على أن خطباء العصور الأخيرة لم يبلغوا شأو الأقدمين، ولم يكن لهم تلك الجولات الواسعة التي عرف بها الأولون، فقد صار من النادر أن يقف الرجل في مكان عمومي ويخطب في قوم لا معرفة له بهم، وأغلب ما تكون الخطابة السياسية اليوم في محفل يضم إخوانا وزملاء كندوة النواب مثلا، ثم ينقل البرق الخطاب مختزلا إلى أطراف المعمور فلا يكون له في المطالع أثره في السامع، ولهذا قصرت غاية الخطيب على التدقيق في موضوعه وفي أرقامه الإحصائية متجافيا ما أمكن وجوه الاستعارات وضروب المجاز وما إلى ذلك وقد كفى، مثل هذا ميرابو وتيارس وغامبتا ليدركوا ما وراء الغاية من التأثير في معاصريهم.
ومن نواب الفرنجة اليوم من لا يعتمد على العاطفة في خطبه، بل ينهج سبيل المنطق البحت كأنه يتكلم في جمع من مديري البنوك ورجال المال والتجارة، كما أن منهم من لا يزال يلجأ إليها كلويد جورج وبريان طلبا للإجادة في التأثير على أنه تأثير وقتي لا ندري ما يبقى منه بعد ربع قرن. وإننا نقرأ خطب كليمانصو التي كانت تثير الزوبعة في مجالس فرنسا فيعترينا الدهش، ولا نعرف من أين كان لها هذا الوقع.
وإذا راجعت خطب مصطفى كامل وسعد زغلول لم يخف عليك ما فيها من سلاح العاطفة، وتبين لك أن هذه الطريقة لا تزال أقرب الطرق إلى قلوب الجماعات.
والخطابة السياسية من أصعب فنون الخطابة؛ لأن حركات الأمة هي نتيجة مد وجزر يولده سيطرة الأفراد على الجمهور، أو الجمهور على الأفراد، فيتبع الخطيب هذه الأمواج آمرا في القوم أو خاضعا لرغائبهم، فلا هو واثق بالنجاح كل الثقة، ولا يائس منه كل اليأس.
وقلما نجد من خطباء السياسة من لم يذق في احتكاكه بالجمهور لذة الانتصار أو لوعة الانكسار، وهذا يدلك على حرج الموقف وما يقتضيه من درس عقلية النواب والتعرف إلى أميالهم وأخلاقهم كما يتعرف الطبيب إلى جسم الإنسان جزءا جزءا. والذي يعرض عن هذا الدرس مكتفيا بما رزق من صنع اللسان وبلاغة البيان، أو عرف به من نزاهة القصد وإخلاص النية لم يسلم من الخيبة والفشل أحيانا، بل لو طرح قلبه على المنبر لما أقنع السامعين إذا هم أبوا الاقتناع.
على كل حال من أهم واجبات الخطيب النائب أن لا يقرب خلتين؛ الأولى الغضب لأنه آفة العقل والرزانة، والثانية استعمال ألفاظ سافلة تدعو إلى الأسف والندم.
الخطابة العسكرية
تختلف هذه عن الأولى كل الاختلاف؛ لأن الحرب لا تدع مجالا واسعا لتزويق الجمل، ومهما يكن الخطيب جهير الصوت فهو لا يستطيع أن يسمع الألوف؛ ولذلك جرت العادة أن تكتب الخطبة وتوزع على الجند. والغاية من الخطابة العسكرية هي إنهاض همم الجنود وإذكاء نار الحماسة فيهم، وإثارة النخوة والحمية والإقدام، وتهوين الموت، وتجميل التضحية، وإعطاء الثقة بالنفس والأمل بالنجاح.
ومن أجمل الخطب العسكرية خطبة طارق بن زياد قبل فتح الأندلس، وخطبة نابليون في حملة إيطاليا، وبين الخطبتين كثير من الشبه كأن روحا واحدة أوحت إلى البطل العربي والقائد الكورسيكي تلك الكلمات النارية الساحرة.
قال طارق: «أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر.» «وقد استتعبكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصون من أيدي عدوكم.»
अज्ञात पृष्ठ