إهداء الكتاب
كلمة لأحد الأدباء
ترجمة حياة كرستوف كولومب
الرحلة الأولى
العالم الجديد
الرحلة الثانية
الرحلة الثالثة
تقاريظ
إهداء الكتاب
كلمة لأحد الأدباء
ترجمة حياة كرستوف كولومب
الرحلة الأولى
العالم الجديد
الرحلة الثانية
الرحلة الثالثة
تقاريظ
كولومب والعالم الجديد
كولومب والعالم الجديد
تاريخ اكتشاف أميركا
تأليف
نجيب المندراوي
إهداء الكتاب
لرب الفضل والعزم، صاحب النبل والحزم، رجل الهمة والإقدام، سعادة أوجست بك أديب مدير عموم الحسابات المصرية بنظارة المالية:
بكل احترام ووقار أقدم لسعادتكم كتابي هذا هدية لكم؛ إقرارا بفضلكم، واعترافا بجزيل نبلكم. أرجو أن يحظى من لدنكم قبولا وإقبالا، لا سيما وهو باكورة أعمالي. فيا حبذا لو تكرمتم بقبوله وغضيتم الطرف عن قصوري وتقصيري، وحينئذ أترنم بالدعاء لكم، وألهج بشكركم. أطال الله عمركم، إنه السميع المجيب.
نجيب المندراوي
باسم الله الفتاح
الحمد لله الذي أظهر لنا مكنونات الأسرار، وأطلعنا على خبايا الأمور والأخبار، وكشف لنا الغوامض وأزال عنها النقاب حتى راجت الاختراعات والاكتشافات في سوق العلوم والآداب.
وبعد، فلما رأيت في تاريخ كريستوف كولومب من اللذة، ولما وجدت فيه من جليل العبر وسامي العظات، طفقت في جمعه وتعريبه لا ألوي إلا على فائدة الجمهور. ولما طبع عليه الشاب المصري من اليأس والخمول؛ دارت الأفكار في خلدي واستولى علي القنوط، فكنت أقدم رجلا في طبعه، وأؤخر أخرى عن إبرازه، لا سيما أنه ليس برواية غرامية حتى يروج في مثل هذه الأيام. ولكني لحسن الحظ وجدت من إخواني الأحباء تشجيعا وتعضيدا جعلاني أقدم على طبعه، راجيا منهم أن يغضوا الطرف عن الهفوات، سائلا المولى - سبحانه وتعالى - أن يكلل أعمالنا بالنجاح، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
المؤلف
نجيب المندراوي
كلمة لأحد الأدباء
قال حكيم: «الكتب قلوب الناس في أيدي الناس.» وهي حكمة بالغة لا يقولها إلا كبار الفلاسفة وفطاحل العلماء الذين خبروا حالة العالم ونفس الإنسان. وعلى حد هذا القول يكون صاحب هذا الكتاب قد وضع بين يدي القارئ قلبه بما جناه في مدة الدراسة من العلم والأدب، وما عاناه في سبيل عمله لبلوغ الأرب.
ولا يخفى أن أدب كل أمة مقياس تقاس به درجة تمدينها. ألا ترى أن تجارة أدب الشرق في كساد وتجارة أدب الغرب في رواج؛ ولذا تجد الأول في أشد أدوار الانحطاط والثاني ناهض إلى العلياء، وهذا دليل على صحة قولي. كيف لا وفي الغرب يزداد الخطيب بلاغة بما يراه في أعين سامعيه من التكبير والاستحسان، وقلم الكاتب يزداد عذوبة بما يجده من قارئيه من التعضيد والإقبال! بخلاف الشرق حيث يكتب الكاتب كتابا يرجو من ورائه شهرة ومالا ينسيانه ما أنفقه في وضعه من الوقت والتعب والمال، فلا يجد من القراء وأنصار الأدب مساعدة تذكر. زد على هذا أن الحكومات الغربية تأخذ بيد الناهض لتجلسه فوق عرش العزة والعظمة بما تعطيه من المال، والتسهيلات التي تأتيها معه؛ مما يحرك الهمم الفاترة ويجعل المشتغلين يتسابقون في كل فن ومطلب. بخلاف الحكومات الشرقية فإنها فضلا عن كونها لا تساعد أحدا مما يزيد المرء خمولا، لا تتركه وشأنه، بل تعاكسه بما تضع له من العراقيل كمنع حريته فيما يكتب وغير ذلك مما يقتل الأفكار ويميتها، وفي ذلك من الضرر ما فيه.
فانظر، يرعاك الله، الفرق بين الجهل والعلم، بين النقص والكمال، بين العبودية والحرية، بين أدب وأدب.
فإذا أردنا - نحن الشرقيين - تحسين حالنا فلنعمل على رفع منار العلم والأدب بيننا، وذلك لا يتم إلا بتعضيد كل كاتب ومؤلف أدبيا وماديا؛ لتشجيعهم وحملهم على مسابقة بعضهم البعض في هذا المضمار.
وما حملني على هذه المقدمة رغبتي في مساعدة المؤلف وتعضيده، لا وحرمة الأدب، ولكني أردت بهذه السطور تقرير حال الأدب في الشرق؛ لتتنبه الأفكار إلى هذا النقص المعيب فيجعلوه يستفيق من سباته العميق، وينهض لمغالبة الأمم الراقية، وبذا يسترد الأبناء ما كان للآباء من الأدب والعلم والقوة والمجد؛ إذ لا يصح أن نكون قادرين ولا نعمل على حد قول الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
هذا، وقد اختار المؤلف موضوعا جليلا بنى عليه هذا الكتاب ، ولا حاجة بي لذكر هذا الموضوع؛ إذ يعلمه القارئ من عنوان الكتاب. غير أن لي كلمة عن كولومب فأقول: إن الإنسانية مدينة له بهذا الإحسان الذي استعبدها به، ألا وهو اكتشاف العالم الجديد الذي به غير وجهة العالم، فلولا كولومب لما كان العالم كما هو عليه اليوم. هذا وأترك الحكم على هذا المؤلف للقارئ الكريم فيقضي بما يراه، ولا إخال القارئ إلا حكما عدلا، والسلام.
ثابت سيدهم المنقبادي
بمدرسة الحقوق الخديوية
سلبتم يا بني مصر فؤادي
فأضحى مولعا بلقاء جسمي
ولم أر لاجتماع الشمل منا
سوى أني أضم إليه رسمي
ترجمة حياة كرستوف كولومب
وأدوار أبحاثه
ولد كولومب في «جنوة» من أعمال إيطاليا سنة 1435، وكان أبوه المدعو «دومينيك كولومب» وأمه المسماة «سوزان فونتاناروزا» يقطنان بيتا لهما مطلا على حديقة، ويملكان غيره شيئا من الأرض. وكان شعار الكولومبيين إذ ذاك علما أزرق سماويا عليه ثلاث حمامات فضية، تدعى الأولى «فيدس»، والثانية «سبس»، والثالثة «شاريتا». وكان دومينيك بالكاد يحصل على قوته الضروري من مهنته الحقيرة - غزل الجوخ ونسج الصوف - فوهبه الله سبحانه وتعالى خمسة بنين؛ أربعة ذكور وأنثى زوجها فيما بعد بتاجر كبير. أما «بلجرينو» الابن الأول فإنه مات صغيرا، والثلاثة الأخر «كريستوف، وبرتليمي، وجاك» فإنهم أحبوا بعضهم بعضا محبة تقرب من العبادة، ولقد كتب «بلجرينو» في وصيته التي تركها يخاطب والده قائلا: ليتني كان لي عشرة إخوة وليس أربعة فقط، فما أقلهم علي! أو ما أجمل من أن يرى للإنسان أصدقاء عديدون يلازمونه يمنة ويسرة ويحبونه كل المحبة!
أما كريستوف: فلوحظت فيه النجابة النادرة والنباهة الباهرة منذ حداثته، فأدخله أبوه في مدارس «بافي» بإيطاليا، ولكنه لم يبقه فيها طويلا؛ فقد رأى فيه ميلا كليا إلى الدين، وإلى استحسان أعمال الله والإعجاب بمخلوقاته، خصوصا إلى العلوم الجغرافية والبحرية. كل ذلك كان يدفع كولومب إلى جولان البحار، فغض النظر عن كل الصعوبات والعوائق التي كانت تعترضه في طريقه ودخل في سلك النوتية. وكان كولومب منذ ترعرعه، لا سيما في شبيبته، يرمي إلى مناضلة العثمانيين، وأخذ بيت الله المقدس منهم. فأخذ يتمرن ويتعود على الاقتتال حتى يفوز بالغلبة والنصرة إذا جاءت تلك الحرب الدينية الموهومة. وطفق يقاتل في معارك صغيرة جرح في إحداها جرحا بالغا ضمد ولكنه فتح ثانية في أواخر أيامه وحرمه لذة تلك الأويقات التي كانت أقصر من حبال الآمال.
ثم رمق بنظر حاد قريبين له، وتتبع سيرهما في سبيل الثروة، وهذان القريبان كانا قد أحرزا صيتا عظيما وشهرة طائرة في الغلبات والانتصارات البحرية. وإذ علم كولومب بوصول أربعة قوارب فينيسية جد وراءها وأدركها بين «أشبونة» ورأس القديس «فنسان». ولما دنا منها ربط سفينته بإحدى سفن الأعداء بسلاسل حديدية، فابتدأ بينهم قتال عنيف، قتال خصم ملامس للآخر، قتال كانت فيه الدماء تجري كالأنهار. كيف لا والميدان ضيق، والسفن مربوطة ببعضها. ولما شبت النيران في إحدى السفن التهمت السفينتين معا والتزم المتقاتلون أن يسبحوا ويخوضوا في عباب الماء تخلصا من النار. أما بطل روايتنا فكان سباحا ماهرا، بيد أنه لما رأى أن الشاطئ بعيد عنه بمقدار فرسخين تقريبا قبض على مجداف بعثت به العناية الإلهية إليه، فتارة كان يتساعد ويتعاون به، وطورا كان يقذفه إلى الأمام حتى وصل إلى الشاطئ سالما آمنا، وأراد الله سبحانه بذلك أن يبقى ويتم أعمالا أهم وأعظم من هذه المعيركات. أما الشاطئ الذي وصل إليه بطلنا فكان من أراضي البرتقال، تلك البلاد التي كان لها حينئذ الشأو الأعظم والمكان الأكبر في العلوم البحرية والاكتشافات الجغرافية. فوجد كريستوف هناك أخاه برتلماوس.
بقي علينا إذ خرجنا ببطلنا من حومة هذا الوغى سالما آمنا، أن نذكر شيئا عن أخلاقه وصفاته حتى يقف القارئ على حقيقة أمر هذا الهمام. فقد كان كولومب معتدل القامة، شديدا ماشقا، حكيما مدركا متبصرا، قاتم اللون، بيضوي الوجه مستطيله، أزرق العينين، حاد البصر والبصيرة، جهوري الصوت، معتدل السير نشيطه. ولحسن تعلمه كان يفصح عما في ضميره بغاية البلاغة والزلاقة، وكان يتداخل في كافة المواضيع بدون أن يسلب حقه أو يضيع فكره. وكان ذا بيان عجيب ونطق غريب ، وبذا كان يستميل مواطنيه ويجذبهم إليه. فكأن الله سبحانه وتعالى قد وهبه قصدا تلك الهبة الجليلة؛ أي العقل الكامل الذي ما وهبه إنسان قط إلا جل قدره وعلا شأنه:
ما وهب الله لامرئ هبة
أحسن من عقله ومن أدبه
وكان بخلاف ذلك وديعا متواضعا، خفيف الروح، حسن السير، عطري السلوك، لطيف المعشر، شديد التقشف، لا يأكل اللحم إلا نادرا. وكان يقاوم شهواته مقاومة عنيفة، ذاكرا وصايا أمه الحنونة التقية، وكان يصلي كل صباح طالبا من الله عز وجل أن يغفر له خطايا يومه. وكان يبدأ كل يوم كتاباته بهذه الكلمات: ليرمقنا يسوع وأمه بأعينهما الرءوفة.
وفي هذه الأزمنة كان الناس يجهلون حجم الأرض وكرويتها، ويخال العلماء أنه من رابع المستحيلات عبور المحيط الذي كانوا يدعونه بالبحر المظلم. وكانوا يخالون أيضا أن في نهاية الأطلانطيكي هاويات عميقة، وجحيما منسحقا لا قرار له. وكانوا يرسمون على خرطهم وحوشا ضارية، وحيوانات مفترسة رمزا للحدود التي وصلت إليها سفنهم وما أمكنها أن تتعداها.
