मेरे जीवन की झलकियां: एक अर्ध-आत्मकथा
لمحات من حياتي: سيرة شبه ذاتية
शैलियों
قيل لي إنني ولدت بمنزل بشارع جوهر القائد بحي المنيرة، ولكنني لم أر هذا البيت إلا مرورا به، وأشارت إليه والدتي وكنت أركب معها السيارة، وقالت إنني ها هنا ولدت فما وعيت منه إلا اللمحة العابرة التي تتيحها سيارة تمضي في طريقها ولا تتوقف، أما البيت الذي نشأت فيه وأقمت فبيت كان ملكا لأبي بشارع الملك الناصر رقم 24 بحي المنيرة أيضا، وكان البيت هو المبنى الثاني في الشارع من ناحية شارع الدواوين، وكان المبنى الأول مدرسة أهلية دخلتها وانتظمت فيها لبضعة أشهر، وقد كان المبنى المقابل لها مستشفى الملك، ولا بد أن اسمها قد تغير حين أرادت الثورة حذف الملكية من تاريخ مصر، وكان يلاصق المستشفى مدرسة الخديو إسماعيل التي لا أدري اسمها الآن هي أيضا، فإن الثورة قررت أنه لم يكن في مصر خديو اسمه الخديو إسماعيل إلا أن يذكر مشتوما ملعونا، أما أن يذكر بدون تعليق فأمر لا ترضاه الثورة الاشتراكية.
نشأت في هذا البيت ودخلت المدرسة الملاصقة لبيتنا، وأذكر أن والدي ووالدتي كانا يطلان علي من إحدى نوافذ بيتنا، وكان أبي يحرك لي منديلا في يده حتى أتنبه إلى وجودهما بالنافذة، وأذكر أنني في اليوم الأول لذهابي إلى هذه المدرسة رفضت أن أذهب إلا إذا صحبت محمد أبو عثمان الذي كان يعمل طباخا في بيتنا، وكان يلاعبني ويضاحكني وكنت معجبا به كل الإعجاب، وهو ما زال على قيد الحياة أطال الله عمره، وقبل ناظر المدرسة أن يدخل محمد أبو عثمان الفصل معي، وكان في الفصل يقف بجانب الباب، فكان وقوفه هذا يرد عني الوحشة التي كانت تلم بي وأنا مع تلاميذ لا أعرفهم ولا يعرفونني.
وفي اليوم التالي كنت بالفصل أكثر أنسا حتى لم أنتبه إلى أن محمد غادر الحجرة إلا بعد حين، وسألت عنه فوجدته بالمدرسة ما زال فعادت إلي الطمأنينة. أما في اليوم الثالث فقد صدر الأمر من والدي أن يصحبني محمد إلى باب المدرسة الذي كان يقع بشارع الدواوين ثم يتركني وحدي، وقد بكيت لهذا الإجراء بكاء حارا، ولكنه كان أمرا صارما لا رجعة فيه، ذكرياتي في هذه المدرسة تكاد تكون معدومة ولا أذكر من رفاقي بها أحدا؛ إلا أنها كان لها الفضل أن أذهب إلى مدرسة المنيرة لرياض الأطفال وأنا غير مضطرب الفؤاد ولا هالعا، والذي أذكره عن المدرسة الجديدة أن ناظرة المدرسة كان اسمها السيدة روفية رمضان، ولا زالت صورتها في ذاكرتي حتى اليوم، وأذكر من مدرساتها أيضا السيدة توحيدة الدمرداش، وكانت ترعاني بحدب ورضاء، وأذكر أن أستاذة الرسم كان اسمها الأستاذة نعيمة التي جعلتني أرسم رسما جميلا، الأمر الذي لم يتكرر في المدرسة الابتدائية أو الثانوية رغم أن الذي كان يدرس لي الرسم في المدرسة الابتدائية الأستاذ الفنان الكبير حسين بيكار، كما كان يدرس لي فنان الكاريكاتير العظيم الذي اشتهر باسم مفرد هو رمزي، ومع ذلك كنت دائما لا أجيد الرسم مطلقا لدرجة أن والدتي وأنا أنتظر نتيجة الابتدائية كانت دائما تقول إنها خائفة أن أرسب في مادة الرسم، والعجيب أن حدسها أوشك أن يتحقق وحصلت في مادة الرسم في شهادة الابتدائية على أربع درجات من عشرين، وهي الحد الأدنى للمرور ولا أقول النجاح.
