ज्ञान का नक्शा
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
शैलियों
شكر وتقدير
تمهيد
1 - الاختفاء الكبير
2 - الإسكندرية
3 - بغداد
4 - قرطبة
5 - طليطلة
6 - ساليرنو
7 - باليرمو
8 - فينيسيا
अज्ञात पृष्ठ
عام 1500 وما بعده
قائمة الصور
ملاحظات
المراجع
شكر وتقدير
تمهيد
1 - الاختفاء الكبير
2 - الإسكندرية
3 - بغداد
4 - قرطبة
अज्ञात पृष्ठ
5 - طليطلة
6 - ساليرنو
7 - باليرمو
8 - فينيسيا
عام 1500 وما بعده
قائمة الصور
ملاحظات
المراجع
خريطة المعرفة
خريطة المعرفة
अज्ञात पृष्ठ
كيف فقد
العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
تأليف
فيوليت مولر
ترجمة
محمد حامد درويش
مراجعة
هاني فتحي سليمان
إلى بناتي؛ نجماتي الثلاث الصغيرات.
شكر وتقدير
अज्ञात पृष्ठ
كان تأليف هذا الكتاب رحلة طويلة وممتعة أعادتني إلى الماضي البعيد وفي كل أرجاء منطقة البحر المتوسط. وقد ساعدني كثير من الناس على طول الطريق وأنا ممتنة لهم امتنانا عظيما على توجيهاتهم ودعمهم. أولا وقبل كل شيء، أتوجه بالشكر إلى وكيلتي، فيليسيتي برايان، التي أثنت على فكرة الكتاب وشجعتني على تعقبها؛ وإلى جورج مورلي على تحريرها البالغ الدقة، وعلى توجيهها لي على نحو جنبني كثيرا من الشراك.
كل ما في هذا الكتاب يدور حول العلماء في العصور القديمة والوسطى، ولكن قدرتي على تتبع رحلاتهم والاحتفاء بإنجازاتهم يعود الفضل كله فيها إلى كوكبة من العلماء والباحثين المعاصرين الذين جعلوا هذه المعلومات متاحة، من خلال بحثهم المفصل وتسجيلاتهم الرائعة للتاريخ. لقد كان كثيرون منهم مصدر إلهام لي، وتلقيت توجيهات من بعضهم. كان الأستاذ تشارلز بيرنت سخيا للغاية فيما منحني من وقته وخبرته التي لا نظير لها، وكانت تعليقاته على إحدى المسودات الأولية ذات قيمة عظيمة، مثلما كان العدد الضخم من الكتب والمقالات التي كتبها خلال مسيرته المهنية المتميزة. لقد جعلني أشعر أنني موضع ترحيب كبير في معهد واربورج وكانت مكتبته الرائعة هي الأساس الذي اعتمدت عليه عندما كنت في لندن خلال العامين الماضيين. وتكرم الأستاذ فيفيان نوتون بأن أطلعني على معرفته الموسوعية عن جالينوس وأجاب عن أسئلتي؛ ويمتد الشكر لعلماء آخرين؛ ديفيد جوست ومشروع بطليموس العربي واللاتيني، وجورج وولف، وإريك كواكل، ويوجين روجان، وجيري ديلا روكا دي كاندال، وكريستينا دوندي في المشروع الرائع الذي يحمل اسم «مشروع تجارة الكتب في القرن الخامس عشر»، ونسيمة نجاز وباولو ساتشيت على تصحيحاتهما الممتازة، وجويدو جيجليوني على تعليمه الذي لا ينسى للغة اللاتينية، وسابرينا مينوزي على توجيهها لي فيما يتعلق بمكتبة سان مارك الوطنية وفينيسيا في القرن الخامس عشر، وجون جوليوس نورويتش على تفضله بقراءة فصلي الخاص بصقلية. وأي أخطاء ارتكبتها في تأويل عملهم هي في مجملها أخطائي أنا.
لقد زرت كثيرا من المكتبات والمتاحف أثناء تأليفي هذا الكتاب وأنا ممتنة لكل الأشخاص الذين ساعدوني في تلمس طريقي في أنحائها؛ ماريا لوز كوميندادور بيريز في مكتبة مدرسة طليطلة للمترجمين، ولي ماكدونالد الذي أطلعني على المجموعة الجميلة للأسطرلابات في متحف تاريخ العلوم في أكسفورد، وإليزابيتا شارا في مكتبة سان مارك الوطنية، ود. كارين ليمبر هيرتس في المكتبة البريطانية، والموظفين الذين كانوا عونا لي في مكتبة واربورج، ولكن في المقام الأول أتوجه بالشكر إلى جميع العاملين في مكتبة بودلي، وبخاصة بروس باركر بنفيلد، وكولن هاريس، ونيكولا أوتول، وإرنيستو جوميز لوزانو، وآلان براون، وستيفن هيبرون، ومايكل أثانسون.
لقد منحني نيلي جائزة من مؤسسة جيروود والجمعية الملكية للأدب ببريطانيا في مرحلة مبكرة من مشروعي دفعة هائلة، نفسيا وماديا؛ وأنا ممتنة للغاية لكلتا المؤسستين ولمولي روزنبرج، مديرة الجمعية الملكية للأدب على نصائحها الثمينة.
وأنا ممتنة جدا لأسرتي وأصدقائي على دعمهم غير المنقطع، وصبرهم وقدرتهم على إظهار اهتمام متواصل بالكتاب خلال مراحله المختلفة، عاما بعد عام. وأتوجه بشكر خاص إلى ساشا وآدم لحثهما إياي على مواصلة العمل فيه، وليفي وجيني على تمكيني من متابعة العمل فيه، وجيه جي على كونه مساعدا بحثيا ممتازا وأحيانا حاملا لحقيبتي، وأشكر أيضا دوتي، وكاثرين نيكسي، وروب وتشارلوت، وكاميرون، وألكسندرا، وجوانا كافينا، وتوماس موريس، ولوسي، وجوني، وجينيفيف ولورا، الذين كانوا مصدر إلهام لي وشجعوني طوال الطريق. وأتوجه بالشكر إلى والدي على مشاركتهما لي حبهما التاريخ. وأشكر بناتي على تحملهن لأم غائبة أحيانا، وشاردة الذهن غالبا.
ولكن في المقام الأول أشكر ميكيل، على كل شيء.
تمهيد
في مطلع عام 1509، بدأ الفنان الشاب رافاييللو سانزيو (1483-1520) يرسم مجموعة من الرسوم الجصية (الفريسكو) على جدران مكتبة البابا يوليوس الثاني الخاصة، في عمق الفاتيكان. في الجوار، في كنيسة سيستينا، استلقى منافس رافاييل الكبير، مايكل آنجلو، على ظهره فوق سقالة ضخمة، على ارتفاع مئات الأقدام في الهواء؛ ليرسم على السقف صورة هائلة للرب وهو يهب الحياة لآدم. كان عصر النهضة قد بلغ أوجه في روما، وتحت رعاية البابا يوليوس، كانت المدينة العظيمة تستعيد مجد ماضيها الإمبراطوري القديم. أظهرت لوحات الفريسكو التي رسمها رافاييل على الجدران الأربعة لقاعة التوقيع «ستانزا ديلا سنياتورا» الفئات الأربع للكتب التي كانت موضوعة على الأرفف أسفلها، وهذه الفئات هي علم اللاهوت والفلسفة والقانون والشعر. في لوحة الفريسكو الخاصة بالفلسفة، التي نطلق عليها الآن «مدرسة أثينا»،
1
رسم رافاييل ثلاث أقواس ضخمة مقببة تنحسر مبتعدة، وتمثالي الإلهين الرومانيين منيرفا وأبوللو على الجانبين ودرجا عريضا من الرخام يقود نزولا إلى أرضية مبلطة ببلاط يتخذ شكلا هندسيا.
अज्ञात पृष्ठ
2
وبالقطع فإن التصميم المعماري روماني؛ فهو يتسم بالجرأة والمهابة والضخامة، ولكن الثقافة والأفكار التي جسدتها الشخصيات الثماني والخمسون التي تجمعت بعناية في أنحاء اللوحة هي، بلا شك وبدون استثناء تقريبا، يونانية؛ فهي احتفاء بإعادة اكتشاف الأفكار القديمة التي كانت محورية لدى الأوساط الفكرية في روما خلال القرن السادس عشر. وقف أفلاطون وأرسطو في المركز تماما، تحت قوس ضخمة، وفي الخلفية السماء الزرقاء، التي يشير أفلاطون إليها رافعا سبابته إلى أعلى، بينما تتجه حركة يد أرسطو نحو الأرض أسفل منه، وهو ما يجسد بإتقان نزعتيهما الفلسفيتين؛ انشغال الأول بالمثالية والقداسة، وإصرار الثاني على فهم العالم المادي من حوله. ويعرض بتفاخر النطاق الكامل للفلسفة القديمة، كما ورثتها النزعة الإنسانية الإيطالية، بلون متألق.
لا أحد يعرف بالضبط هوية كل الشخصيات الأخرى المصورة في لوحة الفريسكو، واستحوذت المجادلات حول هويات تلك الشخصيات على اهتمام الباحثين لقرون. يتفق معظم الناس على أن الرجل الأصلع في مقدمة اللوحة جهة اليمين، المنشغل بإثبات نظرية هندسية بفرجار، هو إقليدس،
3
أما الرجل الذي بجواره والذي يضع تاجا، ويحمل كرة أرضية، فهو بطليموس دون شك ، وكان في ذلك الوقت مشهورا بمؤلفاته في الجغرافيا أكثر من الفلك.
4
عاشت كل الشخصيات التي حددت هويتها في العالم القديم، قبل أن يبدأ رافاييل في رسم لوحة الفريسكو بألف عام على الأقل؛ عدا شخصية واحدة. إلى يسار اللوحة، رجل يرتدي عمامة يميل فوق كتف فيثاغورس ليرى ما يكتبه. إنه العالم المسلم ابن رشد (1126-1198)؛ الشخصية الوحيدة التي أمكن التعرف عليها لتمثل الألف عام الواقعة بين آخر فلاسفة الإغريق القدماء وزمن رافاييل، كما أنه الشخصية الوحيدة التي تمثل تقليد المعرفة العربية الحيوي المفعم بالنشاط الذي ازدهر في هذه الفترة. هؤلاء الباحثون الذين تباينت معتقداتهم وأصولهم، ولكن جمع بينهم تدوينهم باللغة العربية، أبقوا على جذوة علوم الإغريق متقدة، مازجين إياها بتقاليد أخرى ومعدلين لها بعملهم الدءوب وعبقريتهم؛ فكفلوا بقاءها ونقلها عبر القرون إلى عصر النهضة.
لقد درست حضارة الإغريق والرومان القديمة والتاريخ طوال الوقت الذي أمضيته في المدرسة والجامعة، ولكني لم أتعلم في أي مرحلة شيئا عن تأثير العالم العربي في العصور الوسطى، أو في أي حضارة خارجية في واقع الأمر، على الثقافة الأوروبية. فبدا وكأن السرد المتعلق بتاريخ العلم قد سار على هذا النسق: «عاش الإغريق، ومن بعدهم الرومان، ثم كان عصر النهضة.» متجاهلا بكل بساطة الألف السنة التي تفصل بين العصر الكلاسيكي وعصر النهضة. عرفت من مقررات تاريخ العصور الوسطى أنه لم يكن ثمة قدر كبير من المعرفة العلمية في أوروبا الغربية في تلك الحقبة، وبدأت أتساءل عما حدث للكتب الآتية من العالم القديم التي تتناول الرياضيات وعلم الفلك والطب. كيف استطاعت أن تصمد؟ من الذي أعاد نسخها وترجمها؟ أين كانت الملاذات الآمنة التي كفلت الحفاظ عليها؟
عندما كنت في الحادية والعشرين من عمري، سافرت أنا وصديقة لي من إنجلترا إلى صقلية بسيارتها الفولفو القديمة. كنا نجري بحثا عن المعابد اليونانية الرومانية من أجل أطروحتينا للسنة الثالثة. كانت مغامرة رائعة. ضللنا الطريق في نابولي، وكان الجو حارا في روما، وأوقفنا رجال الشرطة وطلبوا مواعدتنا، ووقفنا مشدوهتين في بومبي وأكلنا كرات لبنية من الموتزاريلا المصنوعة من لبن جاموسي في بيستوم، وأخيرا، وبعد أسابيع على الطريق ورحلة عبارة قصيرة عبر مضيق مسينة، وصلنا إلى صقلية. شعرنا على الفور باختلاف المدينة عن بقية إيطاليا؛ إذ كانت ذات جاذبية غريبة، ومعقدة، تستحوذ على الاهتمام. أحاطت بنا طبقات تاريخها؛ إذ كانت العلامات التي خلفتها حضارات متعاقبة باهرة، مثل طبقات على سطح صخري. في كاتدرائية سرقسطة، رأينا أعمدة معبد أثينا اليوناني الأصلي، الذي بني في القرن الخامس قبل الميلاد، لا تزال قائمة بعد 2500 سنة من نصبها. وعرفنا كيف أن الكاتدرائية كانت قد حولت إلى مسجد في عام 878، عندما كانت المدينة تحت سيطرة المسلمين، وكيف صارت كنيسة مسيحية مجددا بعد قرنين من الزمان، عندما أخذ النورمانديون زمام السلطة. كان من الواضح أن صقلية كانت تمثل نقطة التقاء للثقافات على مدى مئات السنين، مكانا كان يحدث فيه تبادل وتبدل للأفكار، والتقاليد والكلمات، حيث كانت العوالم تتصادم. كان محور تركيز رحلتنا هو العلاقة بين دين الإغريق والرومان والعمارة، ولكن إسهامات الثقافات اللاحقة؛ البيزنطية، والإسلامية، والنورماندية، كانت بارزة. وبدأت أتساءل بشأن الأماكن الأخرى التي لعبت دورا مماثلا في تاريخ الأفكار، والكيفية التي تطورت بها تلك الأماكن.
