أوجب ذلك كله ضعف في سياسة القوم يحاولون سد فراغه بهذا العنف الشديد.
ولكن حنانيك أيها اللورد الكريم، وعطفا أيها العامل المصلح، الذي ما عهدناه يريد لمصر غير الخير والفلاح! وإنصافا أيها الرجل الشريف النزيه، الذي لا يرضيه أن تضحي مصلحة أمة شكورة، تعرف الجميل لصانعه ولا تنساه، حنانيك أيها اللورد أن يخدعك عجز أعوانك فتحكم خطأ على أمة كتبت صحف تاريخك فيها بيضاء، فتعكسها آية انتقام لا محل له منك بما تجره عليها من الويل والثبور في مصير الأمور.
ولما انتهى من القراءة قال صاحبي: لقد أحسن الكاتب، وأصاب الناقد، فغمز بقلمه مكامن الضعف من تلك السياسة، وحسبنا الساعة ما سمعناه، على أنني لا أرى رأيه في النعي على هؤلاء المحتلين فيما يذهبون إليه من مذاهبهم في ضروب الاستعمار، وفنون الاستثمار. إنهم دخلوا في الأرض أصابوا فيها أنعاما سائمة فاكتسحوها، وقطعانا سارحة فاغتنموها، ولو أنهم أصابوا نفوسا تشعر، وأعصابا تحس؛ لما بلغوا بها المبلغ الذي تراه.
أرأيتك كيف يجمل بهم وهم أبطال السياسة وفرسان الدهاء أن يوقظوا بأيديهم هؤلاء النيام، أو يحركوا بقوة العلم هذه الأصنام؟ فمن ذا الذي يقف بعدوه على سبيل الرشاد، أو يمهد لأسيره طريق الفكاك. إنما تلك شمائل الأنبياء، وخلال الأصفياء، لا فرق عندهم بين العباد في سبيل الهداية والإرشاد.
قرأت في قاموس وضعه أحد الحكماء من شعراء فارس ألبس فيه الحكمة ثوب الهزل؛ لترغب فيه العامة، ولا ترغب عنه الحامة (الخاصة)، فكان مما استوقف نظرتي، ولفت فكرتي، قوله في تفسير لفظة النبي: «فسرها بالمحب لأعدائه.» وأنك لا تجد - فيما أعلم - بين هؤلاء الناس مهما اختلف القياس من يحب عدوه، ويرجو له الهداية، اللهم إلا تلك الطائفة التي اصطفاها الله فنزهها عن الأغراض، وطهرها من الأحقاد. والقوم ليسوا - بحمد الله - من تلك الطبقة حتى نحسن الظن بأفعالهم، ونريدهم على أن يعملوا على صلاح عدوهم، فلا تعضنهم بأنياب الملام، ودعنا الساعة من ذكر السياسة، فإنني أخشى أن ترتفع أذيال الظلام قبل أن نقضي اللبانة من رؤية تلك المراقص.
ثم ودعناه وعطفنا على المرقص، فما هو إلا أن أحلنا حتى نظرنا، فإذا امرأة نصف قد تبذلت في لباسها حتى خرج بها التبذل عن أفق الحياء، تكاد تتزايل من فرط التمايل أعضاؤها، وينعقد من شدة التهييف خصرها، فهي تلتوي التواء الحية الرقطاء، وتضطرب اضطراب السمكة حيل بينها وبين الماء، فأجال صاحبي نظرة في أنحاء المرقص ألمت بجميع ما فيه، ثم دعاني إلى النهوض فنهضت، وما كدنا نجاوز الباب حتى أنشأ يحدثني فقال وهو يخافت من صوته: إني نظرت فما كاد يرتد إلي طرفي حتى ألممت بجميع ما يقع بين تلك الجدران من أسرار هذه المخازي العصرية.
قلت: وما عسى أن يكون قد كشف لك منها في هذه اللمحة اليسيرة والنظرة القصيرة؟
قال: رب نظرة عجلى تنقطع دونها سوابق الأفكار، وتنكشف أمامها غوامض الأسرار.
نظرت في تلك الصفوف فلم ألمح إلا رءوسا مصرية، وأزياء شرقية، ثم نظرت فإذا الذي يحمل المدام، ويقف موقف الغلام، لا يخرج رأسه عن أفق تلك الرءوس، ثم تنقلت بالنظر إلى الناقر على الدف، والنافخ في القصب، وحاضن العود، وحامل المبذل، وصفعان القوم، فإذا كل أولئك من أولئك من أولئك، ثم أسرعت باللمح إلى تلك النسوة المتبذلات، فإذا جميعهن من المصريات، فأحزنتني الحال، وزادني حزنا أن رأيت أن المحتلب لهذه الجيوب، والذاهب بتلك الأرباح رومي غير مصري.
فهب أن المصري قد أعياه أمر النزوع عن تلك الشهوات، أفلا يعرض له فكر الانتفاع بما يقع وراءها من المنافع، واسترداد هذا المال الضائع! عجبت له؛ أيذهب هو بالإثم، ويذهب بالمنفعة سواه؟! فما ضره - قاتله الله - لو ضم تلك إلى ذاك، فقام بعمل الرومي وخرج من جدث هذا الجمود، ونفض عنه غبار ذلك الخمول ؟!
अज्ञात पृष्ठ