ودعوا بنوال، وجاءت الفتاة غافلة عما يضمرانه لها، وكان ينبعث من عينيها نظرة وديعة تلوح فيها الكآبة، فطلب الرجل إليها أن تجلس قبالته على كرسي ثم راح يقول بصوت رزين: نوال، دعوتك لأفضي إليك بسر هام، وعهدي بك فتاة عاقلة، والسلوك الحكيم هو ما أتوقعه منك دائما، فاعلمي أن جارنا العزيز رشدي أفندي مريض مرضا خطيرا أفظع مما يقولون!
فاصفر وجه الفتاة ونفذت لهجة والدها الرزينة إلى قلبها فانقبض خوفا، وتساءلت بإشفاق: أي مرض يا أبتي؟ - يؤسفني أن أصارحك أن الشاب مصاب بالسل، وهو مرض كما تعلمين فظيع، ورحمة الله واسعة، بيد أن على الإنسان واجبا نحو نفسه لا يجوز أن يفرط فيه أو يستهين به لأي داع مهما جل شأنه، فلندع لصديقنا العزيز بالشفاء، ولنذكر قوله تعالى:
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة .
السل! .. يا رب السماوات! .. ماذا يقول أبوها؟ هل أضحى رشدي العزيز شيئا واجبا اجتنابه؟! هل أوى حقا ذاك الداء الخطير إلى صدره الحنون؟ .. هل ضاعت الآمال وتبددت الأحلام؟! ورددت بين والديها نظرة حائرة تستحق الرثاء، فأدركت أمها ما تعاني من ألم أجبرها وجود أبيها على مداراته، فقالت: والله عالم بشدة حزننا وأسفنا، وهو القادر على جبر كسرنا، ولكن صدق والدك يا نوال، فحداثة سنك تجعلك صيدا سهلا لعدوى هذا الداء، فدعينا نحن نقم بالواجب عنا وعنك، ولندع له جميعا بالسلامة والشفاء إنه سميع مجيب.
وجعل أبوها يتفرس في وجهها من تحت حاجبيه، ويقرأ ما تظهر وما تبطن، ثم قال مستطردا: الآن أدركت ولا شك الباعث الذي دعانا إلى مخاطبتك في هذا الشأن، ولا شك أنك تقدرين رأيي حق قدره، فأنا أبوك وأخاف عليك أكثر مما تخافين على نفسك، لهذا أقول لك إنه لا يجوز بعد اليوم أن تعودي المريض العزيز، ولا عليك من هذا، ولن يلومك عليه إنسان عاقل منصف، ومهما يكن من الأمر فما أبالي كلام الناس ولا أقيم للومهم وزنا إذا جاء مخالفا العقل، فما رأيك؟!
ولم تكن تملك من الجسارة ما تستطيع معه أن تصارحه بما يدور في خلدها، وكان له من المهابة في نفسها ما يمنعها من مشافهته بما يخالف رأيه، فلاذت بالصمت حتى استحثها على الجواب ، فقالت بصوت خفيض: أمرك مطاع يا أبتي!
ولم يكن يطمع في أكثر من هذا، وخاف إن أطال الحوار أن يشجعها على الإفصاح عن حقيقة مشاعرها، فنهض قائما كالمقتنع المرتاح، وقال: لا خيبت لي رجاء أبدا.
وما إن غيبه الباب حتى أحدقت في وجه أمها وهتفت بها: كيف يكون هذا يا أماه؟!
فقالت المرأة بحزن واستسلام: لا معدى عنه يا نوال.
فقالت بصوت متهدج مرتعش: كيف لا أعوده .. كيف أتجنبه؟ هل يقوم خوف الإنسان على نفسه عذرا معقولا لهجر أصدقائه في أوقات محنتهم؟! وما جدوى الصداقة والمروءة في هذه الدنيا؟!
अज्ञात पृष्ठ