قال الراوي: ثم انقطع الصوت، فقمنا ثملين مما سمعنا من ذلك الولي، وقلت لصاحبي وهو كالمأخوذ: ما عسى يكون ظنك بصاحبك بعد اليوم؟ قال: لقد صدق فيما وعظ، ورحم الله عبدا اتعظ، فإن دابرت أديبا بعدها فلست لأبي، وأشهد الله أنني وقفت يراعتي على التوفيق بين جماعة الأدباء، لعلنا نتساند جميعا على تأييد هذه الدولة التي لم تكد تدرج من مهدها، حتى وقف بها الضعف على حافة لحدها، ولو لم أكن خامل المنزلة، بعيدا عن الشهرة، لكنت أول الصائحين غدا بما وقع في نفسي من كلام هذا الولي الكريم، ولكن من كان مثلي، كان خليقا أن تردد الصحف صدى صوته؛ لعدم نباهة ذكره.
قلت: لقد أخطأت منافع الرأي، فإن خمولك يجعلك بمنجاة من الحسد والضغينة، فإذا كتبت شيئا لا تصرف الغيرة عيون القارئين عن الخوض في جمال بيانه، وحسن برهانه، وربما بلغ خمولك من الناس ما لا تبلغه نباهة غيرك، فلا تغبط نبيها على منزلة نالها بعد جفاء المضجع وإنصاب البدن، فإن بجانب اللذة التي يشعر بها عند التنويه باسمه آلاما يضيق عنها مدى الصبر، وإنما تحس بذلك كل نفس أخذت قسمها من الشهرة، ولو أنك وقفت على ما يكابد النبيه من حسد المعاصرين، وكيد المكابرين، لزهدت في عيشه، وفررت من الشهرة إلى الخمول، ولرأيت رأي المعري في قوله:
تمنيت لو أني بروض ومنهل
مع الوحش لا مصرا أحل ولا كفرا
فاعلم أن الشهرة سجن من سجون النفس، يعقلها فيه حب الكمال الإنساني، ويكلها لخفارة الفضيلة، فلا يقوى على البقاء فيه إلا قوي الإرادة، وليس كل من عرفت من النبهاء مضطلعا باحتمال ما يعرض له من آلام ذلك السجن، ولا قادرا على مصارعة الهوى. وكم من نبيه أعياه أمر نفسه، فنزع إلى الخمول، واختبأ في ثنايا النسيان، ورأى أن كفة اللذة مرجوحة في باب الشهرة، فنزع إلى كفة اللذة في باب الخمول.
لقيت مرة أحد أولئك الذين كانوا من النبهاء، ثم سكنوا إلى عيش الخاملين، فقلت له في ذلك، فقال لي: لقد وفيت قسطي من الأولى، وها أنا ذا أستوفيه من الثانية، فقلت له: وماذا أصبت في الحالين؟ قال: أصبت في الأولى لذة تكتنفها الآلام، وأصبت في الثانية ألما تحيط به الملاذ. ولقد كنت وأنا في ربيع الشهرة كأني المعني بقول أبي النجم في أرجوزته:
كالغرض المنصوب للسهام
أخطأ رام وأصاب رام
وكان شعاري في التمثيل بهذا البيت:
فيا عفتي ما لي وما لك كلما
अज्ञात पृष्ठ