وإن تلك الألوان البيضاء المغبرة، والألوان الطينية القاتمة، التي تظهر بها هذه المقابر، ليست من الجمال في شيء، فلا توحي إليك بلغة الألوان والتناسب أن للموت عظة ورهبة وجلالا. •••
لست أريد بما أسلفت أن أرسم لك صورة لتلك المقابر الكريهة، ولا أن أمثل لك الموت في شكله مزدريا مهانا، ولكني ألفتك إلى أن حول تلك القبور كثيرا ما تجد حقولا يانعة بالنبت الغض، وفيها طيور مغردة فرحة، وتجوب في أنحائها حشرات مرحة، وفيها صفحة للحياة واضحة. •••
وهناك في حقل من هذه الحقول الحية، ترى إنسانا حيا يعمل في الأرض، فيستنبت النبت، ويعين الغصن النامي في وجهته إلى النور والسماء، وينعش الزهرة للابتسام، ويتعهد ما يبدو على أديم هذه الأرض من مظاهر الوجود.
وإني لأساءل نفسي عن حال هذا الإنسان؛ بل أسائلها عن قيمة تلك الحياة البشرية التي تكد وتكد حتى وهي قاب قوسين من تلك المقبرة. •••
ليست حياة الإنسان أن يقنع بما يشترك فيه مع آخر الكائنات من غذاء ونمو وسعى وتناسل. لكن الحياة لا تكون حياة إنسانية إلا إذا تيقن الفكر البشري بمنزلته من عالم التفكير.
يقول بسكال: «خطر أن تظهر للمرء أنه شبيه بالأنغام من غير أن تظهر له عظمته، وإنه لخطر كذلك أن تظهر له عظمته من غير أن تظهر له حقارته، وأخطر من هذا وذاك أن تتركه في عماء من عظمته وحقارته. ولكن من المصلحة أن تظهرهما له جميعا.» فهل يعلم هذا الفلاح حقا قيمته من هذا الوجود؟ وهل يعلم حقا نصيبه من عظمة، أو مهانة، وما له في هذه الأرض من مكانة؟ وهل تزج حياته حقا في عداد الحيوات الطيبات؟ وهل يحشر موته حقا في زمرة الموت المستطاب؟
كما أن بعض الموت قد يصير ينبوعا لعيش رغد منير، فإن بعض العيش يكاد يكون موتا مظلما كريها. •••
تعس من يعيش عيشا لا خير فيه، وتعس من يموت موتا لا خير فيه!!
وما أقسى حياة تلوح كأنها الحياة تعمل وتكدح ... ولكن ... قاب قوسين من هذه المقبرة.
طيف زائر
अज्ञात पृष्ठ