عاودت هذه الأسئلة الظهور على السطح عندما كنت أجري أبحاثي لنيل درجة الدكتوراه عن المعرفة الفكرية في إنجلترا أوائل العصر الحديث، بمنظور مكتبة د. جون دي (الرجل الذي وصفته إليزابيث الأولى بالفيلسوف). كان دي، ذو الشخصية الغريبة والآسرة، رفيقي الدائم لعدة أعوام؛ فقد أخذني في رحلة لا تنسى عبر العالم الفكري لأواخر القرن السادس عشر. أثناء مسيرته المهنية الاستثنائية، جمع أول مجموعة عالمية حقا من الكتب في إنجلترا، وعاون في التخطيط لرحلات استكشافية للعالم الجديد، وأدخل مفهوم الإمبراطورية البريطانية، وأصلح التقويم، وبحث عن حجر الفلاسفة، وحاول أن يستحضر الملائكة وسافر - وبصحبته زوجته وخدمه، والعديد من أطفاله ومئات من الكتب - إلى كل أنحاء أوروبا. كذلك تناول باستفاضة في كتبه مجموعة كبيرة من الموضوعات شملت التاريخ والرياضيات والتنجيم والملاحة والخيمياء والسحر. وكان أحد أهم إنجازاته المساعدة على إعداد أول ترجمة إنجليزية لأطروحة إقليدس، «العناصر»، سنة 1570. ولكن أين كان هذا النص قبلئذ ومن الذي كان يعتني به خلال مدة 2000 سنة بين تدوين إقليدس له في الإسكندرية ونشر دي له في لندن؟ بينما كنت أدرس الفهرس الذي صنعه دي لمكتبته في عام 1583، لاحظت أن عددا كبيرا جدا من كتبه، وخاصة تلك التي تطرقت إلى الموضوعات العلمية، كتبت على يد علماء عرب. وشكل هذا توافقا مع الأشياء التي كنت قد رأيتها في صقلية وأعطاني فكرة عما كان يجري في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، مما بسط رؤيتي للتاريخ وجعلها تتجاوز النهج الغربي التقليدي. بدأت أدرك أن تاريخ الأفكار ليس محصورا بحدود الثقافة أو الدين أو السياسة، وأن ثمة ضرورة لمقاربة أبعد مدى؛ من أجل إدراك الأمر إدراكا كاملا.
अज्ञात पृष्ठ
ظلت هذه الأفكار في ثنايا عقلي، آخذة في التبلور تدريجيا على شكل خطة لكتاب من شأنه أن يتتبع الأفكار العلمية القديمة في رحلتها عبر العصور الوسطى. ولأنه موضوع ضخم، قررت أن أركز على بضعة نصوص محددة وأرصد تقدمها وهي تمر عبر مراكز المعرفة الرئيسية. وبفضل تركيزي على تاريخ العلم، وبتحديد أكثر «العلوم الدقيقة»، تحددت بوضوح معالم ثلاثة موضوعات هي الرياضيات وعلم الفلك والطب.
5
وفي إطارها، برز ثلاثة عباقرة: في الرياضيات إقليدس، وفي الفلك بطليموس، وفي الطب جالينوس. كتب كل من إقليدس وبطليموس استعراضين شاملين لموضوعيهما، أطروحة «العناصر» وكتاب «المجسطي»، إلا أن جالينوس كان مسألة أكثر تعقيدا؛ إذ كتب مئات من النصوص؛ لذا قررت أن أركز على تلك التي شكلت المنهج التعليمي في الإسكندرية، بالإضافة إلى الدوائر العامة المتعلقة بالتشريح والصيدلة. حدد هؤلاء الرجال الثلاثة البارزون جميعهم هيكل الموضوعات الخاصة بهم ومحتواها، وصنعوا إطارا يمكن للعلماء المستقبليين أن يعملوا فيه لمئات السنين. ومنذ ذلك الحين رفض العديد من نظريات بطليموس وجالينوس واستعيض عنها بأخرى، ولكن لا جدال في تأثيرهما وإرثهما. فما زالت نظرية جالينوس عن الأخلاط باقية في الطب التبتي التقليدي وكذلك في الطب التكميلي الحديث. وظلت دراسة بطليموس عن النجوم الثابتة باقية ، وكذلك «فكرته القائلة إن العالم المادي موثوق ويمكن فهمه بواسطة الرياضيات.»
1
على النقيض، صمدت أطروحة «العناصر» لإقليدس أمام اختبار الزمن، بكاملها تقريبا؛ فكانت تدرس في قاعات الدرس في القرن العشرين، وبقيت النظريات الهندسية التي احتوت عليها صحيحة ومناسبة بالقدر نفسه الذي كانت عليه في القرن الرابع قبل الميلاد. وينطبق الأمر نفسه على طريقة إقليدس في البرهنة، التي تستخدم مصطلحات تقنية موجزة، وافتراضات وبراهين (رسوما بيانية)، ظلت نموذجا للكتابة العلمية منذ ذلك الحين. لقد اضطلع إقليدس وجالينوس وبطليموس بدور ريادي في ممارسة العلوم اعتمادا على الملاحظة والتجريب والدقة والصرامة الفكرية والتواصل الواضح؛ أحجار الزاوية لما يعرف باسم «الطريقة العلمية».
عندما بدأت البحث بجدية، فوجئت بقدر التنظيم الذي تكشفت به القصة أمامي. كان عام 500 نقطة انطلاق واضحة؛ إذ كانت فيه التقاليد الفكرية القديمة آخذة في التطور نحو التقاليد السائدة في العصور الوسطى، حينما كان البحث العلمي على وشك دخول حقبة جديدة. يتمحور كل فصل من الفصول التالية حول مدينة مختلفة، عائدين أدراجنا أولا إلى الإسكندرية لنرى الوقت الذي كتبت فيه النصوص والكيفية التي كتبت بها. من هنا، تناثرت تلك النصوص عبر شرق البحر المتوسط وصولا إلى سوريا والقسطنطينية، حيث بقيت هناك حتى القرن التاسع، عندما بدأ الباحثون من مدينة بغداد التي كانت حينها حديثة العهد، وكانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية الشاسعة، يسعون إلى الحصول عليها ليترجموها إلى العربية ويستخدمون الأفكار التي احتوتها أساسا لاكتشافاتهم العلمية. كانت بغداد أول مركز حقيقي للمعرفة منذ العصور القديمة، وبمرور الوقت ألهمت مدنا في أنحاء العالم العربي لكي تبني مكتبات وتمول العلم. كانت قرطبة، التي تقع في جنوب إسبانيا، هي أهم هذه المدن، وكان يحكمها الأمويون، الذين درست تحت رعايتهم أعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس وفيها نوقشت أفكارهم وحسنت على يد أجيال من العلماء. ومن قرطبة، أخذت هذه النصوص إلى مدن أخرى في إسبانيا، وعندما بدأ المسيحيون في إعادة احتلال شبه الجزيرة الإيبيرية، أصبحت طليطلة مركزا مهما للترجمة والمكان الذي دخلت منه تلك النصوص إلى العالم اللاتيني المسيحي.
كان هذا هو الطريق الرئيسي الذي سلكته النصوص، ولكن كانت توجد أماكن أخرى في العصور الوسطى تلاقت فيها الثقافات الإغريقية والعربية والغربية. كانت ساليرنو، الواقعة في جنوب إيطاليا، مكانا تؤخذ فيه النصوص الطبية (باللغة العربية، وإن كانت مستمدة بالأساس من جالينوس) من شمال أفريقيا وتترجم إلى اللاتينية؛ ونتيجة لذلك، أصبحت ساليرنو، مركز الدراسات الطبية الأوروبية لقرون، لاعبة دورا حيويا في نشر الطب. وبعد ذلك، في باليرمو، تحول الاهتمام من جالينوس إلى بطليموس وإقليدس؛ إذ ترجم العلماء نسخا من «العناصر» و«المجسطي» مباشرة من الإغريقية إلى اللاتينية، متجاوزين النسخ العربية أملا في تحقيق دقة أكبر. اجتمعت المسارات الثلاثة المتفرقة في مدينة البندقية، حيث بدأت المخطوطات تصل في النصف الأخير من القرن الخامس عشر، لتصبح للمرة الأولى جاهزة للطباعة.
بالطبع كان بمقدوري إدراج مدن أخرى، ولكن الالتزام بتلك المدن التي درست وترجمت فيها نصوص بدا أفضل سبيل كي لا أضل الطريق في هذه القصة الهائلة. وقد طرح اختيارها بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام حول الأشياء التي تشكل مركزا للمعرفة. كانت القسطنطينية مستودعا رئيسيا للنصوص القديمة، ولكن ذلك العلم لم يدرس في أي مكان بأي درجة من الأصالة أو الدقة. كما أنها لم تكن مكانا حدثت فيه ترجمة (ومن ثم نقل) على أي نطاق من أي نوع، وهي، لهذه الأسباب، تبرز فقط في دور مساعد، بوصفها المكان الذي كان يأتي إليه العلماء والخلفاء عند البحث عن نسخ لأعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس. ربما أخذت المدينة الواقعة على القرن الذهبي مكان الإسكندرية من ناحية السلطة والمكانة، ولكنها كانت ظلا باهتا عندما تعلق الأمر بالمعرفة العلمية؛ فهي مركز للحفاظ على النصوص وليست مركزا للإبداع. كانت طليطلة وساليرنو وباليرمو الأماكن التي احتكت فيها الثقافة العربية بأوروبا المسيحية، ولكن أيضا كان ثمة درجة من التبادل في سوريا أثناء الحملات الصليبية. ومع ذلك، لم أناقش هذا بقدر كبير من التفصيل لأنه ليس ثمة دليل على أن أطروحة «العناصر»، أو كتاب «المجسطي» أو أعمال جالينوس الرئيسية كانت ضمن الكتب التي ترجمت هناك .
وبينما كان السرد الأساسي لهذه القصة يسهل اقتفاؤه، فإن إيجاد سبيل خلال تاريخ المخطوطات الكثيف المتشابك لم يكن كذلك. ولأن تلك النصوص كانت بالغة الأهمية، فقد أنتجت نسخ عديدة من كل نص؛ وعادة ما كان استنتاج صلة بعضها ببعض والتوصل إلى طريق واضح خلالها أمرا يمثل تحديا. وحتى ظهور آلة الطباعة، كان كل نص ينسخ باليد. لذا كان كل نص منها مختلفا عن الآخر، بخصائصه وأخطائه. إن دراسة التقاليد النصية المعقدة فرع من المعرفة مستقل بذاته تماما في التاريخ، وهو ليس فرعا يمكنني أن أزعم الخبرة فيه. وحتى أظل ملتزمة بالسرد، كان لزاما علي أن أكون انتقائية وأصنع صيغا مبسطة من سجلات المخطوطات الثرية لهذه الكتب العظيمة.
لطالما كان تاريخ الأفكار بالنسبة لي بمنزلة الجانب الأروع في ماضينا. فاكتشاف الطريقة التي تعاطى بها الناس مع الأسئلة الجوهرية حول كوكبنا والكون، وكيف نقلوا نظرياتهم إلى الأجيال اللاحقة ووسعوا نطاق المعارف الفكرية؛ لهو أمر مثير للغاية. إن قدرا كبيرا من هذا النوع من التاريخ محجوب في كتب زاخرة بالمعرفة على أرفف المكتبات البحثية، ولكن لا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو. وبإلقاء نظرة واسعة والكتابة عن الشخصيات والقصص، بدلا من التركيز على المحتوى العلمي والتفصيلات التاريخية الموجودة في الكتب الأكاديمية، من الممكن بث الحياة في تاريخ الأفكار. على سبيل المثال، لا يسع أحدهم فهم نموذج بطليموس للكون دونما معرفة مفصلة بعلم الفلك، إلا أن إدراك أهميته ومتابعة تطوره هو أمر هادف وجذاب. فالقيام بذلك يأخذنا في رحلة نجوب خلالها العصور الوسطى، مع التركيز على أماكن معينة في أوقات معينة كي نكتشف بالضبط كيف ولماذا جرى نقل وتحويل هذه الأفكار العلمية. بهذه الطريقة، تتسع حدود السرد التاريخي التقليدي الغربي عن طريق تسليط ضوء على الإسهام الكبير لكل من العالم الإسلامي وعلماء العصور الوسطى المسيحيين؛ لتكمل المعلومات الناقصة عن الألف السنة الواقعة بين «الرومان» و«عصر النهضة». وجعل هذا من الممكن إدراج نظريات من ثقافات أخرى وقد انصهرت تلك النظريات تدريجيا في الفكر الرياضي والفلكي والطبي بحيث أضحت جزءا منه. أفكار مثل فكرة الأعداد الهندية-العربية وفكرة الترميز الموضعي اللتين وصلتا إلينا من الهند، عبر الإمبراطورية الإسلامية، تستخدمان في كل أنحاء العالم في وقتنا الحالي.
अज्ञात पृष्ठ
عندما تتمهل قليلا وتلقي نظرة على التاريخ من زاوية أوسع، تتضح لك جليا شبكة الارتباطات المعقدة بين الثقافات المختلفة، مانحة إياك رؤية أوسع وأدق وأوضح لتراثنا الفكري.
هوامش (1)
ليست مدرسة بالمعنى الحديث، وإنما دائرة فضفاضة من الأفراد ذوي الاهتمامات الأكاديمية المتشابهة، وكذلك، في هذه الحالة، تقليد دراسي دام لعدة مئات من السنين. (2)
من المحتمل أن يكون برامانتي قد نصح رافاييل بالتصميم المعماري، والذي استخدمه رافاييل ليظهر للبابا يوليوس رؤيته لكاتدرائية القديس بطرس الجديدة. (3)
ومع ذلك فقد قيل أيضا إن هذه الشخصية لأرشميدس. (4)
في عصر النهضة، اعتقد الباحثون خطأ أن كلاوديوس بطليموس عالم الفلك والجغرافي كان من أفراد سلالة البطالمة التي حكمت مصر من عام 305 إلى عام 30ق.م. (5)
في العصور القديمة والوسطى، انضوت الموضوعات العلمية تحت مظلة «الفلسفة الطبيعية»؛ ويقصد بها أي بحث في العالم المادي.
الفصل الأول
الاختفاء الكبير
طرد العلماء اليونانيون من العالم اليوناني فكانت النتيجة أن أسهموا في نشوء العلم العربي. وترجمت لاحقا الكتب العربية إلى اللاتينية والعبرية واللغات الأوروبية الحديثة. وقد سلك العلم اليوناني، أو لنقل معظمه على الأقل، ذلك الطريق الطويل الملتف كي يصل إلينا. ويجب علينا ألا نشعر بالامتنان للمبتكرين فحسب، بل علينا كذلك أن نعترف بفضل أولئك الذين لعبوا دورا في نقل التراث القديم إلينا بفضل ما أوتوا من شجاعة وعناد، وبذلك صرنا إلى ما نحن عليه الآن.
अज्ञात पृष्ठ
جورج سارتون، «العلم القديم والمدنية الحديثة»
بحلول عام 500 ميلادية، كانت الكنيسة اليونانية قد زجت بمعظم رجال العصر الموهوبين إلى خدمتها، إما في نشاط تبشيري أو تنظيمي أو عقائدي، أو نشاط تأملي خالص.
