खुतबात इदाना तवीला
خطبة الإدانة الطويلة عند سور المدينة وفرناندو
शैलियों
ونأتي الآن إلى المسرحيتين أو بالأحرى اللعبتين المسرحيتين اللتين نقدمهما في هذا الكتاب، راجين أن نتمكن من النظر فيهما على ضوء المعلومات السابقة عن حياة مؤلفهما وأعماله. ونبدأ بالمسرحية الأولى التي وضع لها عنوانا مثيرا وغير عادي في طوله: «خطبة الإدانة (أو التشهير) الطويلة أمام سور المدينة».
ما إن ترفع الستارة عن المنظر الوحيد الممتد إلى نهاية المسرحية حتى نرى ونسمع امرأة صينية شابة وجميلة وفقيرة تقف أمام سور المدينة وتطلق استغاثتها المستميتة بالقيصر: أيها القيصر. أيها القيصر. وربما تصورنا - بمعلوماتنا القليلة عن الصين الغامضة البعيدة! - أن السور الذي يواجه المرأة ويواجهنا يمثل جزءا من سور الصين العظيم الذي لم يبن من أحجار فحسب، بل من عادات وتقاليد وقيم وأخلاق تجمدت بمرور الزمن فصارت بدورها حجارة ثقيلة .. وقد نتخيل كذلك منذ البداية أن هذا السور يوحي بمعنى مجازي يدل على كل الأسوار التي تقف عقبة أمام الفقراء والمظلومين والمحرومين من أبسط حقوق الإنسان العادي في شيء من الحرية والعدل والأمن والسعادة. ويتكرر هتاف المرأة باسم القيصر وسخرية الجنود والضباط الذين يتولون حراسته. ونفهم بالتدريج أن هذه الشجرة البشرية الخضراء المنضرة بالفتنة والصحة والرغبة في الحياة الطبيعية البسيطة تجأر بالشكوى لأب العائلة الصينية الكبرى من الغربان التي تريد أن تعشش على فروعها، ومن الثعابين التي تحاول أن تتسلقها وتنهش لحمها الأخضر. لقد غاب زوجها عنها وطالت غيبته فتعرضت للوحوش الخبيثة المراوغة، وعلى القيصر الذي أخذه جنوده منها عنوة أن يرده إليها لتحمي نفسها من الفتنة والغواية، ولتحيا في الحلال - كما نقول في إطار ثقافتنا الدينية - مع زوجها الشرعي الذي نفهم أيضا أنه كان مجرد صياد سمك خامل وخائن وفاشل، ولم يكن أبدا هو الزوج المثالي لامرأة في مثل قوتها وفتنتها وحرصها على الحياة النظيفة الشريفة.
ونحس أيضا منذ البداية أن الزوجة «فان شين تنج» تشعر بنوع من اليقين الداخلي بأن زوجها «هسوي لي» قد مات في الحرب التي يخوضها القيصر الصيني جريا وراء أوهام المجد والبطولة والقوة والتوسع، وأنها قد صممت على أن تأخذ زوجا آخر يعوضها عن الزوج المفقود مهما كان الثمن، ومهما تعرضت للامتحان العسير لمدى صدقها في الزعم بأن الجندي الذي أشارت إليه من بين الجنود الذين يمرون أمامها من فوق السور هو نفسه زوجها الذي ذاقت معه من المر أكثر بكثير من الحلو .. وقد اشترط القيصر نفسه أن تدخل هذا الامتحان العسير قبل أن يسمح لها بالانصراف مع الزوج المزعوم، وأن تظل رماح الجنود مصوبة نحو زوجها إذا ثبت فشله في أداء دوره وعجز عن إثبات مصداقيته. أما الامتحان نفسه فيفرض عليها أن تدخل بكل قوة وحسم في لعبة المسرح في المسرح التي تجعلها تستعرض مشاهد مختلفة من حياتها وتجاربها مع ذلك الزوج البديل الذي اختارته وراحت تدفعه باستمرار لأداء الدور وتصحح أخطاءه الجسيمة التي يقع فيها بحكم غبائه وعجزه الشديد عن مجاراة تلك الأنثى الطاغية التي وقفت منه موقف الملقن من ممثل ضيق الأفق بطيء التفكير .. بالإضافة إلى جبنه وكذبه!
