Leaders of the Conquest of Andalusia
قادة فتح الأندلس
प्रकाशक
مؤسسة علوم القرآن
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
प्रकाशक स्थान
منار للنشر والتوزيع
शैलियों
ـ[قادة فتح الأندلس]ـ
المؤلف: محمود شيت خطاب
الناشر: مؤسسة علوم القرآن - منار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، ١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
عدد الأجزاء: ٢
أعده للشاملة/ مهاجي جمال
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مقابل]
अज्ञात पृष्ठ
قَادَةُ
فَتْحِ الأَنْدَلُس
اللِّوَاءُ الرُّكن
محمُود شيت خطّابْ
﵀
المُجَلدُ الأولْ
مُؤَسَسَة عُلُوم القُرْآن
بيروت
مَنَار للنّشر والتَوْزِيع
دمشق
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
قَادَةُ فَتْحِ الأَنْدَلُس
1 / 3
جمَيع الحقوق محفوظة
الطّبعَة الاولى
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
1 / 4
تَرْجَمَة مُوجَزة للمُؤلفَ
اللِّواء الرُكُن مَحمود شِيتْ خَطّابْ رَحمَه اللهُ تَعَالى
بقَلمْ
محُمَدْ فَاروقْ البَطَل
عُضو هَيئةِ التَدرِيسْ في كُليةِ الآدابْ
قِسمُ الدِّرَاسَاتِ الإِسلامِيَّة
جَامِعَةْ المَلكْ عَبْدِ العَزِيزْ سَابقًا
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(١) رحم الله الفقيد القائد العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطّاب رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وأجزل مثوبته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين كل خير، فقد أعطى لدينه ولأمته الكثير، وبذل الكثير، وعانى الكثير ... ولم يأخذ من دنيا الناس، ولا من هذه الدنيا الغرور إلا القليل، وأحسب أنه قد لقي وجه ربه بجهاد كبير، وزهد عجيب، وخلُق رفيع، وإخلاص نادر، وتواضع جم، وأعمال جليلة، وقلب ظلّ يخفق بحب الله، وحب رسوله-ﷺ، وحب الصحابة الأبرار-رضي الله تعالى عنهم-، وحب الإسلام العظيم، حبًا ملك عليه ليله ونهاره، وعقله وفكره، وقلبه وعاطفته، وطيلة عمره المبارك. أحسبه كذلك، ولا أزكيه على الله تعالى.
(٢) ولد العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب في مدينة الموصل الحدباء (١) سنة ١٣٣٨ هـ/ ١٩١٩ م من أبوين عربيين، أبوه من قبيلة الدليم -فرع الصقور- الذين يتصل نسبهم بالنبي-ﷺ من جهة الحسن بن علي بن فاطمة الزهراء - رضي الله تعالى عنهم- وأمه قيسية، وهي ابنة الشيخ مصطفى بن خليل قره مصطفى، وكان من علماء الموصل المشهورين بعلمهم وورعهم (٢).
احتضنته أمه عامًا أو بعض عام، ثم تخلت عنه مكرهة، لأن شقيقه الذي ولد
_________
(١) توصف مدينة الموصل بالحدباء لوجود مسجد فيها مميز بمئذنة حدباء، وقد اختُلف في تفسير هذا ......
(٢) من سيرته الذاتية بخط يده ص ١٧.
1 / 7
بعده بسنة استأثر بمكانه، فكفلته جدته أم والده، فأثرت فيه أبلغ التأثير، فقد كانت امرأة صالحة متدينة ومن بيت رفيع التدين، تقضي أكثر ساعات الليل في تهجد وتسبيح، فإذا غلبها الخشوع أجهشت بالبكاء من خشية الله، كان يصحبها إلى المساجد وسماع المواعظ.
وهكذا نشأ الفقيد في بيت علم يُتلى فيه القرآن الكريم صباح مساء، وتُقام فيه الصلوات، ويحرص على الالتزام بالدين الحنيف، ويضم مكتبة عامرة بالمصادر المطبوعة والمخطوطة.