إدوارد جرانت، «العلم المادي في العصور الوسطى»
لو قدر لك أن تلقي نظرة على عالم البحر المتوسط في عام 500 ميلادية، ماذا كنت سترى؟ كنت سترى ملكا قوطيا شرقيا على عرشه في روما ، يبذل أقصى ما في وسعه ليظهر بمظهر الإمبراطور. كنت سترى إمبراطورا في القسطنطينية، يصنع من جديد أمجاد روما الإمبراطورية على شواطئ البوسفور، وبعيدا في الجنوب، في مهد الحضارة نفسه، كنت سترى شاهنشاه فارسيا، يخطط لخطوته التالية في الحرب التي لا تنتهي على حدوده الشمالية. كنت سترى عالما طابعه التغيير، عالما حافلا بالارتباك، عالما كانت تنكمش فيه المدن، وتحرق المكتبات ولم يعد فيه من الأمور ما هو يقيني سوى النذر اليسير على ما يبدو.
لم تكن هذه الظروف مواتية فيما يتعلق بالحفاظ على النصوص أو السعي وراء المعرفة؛ فكلا الأمرين يتطلب استقرارا سياسيا واهتماما فرديا وتمويلا ثابتا من أجل أن يزدهر؛ وكل هذه الأمور كانت نادرة في عام 500 ميلادية، ومع ذلك، صمدت جيوب صغيرة للمعرفة وحفظت كتب كثيرة. لقد ورثنا ثروات عظيمة من أسلافنا القدامى، ولكن الحقيقة هي أن قطاعات عريضة من الثقافات القديمة ضاعت في الرحلة الطويلة إلى القرن الحادي والعشرين؛ فلم ينج إلا جزء يسير؛ سبع مسرحيات من ثمانين مسرحية كتبها إسخيلوس، وسبع مسرحيات من مائة وعشرين مسرحية كتبها سوفوكليس، وثماني عشرة مسرحية من اثنتين وتسعين مسرحية كتبها يوربيديس. واختفى العديد من الكتاب الآخرين تماما، واختزل ذكرهم إلى إشارات عابرة كالطيف في أعمال أخرى. في أواخر القرن الخامس، جمع رجل يدعى ستوبايوس كما ضخما من المختارات الأدبية بلغ 1430 اقتباسا شعريا ونثريا، منها 315 اقتباسا فقط من أعمال لا تزال باقية؛ أما باقي الأعمال فمفقود. أما بالنسبة إلى العلم، فكان أفضل حالا بقليل، ورغم ذلك فإن أعمالا مهمة مثل كتاب جالينوس «عن البرهنة»، وكتاب ثاوفرسطس «عن المناجم»، وبحث أرسطرخس عن نظرية مركزية الشمس (الذي ربما كان سيغير مسار علم الفلك تغييرا جذريا لو ظل باقيا) قد ضاعت كلها عبر الزمن. النصوص التي نجت من الضياع، ومنها أطروحة «العناصر» لإقليدس، وكتاب «المجسطي» لبطليموس ومجموعة كتابات جالينوس، هي نتاج آلاف من السنين من المعرفة المتراكمة. نقحت الأفكار التي احتوتها بواسطة عقول أجيال من الكتبة والمترجمين، ونقلت وبسطت على يد علماء حاذقين في العالم العربي محيت أسماؤهم تدريجيا، في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة، من سجل التاريخ.
ثمة محاولات كانت تبذل في بعض الأحيان لاسترداد الكتب، ورغم أن ذلك كان في أزمنة قديمة، كان الناس على دراية بخطر أنه يمكن ببساطة للمعرفة أن تختفي. وحسب ما أورده سويتونيوس، فإن الإمبراطور دوميتيان (51-96) «كابد متاعب جمة ونفقات كثيرة في عملية إعادة تزويد المكتبات المحترقة بالكتب، والتفتيش في كل مكان عن المجلدات المفقودة، وإرسال كتبة إلى الإسكندرية لنسخها وتصحيحها.»
1
المخطوطات الوحيدة الباقية التي صيغت فعلا في العالم القديم (قبل عام 500 ميلادية تقريبا) هي أجزاء صغيرة من أوراق البردي عثر عليها في مكب للنفايات في مصر وبعض اللفائف من «فيلا البرديات» في مدينة هيركولانيوم.
1
كل شيء آخر هو مخطوطة مستنسخة صنعت في مرحلة أو أخرى في القرون الفاصلة. كان إنتاج الكتب صناعة مزدهرة في العالم القديم، وصاحب ذلك أسواق ومتاجر متخصصة في بلدات ومدن مختلفة في أرجاء منطقة البحر الأبيض المتوسط، إذن لماذا لم يبق من ذلك إلا أشياء مادية قليلة؟ حتى القرن الرابع، لم تكن الكتب كتبا بالشكل الذي نعرفه، وإنما لفائف مكتوبة على ورق البردي، الذي كان يصنع من نباتات بوص كانت تنمو في دلتا النيل. كان طولها في المعتاد نحو ثلاثة أمتار؛ لذا، حتى تقرأ إحدى تلك اللفائف، كنت بحاجة إلى أن تحلها من أحد طرفيها ثم تطويها مجددا من الطرف الآخر، مستخدما عصيا خشبية خاصة. كان الطي والبسط المستمر يجعل البردي هشا وعرضة للتمزق؛ لذا احتاجت النصوص إلى إعادة نسخها على لفائف جديدة مرات كثيرة. وكما سنرى، بحلول الوقت الذي صار فيه مجلد المخطوطات الأكثر متانة (المصنوع من الجلد الرقيق والخشب) سائدا، كان العالم قد تغير ولم يعد كثير من الناس يصنعون أو يبيعون أو حتى يقرءون الكتب. وبحلول عام 500 ميلادية، كانت الإمبراطورية الرومانية قد انهارت في أوروبا الغربية، وتقلصت قوتها في الشرق بشدة. كانت ثقافة العالم القديم الوثني المفعمة بالنشاط آخذة في الاختفاء في ظلال قوة جديدة هي الكنيسة المسيحية. وعلى مدى الألفية التالية، سيطر الدين على عالم الكتب والمعرفة في الغرب، بينما وجد العلم ملاذا جديدا في الشرق الأوسط.
अज्ञात पृष्ठ
كان القرن الخامس صاخبا بالأحداث؛ إذ أفلت النصف الغربي من الإمبراطورية الرومانية من السيطرة الإمبراطورية ليقع في أيدي مجموعة من القبائل من شمال أوروبا. وصارت هسبانيا الرومانية حينئذ تحت حكم القوط الغربيين، مع وجود الجزء الشمالي من شبه الجزيرة مأهولا بقبائل الألان والسويبيين. واستولت قبائل الوندال على القطاع الشمالي من أفريقيا، في الوقت الذي كانت فيه إيطاليا وحتى روما نفسها قد استضافت مؤخرا (بكامل الأبهة الإمبراطورية) تتويج ملك القوط الشرقيين، ثيودوريك. في الوقت نفسه، كان الفرنجة يقومون بتأسيس البلد الذي نطلق عليه الآن فرنسا، وعبر القنال، كانت الجيوش الأنجلو سكسونية تتوغل في بريطانيا. بدأت المجتمعات في أوروبا الغربية، التي لم تعد متحدة تحت سلطان روما، في الانغلاق وأصبحت معزولة بعضها عن بعض؛ وانكمشت المدن مع عودة الناس إلى الريف وإلى أسلوب حياة أبسط، وأكثر ريفية. ومع انهيار نظام السفر والاتصال التابع للإمبراطورية، لم يعد التجار يستطيعون نقل بضائعهم بأمان؛ لذا تراجعت التجارة تراجعا شديدا.
كان ما تبقى من الإمبراطورية، هو الجزء الشرقي، ولكن في شكل مختزل كثيرا. ومن عاصمته القسطنطينية، حكم الإمبراطور أناستاسيوس (431-518) - الذي كان يكنى باسم ديكوروس (ذي الحدقتين) لأنه كان لديه عين سوداء وأخرى زرقاء - ممالكه، التي تألفت من آسيا الصغرى واليونان والبلقان وأجزاء من الشرق الأوسط. في عام 500، كان الانفصال بين الشرق والغرب حديث العهد نسبيا، ولم تكن قد ترسخت بعد التقسيمات الاجتماعية والثقافية التي سوف تتسم بها القرون التالية. كانت الحكومة الإمبراطورية في القسطنطينية لا تزال تأمل في أن تتمكن من استعادة ولو جزء من الإمبراطورية الغربية السابقة؛ وتحديدا روما وما حولها. واتضحت بجلاء هذه الرغبة أثناء حكم الإمبراطور جستينيان الأول (527-565)، الذي كان رجلا قويا، ومفعما بالحيوية، أصاب النخبة البيزنطية بصدمة بزواجه من محظيته، ثيودورا، التي صارت لمدة عشرين عاما نائبته، بالإضافة إلى كونها عاهرته.
كان حكم جستينيان مديدا ومليئا بالأحداث؛ فقد أمر بإصلاح نظام القانون الروماني بكامله ، وبدأ برنامجا ضخما لإعادة بناء عاصمته (وفي ذلك إعادة تصميم كنيسة آيا صوفيا) وشجع إنتاج الحرير، بعد أن هرب راهبان، حسبما يزعم، بيوض دودة القز ويرقاتها عائدين بها من الصين تحت ثياب الرهبنة الخاصة بهما. وبمعاونة قائده البارع، بيليساريوس، تمكن من استرجاع أجزاء من شمال أفريقيا من الوندال، وتحصل على موطئ قدم في هسبانيا، والأهم من ذلك كله، أنه أعاد احتلال صقلية ومعظم إيطاليا. لا بد أن النصر كان أمرا رائعا، ولكنه كان قصير العمر. فلم يتخل القوط الشرقيون بسهولة عن مخططاتهم في إيطاليا ووجد جستينيان نفسه متورطا في حرب مريرة على جبهته الغربية، في حين هاجم الفرس من الجنوب وهاجمت القبائل التركية والسلافية الحدود الشمالية في البلقان. في خلال عقود قليلة من موته، كانت كل مكاسبه الإقليمية قد فقدت وبدأ الانقسام يتعمق بين الشرق والغرب، الذي كان خط الصدع فيه يجري من الشمال إلى الجنوب فيما بين اليونان وإيطاليا.
كانت الحياة اليومية في أواخر العصور القديمة محفوفة بمخاطر بالغة، حتى بالنسبة إلى طبقة الأثرياء التي كانت تمثل 5 بالمائة أو نحو ذلك من تعداد السكان الذين لم يكونوا فلاحين ولا عبيدا. لاحق المرض والموت كل بيت، ودائما ما كان الجوع والكوارث محدقين. أضف إلى ذلك جحافل من البربر المغيرين الذين يدهسون محاصيلك ويقتلون أسرتك وستصبح الصورة حقا قاتمة جدا. ولكن كان ثمة بصيص نور في الظلمة، شرارة خافتة من الأمل وسط الفوضى؛ هي الدين. اعتمدت الإمبراطورية الرومانية المسيحية ديانة رسمية لها في عام 380، وبحلول عام 500 كانت قد انتشرت، بأشكال عدة، عبر أوروبا، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لتحل محل طائفة عريضة من الطوائف والمعبودات والعقائد التي تندرج تحت مظلة مصطلح «الوثنية». كانت العقائد الوثنية متنوعة وغالبا محلية؛ إذ آمن الناس بآلهة كثيرة، كانت في كثير من الأحيان ترتبط ارتباطا وثيقا بعالم الطبيعة، وكانت عبادة تلك الآلهة تهدف إلى محاولة التأثير على الطبيعة لتأمين إمدادات غذائية جيدة والصحة والسعادة للمجتمع المحلي. شكل تشديد المسيحية على مسألة الإله الواحد الحقيقي خيارا صعبا؛ بلا حلول وسط، وأخيرا وضعت نهاية لمعظم العقائد الوثنية القديمة. ومع فوز الكنيسة بالنفوذ والشعبية، أصبح قادتها أكثر تصميما على القضاء على النظم العقائدية المنافسة وتنصير العالم كله. وبحلول عام 500 ميلادية، كانت ماضية في طريقها لإنجاز هذه المهمة.
ما يسترعي الانتباه حقا، في هذه المرحلة، قبل قرن من ظهور الإسلام، أنه كان يوجد مسيحيون في الشرق أكثر بكثير مما في الغرب، وأديرة وكنائس في أرجاء سوريا وبلاد فارس وأرمينيا. فقد تعلق الناس بوعد الخلاص. كانت الفكرة القائلة إنك كلما عانيت هنا على الأرض، فسيصبح وقتك في الحياة الآخرة أفضل، درعا قوية في مواجهة حقائق الحياة اليومية البائسة في القرنين الخامس والسادس. وقد لعبت هذه العقيدة دورا محوريا في نجاح انتصار المسيحية على الوثنية، التي كانت عادة ما تحمل لواء السعي إلى تحقيق السعادة وتندد بالألم باعتباره شرا. تجسد انتصار المعاناة على الملذات في أشد صوره تطرفا في أوائل الأديرة. أقيم كثير من الأديرة في هذه الفترة؛ فبحلول عام 600، كان يوجد منها 300 في بلاد الغال وإيطاليا وحدها. في هذه المجتمعات المنعزلة عادة، هيمن الإيمان السائد، على حد تعبير المؤرخ ستيفن جرينبلات، بأن «خلاص البشر لن يتأتى إلا عن طريق الذل.»
2
وتطلب الأمر من ساكني هذه الأديرة جلد الذات وحرمان النفس ونمط حياة قائما على الزهد الشديد. ولكن هذه الأديرة كانت أيضا أماكن للسلام والأمن في عالم مفزع، وتزايد كونها المكان الوحيد الذي يمكن العثور فيه على أي شيء يشبه تعليما أو مكتبة.
كانت الحرب بين المسيحية والوثنية طويلة وعنيفة، وسقط جراءها الكثير من الضحايا. وانتهى الأمر بالمعرفة العلمية إلى الوقوع في دائرة نزاع بين القوتين المتحاربتين؛ إذ كافحت قوى الكنيسة التي كان لها الغلبة لتدمير أو استيعاب فلسفة العالم القديم وعلمه وأدبه، وهي أشياء كانت بطبيعتها وثنية. في عام 529، رجح حدثان حاسمان الكفة أكثر لصالح المسيحية. فقد أغلق الإمبراطور جستينيان الأكاديمية في أثينا، مركز الفلسفة الأفلاطونية المحدثة والمقاومة الوثنية. وفر الفلاسفة إلى بلاد فارس، حاملين معهم كتبهم وتعاليمهم، محطمين «السلسلة الذهبية»؛ وهي التقليد الأثيني القائم على الاستقصاء الفكري والذي يمتد تاريخه إلى أفلاطون وأرسطو. إبان ذلك، عبر البحر الأيوني، على قمة تلة مونتيكاسينو الصخرية في جنوب إيطاليا، أسس شاب مسيحي ورع يدعى بندكت ديرا، وأسس بداخله طائفة دينية جديدة من شأنها أن تنتشر في أنحاء العالم. وفي القرون التي تلت، أصبحت مونتيكاسينو مشهورة بمكتبتها ومنسخها، وصارت ملاذا مهما للمعرفة والتعليم. مع إغلاق أبواب أكاديمية أفلاطون لآخر مرة، حطم القديس بندكت معبد أبوللو الذي كان قد بقي لقرون واستعاض عنه بدير. كانت الرمزية بالغة الوضوح؛ فقد كانت حقبة جديدة تبعث إلى الوجود.
