إذا امتلات النفس عقيدة بما قدمنا - من أن قوانين الأخلاق هي أوامر الله - صدرت الأعمال عنها ممزوجة بقوة تجعلها أقوى أثرا وأكثر نفعا، ولذا ترى أن أكثر من اندفعوا لنصرة الحق وتشددوا في التمسك به أو قدموا أنفسهم فداء للفضيلة كانوا ممتلئين عقيدة بالله ووجوب طاعته، ألهبتهم حماسة رغبة في رضاه وشوق إلى لقائه. (2-2) واجب الإنسان نحو نفسه
يجب على الإنسان نحو نفسه أن يكمل ذاته جسميا وعقليا وخلقيا، فهو مكلف أن يرعى هذه الأمور الثلاثة (جسمه وعقله وخلقه) وأن يبلغ بها ما يستطيع من كمال، ولنذكر كلمة نوضح بها ما يجب في كل ناحية من هذه النواحي الثلاث.
الناحية الجسمية:
كان الإنسان أول أمره يعيش عيشة ساذجة، يخرج إلى الجبال أو يتجول في الغابات يجمع ما يقتاته في يومه، ولم يكن إذ ذاك مكلفا بهذه الفروض الكثيرة التي قيدته بها المدنية، فلا زراعة ولا تجارة ولا تخصص في عمل، فلما أرتقى وعاش عيشة المدنية سببت له ضعفا في صحته، لأنه حرم الإقامة طويلا في الهواء الطلق، وعوض عنها عيشته في منازل لاتستوفي شرائطها الصحية، وبالغ في أسباب الترف والرفاهية، واعتاد كثيرا من العبث كالتدخين ونحوه، وأجهد نفسه في العمل رغبة في جمع المال ليسد به المطالب الكثيرة للمدنية، كل هذا ونحوه أثر في صحة المتحضر فكان أضعف جسما وأقل احتمالا للجهد، اعتبر ذلك في الحيوانات، فإن الطيور وأنواع الحيوان التي تغلب عليها الإنسان فحبسها في قفص أو في منزل واستخدمها في شؤونه أسرع إليها الذبول وكانت عرضة لكثير من الأمراض.
إن جسم الإنسان آلة كسائر الآلات يجب لبقائها وقدرتها على أداء العمل أن تغذى الغذاء الصالح لها وأن يعنى بها، يجب للجسم الهواء النقي والغذاء الصالح والرياضة والإعتدال في العمل.
وإن سوء الصحة أكبر تلف يصيب الإنسان، فهو يضعف قدرته على العمل، ويختصر حياته، ويفسد شعوره، وفي كثير من الأحيان يكون ضعف البدن سببا في سوء الخلق وملل العقل وعدم قدرته على الإنتاج.
إن صحة البدن هي أساس كل ما له قيمة في الحياة من مال وحياة ومتاع، ومما يستوجب الأسف أن هذه الصحة لا تقدر تقديرا صحيحا إلا بعد ضياعها أو تعرضها للخطر، وأن كثيرا من الناس لا يراعون قوانين الصحة إلا إذا ألجئوا إلى ذلك بسبب ضعفهم، وكان أسهل أن يقوا أنفسهم من الضعف قبل حصوله.
لا يستطيع الإنسان أن يكون إنسانا كاملا ناجحا في الحياة نجاحا حقا إذا كان مريضا أو ضعيف الجسم، وأقدر الناس على الإنتاج أطولهم عمرا في صحة، نعم إن كثيرا من عظماء الرجال كانوا مرضى، ولكنهم من غير شك كانوا يكونون أكثر إنتاجا وأصح نظرا وأعظم خيرا لأمتهم وللعالم لو كانوا أحسن صحة، ونجاح هؤلاء مع مرضهم دليل على أن قوتهم العقلية أو الخلقية غير عادية حتى استطاعوا أن يأتوا بما أتوا به على الرغم من مرضهم.
مرض البدن أو ضعفه ذو أثر كبير في الخلق، فمن العسير أن يكون إنسان كامل الخلق وهو ممعود أو مكبود أو ضعيف الأعصاب، إنك تراه غالبا ضيق الخلق غضوبا يائسا متبرما بالحياة، وكثيرا ما يسائل نفسه: هل هذه الدنيا تساوي شيئا، وينشد مع أبي العلاء قوله:
تعب كلها الحيا
अज्ञात पृष्ठ