وفجأة شعر بقبضة يد صلبة توجه إلى فكه لكمة قوية، وسمع صوتا خشنا يقول له في غضب: أنت أعمى؟ ولم يشعر بأي ألم في جسده أثر اللكمة؟ ولم يفهم لماذا يخاطبه ذلك الصوت الغاضب.
وواصل سيره يدب على الأرض بخطى واهنة ممزقة، ومر بقهوة الحاج بدوي وشم رائحة الدخان والشاي، وود لو جلس لحظة والتقط بعض أنفاسه من الجوزة المعمرة، وارتشف كوبا من الشاي الأسود الساخن؛ لكنه تذكر أن الحاج بدوي هدده بالضرب حتى الموت إذا اقترب من القهوة دون أن يحمل في جيبه الثلاثين قرشا التي تراكمت دينا عليه من شرب الدخان والشاي.
وأخفى رأسه في المعطف وحاول أن يسرع الخطو بعض الشيء وهو يمر أمام القهوة، وأدركته رغبة شديدة في السعال فكتمها في صدره حتى لا يسمعه الحاج بدوي الذي يستطيع أن يتعرف على صوت سعاله من بين المئات.
وما إن ابتعد عن القهوة حتى هدأ قلبه وأطلق رغبته المكتومة في السعال، وشعر بنوع من الراحة والحرية وهو يسعل بملء فمه دون أن يخشى شيئا، ثم بصق على الأرض بصقة كبيرة حمراء.
ولم يدر أبو محمود كم أنفق من الوقت وهو يسير من شارع إلى شارع، وينتقل من رصيف إلى رصيف، وقد ترك زمام نفسه إلى قدميه اللتين تعرفان الطريق كل المعرفة.
ووصل أخيرا إلى البنك، ورأى الطابور هو الطابور يقف أمام الباب، والوجوه هي الوجوه التي يلقاها كل مرة، والرائحة هي الرائحة التي يشمها، والصوت هو الصوت الذي يسمعه في كل مرة: إزيك يا أبو محمود. - الله يسلمك يا درويش. - فاكر اسمك ولا ناسيه؟ - أنا أنسى عمري ولا أنساه! - ما تعملش جدع، أجدع واحد فينا أحيانا ينسى اسمه، هو العقل دفتر؟ - على رأيك، هو العقل دفتر! - أنت لك كام اسم يا أبو محمود. - ثلاثة بس والله. - بسيطة، ها ها ها.
وضحك الرجلان وقد شعرا بنوع من السعادة لأنهما يستطيعان أن يتحايلا على شيء، ويستطيعان أن يخدعا أحدا، وقد اتخذ كل منهما اسما في كل بنك من البنوك التي تشتري الدم من الناس، حتى يستطيع أن يبيع دمه في ثلاثة أو أربعة بنوك دون أن يكتشفه أحد.
ورن ضحكهما كعواء كلاب مريضة ضالة، لكن سرعان ما التصقت ضحكاتهما بحلقيهما الجافين، وعاد العبوس يرسم خطوطه البشعة على وجهيهما الناحلين بعظامهما البارزة المدببة، ووقف كل منهما في مكانه من الطابور يلهث صامتا.
وقطع صوت الأنفاس اللاهثة صوت ينادي الأسماء، ويعقب تلاوة كل اسم رجل يخرج من الصف ويدخل من الباب، ثم يختفي ليعود بعد قليل وقد أمسك بذراعه وزاد وجهه شحوبا وتساقطت بعض حبات من العرق على جبينه.
ورن اسم «سعيد علي عوضين» في الجو، وسرت همهمة في الطابور، ثم أحس أبو محمود بلكزة في كتفه وصوت صديقه يهمس في أذنه: إنت نمت يا أبو محمود، ولا نسيت اسمك؟
अज्ञात पृष्ठ