قرأ القرآن على يد أحد الشيوخ، وحفظ شطرًا من كتاب الله، ثم أتم مراحل المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة الموصل، وخلال سِنِيِّ هذه المراحل درس علوم اللغة والتفسير والحديث على أيدي شيوخ مدينة الموصل، وفي مساجدها العامرة بالحلقات العلمية، وخلال شهور العطلة الصيفية.
وكان من أشد ما أثر في تكوينه الثقافي والعلمي -وهو يافع السن- مجلس الحي الذي يحضره بمعية والده، حيث يلتقي خيار رجال العلم والقضاء لقص الأخبار، وقراءة كتب الفقه والحديث والتاريخ .. يقول ﵀: (لقد كنت ألازم مجلس والدي مع أني لم أتجاوز الصف السادس الابتدائي، فلقد وقع اختيار والدي عليّ لقراءة كتب التاريخ على الحضور الذين كان معظمهم من أهل العلم المتقنين للغة العربية، لذلك فقد كنت مضطرًا للعناية بقواعد اللغة العربية وضبط الألفاظ، لكي لا أقع عرضة للانتقادات أو اللوم من والدي) (١) ولا شك أن حضوره مثل هذا المجلس العلمي بلور اتجاهه على
_________
(١) من رسالة التخرج لابنة المؤلف آمنة محمود شيت خطاب لنيل درجة البكالوريوس بإشراف الأستاذ الدكتور محمود رجب النعيمي -جامعة بغداد- كلية العلوم =
1 / 8
اللغة والتاريخ.
ومما يؤكد نشأته المتدينة أنه أدى فريضة الحج عام ١٩٣٥ م ضمن رحلة مدرسية، ولم يكن له من العمر إلا خمسة عشر عامًا. وقد كان لأدائه الحج في هذه السن المبكرة أثر كبير، وخلّف في نفسه معاني عظيمة.
(٣) لما حصل الفقيد -رحمه الله تعالى- على شهادة الدراسة الثانوية تطلعت نفسه إلى دراسة الحقوق، لكن إرادة الله شاءت له غير ذلك (وكل ميسّر لما خلق له). فقد أعلنت وزارة الدفاع العراقية عن حاجتها الكبيرة لمنتسبين للكلية العسكرية، فتقدم بطلبه مع عدد من رفاقه، وسافر إلى بغداد، وبدأ بالتعرف على معالمها لأول مرة، لأنه لم يكن قد زارها من قبل، فكان اسمه على رأس من أُعلِن قبولهم كطلاب في الكلية العسكرية سنة ١٩٣٧ م. وتبدأ رحلة الفقيد في السلك العسكري. وحصل على الشهادات التالية:
١ - الليسانس من الكلية العسكرية العراقية ١٩٣٨ م.
٢ - الماجستير من كلية الأركان والقيادة العراقية برتبة نقيب عام ١٩٤٨ م.
٣ - شهادة دراسات عسكرية عليا من كلية الضباط الأقدمين العراقية عام ١٩٥٤ م.
٤ - دبلوم دراسات عسكرية عليا بدرجة ممتاز من كلية الضباط الأقدمين في إنجلترا عام ١٩٥٥ م وقد كان ترتيبه الأول بين مائة ضابط من مختلف الجنسيات.
٥ - شهد أربعًا وعشرين دورة تدريبية عسكرية في العراق وشمال أفريقيا وإنجلترا، ومنها دورات في الفروسية والأسلحة والتعبية ...
_________
= الإسلامية ١٤٢٠ هـ -١٩٩٩ م (غير مطبوع).
1 / 9
وسواها (١).