أما كريستوف فبالعكس، كان يعتقد أن الأرض كرة مستديرة، وأنه في نصف الكرة الآخر توجد أراض شاسعة الأكناف تقابل الجزء الكروي الذي كان معلوما آنئذ. وكان يؤكد ذلك بالبراهين الساطعة والأدلة القاطعة، قائلا إنه من المستحيل أن يترك الرحمن بقاعا واسعة كهذه بلا سكان ولا قطان، وبما أنه كان ممتلئا من روح الدين المسيحي والتعاليم القويمة والغيرة الشديدة، أراد أن يكون رسولا يجول بين أولئك القطان هاديا لهم ومعلما إياهم سبيل الله المستقيم، ودينه الحق القويم، وكان يكرر في كل صلواته وطلباته أمرين؛ أولهما: إيجاد تلك الأراضي المجهولة وتبشير أهلها بالإنجيل الشريف، وثانيهما: نزع قبر السيد - له المجد - من يد العثمانيين مستعينا على ذلك بالكنوز التي كان يعلل نفسه بوجودها في الأراضي المجهولة. فاستعد لذلك، وقال في نفسه: إنه يلزم أن تكون تلك الأراضي في مستقبل الأيام ملكا لوطنه ومستعمرات لبني بجدته مقابلة لمساعدتهم له في اكتشافها ومعرفة كنهها. ولكن بما أن جنوة والبندقية قد أبتا مس هذا المشروع، ورفضتا مد يد المساعدة إليه؛ عاد إلى بلاد البرتقال، وكان يوحنا الثاني ملكها حاميا للبحر والبحرية محوطا بأمهر البحارة والنوتيين.
فانعقد حينئذ مجمع من العلماء لفحص المشروع، وقرروا أخيرا بعد طول البحث وكثرة التنقيب والتدقيق أن الشروع في هذا الأمر عبث لا طائل تحته ولا نتيجة له. ولكن ادعى أحد هؤلاء الباحثين أنه يريد فحص المشروع فحصا مدققا، فاطلع على مذكرات كولومب، وبعد أن عرف أسرار رحلته رخصت له حكومته البرتقالية بإرسال سفينة نحو تلك الأراضي الجديدة المزمع اكتشافها. ولكن بما أن الأمر كان اختلاسا دنيئا سافلا لم يشأ الله أن يباركه ففشل وذهب أدراج الرياح.
ثم ترك كولومب البرتقال، وعزم على أن يعرض مشروعه على بلاد إسبانيا، وكان يحكمها وقتئذ إيزابل وفردينند. أما إيزابل سلطانة الكاستيل فكانت فضلا على جمالها الفتان حكيمة صائبة الآراء، لطيفة المعشر، سليمة النية، خالصة الطوية، وبالإجمال حائزة لكل صفة يجب أن تتحلى بها ملكة مسيطرة على شعب عظيم. وأما فردينند فكان فضلا عن مهارته ورصانته، وحزمه وحذاقته، نشيطا في الأعمال شديد العزم، وقاد القريحة، إلا أنه كان خبيثا ماكرا محتالا. وكان الملكان مخلصين لله جل وعلا متدبرين فيما يرفع شأن شعبيهما ويجعل لهما مقاما عظيما ومكانة سامية بين الشعوب الأخر، وكان الناس ولم يزالوا يدعونهما «المليكين المسيحيين».
فانتظر كولومب زمنا طويلا ريثما هدأت الحرب التي كانت تدور رحاها بين الإسبان والمغاربة، فانتهت بأخذ غرناطة من المغاربة، وطردهم من بلاد الإسبان. وإذ ذاك قصد كولومب الملكين اللذين أمكنهما حينئذ أن يعيراه آذانا صاغية. وقبل ذلك استقبله في دير الفرنسيسكان في «سنت ماري دي لارابيدا» الناطور الطائر الصيت «يوحنا بيريس». هذا، وبينما كان مجلس «سلامنك» يختبر المشروع ويعدله كيفما يشاء، كان الرهبان في الدير يتأملون في أفكار كولومب ذلك العبقري الذي لم يجد الله سبحانه وتعالى أحدا مثله لتأدية تلك المهمة الكبيرة، وكانوا يصغون إليه فاهمين ما يقوله مصدقين كل ما كان يشرحه أمامهم. وبعد الفحص والاختبار أقر رأي الرهبان على قبول أعظم مشروع وجد على وجه هذه البسيطة الغبراء.
أجل، قبل المشروع بكل سرور وهتاف، بل بكل تهليل وترحاب، بكل فرح وإعجاب. ففي هذا الدير المملوء بالهدوء والسكينة الخالي من الشوائب الدنسة التي تنجس الإنسان، اعتقد الكل بكروية الأرض وبوجود الجزائر والقارات المجهولة، وبإمكان الوصول إليها. مع أنه في منتديات العلوم ودوائر المعارف والآداب، في الكليات، في المدارس والمجالس والمعاهد العلمية، كان القوم يعتقدون أن تلك الآراء ما هي إلا سفسطات وأضغاث أحلام أو رؤيا مريض مستغرق في المنام، وإذ أوشك الملكان أن يرجعا من الحرب وكانا أمام «غرناطة»، عرض عليهما كولومب طلبه كمرسل من قبل الله داعيا نفسه بسفير الرحمن. فذهب إلى أكثر الأمراء تدينا وتقوى وإخلاصا لخدمته تعالى قائلا لهما: تلك هي أعظم وسيلة لتخليد اسميكما في بطون التاريخ، فبها تؤديان أجل خدمة ليسوع، وتنشران إيمانه المستقيم ودينه القويم بين أولئك الشعوب الكثيري العدد.
وعليه كان أول أمر في هذا الاكتشاف العظيم خلوه من كل شائبة بشرية، وتخصيصه لمحض رفع اسم الحق سبحانه وتعالى، ونشره في ربوع تلك القارة الجديدة لتخليد ذكر يسوع بين أركانها، وتعميم دينه بين أهليها وسكانها. فتأثر لذلك قلب إيزابل خصوصا، وكانت حكيمة عاقلة شفيقة القلب.
ولكن لم يلبث المجلس السلامنكي إلا وجاهر بفساد المشروع وعدم إمكان السير فيه؛ ولذلك انتظرت إيزابل ظهور الحقيقة التي يقولون عنها: إنها بنت البحث. وطالما كان يأسف كولومب ويتحسر لما يراه من احتقار العلماء، وامتهان أهل البلاد والبلاط الملوكي له ولمشروعه وسخرية التلاميذ به، حتى إن هؤلاء الأخيرين كانوا إذا قابلوه يدلكون جبهاتهم بأناملهم كأنهم يرمزون بذلك إلى فساد عقل كولومب، واضطراب قواته الإدراكية. فبعث كولومب حينئذ أخاه برتلماوس إلى فرنسا ليعرض عليها ما أبت إسبانيا تنفيذه. وفي ذلك الوقت (سنة 1492) دخل الملكان إسبانيا منصورين فرحين بهزيمة بوابديل ملك المغاربة شر هزيمة.
ثم عزمت إيزابل على تعضيد آراء كولومب، وتنفيذ مشروعه مهما كلفها من المصاريف والمشاق، فبعثت برسول وراء برتلماوس ليدركه قبل وصوله إلى فرنسا. وكان اهتمام سلطانة الكاستيل بمشروع كرستوف عظيما جدا حتى إنها قد صرحت بأنه لو احتاج الأمر إلى بيع حليها وجواهرها لباعتها تنفيذا لرغائب كولومب وإرضاء لخاطره؛ وذلك لأنها كانت تعهد فيه ما هو أكبر وأعظم من ذاك المشروع. فوضع كولومب الشروط التي يجب أن يسير عليها فقبلتها بدون نقض ولا إبرام. ومن مقتضى تلك الشروط صيرورة كولومب إذا نجح في مهمته أميرالا عظيما في المحيط، وحاكما عاما على الجزائر والبلاد المزمع اكتشافها، وواليا للهند ورسولا مبشرا، ويكون له الحق في عشر حاصلات تلك البلاد سواء كانت زراعية أو معدنية.
الرحلة الأولى
ذهب كولومب إلى ميناء صغير يدعى «بالوس» انتخبه ليكون نقطة قيامه، وعزم أخيرا على إعداد سفينتين على نفقة الحكومة وتأجير ثالثة. ولكن لما سمع الإسبانيون بهذا المشروع استولى عليهم الرعب واليأس والحزن والكآبة. فكان الملاحون يهربون منه ويهربون سفنهم وقواربهم، ثم تمارض النجارون وصناع السفن، وأبى التجار بيع الخشب والهناء
1
والحبال.
أجل، كيف لا ينفر الشعب من مشروع رفضه العلماء بأجمعهم؟! وكيف لا يحزنون ويتباعدون عنه وقد جاهر كل من يوثق بقولهم بعدم إمكان نجاحه، وصاروا يدحضون أقوال ذلك الرجل العظيم الذي يعد من أكبر المحسنين لبني الإنسان إن لم نقل أعظمهم؟!
وأخيرا بالنسبة لما كان ليوحنا بيريس - المار ذكره - من الثقة عند الأهالي أخذ يهدئهم بالكلام الرقيق، ويرشدهم إلى الحقيقة التي تتولد من الشروع في هذا الأمر، ويبين لهم النتائج العظيمة التي ينتظر أن تعود عليهم من ذلك المشروع. فعزم ثلاثة إخوة ملاحين؛ وهم الإخوة «بنسون»، على تكريس حياتهم لخدمة كولومب، وأخذوا يحضون زملاءهم على مساعدة هذا المشروع ويحثونهم على الإقبال عليه، حتى تمكنوا أخيرا من إعداد ثلاث سفن صغيرة تدعى الأولى «لابنتا»، والثانية «لاسنتاماريا» التي امتطاها الأميرال كولومب، والثالثة «لانينا» وهي أصغر الثلاثة كما يتضح ذلك من تسميتها. وكان عدد البحارة 120 نفرا، فاستعدوا لهذا الخطر الذي كان محدقا بهم - على ما كانوا يزعمون - من جراء تلك السياحة.
وإذ كان يوم الجمعة 3 أغسطس سنة 1492 هبت ريح شديدة أمر على أثرها كولومب باسم يسوع أن تنشر القلوع. فلما وصل إلى رأس الرجاء الصالح دخل إلى مخدعه القائم على مؤخرة السفينة، وشرع في كتابة يومياته باسم سيدنا يسوع المسيح. ولا عجب إذا صنع كذلك؛ فقد كان - كما قال قداسة البابا بيوس التاسع: «متوقد العزيمة، كثير الغيرة على الديانة المسيحية. لم يقدم على هذا المشروع الخطير ويرغب في اكتشاف عالم جديد لمجرد الحصول على أراض واسعة الأكناف يضمها إلى ممتلكات إسبانيا، بل كان يهمه على الأخص أن يجعل اسم يسوع يرفرف على شعوب جديدة عديدة لتكون تحت راية ورعاية الكنيسة المسيحية.»
واستمرت السفن تسير باسم الله مجراها بكل أمان وطمأنينة، حتى التزم كولومب أخيرا أن ينتظر عند جزائر «الكناري»؛ لتصليح ما اختل في «لابنتا». وفيما كانوا يمرون بقرب «تينيريف» أكبر جزر الكناري، كان بركانها في ثوران وفوران، فانزعج الملاحون، وخالوا أن هذا الانقلاب بادئة الكروب التي كانوا ينتظرونها من تلك السياحة، فهدأ كولومب روعهم ضاربا لهم الأمثال وموجها أنظارهم إلى «أتنا» و«الفيزوف» وكانوا يعرفونهما كلهم. وأخيرا أقلع في السادس من سبتمبر فترك «جومير» وابتدأ بالدخول في منطقة الاكتشافات، فعزم حينئذ على الإمعان
2
في الأطلانطيقي الذي كان مجهول السبل في تلك الأيام، ثم أخذوا يسيرون في الطرق الغربية.
وفي التاسع من سبتمبر سنة 1492 هب نسيم عليل وسطعت الغزالة بأشعتها الذهبية فانتفخت القلوع. وقبل انتهاء النهار اختفت أراضي جزيرة الحديد «أيل دي فير» عن الأبصار؛ فهلعت لذلك قلوب الملاحين وأخذوا في العويل، وأيقنوا أنهم ضلوا وهلكوا لا محالة وفقدوا أوطانهم وأسرهم. فاجتهد الأميرال في تهدئة خواطرهم وإزاحة همومهم، فكان يؤملهم في الحصول على الذهب الوهاج، والتمتع بحاصلات تلك البلاد الثمينة، ونيل المكافآت والمرتبات العالية، وبلوغ المجد الأثيل والشرف السامي. ثم أمر الربانين بمداومة الاتجاه نحو المغرب، والوقوف بعد قطع سبعمائة فرسخ إذا اشتموا رائحة الخطر على السفن ومن فيها، ولم يقل ذلك إلا لأنه كان موقنا بالاقتراب من اليابسة.