وتتوالى أمامنا عروض التمثيل لمشاهد من حياة هذه المرأة الشابة الوحيدة، زوجة الجندي السابق التي تكلم الجدران وتهتف في الريح، ومع ذلك تبحث عن الخروج من التمثيل بأي زوج؛ لأنها تعرف فضائل الأسرة وتحرص على القيام بواجبات الزوجة .. ويشارك في التمثيل، أو بالأحرى يستدرج إليه، اثنان من أصحاب السعادة وحضرات الضباط، فيؤدي أحدهما مرة دور قاضي القرية الذي تخونه زوجته من وراء ظهره مع زوج المرأة، ويؤدي الآخر دور تاجر الزيت الذي يطمع فيها ويستغل جوعها وفقرها وجمالها ووحدتها ليعرض عليها الزيت بسعر رخيص مقابل الانفراد بها في كوخها الصغير الخالي. بل إن القيصر نفسه يشارك من بعيد في اللعبة بإصدار أوامره وتسلية نفسه بالتفرج على لعبة هذه الفلاحة الفصيحة الداهية، والظهور من حين إلى حين من فوق السور متدثرا بالقشور الذهبية التي تغطيه من رأسه إلى كعب قدميه، وكأنه سمكة عظيمة تلمع في شمس الصباح.
ومع التدخل المستمر للضابط السمين والضابط النحيف في مجرى العرض وفي سياق الحوار بين الزوجة المحرومة والزوج البديل الخائب، ومع إدراك الضابطين اللذين يراقبانهما أن هذا الزوج مرتبك وبليد، وأن معظم الكلام والفعل يتدفق من الزوجة التي تحاول إصلاح ما يفسده وإكمال التمثيل بأي ثمن، تتابع المشاهد القصيرة من الحياة الماضية البائسة واحدا بعد الآخر: تعرف الزوجين على بعضهما عند النبع ومساعدة زوج المستقبل لها في حمل الجرة أثناء سيرهما معا إلى بيت القاضي الذي تعمل فيه خادمة، اكتشاف الزوجة أن زوج المستقبل على علاقة خفية بزوجة القاضي الذي غادر البلدة على حماره لكي يقيم العدل بين الناس بينما الظلم والشر يجوسان في بيته ويعبثان بشرفه وسمعته، رجوع القاضي إلى بيته مسرعا بعد أن سمع الإشاعات المريبة وكيف تدخلت لإنقاذ زوج المستقبل المخادع من الشنق وتسترت على الفضيحة رغم كل شيء، مشاهد من حياة الزوجين «الشرعيين» التي استمر شقاؤها أربع سنوات في كوخها الفقير على شاطئ النهر؛ حيث لا تطمع فان شين-تونج في أكثر من الحياة في سلام مع زوجها، بينما يحلم هو بالانطلاق إلى مدن العالم فرارا من عش الزوجية الضيق الخانق .. فشل الزوج المزيف في البقاء مع زوجته على سطح كوخهما وفي إبداء ذرة واحدة من الصبر على محنة الفيضان الذي أغرق كل شيء حولهما وتصميمه على الهرب منها، بل اعترافه المفاجئ بأنه لم يكن زوجها في يوم من الأيام، تدخل الزوجة مرة أخرى لإنقاذ العرض الذي أوشك على التوقف واعتذارها بقلق زوجها وبحرصها على المحافظة عليه رغم كل تصرفاته، نزول الرجال الذين يجمعون المتطوعين للحرب إلى القرية ونجاحهم في أخذه معهم برغم اختفائه في أحراش الغاب طوال الصيف وتصنته من موقعه على المحاولات الفاشلة لتاجر الزيت الأصلع الدنيء لاستغلال فقر زوجته بإقراضها بعض العملات النحاسية أو مساومتها على تأجيل سداد ثمن الزيت إكراما للطفها وفتنتها ونجاحها مع ذلك في المحافظة على شرفها وسمعتها وبيتها