(٤) إن استمرار الخطَّاب في السلك العسكري هذه المدة الطويلة أمر يثير العجب والدهشة، ذلك أن من يعرف واقع كثير من الجيوش العربية في ظل الأنظمة الاستعمارية أولًا والأنظمة العلمانية والحزبية ثانيًا يقدّر مدى الصبر والمعاناة والمرارة التي عاناها ضابط ملتزم بإسلامه وعقيدته، مستقيم في سلوكه، معتز بدينه وتراثه، مثل الضابط محمود شيت خطاب مذ كان شابًا. ذلك أن القائمين على هذه الجيوش فرضوا على عناصرها الإلحاد، والهزء بالدين، والسخرية بالإسلام، واحتقار التديّن، كما فرضوا عليهم كافة ألوان الفساد والمحرمات من خمر وزنا و... و... وما نجى من ذلك إلا القليل، ومن كُشِف منهم على غير ذلك سُرِّح وأُبعد عن الجيش، واعتُبر خطرًا على أمنه وأمن البلد!! ... حقيقة مؤلمة مبكية، لكنها الواقع!! يحدثنا اللواء الخطاب عن هذا الواقع المرّ، وهذه الحقيقة المفجعة فيقول -محدثًا عن نفسه وعن تجربته الشخصية-: (تتابعت أسئلة قائد السرية التي انتسبت إليها، في أول لقاء به وأول يوم رأيته وتعرفت إليه: هل تعاقر الخمر؟ هل تلعب الميسر؟ هل تغازل الغيد الحِسان؟).
(وتكرر جوابي على أسئلته المتعاقبة بالنفي، فظهرت على وجهه بوادر خيبة الأمل ونَدَب حظه العاثر لالتحاقي بسريته، ئم عبس وتولَّى وهو يقول: لماذا أصبحت ضابطًا؟! ولماذا اخترتَ سلاح الفرسان؟ ولماذا تعيش؟! الأفضل لك
أن تموت).
_________
(١) من سيرة الراحل الكريم بخط يده ص ١٠، وانظر كتاب اللواء الركن محمود شيت خطاب (سيرته وترجمة حياته ومؤلفاته) للواء الركن يوسف بن إبراهيم السلوم ص ١٨ مكتبة العبيكان.
1 / 10
(وكان ذلك أول درس عملي تلقيتُه من قائد سريتي، في أول يوم من حياتي العسكرية العملية في الوحدات العاملة، ثم توالَتْ عليَّ الدروس المماثلة كاللحن المكرر يُعاد على مسامعي صباح مساء).
(ولم أُباغَت بما سمعتُه من قائد السرية، فقد تكاثَرتْ عليَّ نصائح المجربين منذ اعتزمت الالتحاق بالكلية العسكرية: أن أبتعد عن تعاليم الدين الحنيف، وأكيّف نفسي لتلائم مناخ العسكريين).
(وبعد تخرجي ضابطًا في الكلية سنة ١٩٣٨ م التحقتُ بمدرسة الخيَّالة في بغداد، فانهالت عليّ الدعوات الشخصية الرسمية التي يسيل الخمر فيها أنهارًا، وانهالت معها عليّ النصائح والانتقادات، وكان اعتذاري عن حضور تلك الحفلات يُقابَل بالنقد اللاذع والسخط المرير).
(ولكنني كنت أتلقى النصح تارة، والنقد تارة أخرى من لِداتي الذين لم يتجاوزوا العشرين، وهم شباب في عمر الورد لا ينقصهم المال والفراغ، ولم أكن أتوقع أبدًا أن أسمع نفس النصح أو النقد من قائد سرية تجاوز الأربعين من عمره، وأمضى في الخدمة العسكرية ما يزيد على العشرين عامًا!!).
(وشاء القدر ألا يطول استغرابي من تصرف قائد السرية، لأنني وجدت تصرف قائد الكتيبة نحوي -وهو الذي تجاوز الخمسين من عمره- وكان ضابطًا مخضرمًا قضى شطرًا من خدمته العسكرية في الجيش العثماني، وشهد الحرب العالمية الأولى، لا يختلف في شيء عن تصرف قائد السرية نحوي، كلاهما يأمر بالمنكر، وينهي عن المعروف).
(وكان من تقاليد الجيش أن تولم الوحدات لضباطها الجدد وليمة، تطلق عليها اسم: (وليمة التعارف والاستقبال) تقدم فيها الخمر مع ما لذَّ وطاب من الأطعمة الشهية، وقد يصاحب ذلك أنغام الموسيقى والرقص زيادة في الحفاوة
1 / 11
والتكريم!!).