ففي الثالث عشر من سبتمبر على بعد مائتي فرسخ تقريبا لاحظ كولومب حادثا كان مجهول السبب؛ وذلك أنه في منتصف الليل عوضا عن أن تشير الإبرة الممغطسة إلى النجمة القطبية تحولت عنها بخمس أو ست درجات، وكان الاختلاف يزداد شيئا فشيئا. وفي اليوم التالي لوحظ أن طائرين من النادر وجودهما على غير اليابسة كانا يطوفان حول السفن. إلا أنه في الليل الثاني خال النوتية أن هلاكهم قد دنا، وصاروا على شفا جرف هار؛ وذلك لظهور أحد الحوادث الخاصة بدوائر الانقلابات دون غيرها، فكأن لسانا من نار كان يخترق الجو رأسيا وينتهي طرفه في الماء على مسافة خمسة فراسخ من السفن.
وفي السادس عشر من هذا الشهر ظهر لهم على بعد مسافة بالكاد تراها العين أعشاب خضراء؛ فكأن السماء فتحت أمامهم، أو كأنهم دخلوا من أبواب النعيم. أجل أيها القارئ، كم من السرور خالج قلوب هؤلاء البؤساء، وكم شعروا بالفرح والبشر لرؤية تلك الحشائش، وما كان أعظم انشراح صدورهم لهذه الرؤية السارة وتلك البقع الخضراء النضرة الموجودة في بحر «فاريك»! إلا أن كمية تلك النباتات كانت تتجمع وتتشابك حتى ضايقت السفن وكادت توقفها عن المسير، وحينئذ طار لب الملاحين وهلعت قلوبهم ثانية، وانصب على رءوسهم الغم، وتراكمت عليهم الهموم، وأعقب ذلك دمدمة، وتلى هذه ما يشبه التعصب والثورة. فرفع كولومب يديه إلى من تخضع له الرياح والبحار وابتهل إليه، وصلى صلاة طويلة.
وفي الخامس والعشرين من سبتمبر سنة 1492 ماجت المياه بدون أدنى نسيم ودفعت السفن وأنقذتها من تلك الشباك التي كانت محيطة بها! هكذا تصنع العناية الإلهية العظيمة بمن يغارون على أعمالهم وتعاونهم وتشد أزرهم، ومهما جربوا فإنهم لا يفتئون ممتثلين لأعمال الله، ناهجين في سبيله القويم، متكلين عليه في كافة أعمالهم. فكانت تلك القدرة الإلهية تساعد هذا المكتشف العظيم، أو بعبارة أخرى هذا الرجل الذي أضاف إلى العالم عالما آخر؛ لأنه كان يصلي دائما طالبا من الله عز وجل أن يبلغه مقاصده وينجده بمعونته التي لا تقدر.
ومن الغريب أن الله كان ينقذه من أكبر الورطات ويخلصه من شر الويلات، ومع ذلك فإن عدد الثائرين في السفن كان يزداد شيئا فشيئا ويوما بعد يوم، حتى إن أشدهم جسارة وأكثرهم جراءة تفاوضوا وتخابروا بشأن إلقاء الأميرال في البحر إن لم يذعن هذه الدفعة لطلباتهم ويعود إلى إسبانيا عاجلا! ومع أن كولومب كان يعلم تمام العلم بكل ما كان يختلج صدورهم من الشرور، ويفهم كل ما كان يدور في خلدهم من الأفكار السيئة والمكامن، لم تبد عليه علائم الانزعاج بالمرة، بل استمر هادئ البال ساكن البلبال، يهدئ روع هذا ويوقظ ذاك، ويهدد كل من يجسر على إيقاف رحلته بالعقابات الجسيمة. ثم قال لهم أخيرا: «اعلموا أيها الرجال، أن دمدمتكم وتهوركم لا يجديان فتيلا، فقد بعثت لأبحث عن أقطار مجهولة، فلا بد من متابعة السير حتى ندرك اليابسة بمعونة الله وشفاعة ابنه له المجد.»
وكان الله قد دبر أمرهم وقدر لهم معونته قبل أن يلفظ كولومب تلك الكلمات؛ وذلك أنه في اليوم التالي فضلا عن الحشائش الخضراء التي كان يظهر عليها أنها لم تنبت إلا حديثا، فإنهم وجدوا قصبة ثم لوحا خشبيا مشغولا ثم غصنا عليه بعض الحبوب الحمراء، فجمعوا كل هذه، وتحولت أحزانهم إلى أنس وحبور، وهمومهم إلى بشر وسرور:
فرضوا بما شاء الإله حدوثه
وتبدلت أتراحهم أفراحا
وعندما أسدل الليل البهيم ستاره الأسود على تلك الطبيعة الجميلة، وبعدما دعوا العذراء وطلبوا منها ومن ابنها الحبيب ما شاءوا، وأنشدوا وسط هذا المحيط العجاج نشيد «سالف ريجينا» الإسباني كما هو المعتاد، خطب فيهم كولومب بصوت ملؤه الغيرة والحماس فذكرهم أولا بعناية الله الكبرى التي لولاها لما هبت الرياح وتحركت المياه وساروا فيها بأمان، ثم وعدهم أنه عند شروق شمس اليوم التالي سيطئون - أو على الأقل سيرون - اليابسة، وتعهد لأول من يراها بطقم مخمل
3
وذلك بخلاف المرتب الموعودين به، وفي الساعة العاشرة مساء رأى كولومب ضوءا يتلألأ على بعد.
وعندما انبلج الصباح رأوا اليابسة بعد إجهاد البصائر على بعد فرسخين لا غير. فأي قلم يقدر على تعبير ما خالج قلوب هؤلاء المساكين من السرور! بل أي بليغ يمكنه أن يصف ما مازج أفئدتهم من البشر والحبور! فلقد صاحوا قائلين بعد طلقات المدافع المتوالية: اليابسة اليابسة! ثم أنشدوا الأناشيد الوطنية الملأى غيرة وحماسا، وكان ذلك يوم الجمعة 12 أكتوبر سنة 1492.
العالم الجديد
نزل كولومب إلى اليابسة بعدما لبس عباءته القرمزية وقبض على اللواء الملوكي. ثم ركع على الأرض وقبلها بكل احترام ووقار، شاكرا المولى سبحانه وتعالى ساكبا دموعا غزيرة من شدة الفرح والسرور. ثم رفع صورة عليها رسم المصلوب، ونطق بصوت خشوع تهتز له القلوب الصلاة الأولى مقدما لله التسبيح والاحترام. ثم سحب حسامه ورفعه إلى العلا، واستولى على تلك الجزيرة باسم ملكي «الكاستيل والأراجون»، ولقد دعاها «سان سلفادور» وهي كلمة إسبانية معناها القديس المخلص. وحين ذلك صار كولومب بواسطة اكتشافه العظيم أميرالا وحاكما وواليا ومبشرا لتلك الأصقاع النائية.
أما تلك الجزيرة فكان اسمها بلغة أهلها «جواناهاني» وهي إحدى جزر الباهاما التي تتبع إنكلترا اليوم. أما عن مواطني الجزيرة فحدث بالحقيقة ولا حرج، فعندما رسا كولومب عليها صاروا يتأملون إلى سفينته من خلال العوسجات والعليقات بكل اندهاش واستغراب، وكانوا يعجبون كثيرا بذلك الموكب الحافل الذي دخل به الإسبان جزيرتهم:
والسفن مبحرة كأن قلوعها
منشورة أجناح طير هائل
هكذا كان القوم يعتقدون في سفن كولمب، فكانوا يخالونها - أو بالحرى يخالون قلوعها - أجنحة هائلة لطيور هائلة. ولمهابة كولومب وهيئته الرهيبة الساكنة التي تدل على الحكمة والسداد؛ اطمأنت قلوبهم وهدأ روعهم، لا سيما لما بدا لهم منه من الشفقة والحنان وأبهة اللباس وزخرفه. فخروا أمامه ساجدين وقدموا له حشائش عطرية جميلة في نظير قلاس حمراء وأخراز وجناجل كانوا يفرحون بها. ثم شرحوا له على قدر الإمكان أن كل هذه المناطق الجزرية وافرة الخيرات والحاصلات عديدة كثيرة السكان، واستشهدوا على ذلك بذكر ما يفوق المائة اسم من أسماء تلك الجزائر. فنزل حينئذ الأميرال كولومب وابتعد لمسافة سبعة فراسخ تقريبا من «سان سلفادور»، ورسا على جزيرة من أكبر تلك الجزر دعاها «سنت ماري دي لاكونسبسيون» بعدما نصب فيها صليبا. ثم رسا على غيرها ودعاها «فرناندين» وكان أهلها أحسن حالا وأقل فقرا وأكثر براعة من سكان «جواناهاني»، وكانوا ينامون على حصر أو شباك من القطن يعلقونها غالبا أمام أكواخهم، وكانوا يدعون ذلك الفراش «هاماك»، وقد حفظت اللغات المشتقة من اللاتينية ذلك الاسم للآن، وأطلقته على الأرجوحة
hamac .
ثم اكتشف جزيرة أخرى دعاها «إيزابل» كانت أكثر جمالا وأحسن موقعا ورونقا من الأولى. ففيها البحيرات الواسعة والأحراش الظريفة التي تأوي إليها الطيور الجميلة، لا سيما الببغاءات التي تفد إليها عشرات ومئات، وكان ذلك مما يزيد في حسنها ويجعلها بهجة تخلب العقول والأبصار.
وفي مساء السادس والعشرين من أكتوبر ظهرت «كوبا» أعظم جزائر الهند الغربية مرسومة في الأفق تختال في جلابيب الأبهة والجلال.
أما هذه الجزيرة التي لقبها البعض بلؤلؤة البحار فقد انبهر كولومب وأصحابه لمنظرها البديع. كيف لا وسواحلها غير محدودة، وقمم جبالها وردية وبعضها سماوية، ولخلجانها انفراجات كثيرة غريبة، ومزارعها غزيرة جميلة نامية متنوعة، وأنهارها جارية، وسماؤها زاهية:
والريح تجري رخاء فوق بحرتها
وماؤها مطلق في زي مأسور
قد جمعت جمع تصحيح جوانبها
والماء يجمع فيها جمع تكسير
كل ذلك كان يوسوس في عقل كولومب، ويؤكد له أنه لا بد من وجود قارة في تلك النواحي تكون تلك الجزر طليعتها. ولاحظ الإسبان أن الأهالي كانوا يضعون في أفواههم وهم يلعبون أوراق شجرة هناك، وكانوا يحرقون تلك الأوراق ويمتصون دخانها ويسمون تلك اللفائف «تباكو»، فعرفوا أن هناك نباتا يدخن ويسلي، وبهذه الكيفية اكتشف التبغ. ثم اكتشفوا القطن أيضا وعرفوا كيف ينتفع به، فقد وجدوا منه في مغارة واحدة ما يقرب من اثني عشر ألف رطل منسوج أو مغزول.
أما كولومب فكان يريد أن يصل إلى أرض كان الهنود يدعونها «بالبيك»، ولكن الريح كانت مضادة له، ولذا اضطر إلى تغيير الطريق، وكأن الله سبحانه وتعالى جعل الريح تعاكسه لكيما يعدل عن تلك البقعة إلى ما هو أهم منها، بل إلى أهم نقطة كانت هناك. وذلك أن كولومب شاهد في السادس من ديسمبر بينما كان متجها نحو الجنوب الغربي لسانا طويلا من الأرض العالية كانت قمتها مضوءة بالشمس الساطعة، وكان منظرها ينعكس في مياه رائقة جدا، تلك هي جزيرة «هايتي» الكبيرة التي دعاها كولومب «هسبنيولا»؛ أي إسبانيا الصغرى.
وإذ صادف الملاحون جمعا من الأهالي الهمج أخذوا منهم امرأة بالمحايلة وألبسوها ثيابا باهرة الألوان مرصعة بالأخراز والجناجل، ثم ألبسوها من السوارات والخواتم المعدنية شيئا كثيرا، وساروا وراءها في حفلة زاهرة، وبهذه الطريقة السديدة استمالوا الأهالي؛ حتى إن هؤلاء أحضروا في السفن في اليوم التالي ما لا يحصى من المؤن والمأكولات والبقول وغير ذلك.
