3
وإنها لتمشي وكأن ليس فيها دم ينتهي إلى قدميها، فهي تجرهما جرا، وتقتلعهما بين الخطوة والخطوة، وما تدري من الألم أهما على الأرض أم في الأرض تسوخان؟ وقد تزايلت أعضاؤها فما تحس أن فيها حياة متماسكة، وهي ما فتئت تحسب أن جسمها قد خلق نعشا لقلبها، فلا هذا القلب يحيا كما تحيا القلوب، ولا ذلك الجسم ينمو كما تنمو الأجسام!
وفي رأسها عقل زاد فضل الله ورحمته في جهة منه، ونقص عنف الناس وقسوتهم من جهة أخرى، فبينا هي على ذلك تحمد الله، إذا هي مع ذلك تلعن الناس، وهي مرة تنظر إلى الحياة فترى كل شيء في الحياة إلا نفسها، ومرة تنظر إلى الموت فلا ترى في الموت شيئا إلا نفسها، ولم يكن يمسك روحها بين الاثنين إلا خيطان: أحدهما من السماء وهو الأمل في رحمة الله، والآخر من الأرض وهو إشفاقها على جدتها التي كانت تكدح منذ الصغر لقوتها، تلك الجدة الفانية التي كبرت وبلغت من الكبر حتى حسبتها الفتاة قد كبرت عن سن الموت!
4
أما الآن فقد تبين لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وانصدعت حفرة جدتها المسكينة، ولم يبق لها إلا رحمة الله.
قال «الشيخ علي»: وكان خروج هذه البائسة أصيل يوم من أيام الصيف، ذهبت فيه طاوية على الجوع كما تغدو الطيور من وكناتها
5
وملء بطونها هواء، غير أن الطيور تهزأ بالناس جميعا، وهي على ضعفها أقوى من الشرائع والقوانين؛ إذ تنبعث وكأن كل طائر منها إرادة متجسمة تقذف بها السماء، فما تبالي على أي أرض تقع ومن أي حب تلتقط، ولا تعرف إلا أن هذا الإنسان يعمل على السخرة ليخرج لها من الأرض رزقها رغدا.
أما الفتاة فكل الناس يهزأ بها، وهي ترى كل إنسان على ملكه كأنه قانون وضع لعقابها إذا حدثتها النفس حديثا، فقد بلغت من الضعف والمرض والفاقة إلى حال لا تجعل يديها تصلحان لعمل غير الأخذ؛ فإن اختلست قيل سارقة فعوقبت، وإن سألت قيل متشردة فكذاك! ويا ليت في قلب هذا الإنسان من معاني الصفح بعض ما في لسانه من ألفاظ القصاص، ولكنه حيوان متكلم فتنصرف فطرته الحيوانية أكثر ما تنصرف إلى لسانه، كما تتمثل هذه الفطرة من سائر الحيوانات في حواسها التي تبطش بها، وكلا النوعين سواء في الافتراس والكلب والتوحش، فما اللسان إلا حاسة البطش العاقلة، وقلما يؤذي الإنسان قبل أن يؤذي بهذا اللسان.
ولم تر المسكينة أروح لنفسها المكدودة من الانتحار، وكأنما يخال لها أن في الموت عيشا؛ فخرجت تمشي بين الناس إلى قبرها كأنها فيهم جنازة وهم يشيعونها، ولئن كانت لم تسر بالحياة فلقد سرها أن ترى تشييع جنازتها وهي حية تموت، ولا أقول وهي حية ترزق، فإن العلة النازلة بها قد أخذت عليها مذاهب الرزق، حتى لم تترك لها في الناس «وجها»، وقبضت عنها الأيدي إلا تلك اليد الواحدة التي تأخذ دائما ولا تعطي أبدا، وهي يد الموت!
अज्ञात पृष्ठ