(واستدعاني قائد السرية قبيل انتهاء الدوام الرسمي، وبلَّغني بأن الكتيبة ستقيم وليمة التعارف والاستقبال في دار الضباط مساء، فلم أستطع التخلف عن حضورها، لأنها أقيمت من أجلي وأجل خمسة ضباط آخرين جُدُد، هم زملاء دورتي في الكلية العسكرية ومدرسة الخيالة).
(وقبل أن يسمح لي قائد السرية بالانصراف غمز عينيه، وهو يبتسم ابتسامة الواثق بنفسه ويقول لعلك تراجع فكرك اليوم، ولعلي أهديك إلى سر الحياة!!).
(وشهدتُ الحفلة مع زملائي في الوقت الموعود، وقدِم قائد الكتيبة يتبختر، فاستقبله الضباط وقوفًا، ثم قدَّم إليه قادة السرايا ضباطهم الجدد، وقدَّمني قائد سريتي قائلًا: الملازم ضابط خام يدَّعي أنه لم يذق طعم الخمر في حياته).
(وقال قائد الكتيبة: كيف يكون في سلاح الفرسان ولا يعاقر الخمر؟! هذا غير معقول! وتحرَّج موقفي، وتجمَّع الضباط من حولي يرجونني ويطالبونني، ثم يلحّون ويلحّون، وجاء قائد الكتيبة، وقد ملأ كأسًا بالخمر، وأمر أن أبدأ صفحة جديدة من حياتي العسكرية بشرب المدام، وأن أتخلى عن تزمُّتي لأصبح ضابطًا حقًا ... ثم أَقْسَم بشرفه العسكري أن أفعل، وأقسم قائد سريتي ألا أردّ يد القائد الهمام).
(وكان الليل البهيم قد أرخى سدوله، وكانت السماء صافية تتلألأ على صفحات النجوم، وكانت مياه دجلة تعكس النجوم فتزيدها بهاءً ورونقًا).
(وكان قائد الكتيبة برتبة عقيد، يحمل على كتفيه رتبته العسكرية، وهي بحساب النجوم اثنتا عشرة نجمة، على كل كتف تاج يعادل أربع نجوم،
1 / 12
ونجمتان مع التاج، فيكون مجموع النجوم على الكتفين: اثنتي عشرة نجمة).
(ويومها قلتُ له: إنني أطيعك في تنفيذ أوامرك العسكرية، وأطيع الله في أوامره، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنك تحمل على كتفيك اثنتي عشرة نجمة، فانظر إلى سماء الله لترى كم تحمل من نجوم).
(وبهت القائد، وردّد: السماء ... السماء ... ! نجوم السماء ... !
وأشاح قائد الكتيبة بوجهه عني، ومضى غضبان آسفًا وهو يقول: هذا الضابط لا يفيد ... لا يفيدنا أبدا).
(ويومئذ شعرتُ بأن موقفي ليس مصاولة بيني وبين القائد، ولكنها مبارزة بين إرادته بشرًا وإرادة الله خالق البشر).
(وجلستُ وحيدًا أتأمل ... وجلس الضباط جميعًا، ترتفع ضحكاتهم إلى عنان السماء).
(كان الاعتقاد السائد بين أكثر الضباط أن التدين تخلف وجمود وأن التقوى بلادة وتواكل، وصمَّمت أن أُثبت أن تلك المفاهيم خاطئة، وأن الضابط المتدين حَرِيٌّ بالتفوق، وأن الدين يستثير الهمم والعزائم، فعزمتُ ألا أرضى بالنجاح وحده، بل بالتفوق في النجاح، وكان سبيلي إلى ذلك العملُ الدائب وإتقانه، والحرص الشديد على أداء الواجب وإحسانه، واستيعاب العلوم العسكرية بدقائقها، والسهر على تدريب الجنود وحل مشاكلهم، حتى أصبح رعيلي نموذجيًا، يقصده الزائرون من الوحدات الأخرى والأجانب، ويحوز قصب السبق تدريبًا وتهذيبًا وضبطًا على رعائل الكتيبة).