رغم غياب الزوج، مغالبتها لدموعها واستمرارها في تمثيل دورها برغم إحضار الجنود للتميمة المعدنية التي عثروا عليها مع جثة زوجها الحقيقي وإنكارها لمعرفة ذلك الميت حتى تخرج من اللعبة ومعها زوج يسترها، عودة الزوج المزيف للاعتراف بأنه كان مع الزوج الحقيقي عندما أرداه سهم نفذ في عينه ثم تراجعه عن اعترافه رعبا من المصير الذي ينتظره وانخراطه بعد ذلك في الدور الذي لم يتقن تمثيله، تهور الزوج الذي يطعن تاجر الزيت انتقاما لما تصور أنه شرفه المطعون، ثم هروبه من الجنود الذين جاءوا للقبض عليه وهروبه النهائي من خلف السور بعد اقتناعه بفشله في تمثيل دور الزوج الحقيقي واقتناع الضابطين أيضا بفشل الزوجة في مداراة غباء البديل برغم كل براعتها في تمثيل دورها والتدخل المتواصل لإنقاذ اللعبة اليائسة، وأخيرا تأتي محاولة الزوجة للاستغاثة بالقيصر الذي انصرف من ساحة الملعب بعد أن استمتع بالفرجة .. ولذلك لم يبق أمامها إلا أن تخمش السور الأخرس الكثيف - كالذئبة الجائعة الجريحة - بأظافر صرخاتها اليائسة من إمكان تحقيق العدالة على الأرض، ومن استحالة الحد الأدنى من السعادة والأمان للإنسان الصغير الذي تحوطه الأسوار من كل جانب .. وهكذا تتدافع لعناتها المحبطة الغاضبة على القيصر وزبانيته وطموحاته ومشروعاته، وعلى كل الأخلاق والأفكار والقيم والتقاليد التي شاركت في إقامتها وتدعيمها منذ أن كان سادة وعبيد، وحكام ومحكومون، وأغنياء وفقراء، ومضطهدون مظلومون مستغلون يقاسون الأمرين من كل مضطهد ومستغل وظالم، في خطبة طويلة يختتم بها العرض، وتنتهي معها اللعبة التي لم تزل مستمرة بأشكال أخرى أخبث وأدهى مما كانت عليه في زمن قديم في الصين القديمة.
وينزل الستار على لعبة المسرح في المسرح، بينما يتردد صراخ المرأة المسكينة التي جربت كل ذكائها الفطري في اقتناص نصيبها القليل من العدل والاستقرار ثم فشلت في التجربة .. وتتوغل صيحات المرأة المحتجة في ضمائرنا وتسري في دمائنا مسرى الرصاصات العنقودية التي تتفجر فيها وتفجر معها كل ما توهمناه من إمكان الراحة أو الطمأنينة في عالمنا المدني الذي تطوقه أسوار الظلم والوحشية وقسوة الإنسان على أخيه الإنسان .. وتتحول الخطبة إلى دعوى اتهام طويلة لكل المسئولين عن عذاب الإنسان العادي أو الإنسان الصغير عبر جميع العصور وفي ظل مختلف النظم والمدن والمجتمعات والحضارات، وداخل كل الأسوار المادية أو الأسوار العقلية والقانونية والأخلاقية والروحية: «أنتم يا من فوق السور! أيها المطرزون بالذهب - يا أصحاب القوانين الجميلة والأخلاق الجميلة - لم لا تفسرون لي السبب في انتشار العفن الفظيع في العالم كله؟ .. وأنت أيها السور! أيها السور السميك! ابتعد! ابتعد! أيها السور السميك العظيم القديم الغبي - أنا فان شين تينج أقف هنا تحتك .. سأظل ألطمك برأسي حتى تتهدم ... إنني أكرهك. أبصق عليك أضحك عليك. ألعنك، أنا .. أنا .. أنا .. أنا ...»