وعلى الرغم من أنه كان صحيحا أن المسيحية كانت قد انتصرت انتصارا مؤكدا في الصراع على أنفس الناس، احتفظت المعرفة الكلاسيكية المتراكمة (معارف الإغريق والرومان) بسيطرتها على عقولهم؛ فكل شيء متعلق بها كان فائقا، من عبقرية الأفكار ورقي المناقشات إلى جمال اللغة وبراعة قواعدها؛ كانت الكتابات المسيحية الأولى تتسم بعدم الإتقان على نحو سافر، الأمر الذي كان موضع إحراج كبير لرجال الكنيسة. وعلى حد تعبير أحد كتاب القرن السادس: «نحن بحاجة إلى تعليم مسيحي ووثني؛ فمن أحدهما نحقق نفعا للروح، ومن الآخر نتعلم سحر الكلمات.»
3
अज्ञात पृष्ठ
لكن الاعتراف بقيمة التعليم الكلاسيكي كان أمرا؛ أما حماية المدارس التي كانت تقدمه من اضطرابات عالم آخذ في التغير فكان أمرا آخر تماما. نجت بعض المدارس من الغزو القوطي الشرقي لإيطاليا في القرن الخامس، وكان جستينيان حريصا على تعزيز إعادة احتلاله لروما بإعادة تأسيس التعليم العالي في المدينة. حلم كاسيودوروس (نحو 485-585) بتأسيس جامعة لاهوتية هناك، ولكن هذه الخطط لم تسفر عن شيء. وكان الغزو اللومباردي في عام 568 إيذانا بانتهاء التعليم التقليدي في إيطاليا، والذي لم يكن، على أي حال، متاحا على الإطلاق إلا لقلة قليلة فقط من الأطفال الذكور الأثرياء. علمت القلة المحظوظة التي كان بإمكانها تحمل النفقات أولادها في البيت، ولكن احتكار الأديرة للتعليم كان آخذا في التزايد، مع تركيز لا مفر منه على الأدب المسيحي والعقيدة المسيحية.
لم يختلف الأمر كثيرا عن ذلك فيما يتعلق بإنتاج الكتب، الذي تقلص في أنحاء البحر المتوسط أثناء القرنين الرابع والخامس. استمر بعض الإنتاج التجاري للكتب في مدن كبرى مثل روما، ولكن على نطاق أضيق كثيرا من السابق. نسخت غالبية الكتب على نحو خاص على يد أفراد كان لديهم إمكانية الوصول إلى النصوص التي رغبوا فيها عبر أصدقاء أو شبكات من العلماء. وبحلول عام 500، كان إنتاج الكتب العلمانية يجري على قدم وساق في الخفاء؛ وعلى النقيض، تزايدت إنتاجية مناسخ الأديرة تزايدا كبيرا إثر استحداث أنواع جديدة تماما من المؤلفات الدينية، مثل الهاجيوجرافيا (سير حياة القديسين). وإذ لم يستطع كاسيودوروس إنشاء جامعته في روما، مضى إلى أملاك عائلته وضياعها في بلدة سكيلاتشي، على الساحل الجنوبي لإيطاليا، وأنشأ ديرا، هو دير فيفاريوم، المستوحى من المدرسة الكائنة في مدينة نصيبين، في سوريا، التي كان كاسيودوروس قد سمع عنها وربما زارها حينما كان يعيش في القسطنطينية. كان كاسيودوروس مسيحيا متدينا، وكان أيضا مؤمنا إيمانا شديدا بالمنهج الكلاسيكي، الذي كان مقسما إلى «التريفيوم» (جمع «تريفيا»؛ وتعني الفنون الثلاثة، ويطلق عليها أيضا «المقدمات» ويقصد بها البلاغة والمنطق وقواعد اللغة)، ويليها «الكودريفيوم» (أو «العلوم الأربعة» وهي: علم الحساب وعلم الهندسة وعلم الفلك وعلم الموسيقى). ملأ كاسيودوروس المكتبة في دير فيفاريوم بنصوص عن هذه الموضوعات وحول اتجاه إنتاج المخطوطات في منسخه عن طريق إنشاء معايير وطرق ملائمة للنسخ. وبكونه واحدا من العلماء القلائل المميزين في عصره، لعب كاسيودوروس دورا حيويا في بقاء الثقافة الكلاسيكية في إيطاليا، بإنقاذ كتب من أطلال مكتبات روما المحترقة، والحفاظ عليها وإعادة إنتاجها، وضمان وصولها إلى الأجيال القادمة؛ فاستمرت تلك الكتب لتشكل هيكل النظام التعليمي في العصور الوسطى. وإذ كان قد أمضى عشرين عاما مقيما في القسطنطينية، كان أيضا واحدا من آخر العلماء الذين عملوا على مد الجسور فوق الهوة المتزايدة بين الشرق والغرب، وعلى إعادة الثقافة اليونانية ولغة بيزنطة إلى إيطاليا في هيئة مخطوطات يونانية عديدة، وضعت في خزانة خاصة في المكتبة في دير فيفاريوم.
في عام 523، عين كاسيودوروس في منصب كبير المستشارين للملك القوطي الشرقي في إيطاليا، ثيودوريك، ليحل محل العالم الكبير الآخر الوحيد في إيطاليا آنذاك، وهو آنسينيوس مانليوس سيفيرينوس بوثيوس (480-524). كان بوثيوس قد قطع شوطا أبعد من كاسيودوروس في تعزيزه للمعارف القديمة. كان كاسيودوروس يراها دوما بمثابة خادمة المسيحية، وأنها يجب أن تدرس فقط من أجل الهدف الأسمى وهو التقرب إلى الرب. على الجانب الآخر، كان بوثيوس يؤمن بقيمة المعرفة الدنيوية غاية في حد ذاتها، وكان قد أقدم على مشروع طموح لترجمة كل النصوص اليونانية اللازمة لدراسة المنهج الكلاسيكي، وتوقفت جهوده فجأة عندما سجن وبعد ذلك أعدم للاشتباه في ضلوعه في التآمر على الملك ثيودوريك. ولو كان قد قدر لكل ترجماته أن تحفظ وتنقل إلى الأجيال التالية، لكان من الممكن لقصة نقل العلوم القديمة أن تصبح مختلفة جدا. أما وإن الحال ليس كذلك، فإننا لا نملك إلا أدلة مبهمة عما ترجمه بالفعل، ولكن يبدو أن ترجماته شملت جزءا من أطروحة «العناصر» وبعضا من كتابات بطليموس (ليس من بينها كتاب «المجسطي»). ثمة إشارات شتى إلى ترجمة لاتينية لأطروحة «العناصر» (على الأقل لأجزاء منها)، بواسطة بوثيوس، ويمكن بصعوبة تمييز شذرات غير واضحة منها في رقوق ممسوحة (طروس) ترجع إلى القرن الخامس موجودة في مكتبة كابيتولاري في فيرونا، والتي تعرض محتويات من الكتب من الأول إلى الرابع، ولكن دون الرسوم البيانية والبراهين؛ لذا ربما كانت محدودة النفع. الأرجح أنه لم تكن توجد سوى نسخ قليلة للغاية منه، وأن تلك النسخ التي كانت موجودة كانت مهملة. بحلول القرن التاسع، لم يبق إلا قصاصات. ولا نعرف إلا نذرا يسيرا عن هذه النسخة من عمل إقليدس العظيم، ولكنها، على أقل تقدير، نبهت الباحثين إلى وجود مصدر للمعرفة أعمق بكثير فيما يتعلق بموضوع الرياضيات.
رسم رافاييل في لوحة «مدرسة أثينا» الشخصيات وهي تقرأ أو تحمل كتبا، بينما في الواقع لا بد أنهم كانوا يكتبون على لفائف البردي. لم يدخل مجلد المخطوطات، أو الكتاب، حيز الاستخدام إلا قبل القرن الخامس بقليل وكان يصنع من جلد الرق - وهو جلود حيوانات معالجة - وليس من البردي، الذي كان يصنع من البوص؛ فالمرجح أن مصانع الورق لم يكن لها وجود في غرب أوروبا حتى القرن الرابع عشر، مع أنها أصبحت شائعة في العالم الإسلامي قبل ذلك بقرون.
2
على أفضل تقدير، لا يدوم البردي إلا لبضع مئات من الأعوام قبل أن يحتاج النص إلى إعادة نسخه على لفيفة جديدة. ويدوم جلد الرق زمنا أطول، ولكن فقط إذا حفظ في الظروف المناسبة، بعيدا عن الرطوبة والقوارض والديدان والعث والنار وطائفة أخرى من الأعداء المحتملين. كان مجلد المخطوطات في البداية ظاهرة مسيحية، وازداد شهرة بين القرنين الرابع والثامن. وإذا ضيقنا نطاق عملية النقل إلى مسار افتراضي واحد، فمن المنطقي أن يكون بطليموس قد ألف كتاب «المجسطي» أولا على لفيفة بردي في الإسكندرية في القرن الثاني. ومن المحتمل أن يكون قد أعيد نسخ هذه اللفيفة مرتين على الأقل لكي يتأتى لها البقاء حتى القرن السادس، وهي المرحلة الزمنية التي قد تكون نسخت فيها على جلد رق وصرت في كتاب. ومن شأن هذا الكتاب، أيضا، أن يكون قد استلزم إعادة نسخه كل بضع مئات من السنين لضمان بقائه (إذا ما افترضنا، مجددا، أنه أفلت من الحشرات المعتادة والتلف والكوارث) وكان متاحا للباحثين سنة 1500. ومن ثم فمن المرجح أن يكون الأمر قد استلزم إعادة نسخ كتاب «المجسطي» خمس مرات على أقل تقدير أثناء الفترة الزمنية بين عامي 150 و1500. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: من الذين نسخوه؟ وأين عثروا عليه؟
كان مصير كل نص يتحدد تبعا لما كان يحدث خارج أسوار المكتبة أو المنزل الخاص حيث كان النص موضوعا على رفوفهما. في السنوات المضطربة للعصور القديمة المتأخرة، كانت مكونات الحياة السياسية والاجتماعية والدينية تتبدل وتعيد ترتيب نفسها بصورة جذرية. وانتقل عالم المعرفة تدريجيا من الإطار العام العلماني إلى أديرة الرهبنة الصامتة. كان هذا الانتقال واضحا أيضا في مجالات حياتية أخرى؛ فقد بدأت الطبيعة الطبوغرافية للمدن في التغير مع انتقال الكنيسة لتملأ الفراغ الذي خلفه ما كان يعرف باسم الدولة الرومانية. فقدت الدولة نفوذها الذي أصبح في أيدي أفراد عاديين وزعماء دينيين. وظهرت على السطح كنائس ضخمة في الميادين العامة القديمة، ودمرت المعابد أو بدلت، وكان الطابع المسيحي يضفى على الساحة العامة للمدينة وتبوأ الأساقفة الصدارة. وكشأن المدارس، كانت المكتبات العامة ضحية أخرى لهذه العملية؛ فمع عدم وجود من يدفع مقابل صيانتها، سقطت في براثن الإهمال وتلاشت تدريجيا. كان يتعين على أي شخص مهتم بموضوعات مثل الرياضيات والفلك أن يلتمسها سرا؛ لذا تقلصت شبكة العلماء الهشة أكثر فأكثر.
أما فيما يتعلق بالطب، فكانت القصة مختلفة قليلا بسبب الحاجة الدائمة والماسة إليه؛ فدائما ما كانت المعارف الطبية نافعة، ودائما ما كانت ذات أهمية، لذا كان ثمة طلب باستمرار على الكتب التي تتناول الطب، ومن ثم كانت تتوافر في معظم المكتبات في أواخر العصور القديمة. كان الطب دوما نشاطا متعدد المستويات؛ إذ كان الناس يضطلعون في بيوتهم بأمر الرعاية الأساسية، بينما كان المستوى التالي هو المعالج المحلي أو الحكيم أو الحكيمة، وهؤلاء كان من شأنهم أن يحوزوا قدرا من المعرفة بالنباتات المحلية والعلاج بالأعشاب. بيد أن هذه المعرفة كانت شفاهية، وكان أغلب ممارسيها أميين. كان الأطباء المتعلمون نادري الوجود وكانت أماكن وجودهم بعيدة بعضها عن بعض؛ فتباين تدريبهم تباينا هائلا وكانوا يقدمون خدماتهم في الأغلب لزبائن أثرياء من الحضر. كذلك للدين دور مهم في الطب القديم؛ إذ ضمت مراكز التعليم الطبي في سميرنا وكورينثوس وكوس وبيرجامون مزارات دينية مقدسة للشفاء اجتذبت المتضرعين ملتمسي الشفاء بالطريقة نفسها التي تجتذبهم بها المزارات الكاثوليكية في يومنا هذا. كان الأطباء الذين كانوا يعملون فيها يعالجون المرضى ويدربون طلاب الطب بالاستعانة بالكتب التي كانوا قد جمعوها. ولكن، نظرا لكونها مراكز للعقائد الوثنية، دمر كثير منها عندما أصبح للمسيحية اليد الطولى.
اجتذب المزار المقدس المكرس لأسكليبيوس، إله الشفاء الإغريقي، في بيرجامون، في الأناضول، آلافا من المتضرعين وأصبح مركزا شهيرا لدراسة الطب. وقد ولد جالينوس وتعلم هناك قبل أن يشد الرحال إلى الإسكندرية وبعد ذلك إلى روما ، وكانت المدينة أيضا مقر مكتبة مهمة؛ تضم 200 ألف كتاب، حسب المؤرخ بلوتارخ. يذكر الكاتب الروماني سترابو (64ق.م-24م) المدينة، التي أقامتها السلالة الحاكمة الأتالية في القرن الثالث قبل الميلاد، وهو يناقش ما جرى لكتب أرسطو: «ولكن عندما سمعوا [أي ورثة أرسطو] بمقدار الحماسة، التي كان يحملها الملوك الأتاليون، الذين كانت المدينة خاضعة لهم، في البحث عن الكتب لتأسيس المكتبة في بيرجامون، أخفوا الكتب تحت الأرض فيما يشبه الخندق.»