أما عروس البارحة التي احتفل بها الملاحون ذلك الاحتفال الباهر، فأقبلت محمولة على مائدة خشبية مغطاة بالخضرة والأزهار يتبعها زوجها الذي طالما أظهر بحركاته وإشاراته وابتساماته امتنانه ومعرفته للجميل.
ثم زار كولومب كثير من أمراء تلك البقاع. أما حاكم البلاد أو أمير الأمراء المدعو «جواكاناجاري»، فأرسل إلى كولومب منطقة ركب عليها كيس من الجلد الطيب بشكل وجه بشري أذناه ولسانه وعيناه من الذهب الخالص، ولقد بعث برسول ألح على كولومب كثيرا بزيارة الأمير والمثول بين يديه.
ثم سارت السفن باسم الله مجراها، ولكن رأى كولومب أنه محتاج إلى الراحة؛ لأن المهمة الشاقة التي قام بها أتعبته جدا وكلفته مشاق عظيمة. إلا أنه لم يفارق أعلى السفينة ويدخل مخدعه حتى نام أغلب البحارة. وأصبحت السفينة سائرة كما تروم ويروم الريح، وما بقي من الملاحين مستيقظا إلا نفر قليل لا يكفون لإدارة السفن في مثل تلك الجهات الخطرة؛ فاصطدمت السفينة «سانتا ماريا» بصخرة صادفتها، وقبل أن يعطي الأميرال الأوامر، ويرشد إلى الطرق اللازمة لنجدتها وانتشالها اشتبكت بالرمال، ولم يدر بذلك أمير الأمراء - المار ذكره - حتى أرسل رجاله وقواربه ووضع تحت تصرف كولومب وأصحابه ثلاثة أكواخ، وجعل من رعيته حراسا يحرسون أولئك الأجانب الشرفاء - كما كانوا يدعونهم. ومن الغريب الذي يجدر ذكره هنا أنه لم يسرق من هؤلاء الأجانب في تلك المدة شيء بالمرة. أما كولومب فأول الحادثة الماضية - حادثة الاصطدام - بما معناه: «أرادت العناية الإلهية إغراق سفينتنا وبقاءنا في هذه البقعة وليس في غيرها؛ لأنها من جهة أجمل بقعة في تلك النواحي، ومن جهة أخرى ليصير أول مركز لنا هناك بجوار تلك المناجم الذهبية الغزيرة.» وفي الواقع ونفس الأمر صارت تلك البقعة الصغيرة أول مركز للغربيين في تلك الديار القاصية النائية. فابتنوا ببقايا السفينة التي تبدد شملها حصنا صغيرا أحاطوه بحفر وأسوار من أوتاد، ثم حصنوه بعدد من المدافع وسماه كولومب «لاناتيفيتي»؛ أي الميلاد. ثم ترك فيه عددا كافيا من الرجال، وأبحر في يوم الجمعة 11 يناير سنة 1493 قاصدا إسبانيا.
وكانت العودة طويلة كثيرة المشاق والأخطار، ولقد رأى الملاحون في أثنائها من أنواع العذاب ما لا يقدر. ففي ثلاث مرار مختلفة أوشك كولومب ورجاله أن يهلكوا، وكانوا يصلون بحرارة إلى العذراء طالبين منها أن تدفع عنهم تلك الشدائد، ولكن العواصف كانت تشتد والزوابع تقوى والأنواء تكثر حتى خاف كولومب وأصحابه من الغرق؛ ولذا أخذ الأميرال في كتابة تفصيل رحلته بكل سرعة، ثم وضعه في دن من صفيح ألقاه في اليم، ثم ربط دنا يشبه الأول تماما في طرف السفينة بعدما وضع فيه تفصيلا آخر.
وأخيرا بعد مضي ستة وثلاثين ساعة وهم على جانب عظيم من القلق الزائد والهم والغم وانشغال البال، سمعوا صوتا جهوريا صادرا من أعلى السفينة قائلا: اليابسة اليابسة! ولقد يعدني القارئ مبالغا أو مغاليا إذا قلت له: إن خبر الوصول إلى اليابسة لم يفرح سامعيه في المرة الأولى عندما كانوا قاصدين العالم الجديد مثل هذه المرة! وكانوا قد رسوا على سواحل جزيرة «العذراء» أول جزر «الآثور» من الجهة القبلية؛ فانشرحت صدورهم وابتهجت قلوبهم وقرت عيونهم وامتلئوا بشرا وحبورا. ومن العجيب الغريب الذي يعد من أكبر المعجزات نجاة تلك السفن الصغيرة من أيدي العواصف الهائلة ومقاومتها لها.
ولما كانت جزائر الآثور - ولا تزال - تتبع بلاد البرتقال امتلأ قلب حاكمها البرتقالي غيظا وحسدا للإسبانيين، وحقد عليهم حقدا دفينا حتى كادت تسول له نفسه الخبيثة - والنفس أمارة بالسوء - أن يحجزهم عنده كأسراء. ولكن تمكن كولومب بفصاحته وسياسته أن ينجو هو وسفنه ورجاله من هذا الذئب الجبان.
ولم يكونوا إلا على مائة وعشرين فرسخا من رأس «سنت فنسان» حتى فاجأهم نوء عظيم، فحمل على القلوع حملة شديدة مخيفة حتى كاد يمزقها تمزيقا، وكان الملاحون وضباطهم يوالون الصلوات إلى العزة الإلهية طالبين إزاحة هذه الكروب عنهم.
وفي الثالث من الشهر ازدادت العواصف والزوابع حتى لم يشك أحد منهم في الهلاك. فقر الرأي أخيرا أن يطلبوا من العلي أن يخلصهم، ونذروا لله أن يصوموا في مقابلة ذلك يوم السبت الذي سيعقب نزولهم إلى اليابسة تماما. وفي مساء ذلك اليوم رأوا اليابسة وكان الظلام حالكا، فكأن الله سبحانه وتعالى أجابهم إلى طلبهم عاجلا ونجاهم في نفس اليوم. ولما صاروا على مقربة من السواحل عرف الأميرال أنهم وصلوا إلى مصب نهر «التاج» أحد مجاري البلاد البرتقالية والإسبانية. وكان الوصول إلى الميناء - أو بالحرى الدخول فيه - صعبا جدا والسفينة عليها علائم الحزن والانكسار، محفوفة بكل أنواع الأخطار، ولكنهم بقوة الله ومعونته أمكنهم في المساء أن يرسوا في مرفأ «رستلو». ومن الغريب أن أصغر السفن نجت من الغرق، وسلمت من حملات العواصف والأنواء مع أن خمسا وعشرين سفينة غرقت في تلك النواحي، أو على الأقل أصابها عطب أثناء ذلك الشتاء الشديد رغما عن ضخامتها ومتانتها.
فاتجه كولومب إلى «بالوس» نقطة قيامه بعد أن زار ملك البرتقال الذي هنأه ورحب به كل الترحيب. وليعلم القارئ أنه منذ قيامهم من بالوس في الثالث من أغسطس سنة 1492 كانت أخبار تلك السفن قد انقطعت عن أوروبا بالمرة؛ فلبست الأسرات ثياب الحداد على الضباط والملاحين وعم الحزن جميع البلاد، وكان الناس يلعنون ذلك الأجنبي الأشعبي الطمع «كولمب» قائلين عنه: إنه كان يطمح في الآمال من غير بابها، وكانوا يسبونه ويسلقونه بألسنة حداد لظنهم أنه أفقدهم آباءهم وأبناءهم وجعل أجسامهم طعاما للحيتان والأسماك.
وفي يوم الجمعة 15 مارس سنة 1493 عند الساعة الثانية عشرة، كان بعض البحارة الملازمين للسواحل خالي الشغل وفيما يلتفتون نحو البحر ذات اليمين وذات اليسار، رأوا العلم الكستيلي العظيم يتماوج فوق القلع الأكبر لسفينة صغيرة. فعرفوا أنه علم تلك البعثة التي جرى خبر ضياعها على الألسنة، وأصبح مضغة في الأفواه يلوكها الصغير والكبير على حد سوى. وإذ اقتربت السفينتان تأكدوا أن «النينا» منهما. فتصور أيها القارئ مقدار الفرح الذي حل لهؤلاء البحارة والسرور الذي خامر أفئدتهم والبهجة والانشراح والبشر التي بدت علائمها عليهم:
علائم البشر فوق الوجه بادية
وللمحيا لسان صادق الخبر
وكان دوي المدافع يزيد وطلقاتها تتوالى، فضلا عن النواقيس التي كانت تقرع والطبول التي كانت تدق، وصيحات الفرح والتهليل، وأكاليل الزهور والرياحين التي كانت تزخرف بها النوافذ. وبالإجمال فقد ثمل الأهالي من خمر الفرح ونبيذ السرور.
وبقدر ما كان فرح رجال البعثة عظيما فإنهم أسرعوا بإنجاز وعدهم وإيفاء نذرهم، فذهبوا إلى أقرب كنيسة هناك باسم السيدة العذراء، ودخلوا فيها حفاة الأقدام عراة الرءوس مرتدين بالقمصان الكنائسية. ومن حسن الصدف وغرائب الأمور أنهم دخلوا في كنيسة «سنت ماري دي لارابيدا». فطلب الأب «يوحنا بيريس» من الله عز وجل أن يلهم هؤلاء الأبطال الصبر والثبات وأن يمنحهم المعونة في رحلاتهم المستقبلة، ثم شكره وحمده على حفظه لهم في الرحلة الماضية بدون أن يصيب أحدهم ضرر أو أذى، وسأله جل وعلا أن يساعدهم حتى ينجحوا في هذا الاكتشاف الجليل. وأما الملكان فقد طلبا مقابلة كولومب إذ علما بوصوله سالما غانما.
ومن المعلوم أن بين «إشبلة» - أو هي «سيفيل» - و«برشلونة» توجد أثرى أقاليم في إسبانيا وأرغدها. وكان الأهالي يقيمون على قارعة الطريق؛ لكي يمر بهم هذا المكتشف العظيم ولكي يحيونه تحية الوداد: تحية شعب يئس ثم ظفر. وللقارئ أن يقابل بين حالة كولومب الأولى عندما كان عازما على السفر وحالته الحاضرة؛ فكان الناس يقيمون له الاحتفالات الشائقة والمهرجانات الرائقة. أما عن الزحام فحدث طبعا ولا حرج، فقد كانت الطرق والشوارع وغيرها من الممرات مزدحمة بالمتفرجين غاصة بالرائين، حتى إنهم كانوا يتركون أعمالهم في محالهم التجارية والصناعية ويذهبون لمشاهدة ذلك البطل الصنديد. كيف لا ولم يتجاوز غيره حدود الأرض التي كانت معروفة قبل هذا الاكتشاف الذي ضاعف مسطح البسيطة، وأظهر للملأ ما جهلوه أثناء قرون مما كان معدوما مبسوطة عليه يد الانطماس؟! كيف لا يفتخرون بكولمب ولم يقطع أحد مسافة أكبر من التي قطعها معرضا نفسه للأخطار؟! وكيف لا يتهللون ويسرون بوصول رجل هذا شأنه وقد عاد إليهم آمنا كاسبا؟!
وإذ مثل كولومب بين يدي الملكين وقفا له احتراما وتبجيلا، ودفعهما إلى ذلك ما ناله الرجل منذ ذلك من المقام السامي والاعتبار الفائق عند جميع أهالي الأرض على اختلاف نحلهم وتباين نزعاتهم. ثم مدا إليه يديهما، وأمرا أن يخلع عليه من ثياب الأكابر والوزراء، وأن يجلس بجانبهما على أول مقعد أمام العرش الملوكي، حيث تكلم كولومب بصوت خشوع فاهتزت له القلوب طربا، ورقصت له الأفئدة عجبا، وطربت لسماعه الآذان، لا سيما وكان فصيحا بليغا. ثم ركع الكل بما فيهم الوزراء والأمراء والملكان، وبعد صيحات الفرح والتهليل، صاحوا بغتة بنشيد: «تي ديم»؛ أي شكرا لله. واستمرت معهم الموسيقى الملوكية صادحة بأنغامها الوطنية الشجية، وكأن تلك النغمات كانت ترتفع إلى عنان السماء كأنها تريد أن توصل لرب القدرة والجلال بكيفية محسوسة وطريقة ملموسة، ما كان يدور في خلد أولئك الأبطال من الإحساسات الشريفة، والعواطف المنيفة، وحمد الله وشكره تبارك وتعالى.
