لا يكفي المحامي أن يكون بارعا في علم الحقوق، بل هو في حاجة إلى بصيرة نقادة وذهن قادر على هضم أنواع العلوم ؛ لأن المسائل التي يوكل إليه البحث فيها هي علمية وطبية ومالية وزراعية وفنية، وعليه أن لا يجهل شيئا مما يمكن أن يعبد له طريق الفوز، فهو في آن واحد عالم وطبيب وتاجر ومهندس ومؤلف وغير ذلك.
ثم عليه بعد أن يجعل دماغه موسوعة علوم أن يعرف كيف يحرك العواصف ويثير شجون النفس؛ لأن من المحلفين من لا يعرف القانون ولا يأبه به، وإنما هو يحكم بما يمليه عليه الشعور والضمير.
قال كركوى: «يا لتعس المحامي الذي لا يحس لأول عبارة يتلفظ بها ارتياحا من جانب القاضي، وتشوقا لمعرفة ما سيقول، ولذلك كانت العناية بالمطلع وبراعة الاستهلال أول ما يجب الأخذ به.» ويروى عن محام في إحدى القضايا الكبرى أنه بدأ مرافعته بهذه الجملة الجذابة: «موكلي يطلب من عدلكم مليونين ومائة وخمسة وعشرين ألفا وثلاثمائة واثني عشر فرنكا وخمسة وعشرين سنتيما، ولا أنس السنتيم لأن حقي جلي واضح، فأنا أطلب الكل أو لا شيء.»
ومن بدائع الاستهلال ما فاه به الوزير كاليو في مرافعته عن نفسه بعدما قتلت زوجته الثانية المسيو كالمث منشيء الفيغارو، الذي كان ينشر في جريدته وثائق ضد كاليو، فإن زوجة كاليو الأولى المطلقة منه هي التي قدمت هذه الوثائق، وكانت السبب البعيد في هذه الجريمة، فجاءت إلى المحكمة كشاهد ضد كاليو وزوجته القاتلة، وبعد أن تكلمت كما شاءت وقف كاليو وقال ما معناه:
أريد اليوم أن أجرب أصعب شيء في حياتي، ولكن ثقي يا سيدتي أنه لا كلمة جارحة تخرج من فمي، ولكن الذين سمعوك على هذا المنبر أصدقاء وأعداء قد أدركوا أنه بين رجل لا ينكر أحد عليه العزم والمقدرة والإرادة وبينك يا سيدتي أنت التي تحوي على بعض هذه الصفات إلى حد المبالغة، قد أدركوا أنه من المحال أن تدوم الحال ...
وأحسن وصف ينطبق على المحامي خصوصا والخطيب عموما ما كتبه غامبتا في وصف المحامي لاشو، وقد آثرنا تعريبه هنا إتماما للفائدة.
كان لاشو من أشهر خطباء العصر التاسع عشر، وقد دافع في أكثر قضايا الإجرام كقضية مدام لافارج في مقتل زوجها، والطبيب لابومره المتهم بقتل اثنين تسميما، وتروبمان قاتل أسرة كاملة من أب وأم وستة أولاد، ودافع أيضا عن المرشال بازين أمام المجلس الحربي في تريانون، وقد وصفه غامبتا وصفا دقيقا يحق أن يتصف به كل خطيب وكل محام، كأن هذا الرجل الذي كان يقيم فرنسا ويقعدها ببلاغة أقواله أراد أن يجسم في الكلام ويرسم بنفثة من يراعه ما كان يختلج بين جنبيه من تلك القوة الساحرة التي امتاز بها خلقه العجيب، قال:
إن ما يغريني في لاشو هو سهولته وارتجاله وقوته واستقلاله، وما قبضت على القلم إلا لأظهر إعجابي بهذه الصفات.
إن بلاغة الخطباء المرتجلين هي كالنار التي يشبههم بها «تايسيت» إذا خبا أوارها عفت آثارها. أجل إن الارتجال قوة لها على القلوب سلطان الساعة، وقد بلغ فيه لاشو من السهولة والاقتدار مبلغا لم يعرفه إلا من كان في طبعه ومزاجه. يقوم وقد هزه كلام الخصم فيندفع اندفاع السيل؛ فإذ بالعقل مأسور والجنان مسحور ثم يزول كل شيء. أين هو هذا الخطاب الجميل؟ قيد البرق إن استطعت، احبس الريح التي تهب، أوقف المحامي لاشو. لكلامه وميض البرق الخاطف، وهو كالريح؛ فتارة نسيم، وطورا إعصار، ولا سبيل إلى حفظ هذه الأقوال المجنحة إلا إذا جمعنا بين تصوير الصوت وتصوير الموسيقى.
جبين واسع وضاح، شفة عريضة عليها ابتسامة ناعمة، عين كبيرة متحركة الأجفان، هذه العين التي تجدها مسترخية عند الراحة، تسطع بأنوار هائلة فجائية، أو تبسم بأشعة لطيفة تنتشر على القزحية وتنير من كل جانب أعماق تلك الكرة، رأس ملء حركاته عظمة وجلال، جسم معتدل وفيه خفة الفتوة. أضف إلى هذا صوتا جميلا طبيعيا واسع المدى كأن فيه شيئا من البوق وشيئا من القيثارة.
अज्ञात पृष्ठ