4
अज्ञात पृष्ठ
ومن غير المستغرب أن الكتب لم تنتفع من دفنها في خندق، حيث «تضررت جراء الرطوبة والعثة»؛ إذ كان أفضل كثيرا لها لو كان قد انتهى بها الحال على أرفف مكتبة بيرجامون، بجدرانها المصممة خصيصا لتسمح بتدوير الهواء وتمنع الرطوبة.
شكل 1-1: الواجهة المعاد بناؤها لمكتبة سيلسوس في مدينة أفسوس المدمرة، بنيت في القرن الثاني لتكون ضريحا لسيناتور روماني وكذلك مستودعا لنحو 12 ألف لفيفة. حفظت هذه اللفائف في خزانات وضعت في كوات ذات جدران مزدوجة مصممة لتتحكم في مستويات الرطوبة والحرارة.
كان المنافس الأعظم لبيرجامون من ناحية كونها مركزا فكريا هو مدينة أفسوس. فقبيل نهاية القرن الثاني، بدأت أفسوس تتقدم في السباق من أجل الظفر بلقب «المدينة الأولى في آسيا».
5
عجلت الزلازل والهجمات القوطية من تراجع بيرجامون أثناء القرن الثالث. ووصلت المسيحية إلى المدينة، معلنة بدء بناء كثير من الكنائس. ولكن، رغم أن أهل بيرجامون نعموا بفترة من الاستقرار، فإنها كانت قصيرة الأمد. وفي القرن التالي، تقلص تعداد السكان مع تزايد اضطهاد غير المسيحيين (إذ بقيت طوائف وثنية عديدة في المدينة) وأهلك الطاعون أولئك الباقين. في ذلك الوقت، كانت أفسوس في أزهى فتراتها. كانت عاصمة الإقليم الروماني في آسيا ميناء مزدهرا، وتشتهر بمعبد أرتميس؛ أحد عجائب العالم القديم. كان الزوار يسلكون طريقا مشجرا، من المرفأ عبر المدينة، يكسوه الرخام وتصطف على جانبيه الأعمدة، مرورا بمتاجر تبيع تذكارات أرتميس، وصولا إلى المسرح المدرج المهيب الذي يمكنه استيعاب 24 ألف شخص. في عام 117 ميلادية، بنيت مكتبة هناك تكريما للسيناتور الروماني سيلسوس، الذي كان مدفونا في ضريح تحتها. ضم هذا البناء الباهر 12 ألف لفيفة، مما يجعلها ثالث أكبر مجموعة، بعد مجموعتي الإسكندرية وبيرجامون. كانت المكتبة قد تضررت من الداخل على يد القوط عندما هاجموا المدينة في عام 268 ميلادية، ولكن الواجهة الكبيرة بقيت صامدة حتى وقع أخيرا زلزال أسقطها في القرن العاشر.
كانت أفسوس، أيضا، من المراكز الأولى للمسيحية؛ إذ عاش هناك القديس بولس في منتصف القرن الأول، بينما أمضى القديس يوحنا أعوامه الأخيرة فيها، يكتب إنجيله. ومع إمساك الديانة الجديدة بزمام السيطرة، كان من المحتم أن تعاني المقدسات الوثنية القديمة. فخرب أولا معبد أرتميس ثم صار مهجورا، ودفنت تماثيله عميقا في باطن الأرض، حيث لا تستطيع الشياطين التي كانت تسكنها أن تهدد المواطنين المسيحيين بالأعلى، ثم دمرت معابد المدينة الأخرى وحولت إلى كنائس. ولا شك في أن نصوصا كثيرة أتلفت في الوقت نفسه. ومع امتلاء مصب النهر بالطمي، تشكل سهل رسوبي جديد وحدث تغير جذري في الشريط الساحلي. وعزلت أفسوس عن التجارة والاتصال بما حولها (في الوقت الحالي هي مدينة داخلية تبعد عدة أميال عن الساحل)؛ وبحلول القرن الثالث عشر، أصبحت شبه مهجورة.
إذن ماذا حدث لكل اللفائف في مكتبات أفسوس وبيرجامون؟ تزعم إحدى الحكايات الخرافية أن القائد الروماني ماركوس أنطونيوس أخذها من المكتبة في بيرجامون وأعطاها حبيبته كليوباترا، من أجل مكتبة الإسكندرية. فهل حاول العلماء المحليون إنقاذ بعضها؟ هل أخذت إلى مكان أمين وأعيد نسخها وحفظها بعناية، وتوارثتها أجيال من العائلات، أم أنها أخفيت في خرائب المعابد القديمة؟ لا بد أن ذلك حدث لبعض منها؛ لأن الأناضول، كما سوف نكتشف، كانت محط تركيز رئيسي في بحث العباسيين عن النصوص اليونانية القديمة في القرن التاسع. يصف مصدر عربي يعود إلى القرن التاسع معبدا قديما، يبعد مسيرة نحو ثلاثة أيام من القسطنطينية، وقد «أغلق منذ تنصرت الروم.» أقنع العرب المسئول البيزنطي بأن يفتح البوابات، «فإذا ذلك البيت من المرمر والصخر العظام ألوانا»، وفي الداخل «من الكتب القديمة ما يحمل على عدة أجمال.»
6
ولكن نحن بحاجة، أولا إلى العودة بالزمن إلى الوراء، إلى البداية، عندما جلس إقليدس وبطليموس وجالينوس كي يؤلفوا كتبهم؛ لنرى المكان الذي صنعت ونشرت فيه النسخ الأولى. عاش جالينوس بالأساس وعمل في روما وبيرجامون، ولكن كلا من بطليموس وإقليدس كتبا أعمالهما الرائعة في المدينة التي كانت القلب الفكري للعالم القديم، وهي مدينة الإسكندرية؛ مقر المكتبة التي ألهمت المكتبات وفاقتها شهرة منذ ذلك الحين.
هوامش (1)
अज्ञात पृष्ठ
حفظ الرماد البركاني هذه البرديات بعد اندلاع بركان فيزوف في عام 79 ميلادية. (2)
كان الورق يستورد إلى أوروبا قبل القرن الرابع عشر، عادة من دمشق، ومن هنا جاءت تسميته باسم «الصحائف الدمشقية»، وكان غالي الثمن، ولكن مع بدء إنتاجه في أوروبا، تراجع ثمنه وحل تدريجيا محل جلد الرق.
الفصل الثاني
الإسكندرية
يتميز موقع المدينة بمميزات عديدة؛ فالمكان أولا يطل على بحرين، حيث يطل من الشمال على البحر المصري، كما يدعى، ومن الجنوب على بحيرة ماريا، وتدعى أيضا ماريوتيس. المدينة بكاملها تقطعها الشوارع وصالحة لركوب الخيل وقيادة المركبات، ويقطعها شارعان عريضان جدا، يمتدان لأكثر من 100 قدم يوناني عرضا، ويتقاطعان في قسمين وبزوايا قائمة. وتحتوي المدينة على مناطق عامة جميلة للغاية وكذلك قصور ملكية، تشكل ربع أو حتى ثلث محيط المدينة بأكمله؛ لأن كل ملك، كغيره من الملوك كان مغرما بالفخامة؛ ومن ثم اعتاد إضافة بعض الزخارف للمعالم العامة؛ لذا كان من شأنه أيضا أن يعمل بنفسه على نفقته الخاصة على إنشاء مقر إقامة، إضافة إلى تلك المقرات القائمة بالفعل، بحيث - وأقتبس كلمات الشاعر - «يوجد مبنى فوق مبنى». ومع ذلك، فكلها متصلة بعضها ببعض وبالمرفأ. والمتحف أيضا جزء من القصور الملكية.
سترابو، كتاب «الجغرافيا»
عندما عهد إلى ديميتريوس الفالرومي بمسئولية مكتبة الملك، أغدق عليه بالموارد بهدف جمع كل الكتب في العالم، إن أمكن؛ وبإجرائه لعمليات شراء ونسخ، نفذ مراد الملك قدر استطاعته. «خطاب أرستاس إلى فيلوكراتيس»
دائما ما كانت مكتبة الإسكندرية العظيمة، التي أنشئت نحو عام 300ق.م على يد الملك بطليموس الأول، الرمز الأعظم للسعي العلمي. فهنا ولدت فكرة ضم المعارف في مكان واحد عن طريق جمع نسخة من كل نص. وظل حلم جمع المعرفة في مكان واحد يلازم جامعي الكتب وأمناء المكتبات منذ ذلك الحين، ويدخل في صميم مكتبات حقوق الطبع والنشر المعاصرة، والتي يحق لها الاحتفاظ بنسخة واحدة من كل كتاب ينشر في بلدها.
1
سعيهم وراء هذا الحلم، بعناد من المبادئ الأخلاقية، فكانوا يسرقون ويستعيرون ويستجدون؛ كانوا يفعلون أي شيء لزيادة أعداد النصوص التي تجمع. فكانوا يأمرون بأن تفتش كل السفن المارة عبر الإسكندرية وأن تصادر أي لفائف على متنها. بعد ذلك، كان يوضع على تلك اللفائف بطاقة مكتوب عليها «من السفن» قبل وضعها على الرف في المكتبة. عندما أعار الأثينيون المصريين لفائف قيمة لنسخها، رفض المصريون إعادتها، واختاروا، عوضا عن ذلك، أن يحتفظوا باللفائف الأصلية ويعيدوا نسخا منها، مسقطين حقهم في المبلغ الضخم من المال الذي دفعوه على سبيل الضمان. أتت سياسة الاقتناء العدوانية هذه بثمارها، وفي غضون عقدين من الزمن ضمت المكتبة آلاف الكتب التي تتناول شتى الموضوعات بدءا من الطهي وصولا إلى اللاهوت اليهودي؛ مجموعة لا مثيل لها في أي مكان على وجه الأرض، سواء من ناحية الحجم أو الموضوعات. ولكن ملوك البطالمة لم يجمعوا الكتب فحسب، بل جمعوا كذلك العقول؛ فأقاموا مجتمعا من العلماء في مزار مقدس بنوه لتمجيد الميوزات؛ الإلهات التسع اليونانيات اللواتي كن مصدر الإلهام للفنون والعلوم. وصار المكان معروفا باسم «الموزيون» أي المتحف، وارتبط ارتباطا وثيقا بالمكتبة؛ فكان العلماء من أنحاء عالم البحر المتوسط يدعون للمجيء والعمل هناك. وبمرور الوقت، استحدثت مكتبة تابعة في معبد سيرابيس (السيرابيوم) لتضم مقتنيات النصوص والكتب المتزايدة باستمرار. «من أين نبعت فكرة مكتبة الإسكندرية؟» هذا السؤال حير عقول المؤرخين لزمن طويل. كان أرسطو أول شخص قد عرف عنه أنه يجمع الكتب بصورة شخصية، واقترح الكتاب، ابتداء من سترابو (64ق.م إلى 24م) ومن جاءوا بعده، أنه كان مصدر الإلهام لفكرة تأسيس مكتبات في العديد من المدن التي احتلها وأنشأها تلميذه الإسكندر الأكبر. من المحتمل أيضا أن تكون فكرة جمع الكتب والنصوص في مكان واحد قد جاءت من أرسطو. فقد ورد أن اهتماماته الفكرية كانت بالمثل ذات نطاق شامل، كما أن تلميذا آخر له، هو ديميتريوس الفالرومي، كان له دور مهم في تصميم وإنشاء مكتبة الإسكندرية. تأسست المدينة على يد الإسكندر عندما احتل مصر في عام 331ق.م، وبحسب الروايات، اختار هو شخصيا الموقع، الذي كان يقع في موقع ملائم في دلتا النيل بين بحيرة ماريوتيس (مريوط حاليا) والبحر، والذي كان يتميز بوجود طرق نقل ممتازة ومرفأين طبيعيين كبيرين على ساحل البحر المتوسط. عندما مات الإسكندر، انتقلت مصر، التي كانت بكل المقاييس أغنى جزء من الإمبراطورية اليونانية الشاسعة، إلى أحد أكثر قواده جدارة بالثقة، وهو بطليموس سوتير، وقسم ما تبقى بين قائدين آخرين، وعرفت المناطق الثلاث معا باسم الممالك الهلنستية. نصب سوتير نفسه ملكا وأسس سلالة حاكمة استمرت تحكم مصر مدة 275 عاما، ولم تنته إلا بالانتحار المأساوي للملكة كليوباترا. لا شك في أن هذا الحكم المديد لم يكن من المسلمات؛ إذ إن سوتير كان نبيلا مقدونيا حديث عهد بالمكانة التي حظي بها؛ فتطلب الأمر برنامجا ضخما من التطوير السياسي والاجتماعي والعسكري والثقافي لتوطيد مركزه بوصفه حاكم مصر بلا منازع. كان التنافس مع ورثة الإسكندر الآخرين شاغلا مستمرا لكل من سوتير وابنه، سوتير الثاني، وبينما جرى بعض هذا التنافس في ميدان المعركة، فإن قدرا كبيرا منه جرت وقائعه على المناضد وأرفف كتب المكتبة والمتحف.
अज्ञात पृष्ठ
شكل 2-1: خريطة ألمانية من القرن التاسع عشر لمدينة الإسكندرية القديمة تظهر جزيرة فاروس والمرفأين والحي الملكي (الذي كان يضم المكتبة والمتحف) والحي اليهودي ونظام شوارع المدينة الشبكي. توجد بحيرة ماريوتيس في الأسفل، والسيرابيوم فوقها مباشرة على يسار الخريطة.
مع اتساع نطاق المدينة الجميلة الجديدة على امتداد شبكتها المتناغمة، تشكلت هوية ثقافية جديدة استوعبت تقاليد مصر القديمة مع تقاليد العالم الهلنستي. في البداية انطوى هذا على إخضاع المصريين الأصليين وثقافتهم، وفي الوقت نفسه إحاطة البطالمة (الذين كانوا بالطبع مقدونيين) بهالة ضرورية للغاية من الشرعية اليونانية (وتحديدا، الأثينية) والتأكيد على صلتهم بالإسكندر الأكبر.
2
يظهر هذا على نحو واضح في المتحف، الذي كان مستوحى من أرسطو ومعبد الليقيون (الليسيوم) في أثينا، شأنه في ذلك شأن المكتبة. كلتا المنشأتين كانتا تقعان داخل المزار المقدس المكرس للميوزات. وكلتاهما كانتا مؤسستين مجتمعيتين. بذل البطالمة أموالهم بسخاء من أجل المتحف، فأجزلوا العطاء للعلماء وأعفوهم من الضرائب ووفروا لهم المأكل والمسكن في جزء خاص من مجمع القصر. في وقت قريب من وقت ميلاد المسيح، جاء الجغرافي الروماني سترابو ليزور الإسكندرية ووصف المتحف على النحو الآتي: «به ممشى مغطى، وإيوان به مقاعد ومنزل كبير، فيه قاعة طعام مشتركة للمثقفين الذين يتشاركون المتحف.» وهؤلاء العلماء «لديهم ممتلكات مشتركة وكاهن مسئول عن المتحف، كان في السابق يعينه الملوك، ولكن الآن يعينه القيصر.»