وعليه فقد تم ما كان يرومه كولومب من نشر اسم الله المقدس في تلك النواحي التي يجدر بنا أن ندعوها بسيطة أخرى، وكان ذلك على يد رجل مسيحي من أقوم وأتقى أبطال هذا الدين. رجل يدل لقبه على حقيقته. كيف لا وهو كولمب؛ رمز الروح القدس، واسمه «كريستوفورس» ومعناه: باب المسيح، وقد طابق اسمه مسماه بأجلى وضوح وبيان!
الرحلة الثانية
سار كولومب في رحلته الثانية بأربع عشرة سفينة تحمل كل ما يساعد على استعمار أول أرض يطئونها في الدنيا الجديدة. فمن النباتات: الحبوب على اختلاف أنواعها، ومن الحيوانات: المعز والعجول والنعاج والخنازير. وكانت تلك النباتات والحيوانات مجهولة تمام الجهل في البلاد الجديدة. واصطحب كولومب هذه المرة كثيرا من المبشرين والمرسلين، لا سيما صديقه الحميم «يوحنا بيريس»، وهو أول من نطق بالقداس الشريف على سطح المحيط العجاج فوق تلك اللجج السائلة المتجهة إلى نواحي المعمورة الجديدة، التي سميت فيما بعد «بأمريقا» نسبة إلى الرحالة الإيطالي المشهور «أمريكوفسبوسي». فسار كولومب قاصدا تلك الديار النائية لا يلوي على شيء وكأنه قطع تلك الطرق وعاودها ألف مرة. فقام من «بالوس» في الخامس والعشرين من سبتمبر سنة 1493، وفي يوم الأحد 8 نوفمبر اكتشف جزيرة «دومينيك» التي دعاها بهذا الاسم نسبة ليوم اكتشافها (دومينيكو؛ أي الأحد). وبعد زمن أدرك «ماري جالانت» حيث أقام فيها الصليب «يوحنا بيريس» وبشر مع باقي رفاقه بين أهالي تلك الجزر.
ثم وصلوا إلى جزيرة كبيرة دعوها «جواد لاب» نسبة إلى أحد قديسيهم. وكان كولومب عمل حساب المسافات بكل تدقيق حتى إنه وصل إلى جزائر «كارايب» التي تسكنها قبيلة متوحشة تسمى «بالكنيبال»؛ وهم قوم من أكلة لحوم البشر. وكان كولومب عازما على الاستيلاء عليها وإبادتها عن آخرها أو على الأقل إخافة أفرادها؛ حتى يخفف جراءتهم الفظيعة ويمنع جولانهم المرعب.
وبعد ذلك اكتشف كولومب جزيرة «أنتجوا» ثم «بورتريكو» و«منسرات» التي وجدها خالية خاوية لا سكان فيها ولا قطان؛ لأن «الكنيبال» أكلوهم عن آخرهم. وأخيرا في يوم الجمعة 22 نوفمبر سنة 1493 وصل الأميرال بسفينته إلى جزيرة «هسبنيولا» عن طريق مصب نهر الذهب، وكان الطريق ظاهرا بل ويكاد يكون مخطوطا من قبل. ولم ير الإسبان على الشواطئ - بعكس ما كانوا ينتظرون - إنسانا قط، بل كانت خالية قفرة لا أنيس بها ولا جليس بخلاف ما لاحظوه من عادة الهنود؛ فإنهم كانوا يرونهم مجتمعين منتشرين حول السواحل، لا سيما عندما يرون سفينة مقدمة نحوهم. فتعجب الملاحون لهذا الأمر، ولكن يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب؛ فإنهم وجدوا جثتين ملقاتين فوق الرمال يحوط رقبة الأولى حبل، وكان ذراعا القتيل موضوعين على هيئة الصليب ومربوطين بنفس الحبل، وعلى مسافة من هاتين الجثتين وجدوا أخريين إحداهما ذات لحية دلت دلالة صريحة أن المقتولين هم من البحارة الذين تركوهم في الحصن الصغير الذي ابتنوه قبل مفارقتهم للجزيرة من بقايا السفينة. ولما أطلقوا المدافع لم يسمعوا إلا صداها ولم يجبهم مجيب إلى صيحاتهم بالمرة؛ فتيقنوا حينئذ مما حدث بإخوانهم، وتأكد الأميرال من تلك المصيبة التي لحقتهم.
وتحرير الخبر أنه بعدما فارق كولومب وأصحابه الجزيرة وتركوا فريقا منهم هناك، ثار هؤلاء وهربوا مجدين في طلب المناجم الذهبية؛ ليتجروا منها لفائدتهم الخصوصية. ولما علم بذلك الأمير «كاونابو» الهندي الذي كان مسيطرا على تلك المناجم أحب الانتقام، ففكر في نفسه، ووجد أنه بعد عودة من رجعوا إلى إسبانيا وهروب من هرب من الملاحين لا يمكن للباقين الدفاع عن أنفسهم إذا حاول مهاجمتهم. فاقترب منهم ذات ليلة برجاله فوجدهم ساكنين هادئين وكأن على رءوسهم الطير، وليس على أبوابهم حراس يدافعون عنهم وقت الحاجة. فدخل الهنود يتدرجون شيئا فشيئا حتى تعمقوا في الحصن، وقتلوا جميع من كان فيه من البحارة، ثم أوقدوا النار في أكواخهم التي كانوا يقطنونها. أما الأمير «جواكاناجاري» المخلص لكولمب فبادر إلى مساعدة الإسبان، ولكنه لم يدركهم إلا بعد أن قضى عليهم «كاونابو» ورجاله. ثم فرق هذا الأخير رجال الأمير «جواكاناجاري» وجرحه في وجهه جرحا بالغا، وأحرق أكواخه وأكواخ قبيلته. فعزم كولومب حينئذ على بناء مدينة محصنة؛ ليمكنه حين ذاك دفع هجمات الأعداء. فخط الرسومات ورسم بيده على الأرض الشوارع والمنافذ. ثم وضع باسم الثالوث الأقدس أول حجر لأول مدينة شيدها هناك. ثم دعاها إيزابل تذكارا لفضل تلك الملكة العظيمة. فشرعوا أولا في بناء الكنيسة وبنشاط وغيرة البحارة ومراقبة كولومب لهم، أمكنهم أن يقيموا في أول كنيسة في الدنيا الجديدة يوم 6 يناير القداديس والصلوات. وكان ذلك اليوم هو عيد الغطاس، فقام بالقداس الاثنا عشر مبشرا الذين كان اصطحبهم كولومب معه بصفة مرسلين. واعتمد في ذاك اليوم عدد عظيم من الهنود، وبذا تم سرور كولومب. وفي الحقيقة ونفس الأمر إن هذا لمن الأمور التي ينشرح لها صدر كل إنسان يعرف قيمة ذلك الدين.
ثم قر رأيه أخيرا على أن يرسل إلى إسبانيا للبحث عن مؤن أخرى وذلك ليشغل البحارة. ثم قصد جبال «سباو» ليكتشف المناجم الذهبية، وكان يأمل أن يمكث البحارة مدة تذكر في الجزيرة، فيها تهدأ أفكارهم، ويزول ما كان يعتورها من الاضطراب.
ولكيما يستميل سكان تلك الجزر ويضرب عليهم بيد من حديد ويدهشهم ويحيرهم في أمرهم؛ خرج من مدينة إيزابل وسط بحارته وكأنه كان ذاهبا إلى معركة حربية فكانت الطبول تدق، والأبواق تصوت، والأعلام ترفرف في الفضاء. وساروا على هذه الحال حتى صادفوا طريقا وعرا مسدودا بالصخور والآكام والأتربة المتراكمة والعليقات المتشابكة والجذور المرتبطة مما أربك الطريق وجعلها وعرة يستحيل عبورها، وحينئذ صاح كولومب بالضباط المهرة والرجال الأقوياء، وكانوا من شبان الأشراف الذين اشتهروا بالبسالة والبراعة في حرب المغاربة الأخيرة. فاستفز كرستوف همتهم ونخوتهم واستحلفهم بشرفهم ومروءتهم أن يعملوا على ما فيه الفائدة في القريب العاجل، ولم تمر بضعة دقائق وجيزة حتى سلك الطريق بجدهم واجتهادهم، وكانت أول طريق وعرة فتحوها للعابرين في هذا العالم الجديد. ثم وصلوا إلى واد جميل دعوه بالوادي الملوكي، وكان قريبا من «سيباو»، فابتنى هناك كولومب حصن القديس «توماس» وجعل «بدرو» أحد رجاله العاملين حارسا له وأميرا عليه.
ثم كر الأميرال راجعا فاكتشف في طريقه «جاميكا» وأرخبيل «حدائق الأميرة». وهناك صادفت السفن أنواء عظيمة ورياحا هائلة، فأحدق بهم الخطر من كل جهة، وصاروا في حالة يرثى لها في وسط تلك الصخور والآكام. وكان التعب قد أضنى كولومب فاستغرق مرة في نومه خمسة أيام وخمس ليال! ولما تيقظ من نومه قابل أخاه «برتلماوس» في عرض البحر، وكان راجعا من إسبانيا حاملا المؤن المطلوبة، ومعه خطاب من الملكة، وهو أول كتاب أرسل من أوروبا إلى العالم الجديد.
أما حصن «سنت توماس» - الذي مر ذكره - فقد عانى في غياب الأميرال أنواع المشاق. حيث إنه لما رأى الملاحون أنهم أحرار انقادوا لشهواتهم السيئة فتلصصوا وتطاولوا على الهنود، وكانوا يسبونهم بلا مبالاة، ويذبحون فيهم كأنهم أغنام بلا رعاة، وضربوا على من بقي منهم الغرامات الرابية والرسوم الفاحشة. فاغتاظ الهنود من ذلك وثاروا، وتحالف أمراؤهم تحت رعاية «كاونابو» الآنف الذكر. فحاصر عشرة آلاف منهم حصن «سنت توماس» الصغير، ولكن الإسبان بحرصهم وبقائهم في الحصن تحت إمرة «أوجيدا» أمكنهم بعد ثلاثين يوما أن يتعبوا المحاصرين الذين التزموا أن يفكوا الحصار عنهم.
أما «جواكاناجاري» فلم يقطع حبل مودته مع الإسبان، بل كان لهم عونا عظيما ومساعدا ومنجدا كبيرا لا يتركهم في الشدائد، بل يشاركهم ويدافع عنهم على قدر طاقته، فكانوا يستعينون به ويلجئون إليه دائما. ولقد أهلك الأمير «جواتجوانا» عشرا من الإسبانيين، وأحرق كوخهم الكبير الذي كانوا أقاموا فيه شبه مستشفى؛ فراح المرضى شهداء اللهيب.
أما كولومب مع كونه تأثر من معاملة عساكره للهنود فقد أقسم بالانتقام من قساوة أمرائهم المتوحشين؛ ولذلك هاجم «جواتجوانا» على حين بغتة، وأمر «أوجيدا» بالقبض عليه وشد وثاقه على جواده، ثم اتجهوا جميعا على هذه الحال نحو مدينة إيزابل. فذعر الهنود في أول الأمر لهذا المشهد العجيب، ثم انتشروا كالجراد في كل الجزيرة تحت قيادة إخوة الأمير المخطوف الثلاثة. وكان انتشارهم عظيما مريعا سريعا إذ كانوا يبلغون المائة ألف عدا مع أن الإسبان كانوا لا يتجاوزون المائتين وعشرين نفرا، فكأنهم أرادوا أن يقاتلوا بنسبة واحد ضد خمسمائة نفر تقريبا؛ ولذلك كان فزع الإسبان يعظم كلما نظروا إلى تلك النسبة المريعة: إسباني واحد ضد خمسمائة هندي متوحشين! يا للفزع! يا للرعب!
أما كولومب فسلم القيادة العامة لأخيه ثم استغرق في الصلوات والطلبات إلى العزة الإلهية بحرارة عظيمة. وإذ أطلق الهنود في الهواء نيفا وخمسمائة سهم أظلم لها الجو وسد لهولها الفضاء. ثم هبت ريح شديدة عند طلبة كولومب حولتها جميعا إلى جهة أخرى، فسقطت بعيدا دون أن تصيب المرمى؛ فاندهش لذلك جماعة الهنود اندهاشا عظيما، ثم ولوا الأدبار في كل أرجاء الجزيرة، بينما كان الإسبان يصيحون بأعلى أصواتهم: يا للعجيبة! يا للمعجزة! ولزيادة فرحهم وكثرة سرورهم انطلقوا وراءهم حتى طردوهم عن آخرهم. ولقد دعي ذلك النصر الباهر والفوز الخارج عن دائرة المعقولات: «معجزة القسي»، وصار يذكر في التاريخ محفوفا بكل تجلة وإكرام. فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء يدبر الأمور بحكمته البالغة، ويعمل كل غريبة ومعجزة:
يدبر ما فات ابن آدم أمره
فسبحان رب العرش فيما يدبر
ثم دعا كولومب المكان الذي صلى فيه: «الجبيل المقدس».
