ولما أتى على نشيده دانيناه، وبالتحية بادأناه، ثم ابتدره صاحبي بالسؤال: لمن الشعر أيها الأديب؟ قال: لأحد شعراء الوقت، قال: وهل ترى رأيه فيه؟ قال: ومن ذا الذي يخالفه فيما يرتئيه وقد نطق حقا ونظم صدقا؟ قال: وأين أنت من القوم؟ قال: من أولئك الذي نقموا الرضا على العهدين، ولم يحمدوا مغبة الحكمين، عهد الدولة التركية وعهد الدولة الإنجليزية؛ ففي أولهما فاضت المظالم، وغاضت الأموال، وفي ثانيهما أخصبت الأرض، وأجدبت الرجال، قال صاحبي: وهل أنت في خفيض من العيش؟ فأجاب الفتى: لا أشكو بحمد الله عسرا، ولا أرجو يسرا، وإنما أنا أتفيأ
مذبذب الرزق لا فقر ولا جدة
حظ لعمرك لم يحمق ولم يكس
قال صاحبي: وأين مكانك من العلم، وأين منك منزلة الحلم؟ قال: حسبي أني من تلاميذ حكيم الإسلام الأستاذ الإمام - طيب الله ثراه، وجعل النعيم مثواه - قال صاحبي: إني لأرى رأيا حصيفا، وأسمع قولا شريفا، فمن أي تلاميذه تكون؟ فقد سمعنا أنهم فريقان؛ فريق قد اختصه بسياسته، وفريق قد اختصه بعلمه، وقد أثنى عليهما العميد، وتنبأ لهما بالطالع السعيد؟ قال الفتى: لا علم لي بما تقول؛ فلقد كنت ألصق الناس بالإمام، أغشى داره، وأرد أنهاره، وألتقط ثماره، فما سمعته يخوض في ذكر السياسة - قبحها الله - ولكنه كان يملأ علينا المجلس سحرا من آياته، وينتقل بنا بين مناطق الأفهام، ومنازل الأحلام، ويسمو بأنفسنا إلى مراتب العارفين بأسرار الخلائق، وحكمة الخالق، وكان ربما ساقه الحديث إلى ذكر أحوال هذا المجتمع البشري، فأفاض في شئون الاجتماع، وحاج العمران، ووقف بنا على أسرار الحياة، ولم يزل ذاك همه - رحمه الله - يلقي في الأزهر دروس التفسير، وفي داره دروس الحكمة، حتى مضى لسبيله، فإن كانوا يسمون تلاميذه أحزابا، ويقسمون تعاليمه أبوابا، فتلاميذه حزب العلم والعرفان، وتعاليمه سياسة التقدم والعمران، على أنه كان من أشد الناس تبرما بالسياسة وأهلها، حتى أعلن براءته من الالتصاق بها، فقال عنها في كتاب الإسلام والنصرانية ما قال.
لكنه كان يحتك بها ما دعت إلى ذلك الحالة، ويرصد حركاتها رصدا، ويصد غاراتها صدا؛ خشية أن تقطع على العلم سبيله، أو أن تقف عثرة في طريق الفضيلة، ولولا ذلك لقطعت عليه سلك أمانيه، وحالت بينه وبين ما كان يبتغيه، فكم تلطف في ابتزاز قواها، وتحامى جهده طريق أذاها، حتى إذا ظفر بطلبته، وفاز برغبته، واستمد منها ما شاء تحت حماية الإفتاء، عطف على العلم بذلك الإمداد، ورد عليه ما سلبت يد الاستبداد. ولعله أوهم العميد بيقظة حزب جديد ليرد عاديته، ويفسد عليه سياسته في مصادرة العلم، ومصارعة الحلم. أما ترى بربك أثر ذلك في المدارس، وما عبثت به يد ذلك السائس؟ ولولا أن الإمام مادهم حبل الوداد، وجاذبهم فضل النصح والإرشاد، لأصابه ما أصاب حكيم الأفغان، وقضي على هذه الأمة بالحرمان؛ فلقد كان يغدو على الوكالة ويروح عنها ليدفع عنا شرة القوم، ويصلح ما تفسده أهل الدسائس، فكم زحزح عنا حادثا، ودفع كارثا، ولو كان حيا يوم دار الفلك لنا بالنحوس في دنشواي؛ لرأيت غير الذي رأيت من ذلك القصاص. ولما ارتفع صوت
الموتور، فكان فيه كثير جموح اليراع، ضعيف جانب الإقناع؛ كأنه يكتب مقالة خيالية إلى مجلة سياسية، وقف فيها وقفة المدافع عن نفسه.
