حينئذ ينبغي لنا أن نستسلم لكل شيء، ونقر بعجزنا أمام من هو أقوى منا، وإذا شعرنا بقسوة النظامات الطبيعية والبشرية وشدتها، فلنهمس في آذان بعضنا بأننا مظلومون، ولنشهد أحجار الأرض وكواكب السماء بأننا مظلومون؛ لأن إخواننا البشر لا يرحمون ولا يشفقون، وإذا أشفقوا ورحموا فليسوا بقادرين أن يخففوا عنا مصائبنا، ودموع الإنسانية وآهاتها لا تمحو سطرا واحدا مما كتب القضاء على الجبين؟ إن هذا هو الضعف المبين!
لكنني لا أتردد في كتابه هذه الشكوى «ورقة اتهام»، أتركها من بعدي؛ ليعلم الناس حقيقة الحال، ورقة اتهام أدعي بها على قوى الكون جميعا أنها كلها اشتركت في الجريمة التي قضت على الإنسانية بالآلام الطويلة التي ليس لها آخر إلا بالموت الزؤام إذا لم تنفض عن كاهلها غبار العجز.
الموت الزؤام! نحن الذين نبغض الحياة الدنيا ونحتقرها ونعد من يحبها جاهلا، نقول إنه موت زؤام. نحن الذين لم نذق في حياتنا إلا ساعات معدودة من سعادة موهومة كانت تعادلها سنون وشهور ذقنا فيها صنوف الآلام، نحن نصف الموت بأنه زؤام.
ألا إنه علاج سائر الأدواء!
أليس هو النهاية الكبرى لذاك الشقاء؟! فلماذا إذن ندعوه بالزؤام؟!
أليس أمامنا من الأسباب العقلية والنفسية ما يدعونا إلى حب الموت والسعي إليه واستهانة آلامه إن كان فيه آلام؟ ولكن الغريزة الحيوانية الدنيئة أراها لاصقة بالحياة، أراها تحب العيش مهما كان مرا، وتفضله على الموت مهما كان حلوا. إذن فلنعش، ولنتألم، ولنذق صنوف العذاب، ولنشرب كأس الألم حتى حثالتها؛ ما دامت الطبيعة القوية جعلتنا نرجف ونرتعش من صورة الموت إذا تخيلناها! أين أنتم يا فلاسفة الأرض ويا حكماء الحياة؟ أين أنتم؛ لتحلوا معي ذلك اللغز الذي لا يحل؟ أين أنت أيتها الحقيقة العظيمة المتبرقعة ببرقع لم يجسر ذوو أشد النفوس قوة على رفعه؟
أين أنت أيتها الحقيقة الجليلة؛ لأسرع إليك ولأمزق ذلك النقاب الكثيف، ولأنظر إليك وجها لوجه، ولأقرأ في جبينك الوضاء حلا لمعجزة الحياة والوجود؟
أين أنت أيتها الحقيقة المستترة؛ لأصل إليك ولأشكو لك آلامي ومصائبي وآلام إخوتي في الإنسانية؛ لتشفقي وتمطري من عينيك الخارقتين دموعا تمتزج بدموعي وتنادي بصوت الأم الحنون: «إلي أيها الولد التائه الضال الحزين، إلي لأخفف آلامك ولأسكن لوعتك.» ثم تسفرين عن وجهك فأخر أمامك ساجدا صعقا كما خر موسى من قبل أمام وجهك في جبل الطور؟
ألست أنت أيتها الحقيقة التي أوشكت أن تشفقي علي يوما كنت فيه على رأس الجبل في بقعة سحيقة من الأرض، وكانت السماء ممطرة والشمس تغيب وتظهر، وأنا أبكي من قلبي، فخيل إلي أنني أسمع صوتا وأرى وجها جميلا، فخررت على حجر وما زلت جاثما حتى نبهتني قشعريرة شديدة سرت في بدني، فأسرعت منحدرا وشعرت براحة وسرور؟
ألست أنت من حاولوا أن يكشفوا سرك في هياكل أفريقيا ومعابد آسيا ثم عادوا خاسئين؟ ألست أنت أيتها الحقيقة التي تركت في كل مكان أثرا من آثارك حتى إذا بلغه أحدنا نحن المساكين أغويته وجذبته إليك ثم اختفيت من أمامه كالسراب الذي يخدع التائهين في الصحراء؟ إلى متى أيتها الحقيقة يبقى الإنسان ضالا تائها؟ وإلى متى يدوم ذلك السباق الأليم بين الجهل والعلم وبين الباطل والحق وبين النور والظلام؟
अज्ञात पृष्ठ