحاكم إليه، وتحاكموا إلى غير شرع الله، وإلى غير ما جاء به رسول الله ﷺ.
والكلام في هذا كثير جدًا مما ذكر الله تعالى في القرآن، ومما بينه النبي ﷺ في السنة، ومما تكلم به العلماء، ومنها ما ذكره وتكلم به العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في هذا الشأن، وهو من هو في علمه وفضله وتبحره وتوسعه في العلم والفقه واللغة والبيان، وهو ﵀ ورضي عنه وأرضاه عاش في عصرنا هذا، وأدرك هذه القوانين، وعرف خطرها وضررها وشرها، وتكلم فيها وفي أهلها بمقتضى كتاب الله تعالى.
كما ذكر في كتابه: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، فبين في تفسير سورة الشورى في قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى:١٠] فذكر أمرًا عظيمًا جدًا متعلقًا بهذا الشأن، وهو أنه ﵀ ربط موضوع التحاكم إلى شرع الله وإلى ما أنزله بصفاته سبحانه تعالى.
فبين أنه لا يستحق أحد أن يتبع شرعه إلا من كانت صفاته هي صفات الألوهية، وهو الله تعالى الذي لا ينازعه ولا يشاركه أحد في هذه الصفات، ومن لم يكن إلهًا متصفًا بصفات الألوهية الحقة فإنه لا يصلح أن يتحاكم إليه ولا إلى قوله، لما فيه من الضعف والجهل والعجز والهوى، وسائر صفات النقص التي لا بد أن تعتري كل مشرع من دون الله، ولعلنا -إن شاء الله- نأتي على بعض ما في القوانين الوضعية من تناقض وتضارب وخلل ظاهر، سواء ما كان منها في الشرق أو الغرب وهذا واضح بين والحمد لله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:٨٢].
ففيها كلها اختلافات وتناقضات، والعاقل إذا تأملها أيقن وصدَّق أن شرع الله هو وحده الحق، وأنه لا خير ولا سعادة ولا صلاح إلا في اتباع شرع الله الحكيم العليم السميع البصير الخالق الرازق إلى آخر الصفات التي ربطها فضيلة الشيخ ﵀ بهذا الموضوع.
1 / 15
من يملك حق التشريع
يقول: 'اعلم أن الله ﷾ بيَّن في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له، ويؤخذ منه التشريع، ويؤخذ منه التحليل والتحريم، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن -إن شاء الله- ويقابلها مع صفات البشر المشرِّعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع، سبحان الله وتعالى عن ذلك، فإن كانت تنطبق عليهم -ولن يكون- فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقينًا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية' يبين الشيخ: أننا إن وجدنا أن صفات من له التشريع ﷾ تنطبق عليهم -ولن يكون ذلك- فلنتبع تشريعهم، وإلا فلا نتخذهم طواغيت ونتبع ما يشرعون من دون الله ﷾ قال: 'وتعالى الله أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه' جعل الثلاثة -العبادة والملك والحكم- كما جاء في القرآن في مواضع كثيرة خاصة به ﷾، فلا يجوز أن يشرك به في عبادته ولا في حكمه ولا في ملكه.
1 / 16
الصفة الأولى
يقول: 'فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:١٠] ثم قال مبينًا صفات من له الحكم: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى:١٠] '.
فقوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:١٠] بيَّن بعده صفات هذا الإله الذي لا يستحق غيره أن يرجع إليه وإذا وقع النزاع أن يتحاكم إليه؛ لأنه لا يوجد فيه هذه الصفات، فهي صفات خاصة بالله ﷾: ' ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الشورى:١١ - ١٢] '.
يقول الشيخ ﵀ بعدما أورد هذه الآيات: 'فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوَّض إليه الأمور، ويتوكل عليه.
وهذه من قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى:١٠] '.
1 / 17
الصفة الثانية
ثم قال: 'وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقها ومخترعها على غير مثال سابق'.
1 / 18
الصفة الثالثة
ثم قال: 'وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجًا' وهذه من قوله تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا﴾ [الشورى:١١].
وهذه من صفات الله التي بها ومن أجلها يستحق وحده أن يتحاكم إليه، فإنه لا يمكن لأحد أن يخلق شيئًا ولو ذبابًا ولو اجتمعوا له، ومع ذلك فإن الله جعل في هذا الخلق آية عظيمة وهي أنه جعل من كل شيء زوجين، فجعل الزوجية هي قاعدة عامة في الحياة، سواء منها الحياة الإنسانية أو غيرها، ولذلك من أعظم وأهم التشريعات التي أنزل الله تعالى ومن أولها ما يتعلق بالأسرة، وما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين وبين الأبناء، وهذا هو أهم جانب من جوانب التشريع.
ولذلك تجد أن الناس اليوم في العالم الإسلامي رغم أنهم أخذوا القوانين الوضعية في شئون الاقتصاد والمال، وفي الشئون السياسية والتعليمية وفي أمور كثيرة، يظل هذا الجانب معترفًا به إلى حدٍ ما، لأنه إذا فُقد لم يبق للإنسان معنى أنه مسلم أبدًا، وهو ما يسمونه هم في القوانين الوضعية: الأحوال الشخصية.
فيقول تعالى في ذلك: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] يقول الشيخ ﵀: 'وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ [الأنعام:١٤٣] ' فهو سبحانه المستحق وحده للعبادة، والمستحق وحده لأن يؤخذ منه التشريع.
1 / 19
الصفة الرابعة والخامسة
قال: 'وأنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] ' فهل يمكن أن يقال في أي مشرع كائنًا من كان: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]؟ جل الله ﷾: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] وهاتان الصفتان من أعظم ومن أخص صفات الله تعالى، فهو الذي يحكم ويشرع ويحلل ويحرم؛ لأنه السميع الذي أحاط سمعه بكل المسموعات، والبصير الذي أحاط بصره بكل شيء ﷾.
1 / 20