قضيت في مدرسة الروضة سنتين وأذكر أنني كنت متقدما لأنني سبقت زملائي في تعلم اللغة العربية والحساب على يد الشاعر الأستاذ أحمد القرعيش ببلدتنا غزالة، وقد كان مدرسا بالمدرسة الإلزامية بها، وكان أول من علمني بادئا بالخط الأفقي والخط الرأسي، وأذكر أنه كان يشكل هذه الخطوط على الرمال، فقد كنا نجلس على أريكة خارج المبنى الذي يعمل به كتاب الحسابات لزراعة أبي، وأشهد أن الأستاذ القرعيش هو أحسن أستاذ تلقيت عنه العلم، فقد كان قديرا على تيسير المعلومات علي، وكان حريصا على تشجيعي حتى إنه كان يحمل معه أقراص النعناع الصغيرة يتحفني بواحد منها كلما أجدت الإجابة، فإذا علمت أنه كان من كبار البخلاء أدركت التضحية التي كان يقوم بها ليصل بتلميذه إلى أحسن مستوى. وقد كان الأستاذ القرعيش شاعرا مجيدا، وحين بلغت السنة الثانية الثانوية كنت أقرأ معه ومع قريبنا الشاعر العصامي توفيق عوضي أباظة الذي علم نفسه ولم يختلف إلى مدرسة في حياته لشدة فقره، كنا نقرأ معا الشوقيات في بيتنا بالقرية، وكنا نبدأ القراءة بعد أن يصعد أبي إلى الدور الأعلى من المنزل في حوالي الساعة التاسعة مساء، ونظل نقرأ على الكلوب الذي ينير بالجاز حتى يطلع علينا الصبح، ونقرأ على ضوء الشمس وكنت أنا الذي أقرأ، والشاعران يستمعان ويستجيدان ويعلقان. وللأستاذ القرعيش فضل علي لا أنساه أبدا، فقد كنت أكثر من اللحن في قراءتي، وكان يصحح لي، وقال لي إذا كنت تريد أن تكون أديبا فلا بد أن تقيم لسانك وإلا فلن تصبح أديبا مطلقا، ويا ليته عاش حتى اليوم حتى يرى مقتل اللغة العربية على أيدي أدبائها. لا علينا. خجلت من هذه الملاحظة، فحين ابتداء العام الدراسي في السنة الثالثة الثانوية أعدت قراءة النحو، وأخذت نفسي طوال السنة الثالثة الثانوية - وهي تقابل السنة الأولى الثانوية اليوم - أن أقرأ كل المواد العربية من تاريخ وجغرافيا وطبيعة وكيمياء بصوت مرتفع وأصحح لنفسي الإعراب في كل قراءتي، حتى إذا جاءت الإجازة، وبدأ ثلاثتنا قراءة الشوقيات فوجئ الشاعران بي وأنا لا أخطئ في النحو مطلقا أو أكاد، وهكذا استقام لساني العربي، كما استقامت كتابتي والفضل في ذلك لمعلمي العظيم الأستاذ أحمد حسين القرعيش.
نعود إلى مدرسة المنيرة لرياض الأطفال التي مكثت بها كما أخبرتك سنتين، وقد وقع لي مع هذه المدرسة نادرة طريفة، فقد دعاني ناظر مدرسة لا أعرفها وأنا كاتب بالأهرام أن أعقد ندوة مع تلاميذ مدرسته ولبيت دعوته وذكر لي العنوان، وذهبت وفوجئت أنني أعرف معالم المدرسة، وإن كانت معرفة باهتة، كما يقول الشاعر عن ذكرياته أنها تلوح كباقي الوشم بظاهر اليد. وما لبثت أن تبينت أن المدرسة التي أعقد بها ندوتي هي روضة الأطفال التي كنت أتعلم بها وأصبح اسمها مدرسة المنيرة الابتدائية، وقد سعدت بهذه المصادفة كل السعادة.