(كنت أحضر الثكنة قبل شروق الشمس، وكنت أغادرها الهزيع الأول من الليل، وكنت أقضي وقتي متعلمًا ومعلمًا ومتدربًا ومدربًا. وكان من الأمور الاعتيادية أن يصدح بوق النهوض وأنا في الثكنة، فيجدني جنودي منتصب
1 / 13
القامة في قاعة نومهم، فشاع بين الضباط أنني أصلّي الفجر في الثكنة، ولا أغادرها إلا بعد صلاة العشاء ...).
(وبهذا الجهد الجهيد، استطعت تكذيب ما أُلصق بالمتدينين ظلمًا وعدوانًا، واستطعتُ الاستحواذ على ثقة قادتي وجنودي، وتسنُّم مناصب عسكرية لا يحلم بها زملائي في الرتبة والقدم) (١).
وللقارئ الكريم أن يتصور مدى جهد اللواء الخطاب ومدى معاناته، وكيف صبر وصابر؟ وكم تحمَّل وكابد؟ حتى وصل إلى أعلى رتبة عسكرية في الجيش العراقي وبشكل طبيعي، ودون ترقيات استثنائية.
أقول: إنه صبر ولاشك، ولكن الله أعانه، ولحكمة يعلمها. ولعل الحكمة الربانية في هذا التوفيق أن يفتح الله عليه كتابة هذه المؤلفات والبحوث العسكرية المتخصصة وغير المسبوقة، وخاصة ما يتعلق بإعادة صياغة التاريخ العسكري لأمتنا العربية الإسلامية بأسلوب فني وعلمي متخصص بدءًا من عهد الرسالة وانتهاء بعهد الفتوحات. جزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير.
(٥) وبهذا الجهد الجهيد -كما يقول الخطاب- ومع الاستقامة على أمر الله والاستعانة به سبحانه، فرض احترامه على رؤسائه، وارتقى في السلك العسكري ضابطًا محترمًا، رتبة بعد رتبة حتى حصل على رتبة اللواء الركن واستمر في هذه الرتبة حتى اعتُقِل في العهد الشيوعي -عهد عبد الكريم قاسم -، وقد اعتُقِل ثمانية عشر شهرًا من أواخر سنة ١٩٥٩ م إلى منتصف عام ١٩٦١ م ثم أُفرج عنه، بعد أن ترك التعذيب أثره في جسده في (٤٢) كسرًا في عظامه (٢). لم يحفظوا له سنًا ولا رتبة ولا علمًا ولا قدرًا «وما نقموا منهم إلا
_________
(١) من مقدمة الخطَّاب لمؤلفه (بين العقيدة والقيادة) ٢٩ - ٣٣.
(٢) من السيرة الذاتية للواء الخطَّاب بخط يده ص ١٣.
1 / 14
أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد».
يقول ﵀ في ذلك: (لم يكن عبد الكريم قاسم شيوعيًا، ولكن كان مضطرًا للاستعانة بهم، وبخاصة في تلك الأثناء التي اندلعت فيها ثورة الشوَّاف في الموصل، فأطلق أيديهم يعملون ما يشاؤون، ولم يكن بوسعهم الصبر على موقفي منهم (١)، فبعث إلى المنطقة بضابط يصلح لتحقيق رغبات الشيوعيين، وما لبثوا أن تجمّعوا حوله ليخطب فيهم داعيًا إياهم إلى سحل كل ضابط وفدائي يقف في طريقهم، أو لا يؤيد ثورتهم، فكان عليّ أن أتدارك ما أمكن من الخطأ، فدخلت على هذا الضابط أحذره مغبة تصرفه، فما كان منه إلا أن اتصل بعبد الكريم قاسم لإقصائي عن طريقه، وهكذا تمّ لهم ما يشاءون، وكان ذلك في الهزيع الأخير من إحدى ليالي رمضان، حيث أوقفني ثلاثة من جنودهم فاعتقلوني ثم حملوني في حراسة مشددة إلى السجن المخصص لأعداء الثورة في بغداد، واستمر وجودي ثمانية عشر شهرًا مشحونة بأنواع من التعذيب الذي يعجز الوصف عنه، وفي جسدي اثنان وأربعون كسرًا في العظام (٢».
