खिताब व तघैयुर इज्तिमाई
الخطاب والتغير الاجتماعي
शैलियों
وقد تعرض موقف سوسير للهجوم المتواصل من جانب الباحثين في علم اللغة الاجتماعي، الذين يقولون: إن استعمال اللغة يتشكل اجتماعيا لا فرديا. ويقولون: إن التفاوت في استعمال اللغة تفاوت منهجي وصالح للدراسة العلمية، وإن ما يجعله منهجيا هو اتفاقه مع المتغيرات الاجتماعية، بمعنى أن اللغة تتغير وفق طبيعة العلاقة بين المشاركين في التفاعلات، ونمط الحادثة الاجتماعية، والأهداف الاجتماعية التي يرمي إليها الأشخاص في أي تفاعل وهلم جرا (داونز، 1984م). وإذا كان هذا يمثل بوضوح تقدما على التقاليد السوسيرية المهيمنة في التيار الرئيسي لعلم اللغة، فإنه قاصر من جانبين؛ الأول أن التأكيد يغلب عليه اتخاذ زاوية واحدة، ألا وهي النظر في كيفية تغير اللغة طبقا للعوامل الاجتماعية، وهو ما يوحي بأن أنماط الذوات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والمواقف المختلفة ذات وجود مستقل عن استعمال اللغة، كما ينفي إمكان استعمال اللغة فعليا في تكوينها وإعادة إنتاجها وتغييرها. والجانب الثاني للقصور هو أن «المتغيرات الاجتماعية» التي تعتبر معادلة للمتغيرات اللغوية ما هي في الحقيقة إلا معالم سطحية، نسبيا، للمواقف الاجتماعية لاستعمال اللغة، ولا يوحي هذا على الإطلاق بأن خصائص استعمال اللغة ربما كانت تخضع بمعنى أشمل لسيطرة البناء الاجتماعي على مستوى أعمق، مثل العلاقات الاجتماعية بين الطبقات والطوائف الأخرى، ومثل أساليب تجلي المؤسسات الاجتماعية في التشكيلات الاجتماعية، وهلم جرا. وربما كانت تسهم في إعادة إنتاج هذا البناء وتغييره.
وأنا أقترح في استعمالي لمصطلح «الخطاب» اعتبار استخدام اللغة شكلا من أشكال الممارسة الاجتماعية، لا مجرد نشاط فردي محض أو رد فعل للمتغيرات الموقفية. وتترتب على هذا أمور شتى. فهو يوحي أولا بأن الخطاب نوع من الفعل، شكل من أشكال تفاعل الأشخاص مع الدنيا، وخصوصا بعضهم مع بعض، وكذلك يعد الخطاب نوعا من التمثيل. وقد أصبحت هذه النظرة إلى اللغة مألوفة، وإن كانت كثيرا ما تصطبغ بصبغة فردية، بفضل الفلسفة اللغوية والتداولية اللغوية (ليفنسون، 1983م)، وهو يوحي ثانيا بوجود علاقة جدلية بين الخطاب والبناء الاجتماعي، ما دامت مثل هذه العلاقة قائمة بصفة عامة بين الممارسة الاجتماعية والبناء الاجتماعي، فالعلاقة الأخيرة شرط لقيام الأولى ونتيجة من نتائجها، فنحن نرى من ناحية معينة أن الخطاب يشكله ويقيده البناء الاجتماعي بأوسع معانيه، وعلى جميع المستويات؛ أي من جانب الطبقات والعلاقات الاجتماعية على المستوى المجتمعي، والعلاقات الخاصة بمؤسسات محددة، مثل القضاء والتعليم، ونظم التصنيف، وشتى المعايير والأعراف من ذوات الطبيعة الخطابية وغير الخطابية. وتتفاوت الأحداث الخطابية فيما يحدد بناءها وفقا للمجال الاجتماعي أو الإطار المؤسسي الذي تتولد فيه. ونرى من ناحية أخرى أن الخطاب ذو قدرة على التكوين الاجتماعي، وهذا مفاد مناقشة فوكوه للتشكيل الخطابي للموضوعات وللذوات وللمفاهيم. فالخطاب يسهم في تكوين جميع هذه الأبعاد الخاصة بالبناء الاجتماعي وهي التي تشكله وتقيده بصورة مباشرة وغير مباشرة؛ أي بمعاييره وأعرافه الخاصة، وكذلك العلاقات والهويات والمؤسسات التي تكمن وراءه، فالخطاب ممارسة لا تقتصر على تمثيل العالم بل تتجاوز ذلك إلى الدلالة عليه، أي إنه يكون العالم ويبنيه من زاوية المعنى.
