قد أحس أن شيئا كان يدهمه ويضع أنفه في الرغام، ويضغط عليه في قسوة شرسة قد رفع عنه، وأن رأسه يستطيع الآن أن يشعر بالحرية، وإن كان لا يستطيع أن يشعر بالكرامة. لم يخش أن يعيره أحد أن أمه تركت البيت لتعود راقصة مرة أخرى فما داموا قد عرفوا أنها راقصة فكل شيء هين بعد ذلك، فليس هناك أي بأس أن تتكسر النصال على النصال، وقد عرف المهانة في أبشع صورها ولم تعد مهانة تخيفه بعد ذلك.
عجيبة هذه الحياة لقد خيل لفرغلي يوم أعلن عليه أمر أمه في المدرسة أن أعمدة الحياة قد تهاوت، وأن الحياة لا تستحق أن يحيياها، بل طالما تمنى أن تنخسف به الأرض فلا يبقى منه في الوجود شيء، ولا حتى ذكرى في قلب أبيه أو في نبض أمه، بل إنه كان يتمنى أن ينمحي هذان الاثنان بالذات. وكراهيته لأبيه كانت أشد من كراهيته لأمه، فهو لا يعلم لماذا أصبحت أمه راقصة ويقدر أنها ربما فرض عليها هذا الطريق فرضا ولم تختره، أما أبوه فهو وحده الذي اختار أمه تلك من بين نساء العالمين وجعل منها أما له. ولكنه مع الأيام تعود المهانة ثم هو بقدرة إلهية عجيبة استشعر من هذه المهانة قوة فلم يعد يخشى شيئا مما يخشاه التلاميذ. إنه ينجح في المدرسة لا لينال الشرف فهو يعلم أنه لا سبيل له إلى هذا الشرف أبدا، ثم هو ينجح لأنه لا يجد سببا يسقط من أجله وإنما كان يقول لنفسه إنه يكفيه سقوط أهله فلا داعي لأن يسقط هو نفسه أيضا. أصبحت هذه المهانة مصلا في دمائه يحميه من الشعور بمهانة أخرى. لا بأس عليه أن يشتم المدرسون والتلاميذ أمه وأباه، طظ، وماذا في هذا؟ إنه هو نفسه يتمنى أن يشتم أمه وأباه. لا بأس أن يحتقروه بل لا بأس أن يحتقره الفراشون، لا بأس لا بأس، لا بأس بأي شيء، فكل شيء مقبول ومحتمل والإنسان أقوى ما يكون إذا وطن نفسه على قبول كل إهانة، وليس يهم من قريب أو بعيد أن يكتسب هذه القوة من العزة والكبرياء أم من الذلة والمهانة ما دام الطريق من أعلى الجبل والطريق من سفحه يلتقيان عند مكان واحد من الجبل حصين.
وهكذا وجد في ترك أمه للبيت خيرا، وإن كان هو سيقوم بغسل الهدمات القليلة فلا ضير في ذلك عليه، فقد تعود أن يغسل كل شيء في المقهى. أما الطعام فقد كان يأكله خارج البيت أغلب الأمر، فهو يشتري نصف رغيف أو رغيفا في الصباح ليكون فطوره، وكان يتناول غداءه في المدرسة، فقد كانت المدارس في هذه الأيام تقدم طعام الغداء، وكان يتعشى بالمقهى، وعلى أبيه أن يبحث عن وسيلة لإطعام نفسه فإن هذا أمر لا يعنيه في شيء.
لأمه أن تذهب من هذه الدنيا حينما تريد، وكلما ابتعدت عنه ازداد هو شعورا بالأمان. أمر واحد كان يشغله ولكن ما أقل ما كان يشغله لقد خشي أن يجدد هرب أمه زياط التلاميذ حوله ويذكرهم بما نسوه من أمره، فهرب أمه عرف في القرية جميعها في ساعات معدودات وللقرية في المدرسة تلاميذ، والتلاميذ شأنهم شأن قريتهم بل شأن الناس أجمعين يحبون أن يلقوا الأنباء إلى من لا يعرفها أو حتى لمن يعرفها ليروا هذه الدهشة التي قد لا تبقى على الوجوه أكثر من هنيهة، ولكن هكذا الناس يحبون أن يروا هذه الهنيهة وإن كان الخبر يحطم قوما آخرين ويدمرهم ويجعلهم جذاذا ورمادا منسحقا وهباء وعدما. لا يهم ... المهم هو هذه الهنيهة البلهاء وهذا الإدهاش ثم التعليق.
كان هذا ما يخشاه فرغلي، ولكن أمر الناس عجيب، لقد انتقل الخبر إلى المدرسة وذاع بين أرجائها وشاع ولكن التلاميذ الذين داسوه كحشرة يوم عرفوا أن أمه كانت راقصة؛ التفوا حوله هذه المرة يواسونه في عطف وحب واشفاق بل في حساسية رقيقة عجيب أن تصدر ممن هم في مثل أعمارهم. لم يذكروا عن هرب أمه شيئا وإنما كل ما فعلوه أن جماعاتهم كانت تناديه ليشاركهم اللعب أو يشاركهم الحديث.
والعجيب الأعجب أن أبناء قريته أصبحوا يزورونه دائما في المقهى بعد الفراغ من المدرسة، ويصرون أن يذاكر معهم إذا عاد إلى القرية ويلازمونه أو يرغمونه على أن يلازمهم في أيام الجمع والإجازات.
من يستطيع أن يحلل هذا المجتمع؟ كيف يرفض ابنا لراقصة سابقة؟ ويقبل هذا الابن نفسه حين تصبح أمه راقصة عاملة؟ ترى هل بعدها عن البيت هو الذي صنع هذا التناقض؟ أم شعورهم بأن الابن أصبح من غير أم؟ أم هو مجتمع هوائي يميل حين يميل ويشيح حين يشيح بغير منطق في الميل أو الإشاحة؟ كابن عمار الذي يذكره البيت الشهير يعطي ويمنع بخطرات من هواجسه لا عن بخل ولا عن كرم.
عجب فرغلي واستقبل حياته هذه الجديدة وسرعان ما نعم بها ولكنه مع ذلك مطلقا لم ينس أنه يتلقى الصداقة عن شفقة لا عن حب، وأنها تكال له بمكيال المهانة لا بمكيال المساواة. لم تكن نفسه من هذه النفوس التي تنسى فهو يستقبل هذه المشاعر الجديدة في استسلام لها، ولكنه في العميق العميق من دخائله لا يكن لكل هؤلاء الأصدقاء الجدد إلا الكراهية والحقد الدفين المستعر.
5
البحث عن كرامة
अज्ञात पृष्ठ