(٦) لم يكن اللواء الخطاب مجرد ضابط موظف محترف، بل خبر العلوم العسكرية، وتبحّر في هذا التخصص، واجتهد فيه يشهد له بذلك الإمام الجليل الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله تعالى- فيقول: (قائد يعرف خصمه، فيدرك مراميه، حتى إنه ليتوقع الحرب أو الهجوم من عدوه في ميقاتها، وقبل أن يعلنها، وقبل أن يفكر فيها من سيكونون حطبها، لأنه يعلم الخصم ومآربه وحاله، ويتعرف من ذلك مآله، علم بهجوم اليهود سنة ١٩٦٧ م قبل أن يعلنوه،
_________
(١) كان الفقيد يومها رئيس هيئة أركان حرب الفرقة الأولى مسؤولًا عن أمن الجنوب ما بين بغداد والبصرة.
(٢) من رسالة التخرج لابنة المؤلف آمنة محمود شيت خطاب ص ١٦ (غير مطبوع).
1 / 15
وقبل أن يقدره الذين كانوا في زعمهم يدبرون الأمور. ويلبسون لكل حال لبوسها) (١). يشير العلامة أبو زهرة بهذا إلى بحث كان قد نشره اللواء الخطاب قبل هذه الحرب المأساة، تحت عنوان: (حرب أو لا حرب) قال فيه: (إن نفير إسرائيل سيكتمل يوم الخامس من يونيو -حزيران- سنة ١٩٦٧ م فتكون إسرائيل جاهزة للحرب في هذا اليوم وستهاجم إسرائيل العرب في هذا اليوم حتمًا). ثم قال ﵀ وبكل تواضع، وبعد أن حدث بالضبط ما توقعه: (وقد صدقتِ الأحداث ما توقعتُه، ولست نبيًا، ولكن الفن العسكري أصبح علمًا له قواعد وأسس، عليها استندتُ في كل ما كتبتُه من مقالات) (٢).
(٧) كان من جهاده العسكري -رحمه الله تعالى- أنه شهد الحرب العراقية البريطانية في العراق عام ١٩٤١ م في ثورة رشيد عالي الكيلاني -رحمه الله تعالى- ثم خاض معظم المعارك التي التقى فيها الجيش العراقي بقوات الإنجليز، وكان أثناء ذلك برتبة ضابط ركن في لواء الخيالة المرابطة بأبي غريب -على بعد (٥٠) كم من الأنبار- التي جرت في ساحتها أهوال المعارك، ونتيجة قصف الطيران المعادي الشديد، أصيب اللواء الخطاب بقنبلة توزعت شظاياها في كل موقع من جسمه، وكان أمل الأطباء في بقائه على قيد الحياة ضئيلًا، ولكن شاءت إرادة الله أن يشفى القائد ليتابع جهاده في خدمة دينه وأمته (٣).
ومن جهاده العسكري كذلك أنه لما تخرج من كلية الأركان عام ١٩٤٨ م
_________
(١) من مقدمة الشيخ محمد أبو زهرة لكتاب (بين العقيدة والقيادة) للواء الخطاب ص ١٢ وانظر كتابه (الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها).
(٢) من مقدمة كتاب (العسكرية العربية الإسلامية للواء الخطاب) للأستاذ عمر عبيد حسنه، كتاب الأمة ص ١٩.
(٣) من رسالة ابنته آمنة ص ١٥، والسيرة الذاتية بقلم الراحل الكريم ص ١٣.
