وأصبح كل ما حولها يؤكد لها ذلك، المرآة أصبحت تعكس لها صورتها الجديدة، العينان السوداوان اللامعتان، الجسم الممشوق الملفوف، البشرة الصافية السمراء، الشعر الناعم الأسود، والحسنة تحت الحاجب الأيسر، وصوت «نون» من حولها في كل وقت وكل لحظة يناديها «عين الحياة»، وعيناها الخضراوان تحوطانها بإلحاح وإصرار «عين الحياة».
ولم يعد في حياتها شيء آخر، ربما كان هناك ذلك «الكائن»، ولكنه كان كما كان دائما مجرد «كائن» لا تعرف فصيلته أو جنسه، وفي كل ليلة يصفر الصدر المطبق بالسعال الممطوط، وتمتد إلى جسمها الكف الطرية الثقيلة المبللة بالعرق والتي لا تعرف أهي يد أم قدم، وفي كل صباح تستطيع أن تدخل القدم المرتخية المرتعشة في الحذاء بعد عدة رفسات ولعنات.
كان كما كان دائما بغير تغير أو تبديل، كأنما هو ظاهرة طبيعية ثابتة في الكون أو شخصية مرسومة في مسرحية تتكرر كل يوم، فالسعال لا يزيد ولا ينقص، والكف أو القدم لا تخف ولا تجف، والقدم المرتعشة لا تسرع ولا تبطئ، كل ما فيه باق كما هو ككتلة من الطين، وهل يمكن لكتلة من الطين أن تحس ما يحدث حولها من تغيير؟ هل يمكن أن تدرك أن السماء أصبحت زرقاء بسحب أو بغير سحب؟ هل يمكن أن تفرق كثيرا بين تلك المرأة الواقفة أمامها أهي «سين» أم «شين» أم «عين» أم عين الحياة؟
استردت «نون» صديقتها «عين الحياة»، وكانت «نون» امرأة خبيرة بالحياة، ليست الحياة العادية حيث يتزوج الرجال من النساء ويولد الأبناء من الآباء ويسود النظام بالأوراق والشهادات، لم تكن «نون» تعرف هذا النوع من الحياة، فهي لم تتزوج ولم تنجب ولم ينجبها أحد ولم تمسك بين يديها ورقة أو شهادة أو حتى شهادة ميلاد.
كيف ولدت؟ إنها لا تدري ولا أحد يدري، ربما جاءت من امرأة مجهولة ولدتها ثم ماتت، ربما خرجت من بطن الأرض كالدود، ربما تشكلت في الطبيعة صدفة من تطور كائن حي، لا أحد يعرف أصلها ولا فصلها لكنها وجدت، فتحت عينيها ذات صباح فوجدت جسدها موجودا.
لو وجدت في مكان آخر ربما لم يكن في إمكانها أن تعرف ما الذي يمكن أن تصنعه بجسدها، وربما ظلت تتجول في الحقول كحيوان ضال، تلتقط الحشائش حتى تموت وتنتهي، لكنها وجدت في ذلك المكان الغريب، لم يكن غريبا جدا وربما كان مكانا مألوفا لكنه بدا كالغريب، فهو ضيق ومزدحم، تتساند فوقه البيوت الصغيرة الكثيرة وتلتصق بعضها بالبعض في كتلة واحدة، لم تكن هناك شوارع وإنما ممرات طويلة ملتوية وضيقة، لا يكاد الممر الواحد يتسع لجسد إنسان فأصبح المارة يقفون وقد التصق الواحد بالآخر في صفوف رفيعة طويلة تتحرك ببطء شديد جدا، أو لعلها لا تتحرك على الإطلاق.
ولم يكن هذا الالتصاق يحدث شيئا فكل الواقفين رجال، ربما لم يكونوا رجالا تماما، ولكن رءوسهم كانت حليقة وذقونهم وشواربهم طويلة، وصدورهم وسيقانهم يغطيها شعر كثيف، كانوا واقفين في الصفوف ينتظرون دورهم في المرور، وأحيانا حين يبطئ أو يتوقف يجلسون أو يضجعون وقد يغلقون أجفانهم في غفوة أو ربما كانوا ينامون.
لم يكن نومهم عاديا كهذا الذي ينام ويفقد الوعي، وإنما كانوا يحسون بما يدور حولهم كأنهم يقظون، ليست يقظة كاملة يدرك فيها المرء ما يدور حوله لكنها كانت نصف يقظة أو نصف وعي.
ربما كانوا مخمورين أو ذاهلين أو أي شيء آخر، لكن شيئا واحدا لم يكن يغيب عن عيونهم؛ الجسد ... فوق ذلك السطح العالي في نهاية الممر، لم يكن إلا جسدا لكنه كان يلوح لهم وكأنما هو المصب الأخير لكل هذا الممر الطويل، أو أنه الهدف العام لكل هذا التحرك والسعي الحثيث.
لم يكن إلا جسدا، لكنه لم يكن أي جسد، كان جسد امرأة وربما كانت البيوت الكثيرة تكتظ بأجساد النساء، لكنها لم تكن أجساد نساء، كانوا زوجات مستعدات بحكم القانون، يتزوج الرجل الأولى والثانية والثالثة والرابعة فلا يزداد إلا حرمانا، وإنما تلك الحالة المستمرة من الجوع والشبق الدائم لكل بعيد وممنوع.
अज्ञात पृष्ठ