ونستطيع التمييز بين ثلاثة جوانب للآثار البناءة للخطاب، فالخطاب يسهم «أولا»
وقبل كل شيء، في بناء ما أشرنا إليه بعدة صور مثل «الهويات الاجتماعية» و«مواقع الذوات» وهي التي نعني بها «الذوات» الاجتماعية وأنماط «النفس» (انظر هنريك، وآخرين، 1984م؛ وويدون، 1987م). لكننا يجب أن نتذكر مناقشة فوكوه لهذه القضية في الفصل الثاني وملاحظاتي فيه حول المغالاة في تصوير دوره في البناء. والخطاب يساعد «ثانيا»
في بناء علاقات اجتماعية بين الناس. كما يسهم «ثالثا»
في بناء نظم المعرفة والعقيدة. وهذه الآثار الثلاثة تتفق مع وظائف اللغة وأبعاد المعنى الثلاثة على الترتيب، وهي التي تتعايش وتتفاعل في كل خطاب، وهي ما سوف أسميه وظيفة «الهوية»، ووظيفة «العلاقة»، ووظيفة «الفكر»، باعتبارها وظائف اللغة. فأما وظيفة الهوية فتتعلق بالأساليب التي تنشأ بها الهويات الاجتماعية في الخطاب، وأما الوظيفة العلائقية فتختص بأسلوب بناء العلاقات الاجتماعية بين المشاركين في الخطاب، أي بتجسيدها وتنقيحها، وأما الوظيفة الفكرية فتتعلق بالأسلوب الذي تدل النصوص به على العالم وما يجري فيه، وما يشمل من كيانات وعلاقات. ويطلق هاليداي (1978م) صفة الوظيفة الرابطة ما بين الأشخاص على مجموع الوظيفتين الأوليين، أي الخاصتين بالهوية والعلاقات. كما يحدد هاليداي أيضا وظيفة «نصية»، ومن المفيد أن تضاف إلى قائمتي، إذ تتعلق بأسلوب تصدير أو تأخير أجزاء المعلومات، التصدير يعني جعلها في موقع الصدر أو الصدارة، والتأخير يعني جعلها في المؤخرة أو «العجز» (في البلاغة العربية أو الخلفية)، وهل تقدم هذه المعلومات في صورة «المسلم بها» أم في صورة المعلومات الجديدة، وهل تقدم باعتبارها الموضوع أو الثيمة، وكيف يرتبط أحد أجزاء النص بأجزائه الأخرى السابقة أو اللاحقة، وبالحالة الاجتماعية «خارج» النص.
والممارسة الخطابية ذات قدرة تكوينية بالأساليب التقليدية والخلاقة، فهي تسهم في إعادة إنتاج المجتمع (الهويات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والنظم المعرفية والعقائدية) على نحو ما هو عليه، وهي تسهم أيضا في تغيير المجتمع. فعلى سبيل المثال تعتمد هويات المعلمين والتلاميذ والعلاقات فيما بينهم، وهي التي تعتبر في صلب أي نظام تعليمي، على اتساق أنساق الكلام واستمرارها داخل هذه العلاقات وحولها حتى يعاد إنتاجها، ومع ذلك فمن الممكن أن تتعرض لتحولات قد تنشأ في جانب منها داخل الخطاب، أي في الكلام في قاعة الدرس، وفي الفناء، وفي غرفة الأساتذة، والمناظرات التعليمية وهلم جرا.