1 / 16
قدَّم طلبًا إلى وزارة الدفاع العراقية ليتطوّع مقاتلًا في معارك التحرير لإنقاذ فلسطين. يقول ﵀ بعد أن تمت الموافقة على تطوعه: ذهبت إلى منصب ضابط ركن اللواء الرابع في مدينة جنين الفلسطينية، وبقيت هناك نحو سنة، حتى عدت مع الجيش العراقي (١) ... ويسجل ذكرياته في هذه الساحة الجهادية فيقول: انتصر فوج واحد يبلغ تعداده (٨٢٢) ضابطًا وجنديًا على عشرة آلاف صهيوني كانت خسائرهم في تلك المعركة أكثر من تعداد الجنود العراقيين (٣٠) شهيدًا مع أن المعركة معركة تصادفية، ولم يكن أي من المنتسبين إلى الجيش العراقي قد سمع بـ (جنين) أو يعرف حتى مكانها، ولا توجد لديهم خرائط ... وكان بين قتلى اليهود ابنة (ابن جوريون) رئيس وزراء إسرائيل (٢) ...
(٨) بعد انقضاء حكم عبد الكريم قاسم تولى منصب الوزارة في عهد الرئيس عبد السلام عارف عدة مرات، ولكنه انتهز أول فرصة، فاستقال للتفرغ للعلم وحده، وقد عُرِضت عليه الوزارة في كل حكومة شكلت بعد سنة ١٩٦٤ م، ولكنه اعتذر باستمرار، وفي سنة ١٩٦٨ م في ١٧ تموز عُيِّن وزيرًا للمواصلات، وكان يومها في مصر رئيسًا للجنة توحيد المصطلحات العسكرية فاعتذر عن قبول هذا المنصب وآثر العمل في المجالات العلمية على العمل في المناصب الحكومية، وبقي في القاهرة حتى أخرج للناس المعجمات العسكرية الموحدة الأربعة المعروفة، والتي أعيد طبعها مرات كثيرة، وكان هو الذي اقترح توحيد هذه المصطلحات وهو الذي وضعها في حيز التنفيذ.
وعاد من مصر إلى العراق سنة ١٩٧٣ م، فعرضت عليه عدة مناصب
_________
(١) كتاب اللواء محمود شيت خطاب للواء الركن يوسف بن إبراهيم السلوم ص ٦٤.
(٢) المرجع السابق.
1 / 17
حكومية رفيعة، ولكن اعتذر عن قبولها، وتفرغ كليًا لبحوثه ودراساته وللتأليف والتدريس في المدارس والمعاهد والجامعات العسكرية في أرجاء البلاد العربية كلها، ما وجد إلى ذلك سبيلًا (١).
(٩) تألّقت شخصية اللواء الخطاب العسكرية والعلمية والدعوية على مستوى العالمين العربي والإسلامي فاختير عضوًا فاعلًا في كثير من الهيئات والمجامع العلمية منها:
أ - المجمع العلمي العراقي -عضو كامل- منذ سنة ١٩٦٣ م.
ب - مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف منذ سنة ١٩٦٨ م عضو كامل.
ج - مجمع اللغة العربية في القاهرة -عضو مراسل- منذ سنة ١٩٦٦ م.
د - المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي -عضو كامل- منذ سنة ١٩٦٤ م.
هـ - مجمع اللغة العربية في دمشق -عضو مراسل- منذ سنة ١٩٦٦ م.
و- مجمع اللغة العربية الأردني -عضو مؤازر- منذ سنة ١٩٧٩ م.
ح - المجلس الأعلى العالمي للمساجد بمكة المكرمة -عضو مؤسس- منذ سنة ١٩٧٥ م.
ط - مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة -عضو مؤسس- منذ سنة ١٩٧٧ م (٢).
(١٠) تتجلى هذه المكانة الرفيعة والسمعة الطيبة فيما كتبه العلامة الفقيه
_________
(١) السيرة الذاتية للواء الخطاب بخط يده ص ١٤ - ١٥.
(٢) السيرة الذاتية للواء الخطاب بخط يده ص ٨ - ٩.
