وَالْإِسْلَام هِدَايَة روحية، وسياسة اجتماعية مَدَنِيَّة، أكمل الله بِهِ دين الْأَنْبِيَاء، وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ نظام الِاجْتِمَاع البشري من سسن الارتقاء، فَأَما الْهِدَايَة الدِّينِيَّة الْمَحْضَة فقد جَاءَ بهَا تَامَّة أصلا وفرعا، وفرضا ونفلا، إِذْ مدارها على نُصُوص الْوَحْي، وَبَيَان الرَّسُول ﷺ لَهَا بالْقَوْل وَالْفِعْل، وَلما طَرَأَ الضعْف على الْمُسلمين جهلوا هَذَا الأَصْل، فغلا بَعضهم فِي الدّين، فَزَاد فِي أَحْكَام الْعِبَادَات والمحرمات الدِّينِيَّة، والمواسم والأحزاب والأوراد الصُّوفِيَّة، مَا ألفت فِيهِ المجلدات، ويستغرق الْعَمَل بِهِ جَمِيع الْأَوْقَات، ويستلزم جعله من الدّين نُقْصَان دين الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِذْ لم يكن لديهم شَيْء مِنْهُ، وَلَو اشتغلوا بِمثلِهِ لما وجدوا وقتا لفتح الْبِلَاد، وَإِصْلَاح أُمُور الْعباد. . وَأما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الْإِسْلَام أساسها وقواعدها، وَشرع للْأمة الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِيهَا، لِأَنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان وترتقي بارتقاء الْعمرَان وفنون الْعرْفَان، وَمن قَوَاعِده فِيهَا أَن سلطة الْأمة لَهَا، وأمرها شُورَى بَينهَا، وَأَن حكومتها ضرب من الجمهورية، وَخَلِيفَة الرَّسُول فِيهَا لَا يمتاز فِي أَحْكَامهَا على أَضْعَف أَفْرَاد الرّعية، وَإِنَّمَا هُوَ منفذ لحكم الشَّرْع ورأي الْأمة، وَأَنَّهَا حافظة للدّين ومصالح الدُّنْيَا، وجامعة بَين الْفَضَائِل الأدبية، وَالْمَنَافِع المادية، وممهدة لتعميم الْأُخوة الإنسانية، بتوحيد مقومات الْأُمَم الصورية والمعنوية. . وَلما طَرَأَ الضعْف على الْمُسلمين قصروا فِي إِقَامَة الْقَوَاعِد وَالْعَمَل بالأصول، وَلَو أقاموها لوضعوا لكل عصر مَا يَلِيق بِهِ من النّظم وَالْفُرُوع. .
ظَهرت مَدَنِيَّة الْإِسْلَام مشرقة من أفق هِدَايَة الْقُرْآن، مَبْنِيَّة على أساس البدء بإصلاح الْإِنْسَان، ليَكُون هُوَ المصلح لأمور الْكَوْن وشئون الِاجْتِمَاع، فَكَانَ جلّ إصْلَاح الْخُلَفَاء الرَّاشِدين إِقَامَة الْحق وَالْعدْل، والمساواة بَين النَّاس فِي الْقسْط، وَنشر الْفَضَائِل وقمع الرذائل، وَإِبْطَال مَا أرهق الْبشر من استبداد الْمُلُوك والأمراء، وسيطرة الكهنة ورؤساء الدّين على الْعُقُول والأرواح، فبلغوا بذلك حدا من الْكَمَال، لم يعرف لَهُ نَظِير فِي تَارِيخ الْأُمَم والأجيال، واستتبع ذَلِك مَدَنِيَّة سريعة السّير، جَامِعَة بَين الدّين والفضيلة، وَبَين التَّمَتُّع بالطيبات والزينة، ارتقت فِيهَا الْعُلُوم والفنون بِسُرْعَة غَرِيبَة، حَتَّى قَالَ الفيلسوف المؤرخ موسيو غوستاف لوبون فِي كِتَابه (تطور الْأُمَم): إِن ملكة الْفُنُون لم تستحكم لأمة من الْأُمَم فِيمَا دون الثَّلَاثَة أجيال الطبيعية إِلَّا للْعَرَب، وَيَعْنِي بِالثَّلَاثَةِ أجيال: الجيل الْمُقَلّد، والجيل المخضرم، والجيل المستقل. .
1 / 9