ماذا يقصد لامرتين بالملحمة الهندية؟ أيقصد أنه يفكر في كتابة ملحمة عن الهند؟ لا، بل إن القصيدة، التي فكر فيها وهو على طريق روما، ستكون شبيهة بالملاحم التي وضعها الشعراء الهنود كملحمتي «مهابهارتا» و«رامايانا».
وكان الشاعر قد فكر في أن يبني روايته هذه على الموضوع الآتي: «تجري مشاهد الملحمة قبل أيام قليلة من اليوم الأخير. ثمة شاب جالس بين خرائب مدينة لا اسم لها، يبصره قوم مارون، فيسألونه من هو، ومن أين أتى، وماذا يريد؟ فيجيبهم أنه رجل، ولكن أشقى البشر أجمعين؛ لأن البشر يريحهم الموت في الآخر، أما هو فليس الموت لديه سوى رقاد قصير أو فترة بين آلامه؛ لأنه قضي عليه أن يموت ثم يبعث ثم يموت ثم يبعث إلى أن يطهر في نظر الله. كان هذا الشاب قبل الخليقة فيسرد مشاهد الخليقة على مسمع القوم ...»
على أن لامرتين ما لبث أن عدل موضوعه هذا، ومن هذا التعديل الذي استوحاه من الشرق خلقت روايته «سقوط ملاك». وإليكم موضوعها: «يعهد إلى ملاك - قبل الطوفان - أن يحرس إحدى بنات حواء، وهي أجمل روائع العلي العظيم، فيهيم بها ويتمنى أن يصير بشريا ويمتلكها ولو دفع الموت ثمنا لهذا الامتلاك؛ فيغضب الله عليه ويمنحه مشتهاه فيحوله إلى إنسان بعد أن يحكم عليه بأن يفقد من يحب، ولا يجتمع به في السماء إلا بعد أن يتطهر بالحياة والموت مرات عديدة. ثم يأتي الطوفان ويجرفه مع من يهوى.»
لامرتين في أوج السلطة
وكانت ثورة 24 شباط 1848، وهي الثورة التي قلبت الملكية للمرة الثانية، فرأى لامرتين نفسه محاطا بعواطف الشعب، وما عتم أن سمي وزيرا للشئون الخارجية وعضوا لحكومة موقتة. وفي الخامس والعشرين من شهر شباط استطاع لامرتين بخطاب ألقاه في الشعب الثائر أن يسقط العلم الأحمر، علم الثورة، الذي كانت جماهير غفيرة من الفلاحين والعملة قد حملته إلى قصر الحكومة لترفعه إلى الأبد مكان العلم المثلث الألوان. وهذا الخطاب، الذي أسقط به لامرتين علم الدم، كان أعظم فوز أحرزته الكلمة البشرية؛ ففي تلك الدقيقة العصيبة التي كان لامرتين يلقي بها خطابه في الشعب الثائر استطاع هذا الشاعر الخطيب أن يضارع نبوغ ديموشتين وشيشرون!
لامرتين يسقط العلم الأحمر
كانت الجماهير التي غزت قصر الحكومة حاملة العلم الأحمر يراوح عددها بين أربعة أو خمسة آلاف شخص، وكانت قد تدفقت من جميع أحياء باريس تلوح بالعصي والخناجر والفئوس والحراب والبنادق، فاحتلت جميع قاعات القصر بعد أن اغتصبت الأبواب والمعابر مهددة بصراخ الموت وصليل الحراب وإطلاق البنادق.
قال هنري روبير في محاضرة عن ثورة 1848 ألقاها في العشرين من تشرين الثاني من العام 1932: «إلا أن الحكومة كانت تملك قوتين تضمن بهما النظام وتدفع الخطر هما: بلاغة لامرتين ومائة ألف رجل من الحرس الوطني.»
وكان لامرتين حاضرا في تلك الساعة العصيبة، فرفع على الأكتاف والأذرع، وما هي دقائق قليلة حتى كان أمام الجماهير الساخطة وجها لوجه؛ على أن وجوده أمام الثائرين لم يخفف من غضب هؤلاء، وعبثا حاول بعض الوطنيين أن يتوصل إلى إسكات الجماهير لتصغي إلى لامرتين، فكانت تصرخ وتزأر وتهدد بالموت ملوحة بالسلاح يعلوه العلم الأحمر.
وبعد جهد جهيد استطاع رفاق الشاعر أن يصعدوه إلى كرسي مخلع دعموه بأيديهم لئلا يهوي به ، وإذا بصوت لامرتين يرتفع في وسط الضجيج والصخب واللعنات المتتابعة، فخف الضجيج شيئا فشيئا وساد السكوت، واستطرد لامرتين بعد أن امتدح الانتصارات التي أحرزتها الثورة لأجل الجمهورية والديموقراطية، قائلا: «إني لأؤثر على هذا العلم الدموي العلم الأسود الذي يرفع أحيانا في مدينة مدمرة. أفتريدون أن يكون علم جمهوريتكم أشأم من علم المدينة المهدومة؟»
अज्ञात पृष्ठ