الحزن الإنساني
أحاط بي اليأس يوما؛ فاستنجدت بالروح الحائر، فلما أجاب ندائي قلت: «أيها الروح الحائر، إنني من الحزن في سجن ضيق، فهل لديك إلى الرجاء سبيل؟» قال: «خفف عنك؛ إن الحزن من حاجات الحياة الفانية، وأغلب من ترى من الناس يائسون، إنما يظهرون القوة ويتعلقون بأهداب الرجاء ويخلقون لذلك ألفاظا عذبة، كيف لا ييأسون وهم لا يدرون من أين أتوا، ولا إلى أين يذهبون، وهم يشعرون في كل خطوة من خطواتهم أنهم مسيرون، على أنني منذ تركت الأرض تركت معها اليأس، ولكن قد قضيت أياما لا أزال أذكرها؛ لأنها ما كان أقساها!» قلت: «حدثني عن تلك الأيام؛ لعل بينها وبين أيامي شبها.»
قال : «كنت في تلك الأيام في حال يرثي لها الصفا الصلد، لا أعي على شيء ولا ألوي على أحد، كنت حزين القلب مشتت اللب، إذا خلوت بنفسي حدثتني بالويل والثبور؛ فيحيط بي اليأس ويحتويني القنوط ويتمكن مني الوجل مما يأتي به الغد، وإذا جلست إلى الناس كنت عنهم في شغل شاغل؛ يقولون ولا أسمع، ويسمعون ولا أقول، فإذا نبهني أحد جلاسي إلى ما يبدو على وجهي من الألم والحزن اختلقت له عذرا واستجمعت حواسي؛ فرارا من سؤال غيره، ولكن عبثا تحاول الثكلى أن تضحك، وهيهات أن يفرح المحزون.
كنت أنظر حولي فإذا كل ما كان بالأمس يفرحني ويضحكني هو اليوم يحزنني ويبكيني، كنت قبل اليوم أرى الحديقة ذات الأزهار والأنهار والسماء ذات الشموس والأقمار والأحراش ذات البلابل والأطيار، فتسر ناظري رؤيتها وأشعر بلذة الحياة وأومن بالله وأحمده على نعمه، ويجري في عروقي تيار الصفاء، فأهش وأبش لكل من يلقاني؛ لعلمي أنه من بعض الأنام، على أنني لم أكن في ذلك العهد غنيا أو ذا مال يقوم بما أطلب، وكذلك لم أكن أقيم في قصر مشيد، ولم يكن لي من يخفف من همي، ولكنني رغم ذلك كله كنت شبيها بالسعداء.
كنت في بعض الأحيان أشعر بانقباض في النفس وضيق في الصدر، وكثيرا ما ذرفت دموعا بلا علة معلومة، ولكن هذه الحال لم تكن تدوم أكثر من يومين أو ثلاثة ثم أعود إلى حالي الأولى، أما الأيام التي ذكرتها لك فكانت كلها كآبة وأفكاري كلها سوداء، وليس في قلبي مكان يدخل منه رسول الفرح، أقلب أجفاني فيما حولي فإذا كل إنسان وكل شيء لا يروقني؛ فلا يضحكني المهذار بهزله، ولا يفرحني الجذلان بجذله، ولا يبكيني العاشق بشعره وغزله، ولا يدهشني الغني بماله، ولا يحزنني الشقي بسواد حاله، لقد استوى لدي الماء والخشب، والراحة والتعب، والفاقة والنشب!
هؤلاء أصحابي الذين كنت أسعد بعشرتهم يمرون بي ويجلسون حولي، ولكنني لا أرى فيهم ما كنت أراه فيما مضى، لا أظن أن أمرا كان ينقصني ؛ لأنني كنت ألعب بالذهب، ولا أرى في ذلك مسرتي، هل ينقصني صديق وكل هؤلاء أصدقاء؟! هل ينقصني المجد وهو هباء؟! هل تنقصني أسرة وهيهات أن تعادل حسناتها سيئاتها؟! لا ينقصني شيء، ولكنني أطلب كل شيء!
أرى كل شيء في العالم غامضا، ولكن نفسي تحدثني أن لا غموض ولا إبهام. إن الأغرار والمجانين ومن يتبعهم من وحوش الإنسانية يقولون عمن يشرفون الإنسانية بحزنهم ضعفاء الأعصاب، يشكون أمراض المعدة والأمعاء، ويحتاجون إلى الرياضة البدنية والهواء النقي. وكنت أخدع بقولهم قبل اليوم، ولكني علمت منذ عهد قريب أن هذا القول الهراء ليس إلا دفاعا عن مبدئهم الفاسد مبدأ عبادة المادة واحتقار الروح.
لقد عاشرت كثيرين من هؤلاء الأقوياء الأعصاب الذين لا يشكون أمراض المعدة والأمعاء، وخبرت شأنهم وسبرت غورهم، فإذا أحدهم يبذل النفس والنفيس في سبيل المال، ولا يصون ما يسميه شرفا في الحصول على الأصفر الرنان؛ لاعتقاده أنه مفتاح كل باب ومفرج كل كرب وفارس كل ميدان. رأيتهم لا يعرفون من مذهب أبيقور إلا النهمة والشره، ولا يشغلون أنفسهم إلا بما يلمسونه لمسا ويعتقدون بوجوده معنى وحسا، وغني عن البيان أن أمثال هؤلاء الوحوش يتخذون كل وسيلة في الوصول إلى غايتهم ما دامت الغاية شريفة - كما يقولون، وإنهم يقولون ما لا يعتقدون - هؤلاء الوحوش وقد سميتهم خنازير البشر لا يروقون في نظري، ولا يقنعني قولهم، ولا يفيدني علمهم.
إنني أذكر يوما من أيام اليأس شعرت منه بالألم، ألم الضعف، ألم المرض والموت، فخفف هذا الشعور سائر آلامي. إن الآلام التي كنت أشعر بها كلها آلام النفس والعقل، آلام روح حائر لا يستطيع أن يستقر على حال، آلام قلب مشتعل بنار تأكل بعضها؛ لأنها لم تجد ما تأكله.
أرادت الطبيعة أن تخفف عني فزادتني ألما على آلامي، ولكنه الألم الأخير. إن حياتي حلقة أحزان أشعر بها ولا يشعر بها غيري، أرى الآن أن ألم الجسم عندي لذة النفس كما كنت فيما مضى أرى أن في إجهاد الجسد راحة للروح والعقل، عن قريب تدق ساعة حياتي دقتها الأخيرة ويسدل الموت بيني وبين هذا العالم حجابا كثيفا لا يخترقه نظر الأحياء من أصدقاء وأعداء، عن قريب يعود التراب إلى التراب وترجع النار إلى النار، عن قريب تصير الظلمة نورا والتعب راحة والألم لذة والوجود الفاني عدما، عن قريب تغرب شمسي ويشق لي في جوف الأرض مضجع أرقد فيه رقدة لا قيام بعدها. ولكن الشمس سوف تشرق من الشرق وتغرب في الغرب وتملأ العالم بالنور والحرارة، والأفلاك سوف تدور دورتها، والأرض سوف تخرج نبتها، والناس يبقون كما تركتهم؛ وهم بين لاه عن ميعاده مترقب له خائفا وجلا، ومتألم ضجر يستقدم ساعته وهي لا تأتي، فلا الشمس وقفت في سيرها، ولا الأفلاك عطلت عن دورانها، ولا الأرض ضنت بنبتها، ولا الناس حزنت لفراق من كان بالأمس بينهم يسعى.
अज्ञात पृष्ठ