120

खुलासा यौमिया वा शुधुर

خلاصة اليومية والشذور

शैलियों

هذا فيما يملك الناس أن يبينوه أو يكنوه، وإن هناك أفكارا تلتوي على اللغات وتشمس عن التقيد بالكلمات، فما فضل الناطق في هذه الأفكار على الأعجم؟! وما زيادة الفصيح على الأبكم؟! لا فضل ولا زيادة، ومن الأفكار ما هو أعوص من أن يعبر عنه، ولكنه أقوى من أن يكتم، السكوت عنها ممض والتعبير عنها ممتنع، لم يتغلغل الكلام إلى أعماقها فيخرجها، وليست هي بالتافهة الضئيلة فتدفنها في مهدها وتدرجها، وقد خصت ولم تعم، فلم يكن لها حظ من اللغات العامة، وتفرقت ولم تجتمع فليس بين أصحابها المتفرقين لغة متبادلة، فاعلم أنه لا يريحك من هذه الأفكار إلا سكوت كالخطاب.

وذلك أن تجد ولو على البعد من يعاني مثل هذه الأفكار فيحيط بكتابك من عنوانك، وتلهمه الكلمة العاجلة ما تضيق به الفصول المذيلة، ويسبح معك برهة في عالم لا ألسنة فيه ولا آذان!

يتحادث الرجلان وبينهما تنافر في الأماني والأذواق، فيفرغ أحدهما جعبة بلاغته، ويمتهي غرار حجته، ويستنفد أفانين حيلته، ويحسب أنه أقنع جليسه واستولى على لبه، ثم ينهض هذان الجليسان وإن بينهما من البعد لما هو أبعد مما بين الميت ومناديه، والنجم ورائيه، ويجلس غيرهما وقد توافيا على أمنية، وتمازجا في الطوية، فيقضيان الساعات لا ينبسان إلا بالكلمة بعد الكلمة ثم ينهضان وقد نقل كلاهما إلى أخيه خلاصة نفسه وطبع صورته في صدره، ومن منا من لم يشاهد الحالتين فتبين له لغة الصمت أحيانا مقدار حداثة لغات الكلام.

وإني لأصغر شأن هذه العلوم والآداب القائمة كلها على تفاهم اللغات كلما تأملت فرأيت الأشياء الكثيرة التي تقوم بوجدانات الإنسان ولا يحس بها، والتي يحس بها ولا يعبر عنها، والتي يعبر عنها ولا تصل برمتها إلى عقل سامعها، فيتأكد لي أن الناس في حاجة إلى تفاهم أرقى من هذا التفاهم اللغوي، ولعل هذا النقص هو علة كثير من المشاكل التي تقع بينهم أمما وأفرادا، وتزول لو كان التفاهم بينهم كاملا.

فليتخذ الناس اللغات رموزا وإشارات تنوب عن المعاني لمن يعرفها، ولا تمثلها لمن لا يعهدها أو يأنس بها، وليعلموا أنهم ما داموا لا يقولون كل ما يريدون أن يقولوه فهم خرس وإن نطقوا، وإنما البليغ المبين من الناس رجل يجيد الإشارة بلسانه أو يراعه، ولن تغنيه هذه الإجادة عن أن يكون سامعه ممرنا على التنجيم والتخمين، وأما من أخطأه هذا المران، فسيان عند الإشارة باللسان، والإشارة بالبنان!

قوة الإرادة

خطر لي أن أبتدع في التجارة بدعة حسنة، فاخترت أن أتاجر بالأخلاق النافعة للمصريين؛ فاقتديت بأولي الخبرة والنظر البعيد من التجار إذا عزموا الاتجار بسلعة من السلع في بلد من البلدان، يتوخون حاجة السوق ويستقصون عادات أهل البلد، ثم يقدمون على بصيرة من عملهم وأمل وطيد في الرواج والنجاح فتوخيت حاجة السوق في مصر، وتقصيت عادات المصريين وفتشت عن الخلق الذي ينقصهم أكثر من أي خلق سواه، فعلمت أنه قوة الإرادة، فعولت على أن يكون اشتغالي بهذا الصنف من الأخلاق.

وراقني هذا الخاطر فمنيت نفسي رواجا سريعا وربحا جزيلا، وأنني سأكون أنفق تجارة وأكثر عائدة من المتاجرين بيننا بالوطنية والدين؛ لأن حاجتنا إلى الوطنية والدين أقل من حاجتنا إلى الأخلاق ولا سيما قوة الإرادة، وفي مصر كثير من الوطنيين والمؤمنين، ولكن قل فيها من كملت عليه نعمة الأخلاق فغنوا فيها عن المزيد، وذهبت أحصي أرباحي ومكاسبي في السنة الأولى فالسنة الثانية، وفي السنين التالية فضاق بها الحصر ولم يستوعبها الحساب، وسرني أن أحلم بأنه لن يكون في الاثني عشر مليونا الذين يسكنون وادي النيل مصري واحد إلا لديه مقدار كبير أو صغير من تجارتي، فقلت: إنها والله للتجارة التي لا تبور.

واكتريت الدكان في أوسع أحياء العاصمة وأحفلها بالسابلة والقطان وزخرفته أيما زخرفة، فصفحته بالبلور وغشيت جدرانه بالذهب وصنعت رفوفه من خشب الهند، ونقشت عليه لوحة من أجمل ما خط الكاتبون كتبت عليها «هذا دكان قوة الإرادة، يعطيك على نفسك سلطانا لا حد له»، ثم جلست على بركة الله أشمر للتعب والعمل وأخففهما عني بما أرجوه من المنفعة لي وللناس.

فكان أول من سنح لي في صباح أول يوم فتحت فيه الدكان رجلا سكران قد تخالعت أعضاؤه من الوهن، واحمرت عيناه من السهر وانعقد لسانه من الحمر، فوقف قبالة الدكان يترنح ذات اليمين وذات الشمال وأوشك أن يميل على ألواح البلور فيحطمها ويكدر علينا صباح الاستفتاح بطلعته المشئومة، ولو كنت ممن يتطيرون لأغلقت دكاني لساعتي وجزمت بالفشل، ولكنني تصبرت ولبثت ألاحظه وهو تارة يحملق إلي وتارة يتهجى العنوان حرفا حرفا حتى أتى على حروفه بعد شق النفس، ثم قال لي وكأن روحه تصعد مع كل كلمة: أأنت صاحب الدكان؟

अज्ञात पृष्ठ