أما حاكم حصن «سنت توماس» فكان قد هرب وعاد إلى بلاده، حيث وشى في حق كولومب ذلك البطل المغوار متهما إياه بالجور والاعتساف. فتراءى للملكين حينئذ أنه من الأوفق انتداب رجل يختبر الحالة، ويجري كل ما يلزم، ثم يرفع تقريرا عن ذلك للملكين. فوقع الانتخاب على أجوادو - ويا ليته لم يقع عليه - فمع أن كولومب كان أحسن إليه وغمره بإحسانه ومننه، فقد ذهب إليه متناسيا ذلك متشامخ الأنف متعجرفا. فبادر بجمع شهادات سيئة في حق كولومب من كل من كان مستاء منه من البحارة الفسقة الفاسدين، والعساكر القليلي التربية، والهنود الذين كانوا يشتكون مر الشكوى من الإسبان وطمعهم الأشعبي، وذلك رغما عما كان يتخذه كولومب من الاحتياطات الكثيرة.
فأراد كولومب أن يشرع في الرجوع، وإذ هدمت العواصف سفينة «النينا» التي كانت كأنها محفوظة برعاية العلي وحسن عنايته، فإنه أصلحها وابتنى له أخرى دعاها «الصليب المقدس». ولما أوشك أن يقوم بلغه خبر وجود منجم ذهبي عظيم جدا، فأرسل مع أخيه برتلماوس العلامة الجيولوجي «بابلو بلفس» لقياس نهر «هانيا» وفحص الأراضي المجاورة له. فوجدوا على مسافة ستة أميال أن الأرض كانت كثيرة الذهب فكانوا يجمعونه بمقادير عظيمة جدا، وكميات هائلة لدرجة أنهم كادوا يظنون الأمر حلما.
ثم رجعوا إلى «مدينة إزابل» حاملين قطعا من الذهب عظيمة القدر. أما كولومب فأخذ يحمد الله ويشكره كجاري عادته، لا سيما وقد أنعم عليهم بكل تلك المنن الكثيرة.
وفي العاشر من مارس سنة 1496 أقلعت السفن قاصدة بلاد الإسبان وعليها كولومب وأجوادو وعدد كبير من البحارة، فعاكستهم الرياح معاكسة شديدة. ولما تعمقوا في المياه، وبلغوا وسط المحيط يوم 20 مايو اشتدت العواصف وعظمت الأنواء، وكادت المؤن تنفد؛ فجاع القوم واشتد بهم الطوى، وأخذوا يدمدمون بصوت خافت، ثم علت الأصوات وتفاوضوا في أمر إلقاء الهنود الذين أتوا معهم في البحر حتى تكفيهم المؤذن، وافتكر البعض الآخر في ذبحهم وشيهم وأكلهم. وفي السابع من يونيو بلغ الأميرال خبر الثورة التي قامت بين البحارة، فتأثر لمسمعها واغتاظ وجاهر بأعلى صوته: «إنه ولو استوجب الأمر موتنا جميعا واحدا فواحدا لا يمكن أن يمس أحدنا الهنود بأقل أذى، وكونوا على يقين أننا سندخل مياه رأس «سنت فنسان» بعد ثلاثة أيام على الأكثر.» وفي الواقع رأوا في اليوم الثالث الأرض التي نوه عنها كولومب تماما.
وفي الحادي عشر من يونيو دخلت السفن في ميناء «كاديس». وإذ مثل كرستوف بين يدي إيزابل نزع من فكرها كل ما كان اتهم به نظرا لتواضعه ووداعته وحسن أساليبه في الكلام. أما الملكة فكانت تعزيه قائلة: «فلنجد يا كولومب أكثر فأكثر في نشر اسم العلي ورفع شأن دينه القويم في تلك البلاد الجديدة النائية، واعلم أيها الأميرال أني أريد متابعة البحث في تلك الأراضي المجهولة والاستقصاء عن مجاهلها، وإتمام المشروع، ولو لم أجن من ورائه ثمت فائدة.» ثم حدثته بشأن منحه قطعة أرض تبلغ مساحتها مائة وخمسين فرسخا مربعا من أراضي هسبنيولا يطلق عليها اسم «مركيزات» أو «دوقيه»، وذلك في أي نقطة يختارها الأميرال بنفسه؛ لكي يجعلها مقاطعة ملوكية يقيم بها بصفته واليا على تلك البلاد. ولكن كان حنق أعداء كولومب عليه عظيما حتى إنه ما أمكنه أن يقلع بست سفن من ميناء «سان ليكادي باراميدا» إلا بعد مضي سنتين. ومن ضمن ما أجروه من الفعال السافلة أنهم استأجروا أحد الأوباش لكيما يسبه علنا بقلة الشرف والخسة والدناءة، وكل الألفاظ البذيئة والعبارات القبيحة التي يمجها السمع. كل ذلك على مشهد من الجمهور وخصوصا أمام بحارته وأنفاره. فاشتد كولومب غضبا واستشاط غيظا وصفعه ذات مرة صفعة شديدة على وجهه، فلم يعاود الكرة بل ذهب كأنه لم يكن.
الرحلة الثالثة
أقلع كولومب في اليوم الثلاثين من مايو سنة 1498 باسم الثالوث الأقدس بعدما قرر في فكره أنه يدعو أول أرض يكتشفها في هذه الرحلة بهذا الاسم «الثالوث»، وقد كان يريد أن يصل هذه الدفعة إلى العالم الجديد نفسه وليس إلى سواه. ففي الحادي والثلاثين من يوليو شاهد على بعد اثني عشر أو خمسة عشر فرسخا ثلاث قمم عالية لجبل شامخ شاهق يناطح الجوزاء. فامتلأ كولومب إيمانا حيث صادف ما كان يأمل وجوده، فدعا كولومب تلك الأرض ثالوثا
Trinité .
وفي جنوب تلك الجزيرة لاحظ كولومب تيارا شديدا من الماء العذب يمتد على مسافة ثلاثة فراسخ في البحر، تلك هي دلتا «الأورنوك» ذي الأربعين فما التي تشغل أكثر من خمسين فرسخا. ففهم الأميرال بذكائه وإدراكه الفائقين أن جميع تلك الجزائر ليست بأرخبيل وإنما هي أراض قطعها هذا النهر بقوة تياره، فدعاها كولومب «أرض العناية».
ثم اشتدت على الأميرال وطأة المرض فكلف القبطان الفاضل «بطرس دير ترير» أن يقيم الصليب بالنيابة عنه على ساحل تلك المقاطعات باسم تاجي إسبانيا. ففعل بطرس هذا كما أمره رئيسه، وكان هو أول أوروبي وطأت قدماه أرض العالم الجديد نفسه، وكان ذلك في الخامس من أغسطس سنة 1498، وبذا عرفوا خليج «باريا» فاتبعوا جزيرة «سنت مارجريت»، وكان الماء هناك عذبا جدا حتى قال عنه الأميرال: «إنه لم يشرب مثله قط»، وكانوا وجدوا أخيرا بحر اللؤلؤ.
فإذا تأملنا فيما سبق ذكره نجد أن كولومب قد اكتشف في هذه الرحلة الاكتشافات الثلاثة الكبرى؛ فإنه أثبت:
أولا:
وجود العالم الجديد.
ثانيا:
تجوف اليابسة عند خط الاستواء.
ثالثا:
التيار المحيطي الأكبر.
وواضح كالشمس في رابعة النهار أن اكتشافا واحدا من هذه الثلاثة يكفي لتخليد اسم صاحبه، فكم وكم يكون تخليد اسم من ضم الثلاثة، وكم يلزم أن يكون مقداره عظيما عند كافة المؤرخين، وكم يجب أن تكون أهمية مكانته في عالم الاكتشافات والرحلات!
ولما عاد كولومب إلى سنت دومنج «هسبنيولا» وجد الثائرين يرأسهم «رولدان»؛ لأن «برتلماوس» الذي كان جعله كولومب حاكما هناك بالنيابة عنه لم يلبث أن تآلف مع أمراء الجزر الوطنيين، وأعد للانتقال في المناجم كل المعدات وأسس مدينة «سنت دومنج». حتى شق رولدان وشركاؤه عصا الطاعة عليه؛ لأنهم كانوا يريدون أن يستبدوا بأعمال المناجم واستخراج بعض ما فيها، وهذا ما كان يأباه عقل «برتلماوس» وعدله الفائقان .
فعزم كولومب أن يعود إلى إسبانيا لمقابلة الملكين اللذين كانا كأنهما غير واثقين بحسن سير كولومب وجميل معاملته. ثم نزل «أوجيدا» إلى البر كمبعوث من قبل البلاط الملوكي الإسباني ليحاكم الوالي ويقتص منه، فاستشاط كولومب غضبا واعتراه ضعف؛ لأنه كان سريع التأثر خفيف العاطفة رقيق الإحساس، فابتهل إلى الله سبحانه وتعالى، واتكل عليه. وكأن فؤاده قد أوحى إليه أن يرتاح، وأن الله قد أصغى إليه وأجابه إلى مطلبه. وبعد ذلك بقليل علم أن «رولدان» الذي كان بالأمس ثائرا، يسد الطريق في وجه «أوجيدا» منضما إلى حزب كولمب، ولكن كان السهم قد نفذ؛ لأن رولدان كان قد بعث برسالة إلى إسبانيا يذم فيها كولومب وأتباعه، وبمقتضاها أرسل البلاط «بوباديلا» إلى سنت دومنج ليكون حاكما عليها، وكان كولومب حينئذ في «كونسبسيون». وفي تلك الأثناء أخذت الثورة تزداد.
وفي الثالث والعشرين من أغسطس سنة 1500 نزل «بوباديلا» إلى الساحل، أما البسطاء السذج فسروا وابتهجوا وأملوا منه خيرا. ولكن أبى الدهر إلا عكس آمالهم؛ فإن «بوباديلا» فتح السجون وأدخل فيها «برتلماوس» و«ديجو كولمب»، ثم استولى على كل التقارير والرسميات والأقمشة والأواني الظريفة والنقود النفيسة، وكل شيء حفظه كولومب ليقدمه إلى ملكيه العزيزين، ثم اختلس أثناء غياب كولومب مركز الولاية. ولما جاء الأميرال تجاسر ذلك الوغد اللئيم على إهانته وتكبيله بالسلاسل الحديدية وإلقائه في أعماق السجون، فاستشاط الهنود والبحارة غيظا لهذا الأمر المنكر مع أنهم كانوا حانقين على كولمب؛ لأنه كان يريد قمع شهواتهم وشرورهم العديدة.
ولقد وجدوا في بيت الأميرال نفسه من أوثق له القيود وشد حلقات أسره، وكانت سلاسله مربوطة بحجارة ثابتة في الأرض وكذلك أخويه أيضا، إلا أنه كان مفصولا عنهما، فأثر عليهما بكلامه الرقيق طالبا منهما متوسلا إليهما أن يصبرا على هذا المضض فإن الله رءوف رحيم. وبكلامه اللطيف وألفاظه العذبة استدر عبرات الجميع ومن ضمنهم السجانون. ولما خال أنهم سيقودونه مسلسلا هكذا أمام الملكين رفض خلع السلاسل، وكان لا يعتبر رئيسا له ولا حاكما عليه إلا الله سبحانه وتعالى، ولم يكن ليعترف لأحد بحق أبدا عليه ولا بنجاته إلا لله عز وجل.