دخلت بعد ذلك مدرسة المنيرة الابتدائية متقدما عن سني بسنة؛ لأنه كان من المفروض أن أظل سنة ثالثة بالروضة، إلا أن أبي رأى أن أقفز سنة، وهكذا لم يكن غريبا أن أرسب في السنة الأولى الابتدائية، وأذكر أن أبي استاء كل الاستياء من رسوبي هذا، وكان له صديق قريب إليه كل القرب وهو عبد الله أفندي العربي من بلدة الخيس القريبة من بلدتنا غزالة بمركز الزقازيق، وقد فاتني أن أذكر لك أنني حين ولدت بالقاهرة رفض أبي أن يقيدني من مواليد القاهرة، وقد ولدت في 28 يونيو عام 1927م، فانتظر أبي إلى أن ذهب إلى غزالة، وقيدني بها في 15 يوليو 1927م حرصا منه أن أنتسب إلى بلدتنا غزالة التي كان يحبها كل الحب، حتى إنه كان يوقع مقالاته السياسية بتوقيع الغزالي أباظة.
نعود إلى عبد الله أفندي العربي صديق أبي الذي اكتسب لقب أفندي من أنه كان مدرسا بالمدارس الابتدائية، وكان يدرس لشقيق أبي الأصغر عبد الله بك فكري أباظة حين كان تلميذا بالمدرسة الابتدائية، وكان معجبا بطريقة تدريسه.
وكانت صلة الأستاذ العربي بوالدي وثيقة غاية الوثوق حتى إنه كان يسافر معه إلى الخارج على نفقته الخاصة، فقد كان ميسور الحال، وقد لبست أول ساعة في حياتي هدية من عبد الله أفندي العربي.
حين رأى عبد الله أفندي الحزن يخيم علي لرسوبي في السنة الأولى الابتدائية ورأى الاستياء الشديد من أبي لهذا الرسوب جاء إلى منزلنا قبيل المغرب في يوم من هذه الأيام ودعاني أن أخرج معه ليرفه عني، وذهبنا إلى مقهى بالجيزة ربما يكون هو المقهى الذي تعود بعض الأدباء أن يجلسوا به، وقد كنت أشاركهم في الجلوس به في بعض الأحيان، ولو أنني لست واثقا أنه نفس المقهى فقد صحبني إليه عبد الله أفندي في أوائل الثلاثينيات وجلست مع الأدباء في الستينيات، فمن الصعب أن أؤكد إن كان المقهى هو نفسه الذي جلست به وأنا طفل، واشترى عبد الله أفندي لي وله جبنا وسلطانية زبادي ورغيفا لكل منا من الخبز الإفرنجي، فكانت من أمتع الأكلات التي طعمتها في حياتي. وإني أروي هذه الواقعة على بساطتها لأن عبد الله أفندي العربي قال لي في هذه الجلسة جملة لم أنسها حتى اليوم، وكانت تمثل لي في ذلك اليوم ضوءا ساطعا من الأمل في ظلام اليأس الذي ران علي من سقوطي في السنة الأولى الابتدائية؛ قال: يا بني لا تخف ... لا بد أنك ستفلح في حياتك ... فإن الخير الذي قدمه أبوك للناس لا يمكن أن يذهب هباء ... سيكرمه الله فيك إن شاء الله ... لا تخف.
بعد ذلك بسنوات - ما دمنا نذكر عبد الله أفندي العربي - مرض رحمه الله نتيجة إبرة طبية كسرت في فخذه وهو يتداوى بها، وحين كنا ننتظر نتيجة الشهادة الابتدائية، وكنا قد انتقلنا إلى العباسية كان هو طريح الفراش، وفي أحد الأيام دق جرس التليفون في الساعة السابعة صباحا ليبشرني عبد الله أفندي العربي أنني نجحت في الابتدائية، فقد صحا مع الفجر ليعرف نتيجة الشهادة التي كانت تنشر في صحف الصباح في هذه الأيام.
अज्ञात पृष्ठ