لكن «عين» لم تكن تكف عن المحاولة، فتبتعد عن أمها قليلا ثم ما تلبث أن تعود وتكرر إصرارها وعنادها، وكانت أمها ترفسها أكثر فإذا بها تتشبث أكثر ولا تتركها حتى ترفعها إلى فوق وتنظر داخل الحلة .
ولم يكن هناك شيء يذكر إلا دخانا كثيفا يتصاعد وسخونة شديدة تلهب وجهها، لكنها كانت تصر في كل مرة على أن تصعد لمجرد أن تصعد، وحينما تصل إلى تلك اللحظة التي تستسلم فيها أمها وترفعها إلى فوق بعد أن تكون قد استنفدت كل رفساتها ولعناتها، وتكون هي أيضا استنفدت كل طاقاتها في التشبث والإصرار؛ تتبدد رغبتها الأولى في معرفة مصدر الدخان لتحل بها رغبة أخرى أشد، أن تنتصر على أمها، لم تكن تعرف بعد ما معنى أن تنتصر، لكنها كانت ترى ملامح أمها حين تتهدل في يأس وتمتد ذراعاها الطويلتان فتحملانها إلى فوق، وحينما تستقر بجسمها الصغير المبلل بالدموع والعرق فوق صدرها العريض، ترتخي عضلاتها في لذة عنيفة تبدو في عنقها كأنما هي هدفها الحقيقي الوحيد، فتدفن رأسها الصغير في صدر أمها، ولا تعود ترغب في النظر داخل الحلة.
لكنها ليست إلا لحظة سرعان ما تنتهي وتعود «عين» إلى الأرض؛ لتزحف على يديها وقدميها باحثة عن شيء تمسكه، ويبدو لها الصنبور كعصفور صغير له رأس وذنب، وتمتد أصابعها الصغيرة الرفيعة لتلتف حول العنق فإذا بشريط من الماء يندفع فجأة من الثقب، ربما لو كانت طفلة أخرى لضحكت في تلك اللحظة أو صرخت من الضحك، لكن «عين» كانت تستطيع أن تضع يديها تحت الماء وتبلل ذراعيها وساقيها، وحينما تستشعر لذة الماء البارد فوق جسدها تضع رأسها أيضا لتبلل شعرها وعنقها.
وكانت أمها تعرف حين يسود الصمت من حولها أن «عين» معتكفة تقترف إثما، ربما هي تعبث في ركن الأواني والحلل، أو هي قد زحفت إلى القناة القذرة لتعجن الطين وتصنع الكور، أو هي فتحت الصنبور وأفرغت كل ماء القلل.
وسرعان ما يقع بصر أمها عليها، مبللة من رأسها لقدمها وقد التصق شعرها والتصقت ملابسها بجسمها وعامت قدماها في بركة من الماء والطين، وكان من الممكن في تلك اللحظة أن تعرف «عين» الخوف، لكنها كانت قد عرفته من قبل أن تولد، وعرفت كيف تستطيع في لحظة الخطر أن تقهر الخوف، وتدربت خلاياها على أن توقف الألم وتسد الجرح، فإذا ما ضربتها أمها أو قرصتها سرعان ما تبتلع الدموع وتضع لسانها فوق القرصة فتبرد.
وتشد أمها ملابسها المبللة القذرة لتخلعها عن جسمها كما يسلخ الأرنب، وإذا ما التوى ذراعها الصغير في الكم الضيق زمت شفتيها دون أن تصرخ، حين يشتد غضب أمها إلى هذا الحد فهي تعرف كيف تسكت وكيف تترك دموعها تنساب وحدها فوق خديها الناعمتين الصغيرتين، لم تكن دموع ألم تحسه فقد تدربت على أن تبتلع الألم جافا بغير دموع، لكنها الدموع الصامتة تصحبها تلك النظرة التعيسة التي تجعل ملامح أمها ترتخي في هدوء يشبه الغبطة، وتبدأ لمساتها تلين ونظراتها تقل حدة، وقد تقترب منها وتطبع على خدها قبلة سريعة، تود لو بقيت أكثر، لكن شفتي أمها سرعان ما تتقلصان مبتعدتين، كأنما تقاومان رغبة عنيفة.
ولأول مرة تتلقى عين من أمها قبلة، إذا كان من الممكن أن تسمى قبلة؛ لأنها لم تكن في الواقع قبلة، وإنما لمسة سريعة ما إن تحدث حتى تنتهي، بل لعلها لم تكن أيضا لمسة؛ لأنه كانت تظل هناك دائما مسافة بين شفتي أمها وخدها، مسافة صغيرة وربما صغيرة جدا كشعرة رفيعة لكنها كانت تكفي دائما لعدم حدوث التلامس.
لم تكن قبلة ولا لمسة لكنها كانت تجعل قلب «عين» يرفرف من تحت ضلوعها الصغيرة الطرية، وتنظر إلى أمها بعينين محبتين وترى لأول مرة هالة سوداء تحت رموشها الندية، وتلقي بنفسها بين ذراعيها وتدفن رأسها في صدرها لتشم اللبن القديم، وتحاول أن تلتقط بشفتيها الحلمة السوداء وتعود تدسها في فمها من جديد لتمص الثدي الهزيل، لكن أمها سرعان ما تشدها بعيدا وتجلسها إلى الطبلية بجوار أخواتها. •••
وكانت الطبلية هي المكان الأول الذي التقت فيه بأفراد أسرتها، كان أبوها يجلس على رأس الطبلية وأمامه صحن كبير، وكانت أمها تجلس إلى جواره وتشاركه الصحن، وتجلس هي وأخواتها الخمس في النصف الآخر من الطبلية وأمامهن جميعا صحن واحد، وحينما يبدأ الأكل يسود الصمت، ويتخلله من حين إلى حين رشفات أبيها أو اصطكاك أسنانه وهو يدغدغ غضروفا أو قطعة عظم، وترفع بصرها إليه ولأول مرة ترى ملامح وجهه، ربما رأتها من قبل مئات المرات لكنها تبدو غير مألوفة، العينان الضيقتان بغير رموش، والجبهة العريضة تتساقط منها حبات العرق، والأنف الغليظ من تحته شارب طويل أسود.
لم تكن تعرف حين تستغرق في النظر إلى وجه أبيها أن خمسين إصبعا صغيرا ورفيعا تمتد داخل الصحن وتلتقط كل ما فيه من أكل، وتدور عيناها الجائعتان على وجوه أخواتها مستكشفتين، فتبدو لها الوجوه الخمسة متشابهة بريئة مستغرقة في الصمت. •••
अज्ञात पृष्ठ