ويدخل أحد الجنود المكلفين بالحراسة ووجهه - كوجهي الضابطين اللذين انصرفا ضاحكين - مغطى بقناع. وتكتشف أنه هو نفسه ذلك الرجل الذي حاول أن ينتهز الفرصة ويستمتع بالهروب من قهر السلطة مع امرأة جميلة سعت إليه بقدميها، كما حاول عبثا أن يتقمص دور الزوج الغائب إلى الأبد، ثم لم يلبث أن رجع إلى جموده وبروده وانضم مرة أخرى إلى جماعة السور ليعود حجرا من أحجاره الغليظة، ويضع رقبته في النير الذي أعدته له وللجميع .. ذلك أن أخلاق بناة ذلك السور، وغيره من الأسوار عبر العصور، قد استلبته ووضعته في قوالب قيمها وتقاليدها «وأيديولوجياتها» الجاهزة على الدوام. وإذا كان قد خرج لفترة قصيرة من هذه القوالب في محاولة لاسترداد هويته الإنسانية، فقد فشل في أداء الدور، وتنكب الحقيقة البسيطة من طول ما تغذى على الكذب المصنوع، ووجد نفسه مضطرا للدخول من جديد في القالب أو التابوت الذي احتواه ولم يزل يحتوينا جميعا بدرجات وأشكال مختلفة. وفي النهاية يمد الرجل المقنع حربته ويلكز بها الشخصية الوحيدة التي لم تضع على وجهها أي قناع وهو ينهرها قائلا: «اذهبي! لن يسمعك أحد!» - وتقشعر المرأة فزعا وتحدق فيه صامتة، ونقشعر نحن أيضا من رعب الأسوار الظاهرية والخفية. وربما خرجنا من اللعبة المرة وبين جوانحنا شيء من العزم - أو حتى النية الطيبة! - على تحطيم الأسوار، كل الأسوار. •••
إذا كانت المسرحية السابقة - التي ترجع، كما قلت، لفترة مبكرة من إنتاج دورست (1961) - قد سلطت الضوء على الحقيقة العارية البسيطة للإنسان العادي أو «الإنسان الصغير» الذي يطالب بمكان آمن ونظيف تحت الشمس، فإن هذه المسرحية المتأخرة (1992) قد خاطرت بوضع هذا العنوان الفرعي تحت اسمها: «محاولة للكشف عن الحقيقة.» ويتبادر إلى أذهاننا السؤال المركب من أسئلة لا حصر لها: ما هو تصور المؤلف للحقيقة؟ وما الذي فهمه من أبعادها وزواياها الكثيرة كثرة حيرت الفلاسفة والمناطقة والعلماء والأدباء على مر العصور؟ وما نوع الحقيقة التي يبحث عنها، وما الفرق بينها وبين الواقع بالنسبة لكاتب يؤكد أنه واقعي؟
لنؤجل النظر في هذه الأسئلة العويصة - التي تفتح الأبواب لتفسيرات واحتمالات وافتراضات لا آخر لها! - حتى نفرغ من إلقاء نظرات أخرى سريعة على هذه اللعبة المسرحية الجديدة والشخصيات المشتركة فيها، سواء أكانوا ضحايا أم جلادين.
واللعبة التمثيلية تدور حول شخصية رجل مستبد بقوته وثروته يصمم على الزواج من امرأة فاتنة الجمال وينفذ بسطوته وجبروته ما قد صمم عليه. وتتم الزيجة وتتطور بصورة غريبة، فرجل الأعمال الموضوعي البارد لا يكترث كثيرا بزوجته، بل يضن عليها من أول المسرحية إلى آخرها بالعبارة الوحيدة التي كان من الممكن أن تجعل للزواج معنى، وهي أنه يحبها. وتميل الزوجة الحساسة إلى الدوق المثقف الحساس مثلها تجد عنده ما يستحيل أن تجده عند الزوج العملي الذي اشتراها بماله وتصور أنه ضمها إلى أملاكه وأشيائه التي يتحكم فيها كما يشاء. وتعترف الزوجة في لحظة كبرياء بأنها تعشق الدوق، وأنها فعلتها معه مرات عديدة لا مرة واحدة. ويجن جنون فرناندو كراب الواقعي العاقل فيدبر خطته الشيطانية التي تودي بجوليا إلى الجنون ثم إلى الموت البطيء أو الانتحار الصامت. لقد نجح الرجل في «استلاب» زوجته أو «تشييئها» كما يعبر فلاسفة الاغتراب، ولكنه انجرف دون أن يدري أو يقدر إلى داخل الدوامة المسرحية التي اصطنعها بنفسه وأحكم نسج خيوطها الأخطبوطية الشريرة. وفي المشهد الأخير نفاجأ بالجلاد وقد صار هو الضحية، إذ يتفجر شلال الاعتراف بحبه للزوجة المحتضرة مكتسحا كل السدود والأغلال التي حبسه وراءها، وتتدافع الدموع والصرخات بعد فوات الأوان لنكتشف من شظايا مراياها المهشمة كيف تجاهل وخان أقرب الحقائق إلى الإنسان، وهي حقيقة قلبه.
अज्ञात पृष्ठ