فقال أحمد مبتسما: ما كان لقطار أن يمنع صاحبا عن صحبه.
ثم قال عباس شفة وهو يرفع حاجبيه كمن يتذكر أمرا هاما: أنا أعرف الزيتون كما أعرف خان الخليلي. مضى زمن كنت أسافر إليها مرة على الأقل في كل أسبوع فأرجع بأحسن أنواع الحشيش.
فابتسم أحمد متسائلا: فهل أرجو أن أراك كثيرا؟
فقال عباس شفة بلهجة دلت على الأسف الشديد: تلك أيام خلت، لقد زجوا بالتاجر في السجن ومات فيه.
وأعربوا جميعا عن أسفهم لفراقه، وأثنوا على أسرته أجمل الثناء وترحموا على فقيدها، حتى سليمان عتة نفسه قال كلمة طيبة. وفاض قلب أحمد بمودتهم في تلك الساعة، سواء من يحبه منهم كالمعلم نونو أم من يمقته كالأستاذ أحمد راشد، وعجب لقلبه الذي يأسف على ترك أي شيء - وإن طال برمه به - ساعة الوداع، ثم عاودوا حديث الحرب كعادتهم، وذكروا توقف الهجوم الألماني عند العلمين.
وكان من رأى أحمد راشد أن المحور خسر موقعة مصر، أما سيد عارف فقال بلهجة اليقين: إن هتلر أمر رومل بالتوقف ليجنب مصر - قلب الإسلام النابض - ويلات الغزو، وإنه لولا رحمة الفوهرر لكان الألمان في القاهرة منذ شهر، ولبث بينهم مستمتعا بسمرهم ومزاحهم حتى انتصفت العاشرة فودعهم الوداع الأخير، وسلم عليهم واحدا واحدا، وتقبل تحياتهم شاكرا، ثم قفل إلى البيت.
وفتح النافذة وأطل على الحي. كان البدر - بدر نصف شعبان - يتألق نوره السني في سماء أغسطس الصافية، والنجوم من حوله تزهر باسمات في إشفاق كأنما يرثى لإدلاله بشبابه الذي علمت منذ الأزل أنه لا يدوم. وقد اكتسى الحي بغلالة فضية بددت وحشة الليل، وأضفت على الأركان والممرات سحرا.
الليلة نصف شعبان، ودعاء شعبان يتصاعد من النوافذ القريبة، وذاك صوت غلام يهتف بصوته الرفيع: «اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه يا ذا الجلال والإكرام» والأسرة تردد الدعاء وراءه. بينهم صامت وحده! وتساءل عما عسى أن يتوجه به من دعاء إلى ربه؟ .. وتفكر مليا، ثم رفع رأسه إلى البدر المنير، وبسط راحتيه، وغمغم بخشوع: «اللهم يا خالق الخلق، ومدبر كل شيء، تغمده برحمتك الواسعة، وأسكنه فسيح جناتك، وألهم والديه الحزينين الصبر والسلوان، وأنزل على قلبي السكينة والسلام، واكتب لي فيما يستقبل من الأيام عزاء عما سلف (وهنا وضع يده على قلبه) فلشد ما تحمل هذا القلب من ألم، ولشد ما تجرع من خيبة!»
هل يذكر يوم أقبل على هذا الحي وفي النفس شوق إلى التغيير؟ لقد حدث التغيير وأحدث دمعا وحسرة! وها هو ذا رمضان مقبل فيا للذكرى، أيذكر كيف استقبل رمضان الماضي؟ أيذكر موقفه من النافذة الأخرى في انتظار أذان المغرب وكيف رفع البصر فرأى؟!
وجرى أمام ناظريه التاريخ الذي كتبته الليالي متتابعات حتى هذه الليلة بمداد الأمل والحب والألم والحزن.
अज्ञात पृष्ठ