من هذا يتضح أن لكل جمعية من بيت ومدرسة وجيش قوانين لا يمكن أن تبقى هذه الجمعيات بدونها، وأن صلاحها بطاعة قوانينها.
والعصيان في كل مجتمع يجر إلى الفوضى، لأن معنى العصيان إنعدام القانون، وإقامة الفرد شهوته وهواه مقام القانون، ومعنى هذا أنه يريد أن يتخذ الناس إرادته وهواه قانونا بدل القانون الأخلاقي، وإرادة الفرد لا يمكن أن تقهر القانون الأخلاقي كما لا يمكن أن تقهر القانون الطبيعي، فلو اجتمع الناس أن يغيروا طبيعة الماء وقوانين الجذب ما أمكنهم، كذلك لا يمكنهم أن يغيروا طبائع المجتمعات وتغيير ما يصلحها وما يفسدها، فخير وسيلة لاصلاحها الجرى حسب القوانين التي تبقيها وترقيها.
بعض هذه القوانين الأخلاقية التي لا بد منها للمجتمع وضعت في القوانين الوضعية كتحريم السرقة والقتل، وبعض القوانين كترك الحسد والكذب ترك للأفراد وضمائرهم، وكلها قوانين أخلاقية يجب إطاعتها، فإن إطاعتها مجلبة للخير والسعادة، ومعصيتها مجلبة الشر والشقاء.
قد يشعر الإنسان أن في إطاعة الأمر ذلة، وأن في العصيان حرية، وهذا خطأ في التفكير، فإن في الطاعة الحرية، وفي العصيان ضياعها، قد يتخيل الطالب أن المعلم إنما يأمره حبا في الأمر، ورغبة في إظهار السلطة، وليس كذلك، فإن الآمر العاقل إنما يأمر مراعيا المصلحة العامة، وهو مثلك خاضع لها، وكل الفرق أنه بحكم مركزه وتجاربه تعود أن ينظر إلى الخير بأحسن مما تنظر، فالحق أن الآمر والمأمور كلاهما يطيع، يجب ألا يأمر الآمر إلا بما فيه خير المأمورين، أفرادا ومجتمعين، فالمأمور لا يطيع لأجل الطاعة نفسها، ولا الآمر يأمر لذة في الأمر، وإنما نأمر ونطيع ليصل كل منا إلى سعادته وفلاحه.
وهناك مواقف يجب ألا نطيع فيها، كما إذا أمرنا من صديق بسرقة شيء، أو غش في امتحان، أو تزوير في ورق، أو انتخاب من لا يصلح، هنالك يكون العصيان فضيلة لأن في إطاعة هذه الأوامر وأمثالها خروجا على الأخلاق ومخالفة للضمير، ونحن ملزمون باتباع قوانين الأخلاق وسماع صوت الضمير، وإنما أمرنا بالطاعة للوالدين والمعلمين وأمثالهم لأن ثقتنا بهم جعلتنا نعتقد أنهم أوسع منا نظرا، وأصح رأيا، فهم إذا أمرونا فإنما يأمرون بما يتفق والأخلاق، وإذا نهوا فإنما ينهون عن المنكر والإثم، وهم - بحكم صلتهم ومركزهم - لا يودون لنا إلا الخير.
والحق أن الطاعة هي الفضيلة البارزة التي تميز بين المتمدينين والمتوحشين، في الأمة الممدنة يطيع الطفل أوامر أبويه علما منه بأن لا سعادة للأسرة إلا بالطاعة، والأطفال يتعلمون الطاعة في البيت فيطيعون في المدرسة، لأنهم يشعرون أن الحياة المدرسية لا تكون سعيدة إلا بالطاعة، ولا قيمة للمدرسة إلا بالطاعة، وإذا خرج من المدرسة إلى الحياة العامة فهو مطيع لقوانين البلاد، مطيع لقوانين الجمعيات التي ينتسب إليها. وعلى العكس من ذلك الأمة التي لم تأخذ بحظ وافر من المدنية، ففي كل مجتمع عصيان، في البيت، وفي المدرسة، وفي محال اللهو، وفي سماع المحاضرات، وفي الشارع، ومظهر هذا العصيان عدم النظام، فإن النظام إنما يكون بمراعاة القوانين الموضوعة والقوانين المتعارفة، والسير على وفقها من غير انتظار رقيب، ولا محاسبة إلا محاسبة الضمير.
وخير الطاعة ما صدرت عن قلب لا خوفا من عقوبة أو رغبة في مثوبة. (11) الإنتفاع بالزمن
الزمن كالمال، كلاهما يجب الإقتصاد فيه وتدبيره، وإن كان المال يمكن جمعه وادخاره لوقت الحاجة بخلاف الزمن .
قيمة كل من الزمن والمال في جودة إنفاقه وحسن استعماله، فالبخيل الذي لا ينفق من ماله إلا فيما يسد رمقه فقير، كمن كانت أمواله مزيفة، كذلك من لم ينفق زمنه فيما يزيد في سعادته وسعادة الناس فعمره مزيف.
إنا نعيش في زمن محدود، ليل ونهار يتعاقبان بانتظام، ليس يطغى أحدهما على الآخر، وحياة مقسمة تقسيما محدودا، صبا فشباب فكهولة فشيخوخة، ولكل قسم عمل خاص لا يليق أن يعمل في غيره، كالزرع إذا فات أوانه لم يصح أن يزرع في غيره، وحياة محدودة، فإذا جاء الأجل فلا مفر من الموت.
अज्ञात पृष्ठ