1 / 18
الإمام الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله تعالى- تقريظًا لكتاب اللواء الخطاب (بين العقيدة والقيادة) قال: (وإن صديقي الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب، القائد العظيم المدرك والوزير المخلص -وقليل ما هم- سعدت بمعرفته من نحو أربع سنين أو أقل (١)، والمدة في الحالين لا تزيد، ولكني بمجرد أن التقيت به أحسست بأني أعرفه منذ سنين تُعَد بالعشرات، لا بالآحاد، وكأن الأرواح قد تعارفت قبل أن تتلاقى الأشباح، وكأن الصورة قد رأيتها، وما لقيتها؛ لأن الأرواح تتآلف وتسبق الائتلاف، وتتقارب وتسبق الاقتراب، ولذلك سرعان ما تصادقنا عندما التقيت به، وكأن صداقتنا ترجع بالماضي على آماد، لا إلى وقت قريب.
إذا اجتمعنا منفرِدَيْن أو في جَمْع، وتبادلنا الأفكار، أحسست بأني لا أنوي فكرة إلا سبقني إليها، وقد أسارع إلى القول بما في خاطره، قبل أن يبديه، وكان ذلك لامتزاج نفوسنا، وصفاء ما في نفسه، وابتعاده عن الالتواء في القول أو الفكر أو الاتجاه، فهو يسير بفكره وقوله وعمله في خط مستقيم، كاستقامة قامته، والخط المستقيم يُعرَف ابتداؤه كما يعرف وسطه وانتهاؤه.
وكانت مجالس نتبادل فيها الحديث على نور من الله، وروحانية نفوس، واستقامة قلوب بيننا، فكنت أتذكر في هذه الصحبة قول النبي ﷺ: "إن لله ناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم من الله" قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: قوم تحابّوا بروح من الله على غير أرحام تربطهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إنهم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم تلا قوله تعالى «ألا إن أولياء الله لا
_________
(١) تاريخ الطبعة الأولى من الكتاب هو سنة ١٣٩٢ هـ-١٩٧٢ م، ومن خلال هذا التاريخ يعرف تاريخ كلمة الشيخ أبي زهرة رحمه الله تعالى.
1 / 19
خوف عليهم ولا هم يحزنون».
تذكرت هذا الأثر النبوي إذ اكتمل بالعمل جمعنا، لكني ولست ممن يتسامى إلى هذه المكانة، وأحسب أن صاحبي يتسامى إليها، أو إني أرجو له ذلك.
وقد جمع الله تعالى لصديقنا اللواء خطاب من الصفات ما تسمو به واحدة منها عن سفاسف الأمور، وتتجه به إلى معاليها.
أولها: الإخلاص في القول والعمل، والإخلاص إذا كان في قلب أشرق، وقذف الله تعالى فيه بنور الحكمة، وكان تفكيره مستقيمًا، ولسانه قويًا، وعمله حكيمًا، فلا يكون التواء ولا عوج.
ثانيها: الإدراك الواسع، والعلم بما حوله، وتعرّف الأمور من وجوهها، وإدراكها من مصادرها فقلمه نقي، وفكره ألمعي ...
وثالثها: إيمان صادق بالله، ورسوله النبي الأمين، ولذلك يتَّبع سيرة السالفين، ويجعل منهم نورًا يُهتَدى به، ويعلم منه أعلام الهداية.
ويكمل هذه الصفات التي هي بمنزلة السجايا والملكات، همة عالية، وتجربة ماضية، وخبرة بالعلم والحروب، وخصوصا ما كان بين العرب واليهود.
(وهو عالم في العربية، وملم إلمامًا عظيمًا بشؤون الدين، وقارئ يتقصَّى الحقائق فيما يقرأ، يتعرّف ما تسطره الأقلام، وما وراء ما تسطره، ينفر من تقليد الفرنجة، ويُوثر ما في القرآن والسنة وما كان عليه السلف الصالح، وهو ممن يؤثرون الاتباع، ولا يرضون عن الابتداع، سلفي في إيمانه وعمله، قوي في تفكيره، ويهضم ما جدَّ في العصر بما في قلبه من إيمان راسخ، واتباع مستقيم، وله مع كل هذا قلم بارع مصور، وكتابته من قبيل
1 / 20