ومن المهم أن ننظر نظرة جدلية إلى العلاقة بين الخطاب والبناء الاجتماعي حتى نتجنب مزالق المغالاة في تصور تحكم المجتمع في الخطاب من ناحية، وتصور بناء المجتمع في الخطاب، من ناحية أخرى. فالتصور الأول يجعل الخطاب مجرد انعكاس لحقيقة اجتماعية عميقة، والتصور الأخير يرسم للخطاب صورة مثالية باعتباره مصدرا للمجتمع. وربما يكون التصور الأخير هو المزلق الأخطر بصورة مباشرة، نظرا للتأكيد في المناظرات المعاصرة على الخصائص التكوينية للخطاب. فلننظر في مثال ما لنرى كيف يمكن تجنب هذا المزلق دون مساس بمبدأ الطاقة التكوينية. إن علاقات الآباء بالأطفال في الأسرة، وتحديد المواقع التي تشغلها «الأم» و«الأب» و«الطفل» أمور متاحة اجتماعيا، إلى جانب وضع أفراد حقيقيين في هذه المواقع، وطبيعة الأسرة، والبيت، فهذه جميعا تتكون في جانب منها داخل الخطاب، باعتبارها نتائج تراكمية (ومتناقضة في الواقع) لعمليات الحديث والكتابة المركبة والمنوعة. وقد يؤدي هذا إلى استنتاج مثالي يقول: إن حقائق العالم الاجتماعي، مثل الأسرة، لا تنبع إلا من رءوس الناس، ولكن لدينا شروطا ثلاثة تساعد مجتمعة على عدم إقرار ذلك. الأول: أن الناس دائما ما تواجه الأسرة باعتبارها مؤسسة حقيقية (ولها عدد محدود من الأشكال المغايرة) ولها ممارسات عملية، وعلاقات وهويات قائمة كانت قد تكونت من قبل في الخطاب ثم تشيأت فتحولت إلى مؤسسات وممارسات. والثاني: أن الآثار «التكوينية» للخطاب تعمل بالتضافر مع قريناتها في الممارسات الأخرى، مثل توزيع المهام المنزلية، والملابس، والجوانب العاطفية للسلوك (مثل: من الذي ينفعل). والثالث: أن العمل التكويني للخطاب يحدث بالضرورة داخل قيود التحديد الجدلي للخطاب وهي التي تفرضها المباني الاجتماعية (وهي تتضمن في هذه الحال حقيقة المباني الأسرية ولكنها تتجاوزها) وكذلك، على نحو ما سوف أقيم عليه الحجة أدناه، داخل إطار معين لعلاقات السلطة وصراعاتها، وهكذا فإن التكوين الخطابي للمجتمع لا ينبثق من النشاط الطليق للأفكار داخل رءوس الناس بل من ممارسة اجتماعية ذات جذور راسخة، وتوجه نحو المباني الاجتماعية المادية الحقيقية.
ويعتبر المنظور الجدلي تصحيحا لازما للمغالاة في تأكيد خضوع الخطاب لسيطرة المباني، سواء كانت مباني خطابية، (شفرات وأعراف ومعايير)، أو مباني غير خطابية. ومن هذه الزاوية نجد أن قدرة مصطلح «الخطاب» على الإشارة إلى أبنية الأعراف التي تستند إليها الأحداث الخطابية الفعلية، وكذلك إلى هذه الأحداث نفسها، تعتبر غموضا موفقا، حتى ولو كان يمكن اعتباره، من زوايا أخرى، سببا في التشويش. فالبنيوية (التي يمثلها مدخل بيشوه الموصوف في الفصل الأول أعلاه مثلا) تتناول الممارسة الخطابية والحادثة الخطابية باعتبارهما مجرد نماذج للمباني الخطابية، وهي التي تصور في صور ثابتة ذات طابع موحد. والبنيوية تنظر إلى الممارسة الخطابية من حيث كونها نموذجا للعلية الآلية (ومن ثم التشاؤمية). وأما المنظور الجدلي فيرى الممارسة والحادثة باعتبارهما متناقضتين ومشتبكتين في صراع، ويرى أن لهما علاقة مركبة متغيرة بالمباني التي لا تكشف في نفسها إلا عن ثبات مؤقت وجزئي ومتناقض.
والممارسة الاجتماعية ذات توجهات شتى - اقتصادية وسياسية وثقافية وأيديولوجية - وقد يشارك الخطاب في هذه جميعا، من دون اختزال أي منها، واعتبارها خطابا وحسب. فعلى سبيل المثال يمكن أن يقال: إن الخطاب شكل من أشكال الممارسة الاقتصادية بعدد من الطرق؛ إذ يظهر الخطاب بنسب متفاوتة باعتباره من مقومات ممارسة اقتصادية ذات طبيعة غير خطابية أساسا، مثل بناء الجسور أو إنتاج الغسالات؛ كما توجد أشكال من الممارسة الاقتصادية ذات طبيعة خطابية أساسية، مثل سوق الأوراق المالية، أو الصحافة، أو كتابة مسلسلات تليفزيونية، أضف إلى ذلك أن النظام الاجتماعي اللغوي لمجتمع من المجتمعات قد يتخذ بناؤه صورة السوق، جزئيا على الأقل؛ حيث يجري إنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها مثل السلع (في «صناعات الثقافة»، بورديو، 1982م).
अज्ञात पृष्ठ