1
ومع أخذ كل هذا الدعم المقدم في الاعتبار، فليس مستغربا أن الكثيرين من المفكرين جعلوا المدينة موطنهم. فلو كنت عالما، لم يكن ثمة مكان للعيش أفضل من هذا المكان.
وبفضل الملوك البطالمة، صارت الإسكندرية أهم مركز للمعرفة في العالم القديم، مستحوذة على تاج السيطرة الثقافية اليونانية من أثينا وطارحة رؤية جديدة للعلم الذي ترعاه الدولة وهي الرؤية التي نالت الإعجاب وحذي حذوها في كل أرجاء منطقة البحر المتوسط. وبينما كان العلماء يتجادلون «بلا نهاية في حظيرة دجاج الميوزات»
2
وأرفف كتب المكتبة تمتلئ باللفائف، كانت المدينة آخذة في النمو. فقد كانت تبنى حمامات ومواخير ومنازل ومتاجر ومزارات مقدسة على امتداد الشوارع الفسيحة المتعامدة، في الوقت الذي استقرت فيه وعملت وعاشت واختفت أحياء من أمم مختلفة؛ مصريين ويهود ويونانيين، وفيما بعد رومان. وسرعان ما صارت الإسكندرية واحدة من أكبر المدن على الأرض، «مركز التجارة العالمية بلا منازع»
3
अज्ञात पृष्ठ
الذي صدر كميات ضخمة من الحبوب والبردي والكتان كانت تزرع على سهول النيل الخصيبة، وتحمل بالسفن عبر النهر إلى المدينة وبعد ذلك ترسل لتباع في أنحاء العالم الهلنستي. وبوصفهم المتحكمين في مداخل البحر المتوسط للتجار من أفريقيا وبلاد العرب والشرق، حظي الإسكندريون بحصة جيدة من المتاجرة المربحة في الذهب والأفيال والتوابل والعطور التي كانت تشحن في السفن من الجنوب والشرق عبر بحيرة ماريوتيس. كانت منارة فاروس العظيمة، التي بلغ ارتفاعها 120 مترا والتي كانت تعد عجيبة أخرى من عجائب العالم القديم السبع، تشرف شامخة على الميناء، رمزا لجلال وعظمة الإسكندرية، مرسلة أشعتها عبر البحر.
تقع الإسكندرية في مركز شبكة ضخمة من المدن، من بينها أثينا وبيرجامون ورودس وأنطاكية وأفسوس، وفيما بعد، روما والقسطنطينية. تنقل العلماء والكتب بحرية بين تلك المدن في السوق المزدهرة بالأفكار؛ فكان الشباب المهرة من أنحاء العالم الهلنستي يتلقون تعليمهم في مدنهم الأم، قبل أن يشدوا الرحال بحثا عن معلمين أفضل، ومكتبات أكبر ومعرفة أرقى. كانت كتب التعليم الابتدائي متوفرة لهم في المدرسة أو في المكتبة العامة المحلية؛ التي كان يوجد منها عدد كبير على نحو مذهل في العالم القديم. كان لدى معظم البلدات مجموعة من الكتب، لكن المكتبات الكبيرة في المدن هي وحدها التي كان من الممكن أن تشتمل على نصوص علمية بأي عدد؛ فمعظم نسخ الكتب التي نتتبعها هنا كان من الممكن أن تكون مملوكة ملكية فردية، لعلماء متخصصين. على خلاف الأدب بقصائده وخطبه ومسرحياته التي تصل إلى المئات، والتي كانت تنسخ وتباع وتقرأ في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط، شكل العلم حصة ضئيلة من الكتابة القديمة ولم يكن محل اهتمام إلا من صفوة متعلمة؛ فلا يعرف إلا 144 عالم رياضيات في العصور القديمة كلها. وبينما كانت المكتبات العظيمة تمتلئ بكتب التاريخ، كانت المجموعات الخاصة الصغيرة، الموضوعة بعناية على الأرفف خلف الأبواب المغلقة، هي ما لعب دورا حاسما في نقل العلم. ما كان ليصبح بمقدور عالم رياضيات أو طب أو فلك أن يدرس دون امتلاك بضعة كتب خاصة به، ولا كان ليصبح بمقدوره أن يعلم الطلاب الذين تجمعوا حوله. ولأن هذه الأنواع من مقتنيات الكتب كانت خاصة، لا يتوافر إلا النذر اليسير من الأدلة التاريخية على وجودها، ولكن يمكننا أن نفترض باطمئنان أنها جمعت طوال المسيرة المهنية لباحث ما، بدءا من المدرسة. كان من شأن الباحثين أن يستعيروا النصوص من معلميهم وزملائهم ويصنعوا منها نسخا لأنفسهم، أو يجعلوا عبيدهم أو تلاميذهم يفعلون ذلك لأجلهم.
كان التعاون أمرا ضروريا؛ إذ كان يتعين على الباحثين أن يتآزروا معا كي يتشاركوا ما لديهم من موارد، وغالبا ما كانوا يفعلون ذلك في المدن الكبيرة، حيث كان يوجد بالفعل تقليد للتعلم ومكتبة؛ فكان من الصعوبة البالغة تحقيق أي تقدم في العلم بمعزل عن الآخرين. ولهذا السبب لعبت أماكن مثل الإسكندرية هذا الدور الأساسي في تاريخ العلم. كان كل المهتمين بالتعليم الأكاديمي يعرفون ذلك؛ فإذا أرادوا أن يحرزوا تقدما ويتحصلوا على النصوص وينالوا فرصة العمل مع علماء آخرين، كان عليهم أن يرتحلوا إلى أحد هذه المراكز. من المرجح أنه كان يوجههم إلى أثينا أو الإسكندرية معلموهم الذين سبق لهم أن درسوا في هاتين المدينتين على الأرجح، في شبابهم. ففي عصر كان يصعب فيه للغاية الوصول إلى المعرفة والأفكار، استند البحث الفكري على شبكات من الأشخاص المتشابهين في الميول والأفكار، لكنها كانت صغيرة جدا. عاش أرشميدس، أكثر علماء العالم القديم عبقرية، في سرقوسة في صقلية؛ التي كانت مكانا منعزلا نسبيا فيما يتعلق بالبحث العلمي. وعندما مات معاونه، كونون، أخذ أرشميدس يفتش باستماتة عن شخص «ملم بالهندسة» ليحل محله. واشتكى أيضا في مقدمة أطروحته «خطوط حلزونية» من أنه «رغم انقضاء سنين عديدة ... لا أجد أن أي أحد قد أثار أي معضلة من المعضلات».
4
هذه الصيحات الحزينة تظهر مدى قلة عدد الناس الذين كانوا يدرسون العلم في هذا المستوى. أولئك هم القلة القليلة من العلماء الذين كان يتعين عليهم العمل معا وتشارك خبراتهم ومواردهم، لا سيما الكتب.
كانت الإسكندرية عاصمة العالم الفكري لأكثر من ألف عام؛ لذا ليس من قبيل المصادفة أن الرجال الثلاثة الذين سوف نتتبع أفكارهم في هذا الكتاب عاشوا ودرسوا جميعهم هناك. في العقود الأولى بعد إنشاء المدينة، فتش بطليموس الأول جاهدا عن باحثين ليأتوا ويساعدوه في تحويل مدينته إلى مكان للتعلم ينافس أنطاكية وأثينا ورودس. الأدلة شحيحة، ولكن يبدو أن إقليدس كان واحدا من أولئك الباحثين، وأنه جاء من أثينا نحو عام 300ق.م، حيث كان أفلاطون، منذ بضعة عقود فقط، منشغلا بتعليم الرياضيات والفلسفة في الأكاديمية، تحت اللافتة التي تعلن: «لا تدعوا أي جاهل بالهندسة يدخل إلى هنا.» من المؤكد أن إقليدس قد جلب كتبا معه إلى الإسكندرية، ولا بد أن هذه الكتب نسخت وأضيفت إلى المكتبة. استقر إقليدس في وطنه الجديد، حيث حظي بدعم بطليموس الأول، وشرع في العمل مع باحثين آخرين مشابهين في الميول والأفكار، ربما في المكتبة نفسها. تصوره شذرات المعلومات المتاحة عن شخصيته، التي قد تكون صحيحة أو لا، على أنه رجل مجتهد يقظ الضمير، «ودود ومتعاطف مع كل من لديهم القدرة بأي قدر على تحقيق تقدم في الرياضيات ... ومع أنه عالم بحق، فإنه لا يتفاخر بنفسه».
5
ومما يؤكد هذه الرؤية هذا الكم الضخم من العمل والتنظيم اللذين لا بد أنهما بذلا في إخراج أطروحة «العناصر»، فضلا عن أعماله الأخرى. أقام إقليدس، الذي كان رجلا جادا، مولعا بالكتب، يحب الرياضيات حبا جما، في الإسكندرية، واستمرت مدرسة الرياضيات، التي تشكلت حوله، لقرون. أخرجت رحلته إلى الجنوب عبر البحر، بعيدا عن أثينا، دراسة الرياضيات من تحت عباءة الفلسفة، مما أتاح لها أن تصبح موضوعا مستقلا بذاته.
لم يكن إقليدس أكثر رجال الرياضيات في العصور القديمة براعة في الابتكار، فذلك الشرف ممنوح بالإجماع لأرشميدس، ولكنه كتب أعظم مرجع رياضي في كل العصور. في أطروحة «العناصر»، قدم إقليدس للعالم تفسيرا متقنا للمبادئ الشاملة للرياضيات، معروضة بطريقة منظمة وواضحة لدرجة أنه كان لا يزال يستخدم ككتاب دراسي بعد مرور 2300 سنة،
3
अज्ञात पृष्ठ
كما أنه، حسب أحد الباحثين، «مارس تأثيرا على العقل البشري يفوق تأثير أي عمل آخر فيما عدا الكتاب المقدس».
6
إن أطروحة «العناصر» دراسة منهجية للمعرفة الرياضية المتاحة في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد؛ لذا يقف إقليدس في مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ الرياضيات، عند نهاية تقليد قديم يمتد إلى الوراء على الأقل 2000 عام، وعند بداية العصر الذي نحن ورثته. بشرت أطروحة «العناصر» بحلول حقبة جديدة من الرياضيات، موحدا الأفكار الأساسية لهذا الفرع من العلم ومرتقيا به، من مجرد حل معضلات محصورة محددة، إلى مجموعة من المبادئ التي يمكن تطبيقها وإثباتها بشمولية؛ أي شيء يمكن ممارسته والاستمتاع به لذاته.
شكل 2-2: صفحات من مخطوط كتاب إقليدس «العناصر» باليونانية، الذي كتب على جلد الرق في القسطنطينية سنة 888 قبل أن يشتريه أريثاس من باتراس، الذي يمكن رؤية تعليقاته في الهوامش وأسفل النص. يعد المخطوط أقدم نسخة كاملة للنص كما أنه أقدم كتاب مؤرخ لمؤلف يوناني كلاسيكي.
ومن أجل تحقيق هذا، لا بد أنه كان لدى إقليدس إمكانية الاطلاع على عدد ضخم من النصوص الرياضية؛ تلك التي امتلكها شخصيا، والتي استكملت بنصوص أخرى كانت موجودة بالفعل في مجموعات النصوص الكائنة في الإسكندرية. واستنادا إلى حجم المادة التي تناولها، من المرجح أن يكون قد تلقى العون من مجموعة من الباحثين كانوا يعملون تحت توجيهه. وبعد تقييمه منهجيا للمعلومات المتاحة لديه، بدأ إقليدس وضع الأساسيات المطلقة، بدءا من تعريفات الأساسيات؛ «النقطة هي شيء ما لا جزء له»، «الخط هو طول ليس له عرض».
7
ثم عرض كل موضوع عرضا منطقيا، بالترتيب، منظما كل شيء بحيث كان الأمر منطقيا وكان كل قسم يؤدي بشكل طبيعي إلى القسم الذي يليه.
أطروحة «العناصر» مقسمة إلى ثلاثة عشر كتابا. يركز الكتاب الأول على نظرية فيثاغورس، ويمثل الكتاب الثاني مقدمة للجبر الهندسي، ويتناول الكتابان الثالث والرابع الدوائر، ويفحص الكتاب الخامس، وهو الأكثر إثارة للإعجاب، مسألة التناسب، بينما يطبقها الكتاب السادس على الأشكال الهندسية. تدور الكتب السابع والثامن والتاسع حول الأعداد، والكتاب العاشر حول الجذور التربيعية، وتشرح الكتب من الحادي عشر إلى الثالث عشر الأشكال الهندسية المجسمة. لم يكن إقليدس أول من يحاول تنظيم المعرفة الرياضية، ولكن نسخته كانت بارعة للغاية، وأوضح بكثير من أي عمل سبقها، حتى إنها سرعان ما أصبحت النص المرجعي في الرياضيات. كان العيب في هذا الأمر أن النساخ والباحثين لم يعودوا ينسخون الأعمال الأقدم التي استند إليها الكتاب. حجبت أطروحة «العناصر» تلك الأعمال وحلت محلها بدرجة كبيرة للغاية، حتى إنه لم يصلنا إلا أطروحة رياضية واحدة فقط أقدم منها. أحدث إقليدس تحولا في موضوعه، وهو الرياضيات، وذلك عن طريق ابتكاره معايير وطرق شاملة لممارسة الرياضيات؛ بإدخاله لمنهج البرهان، وهي فكرة ربما يكون قد استقاها من أرسطو، والتي تستخدم منذ ذلك الحين ليس في الرياضيات فحسب، وإنما في كل العلوم الدقيقة. فهو يشرح النظريات بمجموعة من التعريفات، تدعى «البديهيات»
axioms (كلمة مشتقة من اليونانية، وتعني «الأشياء التي يمكننا أن نعدها مسلمات».) مستخدما مصطلحات محدودة ومحددة بدقة شديدة حتى يصبح بمقدور كل شخص أن يفهم ما يعنيه؛ وبعد ذلك يبرهنها مستخدما رسوما بيانية وإثباتات هندسية، تحمل حروفا من الأبجدية؛ وهي ممارسة علمية لم تتغير لأكثر من 2000 عام.