ولما وصل خبر تلك المعاملة السيئة إلى فردينند وإيزابل أمرا بإعطائه حريته التامة، وحررا إليه كتابا قالا فيه ما معناه: «إن ثقل السلاسل كان كأنه واقع على قلبيهما.» ولما وصل إلى إسبانيا دعته الملكة إلى زيارة خصوصية فقص عليها القصة الحقيقية، فاغرورقت عيناها بالدموع، وأذرفت دمعا سخينا. ولما رأى كولومب تلك العواطف الحساسة، وهذا التأثر الغريب نسي ما جرى له، ولا سيما أنه كان سليم النية خالص الطوية، لا يحقد ولا يكمن بل يكظم الغيظ. ومع ذلك فلم تمنع العوامل السياسية من تعيين حاكم آخر لتلك الولايات المكتشفة. وسافر «أوفاندو» حينئذ لهذا الخصوص إلى «سنت دومنج». ثم ألح كولومب في طلب أسطول؛ ليعاود الملاحة، ويطوف حوالي السواحل الأرضية؛ إذ قد أتم اكتشاف العالم الجديد، وكان لا يريد أن يترك ساحلا من سواحل المحيط أو جزيرة من جزره إلا وينشر فيها اسم الله القدوس ويباركه، فاصطحب معه «أدلتندو» و«فردينند» - هذا ليس بالملك - وكان يطمح في هذه الرحلة الرابعة أن يرجع إلى إسبانيا من بحار آسيا وجنوب أفريقيا بعدما يطوف حول الأرض.
ففي الخامس والعشرين من مايو رسا كولومب باسم الثالوث الأقدس على «سنت دومنج» أو «هسبنيولا»، فوصل إلى جزائر «الكارائب» في ستة عشر يوما. وفي التاسع والعشرين من يونيو رسا على بعد فرسخ من «هسبنيولا»، وكان عازما على إبدال سفينة «جاليسيين» بأخرى أخف سيرا، فأرسل ضابطا على قارب يلح على الحاكم «أفندو» في طلب سفينة أخرى يدفع إليه ثمنها، وكذلك ليحصل منه على تصريح يسمح له بالالتجاء في الميناء ريثما تهدأ العاصفة التي أظهرت بوادرها أنها ستكون من أفظع العواصف. فرفض «أوفندو» بتاتا أن يصرح بإبدال السفينة، ومنع كولومب كذلك أن يرسو على الأرض أو أن يدخل إلى الميناء.
ومع ذلك كله، وما كان يوعزه كولومب من حلول العاصفة، فإن ستا وثلاثين سفينة استعدت للسفر إلى إسبانيا من طرف أوفندو، وقد طرد «والي الهند» ذلك الحاكم الثابت على تلك الأراضي الشاسعة التي غنمها بمعونة الله له باسم إسبانيا مخاطرا بحياته.
وكان داعي الرابطة المسيحية وعامل التحاب الشديد بعث في كولومب أن يرسل مرة أخرى إلى أوفندو رسولا آخر يخبره أن العاصفة ستكون فظيعة جدا. ولكن الجو كان ساكنا والسماء صافية الأديم؛ فسخروا به وسموه نبي السوء! وأقلعت سفنهم الست وثلاثين، ولم تكد تقطع ثمانية فراسخ في البحر حتى انقلب النهار الباهر ليلا بهيما، وامتنع الموج عن الحركة، وانقطع الريح عن الهبوب، وكأن البحر صار كتلة من رصاص مذاب. ثم احتاطت بالسفن قبة كأنها شعلة من نار فلم يمكنها التحرك قدوما ولا رجوعا.
وقد هلك من الست وثلاثين سفينة ست وعشرون، ابتلعتها تلك الهاوية المائية التي لا قرار لها في نفس مركزها التي لبثت فيه. وأما العشرة الأخرى فضلت في الظلام الحالك والضباب الشديد ولم يجدوا فيها رجالا ولا غنائم. ولقد اختفى في تلك الظروف كل ما كانوا جمعوه في الشهور والأعوام. وكذلك أيضا راح نحو الخمسمائة رجل شهداء تعنت ذلك الحاكم وسخريته بكولومب. فراح فيها المفترون والثائرون ورولدان وبوبا ديلا، وكل من كان يطمح في اغتيال الكنوز والإثراء من غير الباب القويم، وكل من عادى كولومب وقاتل الهنود وسفك الدماء ونهب الآثار. أجل، تم كل ذلك في تلك اللحظة الهائلة والبرهة المريعة، بينما كان كولومب يصلي طالبا إلى الله بحرارة شديدة في مرفأ صغير بعيدا عن أعين الناظرين.
فهذا الحادث الهائل بل هذه الكارثة الفظيعة اعتبرها أعداء كولومب أنفسهم قصاصا إلهيا لهم. بل إن هيئتها الغريبة والشكل الذي أخذته أثرا تأثيرا عظيما على بلاد الإسبان وحكومتها (كما ذكر ذلك روزلي دي لورج المؤرخ المشهور). بل إن هول تلك الظروف وعظم الخسارة والتلف وحداد أكثر من خمسمائة أسرة، جعلت لتفاصيل ذلك الحادث حقيقة فاجعة، جديرة بالذكرى والعبرة لمن اعتبر بما يحدث للآخرين قبلما يصير عظة لهم:
فلنعتبر بمن قضى خير لنا
من أن نكون عبرة لغيرنا
ولما صفا الجو وهب النسيم العليل أتم كولومب جولانه في البحار عاكفا على الرحلات، رغما عن معاكسة أعدائه العديدين وما كانوا يوجهونه إليه من المظاهرات العدائية العديدة. فاكتشف على مقربة من ساحل «هندراس» جزيرة «جوانابا». ثم في السابع عشر من أغسطس سنة 1502 رسا بالقرب من نهر دعاه «بوسيسيون»؛ أي المستعمرة، وفي ذلك اليوم اكتشف كولومب ليس فقط جزر «الأنتيل» - أي الهند الغربية - ولكنه وصل بدون علم إلى جزئي أميركا الشمالي والجنوبي بواسطة أميركا الوسطى.
وكان كولومب يدخل الأجوان ويتبع الشواطئ مداوما على الملاحة بكل بسالة وبدون ملل، لا يحوله عن الجد في البحث عن البوغاز شيء أبدا. وكان وقتئذ بالقرب من «شاجر» من الجهة الأخرى «لبناما». ومن العجب أن نفس المكان الذي صمم على أن يصادف فيه البوغاز، وكان يبحث عنه ليتم طوافه حول الأرض، ولينتقل من المحيط الأتلانطيقي إلى المحيط الهادي، هو نفس النقطة التي يريد رجال يومنا هذا أن يجعلوها مركز علاقاتهم التجارية بين أعظم الأمم وأكبر الشعوب! وذلك مما يدل على ذكاء كولومب ونبوغه العظيم وخبرته الواسعة في انتقاء المراكز المهمة ورصانته وحزمه. ولكن إذ لم يجد ممرا اتجه نحو المشرق، واتبع البرزخ بدون علم منه. ومع ذلك فلم يلبث الجو هادئا والريح معتدلة حتى ازدادت الزوبعة، وساءت الحال، وصارت قلوب أبسل الشجعان تخفق وتضطرب، وكان البحر ثائرا يغلي ويفور كأن مياهه فوق دست عظيم تتقد من تحته نيران الجحيم. ثم هطل المطر مدرارا بغزارة ودوي تهتز له الأجسام ارتعابا وارتعادا، بل أستغفر الله أن أسميه مطرا، فقد ذكر كولومب في كتاباته التي تركها أنه لا يجوز تسمية هذا مطرا بالمرة، وكأن ذلك كان ينبئ بقرب حلول زوبعة دورية.
أما كولومب فانفتح جرحه المعهود ثانيا، وأوشك أن يميته من شدة الألم. وما لبث كذلك حتى هبطت الزوبعة الدورية في البحر على هيئة مخروط من الماء تتخلله كتل ثلجية، ولم تمر مدة قصيرة حتى قام أمامها عمود آخر من الماء تكون من الأمواج الهائجة. ثم تقدم ذلك العمود المائي إلى السفينة، وكأنه يتهددها بالخراب والدمار. فأسرع كولومب حينئذ بإشعال الشموع المكرسة وشد شريط القديس «فرانسوا»، وقبض على الكتاب المقدس بيد وعلى حسامه بالأخرى ورسم بالأخير في الفضاء صليبا عظيما، وناشد ذلك العمود الهائل أن يجل ويحترم خدام الكلمة التي تم بها كل شيء.
وفي الحال كأن العمود المائي دفع بنفخة غير منظورة؛ فتغير اتجاهه وانزلف بين السفن وضاع في الأفق نازلا في تلك الهاويات البحرية العميقة. ولكن إذ رأى كولومب استمرار ثوران البحر وانعكاس هبوب الرياح رغما عن اختفاء الزوبعة الدورية، اضطر أن يلتجئ إلى ميناء صغير يدعى «بيلين»، حتى إذا هدأ الماء وهبت الرياح وفق إرادته واصل السير إلى مناجم «فيراجوا» الغزيرة. وهناك هجم عليه أحد أمراء أولئك الهنود المدعو «كيبيان»، ولولا هروب هذا الرجل لوقع غنيمة باردة في يدي كولومب وأتباعه إلا أنه أفلت. فأخذ الهنود في ذبح الإسبانيين الذين أرسلهم كولومب في قارب إلى هناك للاستعلام والاستقصاء على تلك السواحل. بينما أخذ البعض الآخر في محاصرة الحاكم في حصنه. ولكنه بفضل إخلاص «ديجو مندز» لهم وبسالته العجيبة؛ فازوا بنجاة كل ما كان في الحصن، ثم أقلعوا قبل أن يهدأ البحر.
ورأى كولومب سفينة من سفنه على وشك الدمار، ولكنها استمرت في مداومة المسير حتى وصلوا إلى سواحل «جاميكا» وهناك شحطت. ورأى أيضا أن السفينتين الأخريين لا يمكنهما متابعة السير فالتزم إيقاف عمل السفينة «الكابتان» - أي القبودان - وربطها ربطا محكما على سواحل «سان جاك دي بالوس»، وابتنى عليها شبه حصن متين أودع فيه كل ما كان معه، بعدما نبه على رجاله أنه سيعامل كل من يحيد عن سواء السبيل بكل قسوة وشدة. أما «ديجو مندز» ذلك الباسل المغوار فبعدما نشر لواء الأمن وتدارك كل ما يهم البحارة، ووعده أمراء الهنود بتوريد جميع المؤن اللازمة لهم بواسطة المبادلات التجارية، فإنه ركب زورقا صغيرا غير مبال بالهلاك، وذهب توا إلى «سنت دومنج» فطلب من «أوفندو» أن يرسل معه سفينتين ليرجع عليهما كولومب ورجاله إلى أوروبا. وإذ كان ديجو في مأموريته هذه التي استغرقت شهورا طويلة مال الإسبانيون الذين كانوا في «جاميكا » إلى الثورة، وكثيرا ما ساعدهم على ذلك أخوان من أسرة «بوراس» بكل جسارة وجراءة. إلا أنهما بعدما نهبا السفن، وسلبا منها ما استطاعا إليه سبيلا، نزلا في قوارب طالبين العودة إلى أوروبا.
أما الهنود وأمراؤهم ففكروا جميعا في أمر الثورة، ولما علم بذلك كولومب دعاهم لرؤية مشهد عظيم؛ فاشرأبت لهذا أعناقهم وتوافدوا عليه زرافات ووحدانا. فانتهز كولومب تلك الفرصة التي اجتمع فيها هذا الجم الغفير، وذكرهم أنه عند وصوله أخبرهم بأن سيده المسيح إله هذا الكون أرسله إلى تلك البقاع، وأنه يجب عليه أن يبقى فيها حتى يصدر أمر هذا الملك الكريم بالانسحاب. ثم قال لهم: إن السيد الإله له المجد عرف أنهم سينزعون إلى الثورة، ويأبون توريد المؤن للملاحين؛ ولذلك قد غضب عليهم غضبا شديدا. ثم شرح لهم أنه بعد ظهور القمر بقليل في نفس الساعة التي حددها يأخذ الكوكب في الاحمرار وينتهي بالسواد، وعند انتهائه من الكلام سخر البعض بتهديداته وارتعد البعض الآخر عند سماعها.
أما وقد وافت الساعة التي ذكرها لهم، ورأوا أن لون القمر يتغير وكأنه قد تقنع هرعوا إلى السفن، ووعدوا كولومب وعدا صادقا لا يبرون فيه أنهم منذ ذلك لا ينهجون إلا في سواء السبيل ولا يألون جهدا عن إرضاء سيده. ثم توسلوا إلى «رسول الإله العظيم» (لقبوا كولومب بذلك بعد خسوف القمر؛ لأنهم اعتقدوا أن تلك معجزة من معجزاته) أن يصلي إلى سيده من أجلهم.