لحق النبي عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى، فارتدت طائفة من جفاة العرب وكادوا يفتنون الناس لولا حكمة الصديق، وعزمة الفاروق، فما غض أمر الردة من شرف النبوة، ولا نال من عصمة الرسالة، ولبث الإسلام إسلاما، ومات الأستاذ الإمام - رحمه الله - فصبأ بعض حزبه - كما يدعون، وأستغفر الله لهم مما يقولون - فما غض ذلك من كرامة حكيم الإسلام، ولا مس من سيرة ذلك الإمام.
أراد بعض مريديه أن يغني غناءه، وأن يفعل شرواه في التوفيق بين صوالح القوم وصوالحنا، فرمى بنفسه في أحضانهم، وليست له مكانة الإمام من نفوسهم، ولا منزلته في قلوبهم، فقصر ولا بدع، وأخفق ولا عجب، فإن الفراغ الذي تركه الإمام لا يشغله الألوف من أولئك الذين يرفعون العقيرة بالصياح، وينعون عليه مذهبه في الإصلاح، ولما ظهر ذلك المريد بمظهر الاتصال بالقوم، أنكر الناس منه ذلك، فطارت حوله الشبهات، وانبسطت فيه الألسن، وأخذته سهام الأقلام، على أنه وإن أخطأه التوفيق في عمله، فما أخطأه حسن القصد، ولا جازته سلامة الطوية. فوجد بعض المرائين السبيل إلى تشويه سمعة الإمام بعد موته، وبالغوا في ذم حزبه، وزادهم ضغنا أن قرءوا في تقرير العميد ما قرءوا، وظنوا أن هناك حزبا يعمل، ولو أراد الله خيرا لهذه الأمة لسخر لها من تلاميذ الإمام من يقوم بالدعاء إلى التئام ذلك الحزب الذي أودع فيه الإمام من أسرار حكمته، ما كشف لهم عن حقيقة المصير الذي أصبحنا نساق إليه سوقا أعجلنا عن النظر في أمورنا، فأمسينا أتباعا لكل ناعق.
قال صاحبي وقد هاله ما سمعه: أكان يكون بين ظهرانيكم أمثال أولئك الأمناء على تعاليم ذلك الحكيم ولا تتعلقون بأذيالهم؟ على أني لا أرى فيكم إلا ناعيا عليهم مشهرا بهم، فإن كنت لم تكذبني القول، فتلاميذ الإمام حقيقون باللوم؛ لأنهم يعلمون الحق، ولا يدعون إليه، علموا أن لا حياة لهذه الأمة بغير الجامعة، فما لهم لا يواصلون قرع أنوف
ساقتهم الحكومة إلى ذلك، ولو علموا أن انتشار التعليم الناقص شر على الناس من بقاء الجهل، لما بذلوا في سبيله ما بذلوا، فكان مثلهم في ذلك كمن يحاول النجاة من أنياب النمر ليقع تحت براثن الليث؛ لأنهم إنما يستبدلون بانتشار الكتاتيب داء الجهل، ولكن بداء الغرور، فسبيل الإصلاح أن ينشأ الكتاب، وتبنى الجامعة في وقت معا، حتى إذا أخرج الأول نصف إنسان، أطلعت الثانية إنسانا كاملا، فتكفل هذا الكامل بصلاح ذلك الناقص، فتتماسك الأمة، ويكثر فيها الدعاة إلى الخير، فليس بينها وبين الحياة إلا أن يخرج لها العلم الصحيح رجالا يقودون الأفكار، ويسلكون بها سبيل الرقي.
अज्ञात पृष्ठ