لا نعلم كيف استقبل أقران إقليدس أطروحة «العناصر»، ولا عدد النسخ التي صنعت في تلك المرحلة المبكرة، ولكن بوسعنا أن نفترض أن نسخة واحدة على الأقل أنتجت لصالح مكتبة الإسكندرية، حيث يمكن للباحثين الآخرين أن يتبادلوا الآراء بشأن الكتاب ويعيدوا نسخه. لا ضير أيضا أن نفترض أن نسخا قد أرسلت إلى المراكز الفكرية الرئيسية للعالم القديم؛ أثينا وأنطاكية ورودس لتعزيز مقتنياتها من الكتب والنصوص الرياضية. إن البدايات التاريخية لهذا الكتاب المبدع غير مكتملة؛ فلا يوجد سوى آثار قليلة دالة على وجوده في القرون القليلة الأولى التي أعقبت وفاة إقليدس. فقد عثر في جزيرة إلفنتين (التي هي في الوقت الحالي جزء من مدينة أسوان المعاصرة) على شظايا من الفخار ترجع إلى القرن الثاني محفور عليها أشكال وطرائق عمل من الكتاب الثالث عشر؛ أي أن شخصا ما في جزء بعيد من مصر كان يعمل على استنباط أفكار إقليدس، ولم يكن يعمل على مجرد مبادئ الهندسة الموجودة في الأقسام الأولى من أطروحة «العناصر» فحسب، وإنما على الكتاب الأخير، الأكثر تعقيدا، الذي كان بمثابة التتويج للمشروع بأكمله. ظهرت أيضا بقايا من ورق بردي، تحوي رسوما بيانية إقليدية، في مكب قديم للنفايات بالقرب من مدينة أوكسيرينخوس (قرية البهنسا الحالية) في مصر الوسطى، إلى جانب قطع صغيرة من آلاف من المخطوطات والوثائق الأخرى، التي حفظها المناخ الجاف في رمال الصحراء. بقايا برديات أوكسيرينخوس، التي كتبت ما بين عامي 75 و125، هي أقدم وأكمل النماذج لرسوم إقليدس البيانية. تبرهن هذه الاكتشافات على أن أطروحة «العناصر» كانت بالتأكيد تقرأ وتستخدم؛ ومن ثم كان يعاد نسخها وتحفظ، في الفترة التي أعقبت وفاة إقليدس، ولكن من الصعب أن نستخلص استنتاجات عامة بشأن شهرتها من هذا القدر الضئيل من الأدلة.
अज्ञात पृष्ठ
في القرن الأول قبل الميلاد بدأ التقليد النشط للتعليقات الشارحة لأطروحة «العناصر» - على يد عالم الفلك جيمينوس، الذي عاش في رودس - يقدم دلائل قاطعة على أن نسخة واحدة على الأقل من عمل إقليدس الرائع قد شقت طريقها إلى هناك. ومع تطور الفروع المختلفة من العلم، تزايد تناول الباحثين لأعمال الأجيال السابقة وكتابتهم لتعليقات مفصلة تشرح النص الأصلي وتوضحه، غالبا في أعمدة إلى جواره، وفي بعض الأحيان في كتب منفصلة. وقد أصبحت التعليقات فيما بعد أحد أكثر الأشكال المعتادة للكتابة العلمية، وباعتبارها «الأداة الثقافية المهيمنة»
8
في أواخر العصور القديمة، لعبت دورا حيويا في نقل الأفكار من جيل إلى جيل. فقد كتب ستة رياضيين تعليقات مهمة على أطروحة «العناصر» في الفترة بين عام 300ق.م وعام 600 ميلادية، مبرهنين على مستوى محدود، ولكنه ثابت، من الاهتمام. في الحقبة الهلنستية الأقدم، كان البحث الرياضي يتسم بالابتكار والاكتشاف؛ أما هذه الأعمال فهي على النقيض، تدل على الطبيعة المنهجية للرياضيات في فترة ما بعد إقليدس، وهي فترة اتسمت بالاستيعاب والتنظيم وليس بالإبداع.
كانت أكثر التعليقات تأثيرا تلك التي كتبها ثيون الإسكندري (335-405 ميلادية)، وهو عالم رياضيات شهير آخر، ووالد الفيلسوفة وعالمة الفلك الكبيرة هيباتيا.
4
عندما تمكن ثيون من قراءة أطروحة «العناصر»، كان قد مضى على كتابتها 600 سنة وكان بحاجة إلى تحديث. فعمل ثيون على تنقيح وتوضيح عمل إقليدس، مضيفا إثباتات جديدة، ومطوعا اللغة، بل إنه حذف أقساما كانت لا تبدو منطقية. كانت نسخته المعدلة ناجحة جدا؛ فأعيد نسخها مرات كثيرة وانتشرت في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط. وأصبحت هي النسخة المرجعية، والمصدر الرئيسي الوحيد لكل النسخ المعدلة الأخرى للنص طوال العصور الوسطى وما بعدها، حتى سنة 1808، عندما حدث أمر مذهل. كان باحث فرنسي يدعى فرانسوا بيرار يفرز كومة من الكتب كان نابليون قد «تحصل» عليها من مكتبة الفاتيكان وأخذها عائدا إلى باريس. من بين تلك الكتب كان يوجد مخطوطة لأطروحة «العناصر» يختلف اختلافا كبيرا عن نسخ ثيون المعدلة. وسرعان ما أدرك الباحثون أن هذه النسخة من النص لم تكن تحتوي على تنقيحات وإضافات ثيون؛ إذ كانت نسخة أقدم ولذا كانت أكثر أصالة؛ لذا كانت أقرب إلى نص إقليدس الأصلي. كانت المخطوطة التي عثر عليها بيرار قد نسخت في القسطنطينية نحو سنة 850 ميلادية؛ لذا ظلت مخبوءة لما يقرب من ألف عام، فغفل عنها الباحثون لقرون، وجسدت خيطا جديدا مثيرا يربطنا بإقليدس نفسه. بعد ذلك بثمانين سنة، استخدم جيه إل هايبرج، الذي كان أستاذ فلسفة دنماركيا، المخطوطة، مع نسخ معدلة، وأجزاء من مخطوطات وإشارات أخرى، من أجل إعداد صيغة نهائية للنص. ولا تزال نسخة هايبرج المعدلة الأساس الذي بنيت عليه النسخة المرجعية المعاصرة لأطروحة «العناصر» لإقليدس.
في القرون التي أعقبت وفاة إقليدس في نحو عام 265ق.م، واصلت الحياة الفكرية في الإسكندرية ازدهارها، لا سيما في العلوم والأدب والطب. وبعد أن توطد حكم السلالة الحاكمة البطلمية، بدأ صفوة اليونانيين يهتمون بثروات الثقافة المصرية القديمة. فاتبعوا بعض العادات المحلية (بما في ذلك تقليد زواج الأشقاء الذي كان مثار جدل)، وترجمت نصوص مصرية إلى اليونانية في المكتبة وامتزجت التقاليد الفكرية. كان يوجد برنامج غير مسبوق من الترجمة اليهودية، مع صدور أول نسخة يونانية من أسفار موسى الخمسة (وهي النسخة المعروفة باسم الترجمة السبعينية) من العبرية على يد مجموعة من شيوخ اليهود اختيرت بعناية.
كما يعلم أي شخص يهتم باقتناء الكتب، لا يلزم أن يكون لديك كثير من الكتب على رفوفك ليصبح إجراء بعض التنظيم أمرا ضروريا. وسرعان ما أدرك أمناء المكتبة الإسكندريون أنهم بحاجة إلى الاحتفاظ بسجل لمجموعات الكتب والنصوص، وإلى وضعها على الرفوف بنوع من التنظيم الذي يمكن القراء من العثور على عناوين بعينها. فصنع كاليماخوس القوريني، وهو شاعر بارع ارتبط اسمه بالمكتبة في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، فهرسا تفصيليا باللفائف، يدعى «بيناكيس». لم يبق إلا أجزاء من 120 مجلدا أصليا، ولكنها تكشف عن أن النصوص قسمت إلى القوائم الآتية: البلاغة والقانون والملاحم والتراجيديا والكوميديا والشعر الغنائي والتاريخ والطب والرياضيات والعلوم الطبيعية وأشياء أخرى متنوعة. وكانت هذه هي أول محاولة جادة لتنظيم المعارف في مخطط شامل؛ ومن ثم، كانت تمثل نقطة تحول في تاريخ الأفكار. أيضا قدم فهرس «بيناكيس» مسردا موجزا بأعمال كل كاتب وأدرج كتبهم في قوائم، فلم ينشئ تراثا علميا فحسب، وإنما أيضا تقليدا بإنتاج مادة تصف كلا من المؤلف والعمل نفسه. بلغ هذا التقليد الشارح لنص بنص آخر (أو التقليد فوق النصي) على درجات التعبير عنه في الميدان المقدس للأدب اليوناني، الذي كان يضم مئات من الباحثين الذين كانوا يدرسون وينقحون ويتجادلون حول المسرحيات وشعر هوميروس ويوربيديس وسوفوكليس وغيرهم، الذين نسخت أعمالهم وبيعت في كل أنحاء البلدان الناطقة باليونانية، وكثير من هذه النسخ هو الأساس الذي بنيت عليه الطبعات التي وصلت إلينا في وقتنا الحاضر عبر الأجيال.
قاد البطالمة بأنفسهم هذه الملحمة الفكرية. فكان أول أربعة من هذه السلالة الحاكمة معروفين باهتمامهم بأنشطة علمية متباينة؛ فأحدهم كان شاعرا، وآخر كان مفتونا بعلم الحيوان. حضر كل الملوك البطالمة، انتهاء بكليوباترا (التي كانت هي نفسها عالمة لغويات)، مناسبات ومناظرات في المتحف (الموزيون)، وكان الاهتمام الفكري سمة بارزة في حكمهم. غير أنه في القرن الأول قبل الميلاد كانت قوة عالمية جديدة آخذة في الصعود، ولم يمض وقت طويل حتى وصلت جيوشها لتحتل المدينة الباهرة. بحلول عام 80ق.م أصبحت الإسكندرية رسميا تحت الحكم الروماني، ولكن سمح لحياتها الفكرية بالاستمرار، دون عوائق. ومع الأسف الشديد، عانت المكتبة من خسارتها الكبيرة الأولى سنة 48ق.م، عندما هاجم يوليوس قيصر المدينة وأحرقت قواته مستودعا ضخما للفائف في الميناء. ليس ثمة شك في أن هذا كان غير مقصود؛ فقيصر، على أي حال، كان معروفا بحبه للكتب وكان مسئولا في السابق عن تعريف إيطاليا بالمكتبات العامة (كشأن أمور كثيرة أخرى في الثقافة الرومانية، كانت المكتبات العامة فكرة مأخوذة من اليونان). وعلى الرغم من اللفائف المفقودة، وعلى الرغم من الاحتلال الروماني، أعقب ذلك فترة ازدهار كبير؛ إذ أمدت مصر سادتها الجدد بالحبوب، واستمرت المدينة المركز الرئيسي للمعرفة اليونانية.
في نهاية القرن الأول الميلادي، كان شاب يسمى كلاوديوس بطليموس واحدا من آلاف من الناس الذين كانوا يعيشون في هذه الحاضرة العظيمة. ويظهر الامتزاج بين اسمه الأول اليوناني-الروماني، كلاوديوس، ولقبه المصري، بطليموس (ولا توجد علاقة بينه وبين الأسرة الحاكمة، كما ظن كثير من الباحثين لاحقا)، القدر الذي قد أصبح عليه التشابك بين الثقافتين في الإسكندرية. لم يترك كلاوديوس بطليموس لنا إلا القليل للغاية من المعلومات عن حياته، ولكن من المحتمل أنه تلقى تعليمه في الإسكندرية وأمضى وقتا يدرس في الموزيون لينمي لديه حصيلة من المعارف التي سوف يستند إليها في عمله. ما نعرفه هو أنه كان مفتونا بعلم الفلك، حتى إنه كان يمضي لياليه يحدق في النجوم، مكرسا حياته لمحاولة تسجيل واستيعاب حركاتها؛ واعتقد أن قيامه بذلك يقربه من الذات الإلهية.
अज्ञात पृष्ठ
لا بد أن بطليموس كان رجلا يتسم بفضول هائل، وشخصا منبهرا بالعالم الذي كان يعيش فيه وعازما على إثراء إدراكنا له. فألف كتبا كثيرة، تغطي مجموعة مذهلة من الموضوعات وهي علم الفلك والرياضيات والجغرافيا والتنجيم، بل أيضا نظرية الموسيقى والبصريات؛ وهي دراسة الضوء والرؤية. ولقرون عديدة بعد موته، كان أكثر ما يشتهر به هو كتابه «الجغرافيا»، والذي يعد محاولة ثورية لوصف ووضع خريطة للعالم المعروف. أما في وقتنا الحاضر، فإن أكثر ما يشتهر به هو تأليف كتاب «الأطروحة الرياضية» الذي تناول فيه بالوصف السماوات والأجرام السماوية (وقد ترجم إلى العربية باسم «المجسطي»، ومنه جاء اسمه اليوناني
Almagest ). يشرح جيرد جراسهوف، مؤلف كتاب «تاريخ فهرس نجوم بطليموس»، تأثيره غير العادي، فيقول: «يتشارك كتاب بطليموس «المجسطي» مع كتاب إقليدس «العناصر » المجد من حيث كونه النص العلمي الأطول أمدا من حيث الاستخدام. فمنذ أن تبلورت فكرته في القرن الثاني وحتى أواخر عصر النهضة، صنف هذا العمل الفلكي باعتباره علما.»
9
كشأن إقليدس، عمل بطليموس في مكتبة الإسكندرية، ربما إلى جانب باحثين آخرين، آخذا في فرز كل ما يمكنه العثور عليه من أعمال في مجال الفلك، من التراث البابلي والمصري واليوناني، إلى جانب مصادر تراث أخرى. فأخضع نظريات وملاحظات للتقييم والاختبار، قبل أن يضع المعلومات بطريقة واضحة عقلانية ويضيف إسهامات مبتكرة من بنات أفكاره. كما يوضح في تمهيد كتاب «المجسطي»:
سنحاول أن ندون ملاحظاتنا عن كل شيء نظن أننا قد اكتشفناه إلى وقتنا الحاضر؛ وسنفعل هذا بأوجز ما يمكن وعلى نحو يمكن متابعته من جانب أولئك الذين أحرزوا بالفعل بعض التقدم في المجال. وحرصا على الاكتمال في معالجتنا سوف نضع كل شيء من شأنه أن يفيد نظرية السماء بالترتيب الصحيح، ولكن حتى نتجنب الإطالة التي لا داعي لها، سنسرد فقط ما أثبته القدماء إثباتا كافيا. أما تلك الموضوعات التي لم يتعامل أسلافنا معها على الإطلاق، أو لم يتعاملوا معها باهتمام يكافئ مدى أهميتها الحقيقية، فسنناقشها باستفاضة قدر استطاعتنا.