فانسحب كولومب من وسطهم، ودخل إلى مخدعه. وهناك توسل إلى السيد له المجد أن يفتح عيون هؤلاء القوم، ويهبهم العقل والذكاء؛ لكيما يعرفون مقداره، ولكيما يؤدون له ما يلزم من الطاعة والتبجيل والمحبة والاحترام. ثم خرج وأخبرهم أنه توسل إلى الله. وبعد ذلك قال لهم: إن ما رأوه إنما هو أصغر مشاهده التي تدل على عظمته وجبروته، وأنه ليس مجهولا ولا مخيفا لمن يخدمه بأمانة وطاعة ونشاط. ثم انتهز فرصة خضوعهم وإصغائهم إليه، وجعل في قلوبهم الخشوع والاحترام لإله المسيحيين العظيم (هكذا كانوا يدعون الله). ومنذ تلك اللحظة لم يتكلموا عن هذا الإله إلا بشفاه ملأى خشوعا وتبجيلا.
هكذا تجنب كولومب ثورة الهنود وأمرائهم، وخاب مسعى الأخوين «بوراس». ومع ذلك فإن كولومب لعلو نفسه وكرم شيمه صفح عن الأخوين الغادرين واصطحبهما معه، وبذل جهده في حفظهما سالمين حتى وصلا إلى إسبانيا عندما رجع إليها الأميرال.
أما «أوفندو» - وليرجع مرجوعنا إليه - فلم يوافق على إرسال سفينة إلى الأميرال كولومب - كما طلب منه «ديجو» - إلا مكرها، وذلك بعدما رأى من شعبه قالا وقيلا، صوبوا سهامهما نحوه. وما كان من «ديجو مندز» إلا أنه استأجر على تلك السفينة سفينة أخرى، وذهب بالاثنتين إلى «جاميكا» ومنها إلى إسبانيا حاملا خطابا من كولومب إلى الملكة.
أما هذا الخطاب الذي شرح فيه كولومب اكتشافاته الجديدة، ومحنه الغريبة التي صادفها في هذه الرحلة، فإنه وصل إلى الملكة في اللحظة التي رقدت فيها إيزابل على سرير الموت عقب مرض عضال أصابها. إلا أنها قرأت تلك الرسالة، وعرفت نتيجة اكتشافات كولومب الأخيرة التي لم تكن لترجى. ثم عرفت من مصدر آخر ثورة الأخوين «بوراس» ومعاملة «أوفندو» الذميمة لكريستوف وجوره وعسفه على أهالي تلك الجزر التعساء.
على أن كولومب لم يلبث حتى علم وهو في «سنت دومنج» بخبر مرض الملكة. ومع أن السفينتين كانتا خربتين لا تستطيعان الملاحة، فإنه عزم أن يذهب لرؤية إيزابل العظيمة قبل مماتها مهما كانت الطوارئ والعقبات.
فلم تكد السفينتان تتركان مرساهما حتى أتتهما لفحة ريح شديدة كسرت الصاري الأكبر لإحداهما. فلم يكن من الأميرال إلا أنه بعث بإحدى السفينتين إلى «سنت دومنج» ثم ركب الأخرى وسار. أما البحر فكان هائجا على الدوام كرجل غضوب ملآن حقدا كمينا. ولتوالي الزوابع والعواصف صارت الصواري تتكسر حتى قصرت جدا، وحينئذ تراكمت على كولومب الهموم والأحزان والآلام والأوجاع حتى سها عليه أن يصلح سفينته في جزائر الآثور عندما مر بها. وكانت غايته المقصودة وضالته المنشودة الوصول إلى تلك الأرض التي تتنفس عليها إيزابل الكريمة الخلق والخلق.
ففي السابع من نوفمبر سنة 1504 دخل كولومب في ميناء «سنت ليكاردي باراميدا». إلا أن الظروف والمقادير لم تساعد ذلك البطل العظيم أن يقابل إيزابل سلطانة الكاستيل على سطح هذه البسيطة الغبراء الفانية، وإنما في الحياة الأخرى حياة الخلود والدوام ... ففي يوم الثلاثاء 26 نوفمبر سنة 1504 طلبت إيزابل إذ أحست بدنو ساعة احتضارها الرهيب وقرب أجلها، أن تردى بثوب القديس «فرنسوا» بصفتها عضوا من أعضاء شيعته. ثم تناولت القربان المقدس ومسحت المسحة المقدسة بثبات ونفس متأهبة لسماع حكم الإله العادل. أقول: عادل؛ لأنها قد خدمت يسوع له المجد دائما بأمانة وذمة وشهامة وهمة وصبر ونشاط، فاستحقت منه كل خير، واعتنقت مبادئه القويمة اعتناقا تاما، وخصصت لخدمته كل قواها وقوى مملكتها الواسعة الأطراف. لذلك كانت تستحق منه سبحانه وتعالى أن يكلل هامتها بالإكليل الأزلي المرصع بجواهر الرحمة والغفران ولآلئ الطوبى والنعمة، ذلك الإكليل الذي يضمحل بجانبه - بل ويختفي من أمامه - إكليل الكاستيل، والذي سيضيء على رأسها ضوءا حيا أبديا.
وإذ علم كولومب أن إيزابل قضت نحبها حزن حزنا شديدا، ثم ذهب إلى «سيجوفيا» في ربيع سنة 1505 حيث كان فردينند هناك. فاستقبله الملك بكل ترحاب وانعطاف، وأصغى بطول بال إلى قصته الغريبة، وتاريخ رحلاته واكتشافاته. ومع أنه اعترف له بألقابه التي يستحقها بلا جدال ولا نزاع فإنه لم يعده بشيء من تلك الألقاب، وكان يوصيه دائما بنفسه وصحته، وبعد انتهاء المجلس يسمح له بالانصراف مبديا ذلك بإشارة صغيرة لطيفة.
ولما رأى كولومب أنه عومل كملك الملوك - له المجد - مهجورا من الجميع محروما من حقوقه الشرعية القانونية، قضى أيامه كسير القلب مدمى الفؤاد، لا سيما لما كان يراه من سوء معاملة الناس للهنود الذين أحضرهم معه. وقد زاد الطين بلة موت تلك الملكة العظيمة الشأن الرفيعة المقام. فصار كولومب يقتدي بالسيد تمام الاقتداء في خضوعه وانقياده. وكما حمل الصليب إلى كل مكان حمله أيضا على جسمه وفي نفسه، ومات وهو ناظر إلى المصلوب ملك اليهود. وبما أنه قطع الأمل والرجاء إلا في الله سبحانه وتعالى ولم ينتظر جزاء لأعماله إلا منه عز وجل، مضى حياته في شقاء تام وتعاسة زائدة، واستعد أن يلفظ روحه الطاهرة استعداد بطل مغوار، بل استعداد قديس زاهد متعبد.
فدعا كولومب يوم 19 مايو سنة 1506 كاتبا شرعيا في قاعة حقيرة بإحدى الفنادق الصغيرة، فأعاد له قراءة وصيته قبل وفاته. ثم دعي قس لكي يعده لاستقبال السيد - له المجد - للمرة الأخيرة، ولكي يرى وجها لوجه ذلك الذي أعانه وعزاه في ضيقاته وكروبه، وصروفه وخطوبه. وكان حول كولومب في تلك الساعة الرهيبة أبناؤه وبعض أقاربه وأصدقائه راكعين مصغين إلى آخر وصاياه ونصائحه الذهبية. وكانت السلاسل التي حملها بأمر ذلك العاتي اللئيم «بوباديلا» معلقة في الحائط ليس من ستار يحجبها عن نظره، ولا من غطاء يمنعه من رؤيتها، وكان ينظر إليها بتأمل غريب؛ لأنها كانت كل ما كوفئ به على سطح هذه الدنيا الدنية، وكانت آلة شهادته وعنوان فخره الأزلي وفضله الدائم الذكر. ثم بعدما ارتدى ثياب القديس فرانسوا التي كان يلبسها دائما تحت اللباس العسكري، لمس السلاسل الحديدية وطلب أن توضع مع جثته في التابوت. وبعد ذلك رقد رقادا هادئا، وأسلم روحه، وله تمام الثقة بمن حمل اسمه من مشارق الأرض إلى مغاربها. وكان موته ليلة الصعود في التاسع عشر من مايو سنة 1506 ميلادية، فكأن السيد - له المجد - أراد أن يحتضنه صباح الصعود ويشركه في موكبه الحافل. هكذا مات كولمب، هكذا مات مذيع سر الكرة الأرضية. (انتهى)
تقاريظ
وردت إلينا التقاريظ العديدة من بعض الأساتذة الفضلاء، والأصدقاء النجباء. فاقتصرنا على نشر ما يأتي مع الشكر الكثير لحضراتهم، ونلتمس من أصحاب التقاريظ الأخرى معذرة في عدم نشرها وذلك لضيق المقام.
قال حضرة العلامة الفاضل والأستاذ العامل محمد أفندي علي المنياوي مدرس اللغة العربية والإنشاء بمدرسة المعلمين التوفيقية:
حمدا لمن تفرد بالبقاء، وقضى على غيره بالفناء، وصلاة وسلاما على من حمدت سيرته، وعلى من صدقت في محبته سريرته. وبعد، فإن التاريخ ديوان الأخبار، وسجل تسطر فيه الآثار؛ ليكون كمرآة تمثل أعمال من سلف، لمن يكون بعدهم من الخلف، وحسبك ما قيل:
تلك آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
ولذا كان أعظم باعث على التحلي بالفضائل، وأقوى رادع في التخلي عن الرذائل. وقد تفنن في الترغيب فيه مؤلفوه، وتنوع في طرق الإقبال عليه مصنفوه، حتى مثلوا بعضه بهيئة روايات؛ ليكون أدعى إلى الرغبات. من ذلك كتاب «كولمب والعالم الجديد»، الذي لرقة عبارته أخذ بمجامع القلوب، ولفوائد مباحثه كان أجل مطلوب. وقد احتفل بوضعه وتعريبه حضرة الفاضل الأديب، والكاتب الأريب نجيب أفندي المندراوي الذي أحكم أسلوبه العربي حتى حسن عند قارئه وقعه، وكثر لدى مطالعه نفعه. أكثر الله من أمثال هذا الفاضل النجيب، ومنحه من نجاح العمل أوفر نصيب.
محمد علي المنياوي
وقال حضرة الفاضل الكامل، والرياضي البارع، عبد الواحد أفندي حمدي:
إذا بسط الأغنياء من أبناء هذا الوطن العزيز يد العطاء، وبذل كل منهم بعض ما جادت به نفسه في سبيل نشر المعارف والآداب، وشد أزرهم كل من رضع لبان العلوم، وجاد بما وهبه الله منها - والجود بالمعرفة أثمن وأغلى - أصبحت حياتنا راقية، وعيشتنا راضية. الجود بالمعارف والعلوم على الأمة قوة لها، وقوة الأمم معارفها. فعلى الأغنياء والمتعلمين أن يشد بعضهم بعضا لنتقدم ونفلح.
ويقيني أن حضرة مؤلف هذا السفر الفريد بادر بالقيام بالواجب عليه نحو بني وطنه خير قيام. الكتاب يقرأ من عنوانه، وحسبنا أنه يشمل سيرة الرجل الذي اكتشف عالما بأسره، ولا أغالي إذا قلت بعقد جواهرها تعلو همتي، وأستسهل الصعب حتى أدرك المنى. لا سيما إذا نظم دررها مثل حضرة الكاتب البليغ ألا وهو صديقي الفاضل نجيب أفندي المندراوي، أكثر الله من أمثاله. وما كنت لأكتم الحق فأقول: كل الصيد في جوف الفرا.
عبد الواحد حمدي
وقال حضرة الشاعر الأديب والكاتب الأريب إسكندر أفندي إلياس من طلبة مدرسة الحقوق الخديوية بمصر:
سبحان من أظهر غامض الأخبار من منسي الزوايا، ورفع الستار عن الخبايا، ويسر لنا النظر فيما غبر، وجعلنا نعتبر بأحوال البشر، وصير الأولين قدوة للآخرين، وجعل في أخبارهم فائدة للعالمين.
وبعد، فقد جاء هذا الكتاب من أجل الأسفار لما فيه من محاسن الآداب ، وصفوة الأخبار. الأمر الذي يشهد لصاحبه بحسن التحرير، ويثبت طول باعه في فن التحبير. كيف لا والكتاب بين أيدينا جليل، يثني على مؤلفه الثناء الجزيل.
كتاب حوى من كل وجه فوائدا
وفيه لطلاب الحوادث أخبار
علوم وآداب وفضل وحكمة
وسحر بيان فيه كل الورى حارو
إسكندر إلياس
अज्ञात पृष्ठ