في الحجرة المستطيلة، وعلى المكتب الصغير، وهو يجلس أمامها، وبين عينيه نظرات سحيقة الأغوار تسحق قوتها وغرورها فتنكمش عند ركبته وتتكور، وتدفن رأسها بين كفيه، وتلهث في صمت بعاطفة حبيسة لا تجد سبيلا إلى الخلاص.
ويشدها إليه ويذيب كيانها بين ذراعيه، وتظن أن عاطفتها قد ذابت هي الأخرى، وتفرح بالخلاص، ولكن حين يبعد عنها ذراعيه تسترد كيانها وتسترد معه عاطفتها؛ عنيفة كما كانت، حبيسة كما كانت، كأنما لم تفرج عن شيء منها، ويعود إليها الشوق، ويعود إليها القلق، ولكن لا يعود إليها التساؤل الحائر: لماذا هو بالذات؟
شرارة من الداخل
لم تكن المسافة التي تفصل بينه وبينها تزيد على طول ذراعه، ولم يكن بالبيت أحد سواهما، وعلى المنضدة الصغيرة زجاجة الخمر المعتقة ودورق الثلج الصغير، وتأملها وهي تمسك كأسها في يدها وتحوطه بأصابعها، ثم تقربه إلى شفتيها في هدوء.
كانت صامتة، لكن عينيها كانتا تعبران لحظة عن الفرح ولحظة عن الألم، لحظة تتوهج بالعاطفة المجنونة، ولحظة تنطفئ بالعقل البارد، لحظة تغرق في حنان متدفق، ولحظة تجف في تحد قاس.
وظل يتأملها وهي تشرب الكأس وراء الكأس حتى التهب خدها بسخونة الخمر، واتقدت عيناها ببريق ينم عن فوران الأحاسيس، وشعر برغبة عنيفة في أن يمسك أصابعها الرفيعة ويضغط عليها بقوة حتى تتكسر بين أصابعه، ويصيح بها قائلا: التحدي في عينيك يرغمني على القسوة. أو أن ينتزع الكأس من بين أصابعها ويلقي بها من النافذة ويصرخ في وجهها: ألا يمكن أن تبادليني الحب بدون أن تفقدي الوعي؟ أو أن يجلس عند ركبتيها ويدفن رأسه في صدرها ويبكي ويقول لها: حنان عينيك يبكيني.
لكنه لم يفعل شيئا، ظل يتأملها ساكنا، وسعادة خفية تدغدغ خلايا جسده وقلبه وعقله، وكل شيء خارج هذه الحجرة الصغيرة تافه، حتى فنه؛ فنه الكبير الذي انتصر على كل اهتمام في حياته. ولماذا لا يكون الفن تافها؟ ألم يكن يكتب من أجل تحقيق شيء ... مثل هذه اللحظة التي يعيشها الآن؟ ألم يكتب سنين طويلة من أجل لحظة مثل هذه اللحظة، ولم تستطع الكتابة أن تعطيها له مطلقا؟ كل إنسان خارج حدود هذه الإنسانية لا وجود له الآن، حتى ابنته؛ ابنته الوحيدة الصغيرة التي انتصر حبها على كل حب في حياته. ولماذا لا يتلاشى وجود ابنته؟ ألم يكن يحبها لأنها نتاج حب قديم، وقد جاء الحب الجديد الذي يمحو القديم، والذي يمكن أن يعطيه نتاجا جديدا؟
ونظر في عينيها الجسورتين، لم تفعل الخمر بجسارتها شيئا؛ كأنما لم تشرب قطرة خمر واحدة، لولا تلك الحمرة الخفيفة التي شابت بياض عينيها، وتلك الومضات المجنونة التي تبرق فيهما من حين إلى حين.
وتأمل شفتيها وهما تنفرجان في محاولة للكلام، وابتسم لها مشجعا، إنه يريد أن يسمع منها شيئا وهي نصف واعية، وعقلها الصارم نصف نائم، ولكنها لم تقل شيئا، ابتسمت في صمت وعادت لتملأ كأسها من جديد.
ولم يتحمل، رأى يده ترتفع على الرغم منه وتمسك كأسها وتنتزعه من بين أصابعها، وقال وهو يحتوي أصابعها الساخنة بين أصابعه الباردة: كفى! ونظرت إليه في دهشة، وقالت وهي واجمة: أنت الذي أحضرت زجاجة الخمر. تذكر فورا اللحظة التي وقف فيها أمام بائع الخمر مترددا أيأخذ معه زجاجة الخمر؟ لم يسبق له أن تردد في شراء زجاجة قبل ذهابه للقاء امرأة؛ ولكنه لا يريد أن يذهب إليها حاملا خمرا، لماذا؟ لعله شعر أنه لن يكون بحاجة إلى فقدان وعيه، أو أنه سيفقد وعيه بلا خمر، أو أنه حين يجلس معها يصبح كل شيء تافها، حتى الخمر، حتى الخمر تفقد طعمها ومعناها وتأثيرها؛ ألم يشرب، ولا يزال عقله متقدا متنبها لكل حركة من شفتيها، ولكل ومضة في عينيها، ألا يزال واعيا؟ لم يخرج منه تلك الأحاسيس الدفينة التي يكتبها العقل وتحررها الخمر فينطلق يفعل ما يريد بلا تفكير؟ وسمعها تضحك ضحكة قصيرة وهي تقول: صدقتك حين قلت إنها علبة بسكويت، تصور غبائي! وابتسم في شيء من الحرج؛ لماذا ألبس زجاجة الخمر ثوبا تنكريا ووضعها في علبة بريئة من علب البسكويت؟ لعله كان يريد شراء علبة بسكويت بدلا منها، ولكن ماذا تقول المرأة حين يشتري لها الرجل علبة بسكويت؟ أتفرح ببراءتها وسذاجتها؟ أم تحزن لبراءتها وسذاجتها أيضا؟!
अज्ञात पृष्ठ