مكانة العلوم الحياتية في السيرة النبوية في الفترة المكية والمدنية
هذا سؤال لطيف جدًا وله مغزى، يقول أحد الإخوة: هل كان هناك اهتمام بالعلوم الحياتية في الفترة المكية في حياة رسول الله ﷺ؟ أو هل هناك اهتمام بالعلوم الحياتية في السيرة النبوية في فترة البناء الأولى خلال (٢٣) سنة من البعثة؟
الجواب
من الواضح أن الصحابة ﵃ وأرضاهم لم يهملوا علومهم الحياتية لأجل تحصيل العلوم الشرعية، ولكن جمعوا بينهما، ومن الممكن أن الصحابة قدموا الأولويات، لكن لم يُهمل أبدًا الجانب الحياتي، وعلى سبيل المثال: ظل الصحابة يتاجرون ويعملون أعمالهم، ولم ينقطعوا للعلم الشرعي ويتركوا هذه الأعمال، فـ أبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه كان تاجرًا وظل تاجرًا، ففي مكة كان تاجرًا، وفي المدينة كان تاجرًا، وعند توليه الخلافة حمل الأثواب على ظهره ليذهب إلى السوق ليبيع ويشتري، فلولا أن عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه أشار عليه أن يفرّغ وقته لقيادة المسلمين، وأن يأخذ ما يكفيه من بيت المال، لاستمر يعمل بالتجارة.
وكذلك عبد الرحمن بن عوف، وكذلك عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن عبادة وجميع المسلمين سواء في فترة مكة أو في فترة المدينة، لم يكونوا أبدًا عالة على غيرهم، بل أُمروا بالإبداع وبالإنتاج، وكان اقتصادهم القوي هذا مصدرًا من مصادر الخلاص من الأزمة، وكان أبو بكر الصديق تاجرًا غنيًا، وعنده من الأموال الكثير والكثير، واستغل هذه الأموال في إعتاق العبيد، وفي إخراج المسلمين من أزماتهم، ولو تأملنا أن الصحابة كلهم من الفقراء لحدثت أزمة كبيرة، فنحن نحتاج إلى أغنياء في الأمة، ونحتاج إلى أغنياء بفكر الصديق وفكر عثمان ﵄ وعن الصحابة أجمعين.
إذًا: لم يكن هناك إهمال لهذا الجانب حتى في فترة مكة، لكن من المؤكد أن العقيدة أخذت جانبًا هامًا جدًا من حياة المسلمين في فترة مكة المكرمة بالذات، وأيضًا فترة المدينة المنورة، ولكن التركيز في فترة مكة المكرمة على العقيدة كان أشد وأكثر؛ لأنهم قريبو عهد بجاهلية، وأكثر من (٦٠٠) سنة وهم يعبدون الأصنام في هذه المنطقة، فكان لا بد من التركيز الشديد على أمر العقيدة؛ حتى لا يتبدل الدين ولا يتغير، فهؤلاء كانوا يتعلمون شيئًا جديدًا تمامًا لم يسمعوا به منذ مئات السنين، لم يسمعوا هم به ولا آباؤهم ولا أجدادهم، فكان لا بد من التركيز الشديد عليه؛ ولهذا خلال (١٣) سنة في مكة اهتموا بهذا الأمر، وفي فترة المدينة المنورة كان من الواضح جدًا الاهتمام بالعلوم الحياتية، ولكن أيضًا بالقدر اليسير؛ لأن الدولة بكاملها ما زالت قريبة عهد بجاهلية، أي: أن الرسول ﵊ عندما هاجر إلى المدينة المنورة كان بها مشركون، وإلى آخر أيام حياته ﷺ كان في الجزيرة العربية مشركون؛ ولذلك فهناك اهتمام بالجانب العقدي، ولكن لم يكن هناك إهمال لجانب العلوم الحياتية، ورأينا في بعض الأمثلة التي ضربناها قبل ذلك في المحاضرات السابقة اهتمام الرسول ﵊ بالقضايا العسكرية، واهتمامه ﷺ بالقضايا الطبية، وقضية تأبير النخل، وقضية التجارة وما إلى ذلك.
هناك أمور كثيرة جدًا برع فيها المسلمون بحجم الدولة التي كانوا فيها، وكل شيء في السيرة محسوب وبقدر، فمن رحمة رب العالمين ﷾ أن الرسول ﵊ بُعث في مكة وهاجر إلى المدينة، وعاش في منطقة الجزيرة العربية، وهي منطقة نائية بعيدة عن الحضارات المختلفة في ذلك الوقت، أي: أنها ليست بجانب الرومان ولا بجانب الفرس ولا الهند ولا مصر ولا الأماكن التي لها تاريخ طويل في العلوم الحياتية قبل ذلك؛ لأن المسلمين في هذه الفترة لو انفتحوا تمام الانفتاح على هذه الحضارات، بما فيها من فلسفات وأفكار وعقائد مغايرة تمامًا ومخالفة تمامًا لدين الإسلام لكانت كارثة، فهؤلاء حديثو عهد كما ذكرنا بجاهلية، فلا بد من ترسيخ العقيدة في قلوبهم وفي قلوب عموم المسلمين، ثم بعد ذلك عندما يتمكن الدين من قلوبهم وينفتح المسلمون على الحضارات الأخرى فلا يتلوثون بها، وهذا الذي وقع، جلسنا سنوات طويلة في الجزيرة العربية ونحن محفوظون من الفلسفات اليونانية والإغريقية والمصرية الفرعونية والفارسية وغيرها، ورأينا المشاكل التي حصلت في بداية الأمر عندما ترجمت هذه الفلسفات، لكن حفظ الله ﷿ دين الأمة بعلماء ثبتهم ونور بصيرتهم.
هناك إشارة قصدها أو لم يقصدها صاحب السؤال ألا وهي: هل هناك اهتمام بالعلوم الحياتية في الفترة المكية؟ فلعله يريد أن يقول: في الفترة المكية لم يكن هناك اهتمام بالعلوم الحياتية، فإذا كان كذلك فليس هناك داعٍ للتركيز على العلوم الحياتية في فترتنا هذه، بل نهتم بما اهتم به الأولون في فترة مكة المكرمة؟ أقول: في الواقع أن الربط بين واقعنا الآن بإمكانياتنا وظروفنا وواقع المسلمين في فت
6 / 3