وبيض السريجيات يقطعها لحمي
لا. لا. لن أستطيع الفرار، ولن أستطيع أن أثبت وأدع العالم يموج ويتحرك، ولن أستطيع أن أدع الفلك يدور دون أن يتحدث باسمي ويملأ الأسماع بمحامدي، ولن أطيق أن أرى الأرض تقسم دولها بين منتفخي البطون وأنا واقف أنظر إليهم غرثان ظامئا. كان لي أمل في كافور، وكان لي آمال في فاتك، ولكن هيهات. هيهات. ذهب كل شيء. ولم يبق إلا أن أكتفي من الغاية بما يقرب من الغاية، وإذا فاتني الملك فلن تفوتني المنزلة الرفيعة بين ملوك الأرض، ولن يفوتني أن يعدني الناس ملكا من غير صولجان. أما أن أقبع في داري فليس إلى ذلك من سبيل. ولكن كيف أتقي خطر مطامحي؟ وكيف أتجنب ما تجره مصاحبة كبار الساسة من ويلات؟ يجب أن أحذر. ويجب أن أتعلم من تجاربي. ويجب أن أبتعد قليلا حتى أصون لنفسي كرامتها وعزها، وحتى يطلبني الملوك ولا أطلبهم، وحتى أتخلص من وصمة الشاعر المستجدي الذي يطرق كل باب ويجلس على كل خوان. هذا هو الذي يجب أن يكون، الأمر لله من قبل ومن بعد. ثم أخذته سنة فنام.
وشاع خبر وصول المتنبي إلى الكوفة فتنقل في كل دار، ورف فوق كل سامر، وردده كل لسان، فكانت المرأة تنظر من نافذة دارها وتصيح بجارتها قائلة: أعلمت أن ابن الحسين قد وصل إلى الكوفة بالأمس؟ - لقد أخبرني بذلك أبو محمد فيا له من خبر غريب. إن زوجه كانت من الصابرات حقا، ولعلها اليوم أسعد امرأة بالكوفة. - كانت جدته تتمنى هذا اليوم، فقد كانت وهي على فراش الموت تتلهف للقائه، وتلثم آخر رسالة بعث بها إليها، وكان لسانها يتلعثم بترديد اسمه حتى ماتت.
ودخل طالب مسجد الكوفة في الصباح، وكان يزخر بالعلماء والطلاب فرفع صوته قائلا: أيها الطلاب لقد عاد بالأمس أبو الطيب المتنبي إلى وطنه. فصاح أحدهم: أهلا أهلا بشاعر العرب، إن المتنبي مجد الكوفة ومجد العروبة، لقد كنا بالأمس نتذاكر قوله:
وإني لنجم تهتدي صحبتي به
إذا حال من دون النجوم سحاب
غني عن الأوطان لا يستفزني
إلى بلد سافرت عنه إياب
فقال أحد الشيوخ: لقد أنذرنا أبو الطيب بأنه لن يعود إلى الكوفة. ولكن الله كذب ظنه وعاد المتنبي ليملأ آفاقنا تغريدا.
والتقى في سوق الوراقين الحسن العلوي بحماد الوراق فحياه وسأله: أبلغك وصول أبي الطيب إلى الكوفة بالأمس؟ - بلغني يا سيدي؟ إن الخبر ملأ المدينة، إن صبيان المكاتب يترنمون بأهازيج الترحيب به. - أظنك تعرفه وهو غلام؟ - أعرفه يا سيدي! لقد كان يتردد على دكاني كل يوم، ولكني لم أكسب منه درهما، كان يتناول الكتاب ويجلس على هذه الدكة، فإذا مرت ساعة أو نحوها أعطانيه لأضعه في مكانه، فإذا طلبت منه أن يشتريه. أخبرني بأنه حفظه عن ظهر قلب من الدفة إلى الدفة.
अज्ञात पृष्ठ