من رضا باشا إلى ابنته جهان:
يجب عليك من الآن فصاعدا ألا تخرجي حاسرة القناع أو دون حاجب من الحجاب، وألا تفرطي بالكلام في الأماكن العمومية، وألا تتدخلي بالسياسة، وألا تنشري من مقالاتك في الجرائد، وعدا هذا كله يجب عليك أن تمتنعي عن مقابلة الجنرال فون والنستين، وعن مراسلته.
قرأت ما تقدم، واسترسلت إلى التأمل؛ إن أباها ولا شك مخطئ بآخر ما جاء في أوامره، ولهذا وجب عليها أن تقنعه بخطئه فلا يهتم بذلك الأمر، ولو كانت فعلت لما تجرأت أن تبوح بسر قلبها، ولكنها امرأة ولم تكن تؤكد أنها إذا حان الوقت تستطيع أن تجمع قوة من نفسها كافية لتدير مقصدها من ذلك السر، وكشرقية مسلمة تعتقد بالقضاء والقدر تركت الأمور تجري مجراها، موكلة أمرها إلى الله على أنها كانت تحب أباها وتجله إجلالا، فوطنت النية أن تذعن ولو لبعض أوامره.
أعادت العلامة إلى الكتاب، وراحت تنادي جاريتها فوجدت الباب موصدا، عالجت الغال فلم يذعن لإرادتها، ففتشت على المفتاح فلم تجده، فلبثت مفكرة محتارة بأمرها، من قفل الباب ترى؟ ألا يمكن أن تكون هي نفسها قد أوصدت الباب، وأحكمت قفله أثناء غضبها الليلة البارحة؟ وعلى فرض أنها هي التي فعلت ذلك فأين المفتاح؟ أهذه نتيجة صبرها ثلاثة أيام؟
لبت الجارية نداء مولاتها ولكنها لم تجسر أن تخبرها عن قفل الباب، وجاء غيرها من الخدام أيضا فأظهروا استغرابهم، وتجاهلوا الأمر، حتى إن خصيها العبد الأمين سليمان الذي أنصت لصوت سيدته داخل غرفتها قد هز رأسه متأسفا وتنحى: عجبا أجهان سجينة في غرفتها الخاصة؟ ولماذا؟
لم يجبها أحد من الخدام؛ لأن الأوامر صدرت إليهم مشددة بأن يحافظوا على الصمت التام، وأن لا يتداخلوا فيما لا يعنيهم.
الفصل الثاني
رضا باشا شيخ في الخامسة والسبعين من العمر، رديني القامة مستويها، طلق المحيا، مهاب الطلعة، كبير الهمة، عصبي المزاج، حاد الذهن، سريع الحركة والكلام، وفي وجهه الأشعث المستطيل نضارة تنفي حجة السن عليه، وعيناه العسليتان الحادتان ترسلان بشاشة تحت حاجبين عريضين هما أبدا على وشك الانزواء غضبا وغيظا، أما شعره المفروق في منتصف الرأس، ولحيته التي كان لا ينفك يعدل نموها لمما تنطق عن روح فيه كيسة، ونفس لم تزل خضراء، فهو من أولئك الشرقيين السمر البشرة، الأقوياء الأجسام، الشديدي البأس، الشبيهة رجوليتهم بمزية بالآلهة، خصت بالخلود فلا السنون تقوى عليها، ولا التنعم في دار الحريم يؤثر فيها.
ولو كان للأتراك أن يدركوا نسبهم ويسلسلوا الأسر فيهم لربما توصل رضا باشا في أصله إلى أولئك التتر الأشاوس الذين تسوروا جدران بزنطية، ورفعوا علم النبي على قبب «أجيا صوفيا».
على أنه من رجال الدور القديم، فقد كان يقدر الأشياء الحديثة أو الأوروبية حق قدرها، ولا نريد بهذا أنه كان مجردا من التعصب، كلا، فالحقيقة أنه كان يرغب بالروح العصرية وهي في بيت غيره لا في بيته، تركي عصري تارة، وتارة قديم، صلب العود، متشبث الرأي، غير متساهل في إدارة أموره الخاصة والعامة، وقد كان حرا للجهة شديدها، يخدع أحيانا بصراحة قوله أكثر من التركي المعروف بتمويهه ودهائه.
अज्ञात पृष्ठ