10
كان نهج بطليموس في التعاطي مع الكون رياضيا، وهو بديل لوصف أرسطو المادي للسماء، الذي افترض فكرة أن النجوم مرتبة على كرات كريستالية تدور حول نفسها. في هذا الشأن، استرشد بطليموس بأطروحة «العناصر» ودورها الجوهري في تطور الرياضيات؛ فهو لم يستخدم عمل إقليدس العظيم نموذجا أسلوبيا فحسب، بل أيضا يقول بصراحة إنه يعتمد على امتلاك القارئ خلفية قوية عن النظرية الهندسية. ووضعت نماذجه الخاصة بحركة الكواكب بالاستعانة بالهندسة الإقليدية وشرحت باستخدام نظام المسلمات والرسوم البيانية. أضف إلى ذلك أن عمل بطليموس، مثل أطروحة «العناصر»، مقسم إلى ثلاثة عشر كتابا تأخذ القارئ في جولة في سماء الليل، مبتدئا في الكتابين الأول والثاني بالمعرفة الرياضية اللازمة، ثم مركزا على الشمس والقمر في الكتب الثلاثة التالية. الكتاب السادس يدور كله حول الخسوف والكسوف، بينما يضع الكتابان السابع والثامن قائمة للنجوم. وتدور الكتب الخمسة الأخيرة حول الكواكب، وتجسد إسهام بطليموس الأهم والمبتكر في مجال الفلك؛ إذ تصف نموذجا رياضيا معقدا يبين الكيفية التي تتحرك بها الكواكب، اعتمادا على بيانات أخذها من عالم الفلك اليوناني الأسبق هيبارخوس،
5
ومن عمليات الرصد التي أجراها بنفسه. كان نموذج بطليموس للسماء قائما على مركزية الأرض، وفيه الأرض ثابتة في المركز، وكما سنرى، ظل هذا هو الاعتقاد السائد حتى عام 1543، عندما طرح كوبرنيكوس مبدأ الكون الشمسي المركز، حيث وضع الشمس في المركز. •••
يوجد الكثير من أوجه التشابه بين أفكار كل من إقليدس وبطليموس؛ لذا من السهل نسيان أنه كان يفصل بينهما أربعة قرون من الزمن. كانت الإسكندرية مختلفة اختلافا تاما عندما كان بطليموس يجوب شوارعها، لكن تراث المعرفة الذي بدأ في فترة حياة إقليدس كان لا يزال باقيا وكانت الإسكندرية لا تزال مكانا رائعا لأي شخص لديه اهتمامات فكرية. اجتذبت المكتبة الطلاب والباحثين من جميع أنحاء منطقة البحر المتوسط، الذين، بدورهم، أضافوا إلى مجموعات الكتب أعمالهم وكتبهم التي جلبوها معهم. آنذاك، كما هو الحال الآن، كان البحث العلمي يزدهر معتمدا على التعاون وتشارك الأفكار؛ أي نقل وتبادل المعرفة. استطاع بطليموس تأليف كتاب «المجسطي»؛ لأن الإسكندرية منحته الظروف التي احتاجها لإنتاج هذا العمل المتفرد، الظروف التي ببساطة لم تكن متاحة في أي مكان آخر في ذلك الوقت.
अज्ञात पृष्ठ
استند بطليموس في عمله إلى عمليات رصد للسماء أجراها فلكيون سابقون، وتحديدا المصادر البابلية القديمة والبيانات التي أعدها هيبارخوس، ولكنه هو الآخر أجرى بنفسه عمليات رصد خلال الفترة من 26 مارس سنة 127 وحتى 2 فبراير سنة 141. في هذه المرحلة من تاريخ الفلك، اقتصرت عمليات الرصد هذه على التحديق في السماء ليلا وتدوين ملاحظات عن مواضع النجوم والكواكب. استخدم بطليموس أدوات متنوعة لأخذ القياسات، بما في ذلك المساطر وذات الحلق والأسطرلاب، ولكنها لم تكن دقيقة على الإطلاق. كانت الأسطرلابات، التي اخترعت في وقت ما في القرن الثاني قبل الميلاد أجهزة معقدة؛ إذ كانت عبارة عن صفائح دائرية من النحاس الأصفر منقوشة عليها إسقاطات خرائطية معقدة للقبة السماوية، يمكنها قياس الزوايا والمساعدة في التنبؤ بتحركات النجوم. على مر التاريخ، كانت الحاجة إلى تصميم أدوات فعالة أحد أعظم التحديات التي تواجه الفلكيين، وهي محور جهدهم لإنتاج أدق بيانات يستندون إليها في عمليات الرصد العلمية التي يقومون بها.
شكل 2-3: إعادة ترميم (بلوحات الإفريز الأصلية) لهيكل زيوس الهائل، وهو واحد فقط من المباني العامة الرائعة في بيرجامون القديمة، حيث نشأ جالينوس.
وفي الوقت الذي كان فيه بطليموس مشغولا بوضع نظام منهجي لنظرية فلكية في الإسكندرية، وصل شاب آخر إلى المدينة ليبحث في نوع آخر من المعرفة وهو الطب. وعلى النقيض من الشخصيات الغامضة لإقليدس وبطليموس، نجد كلاوديوس جالينوس وكأنه يثب خارجا إلينا من صفحات التاريخ، التي كتب كثيرا منها بنفسه. كان جالينوس، وهو الاسم الذي صار معروفا به، واحدا من أغزر كتاب العصور القديمة، وكان يقوم بدعاية غير عادية لذاته (زعم تكرارا أنه «وصل بالطب إلى الكمال»)،
11
والذي أدت به عبقريته في الطب إلى الانتقال من موطنه في بيرجامون إلى جوار الإمبراطور في روما. يمكننا تخيله وهو يصل بالقارب إلى الإسكندرية، شاب ماهر مفعم بالطاقة، يمتلئ بغطرسة الشباب، عازم على ترك بصمته في هذا العالم.
كان الحظ حليف جالينوس حيث ولد في بيرجامون عام 129 ميلادية. في هذه المرحلة، كانت المدينة تنعم بفترة من النجاح الباهر؛ إذ كانت الدولة الرومانية تحميها وتفضلها، وكانت عوائد ضخمة من الزراعة والمعادن والتجارة تتدفق على خزائن البلدية، وإلى جيوب مواطني بيرجامون. كان والد جالينوس معماريا ثريا ومهما؛ وهو اختيار ممتاز للمهنة في مدينة كانت تخضع لبرنامج رائع من إعادة البناء والترميم. فهناك عاش وعمل في مجتمع ضخم من العمال والبنائين المتخصصين؛ فكان من المتوقع أن يتردد في الشوارع صوت مطارقهم وهم ينحتون المعابد الجديدة وقاعات المحاضرات والمسارح من الحجارة والرخام. وزادت هذه الإنشاءات الجديدة من تميز مدينة كانت تعد بالفعل واحدة من أروع المدن في العالم القديم، والتي كانت مقرا لهيكل ضخم مكرس لزيوس، ومسرح مدرج منحوت في جانب الجبل، وأكروبوليس على غرار الأكروبوليس الكائن في أثينا.
6
تلقى جالينوس تعليما متميزا في الأجواء الفكرية المفعمة بالحيوية التي سادت المدارس العليا والمكتبة في بيرجامون، تحت رعاية تمثال أثينا، إلهة الحكمة ذات العينين الرماديتين. ربما كان يقتفي أثر والده، ولكن، عندما كان في السابعة عشرة من عمره، حدث أمر غير مجرى حياته. رأى والد جالينوس حلما أخبره فيه الإله أسكليبيوس أن ابنه ينبغي أن يصير طبيبا. ومن تلك اللحظة، ركز جالينوس على الطب. كان هذا أيضا بداية علاقته الشخصية العميقة بالإله الذي اتبع نصيحته، التي تلقاها عن طريق الأحلام، بقية حياته. تدرب جالينوس على يد أساتذة كانوا يعملون في الأسكليبيون (معبد الإله أسكليبيوس)؛ الذي كان جزء منه عبارة عن مستشفى، وجزء يمثل منتجعا، وجزء بمثابة مزار مقدس، وأحد أهم المراكز العلاجية في العالم القديم. كان الناس يأتون من كل حدب وصوب ليعالجوا هناك، والقرابين الصغيرة (النذور) التي كانوا يتركونها لاسترضاء أو شكر الآلهة هي أبلغ دليل على يأس الجنس البشري في مواجهة المرض. مات والد جالينوس عندما كان جالينوس في العشرين من عمره، وسرعان ما شد الرحال بعد ذلك مباشرة إلى مدرسة الطب في سميرنا، قبل أن ينتقل إلى كورينثوس. ومن هناك، سافر إلى الإسكندرية - التي كانت في ذلك الوقت، مركزا كبيرا للطب والمكان الوحيد الذي يمكنك أن تدرس فيه الهياكل العظمية البشرية - تلك المدينة التي كانت بمثابة وجهة مهمة للطبيب الشاب الطموح.
لم يمتدح جالينوس الإسكندرية مطلقا، ولكن على الرغم من أنه اشتكى من كل شيء، من الطعام إلى الطقس ومن المصريين أنفسهم، فقد مكث في المدينة خمسة أعوام وتعلم الكثير عن التشريح والجراحة. كذلك درس عن كثب علم الأدوية؛ إذ كان يوجد تراث عظيم فيما يتعلق بإنتاج الأدوية في مصر وكان بمقدوره أن يحصل على صيغ دقيقة غير محرفة من الوصفات الدوائية. كتب جالينوس باستفاضة عن النباتات المحلية والطعام؛ فهو يصف الذهاب إلى ميناء المدينة للتحدث إلى البحارة بشأن الحصول على عقاقير من مناطق بعيدة. وكان هذا النهج الوقائي العملي فيما يتعلق بالطب هو السمة التي ميزت مساره العملي بكامله.
شكل 2-4: نذور تشريحية عثر عليها في معبد أسكليبيوس في أثينا، منحوتة بحيث تجسد أجزاء مختلفة من الجسم. يعتقد أنها كانت تقدم قرابين للإله أسكليبيوس أملا في أن يشفي المرضى الذين كانوا يعانون من أسقام معينة.
अज्ञात पृष्ठ
بدأ جالينوس يكتب وهو في سن المراهقة، وهذا يفسر، جزئيا على الأقل، إنتاجه الهائل، «المنتشر انتشارا مجهدا»، على حد وصف أحد المؤرخين، الذي يبلغ نحو ثلاثة ملايين كلمة تعرف معا باسم «مجموعة الكتابات الجالينوسية».
12
ومما يبعث على الدهشة أن مجموعة الأعمال هذه تشكل ما يصل إلى نحو نصف الأدبيات الباقية لليونان القديمة، ولكنه ليس سوى جزء من عشرة ملايين كلمة كتبها، وفق التقديرات. كشأن إقليدس وبطليموس، كانت قدرة جالينوس على إجراء الدراسات الاستقصائية وتقييم النظريات التي تلقاها عن أسلافه من الأطباء، وقدرته على تقديمها في شكل متسق ميسر، هو ما يجعله على هذا القدر من الأهمية.
13
ومع ذلك، وعلى خلاف إقليدس وبطليموس، لم يفعل جالينوس هذا في مجلد واحد ضخم ملائم (بما يخدم مقاصدنا على وجه الخصوص). إن إسهامه الهائل في تخصص الطب منتشر في مئات الكتب المنفصلة التي تغطي نطاقا ضخما من الموضوعات. ونحو خمسها عبارة عن تعليقات على أبقراط (460-370ق.م)، عملاق الطب القديم، الذي قدم الأساس الذي بني عليه عمل جالينوس نفسه. فقد كان «النموذج الرباعي» لأبقراط عن الأخلاط والخصائص الأساسية (الأرض والهواء والنار والماء) والمواسم والعمر، هو ما استلهم منه جالينوس نظامه الخاص. كانت فكرة الأمراض القائمة على فكرة الأخلاط القائلة إن الجسم البشري يحتوي على أربعة سوائل؛ العصارة السوداء والعصارة الصفراء والبلغم والدم، وأن عدم التوازن في هذه الأخلاط يسبب المرض، هي المبدأ الطبي السائد وصولا إلى القرن التاسع عشر. كذلك حقق جالينوس اكتشافات مهمة خاصة به. فكان أول من أثبت أن الشرايين تحمل الدم، وبهذا أحدث تحولا في المعارف المتعلقة بالجهاز الدوري. وبين الفرق بين أنواع الأعصاب واستخدم تقنيات جراحية رائدة. ومع ذلك، كان شغفه الأعظم هو التشريح، ومع أنه لم يكن قادرا على تشريح الجثث البشرية (إذ كانت هذه الممارسة غير قانونية في الإمبراطورية الرومانية منذ سنة 150ق.م)، فقد نقل المعرفة التي اكتسبها من تشريح الخنازير والقرود، وهو شيء عادة ما كان يفعله على الملأ، أمام جمهور متحمس. ولم يعارض أحد النظريات الناتجة إلى أن نشر أندرياس فيزاليوس بحثه الثوري عن التشريح سنة 1543.
في سن الثامنة والعشرين، عاد جالينوس إلى بيرجامون، مسقط رأسه، ليصبح طبيبا في مدرسة المجالدة هناك. بحلول ذلك الوقت، كان قد أمضى عشرة أعوام يدرس، وهو «أطول تعليم طبي مسجل»،
14
وبفضل ذلك، تشكلت نظرة عامة فريدة عن هذا الفرع من العلم. كان المجالدون هم صفوة الرياضيين في ذلك الوقت، وأثناء معالجته لجروحهم، حظي جالينوس بمعلومات متعمقة عن وظائف الأعصاب والعضلات، مما ساعده على بناء خبرة عملية من شأنها أن تعود عليه بفائدة كبيرة لاحقا في مساره المهني. فاستحدث طرقا جديدة لخياطة الأنسجة العضلية العميقة وابتدع علاجات مبتكرة لمعالجة الإصابات.
في عام 161 ميلادية، انتقل إلى روما، حيث ذاع سريعا صيته بوصفه معالجا موهوبا. واستمر يؤلف الكتب، ونقح الأعمال التي كان قد كتبها سابقا، وبدأ يعطي محاضرات عامة ويقدم عروضا تشريحية. تنعم جالينوس بوصفه عضوا موقرا من صفوة الرومان؛ فكان ثريا ومثقفا وذا علاقات قوية، ولكنه ظل نوعا ما دخيلا، يوناني في عالم روما. كان يكتب دائما بلغته
7
अज्ञात पृष्ठ