وحول ناظريه إلى أحمد، وسكت قليلا وصدره يعلو وينخفض ثم استطرد: أتعبتك كثيرا يا أخي، معذرة. لا تجد علي لعصياني نصحك، أعدك بأني سأرعى منذ اليوم صحتي، وأني لن أخالف لك نصيحة، وإذا من الله على بالشفاء فلن أستهين يوما بحياتي.
فعض أحمد على نواجذه ليحبس دموعه الهائجة، وقال مبتسما: لا محل للوم يا رشدي، فكل شيء بأمر الله، وغدا سترد إلى صحتك بإذن الله ، وستذكر هذه المحنة كما يذكر المستيقظ وطأة الكابوس.
فابتسم الشاب إلى أخيه ارتياحا لقوله، وسأله أن يدني الخوان من فراشه وأن يضع عليه زجاجات الدواء، وأتى أحمد بالخوان، وجعله في متناول يد الشاب، ورص عليه الكالسيوم، وحق المنوم، والكارومين، فشكره رشدي، ثم قال: سأحتاج إلى ممرضة لحقني بالكالسيوم يوما بعد يوم.
فقال أحمد: سأوصي الصيدلي بإحضار واحدة والاتفاق معها ... ويحسن بك أن تسكت كي لا تشق على نفسك، وربنا يرعاك ويحفظك!
تناول الشاب جرعة من المنوم، فاسترخت أعصابه - وقد نال منه أرق الليالي السابقة - وأخلد للنوم، إلا أن السعال انتابه مرات فمزق نومه شر ممزق.
43
وجاءت أيام شدة وألم، فغرق الشاب المريض في غمرة العذاب، وتقطع قلب الأم الذي يسند ظهره المهزول، واستبد به الأرق فلم يغمض له جفن - مع تناوله المنوم - إلا ساعات معدودات في الهزيع الأخير من الليل، وكثيرا ما أدركه الصباح وهو قاعد في فراشه وقد حطم السعال أضلعه، وصدفت نفسه عن الطعام، فإذا تجلد وتناول لقمات تقيأها في نوبات السعال المخيف، وتعاقبت عليه نوبات هذا السعال واجتاحته بعنف فما إن تسكت عنه واحدة إلا وقد أشفى نفسه على الانقطاع، وأنذرت عروق عنقه بالانفجار، وسالت عيناه دما. فظن به الهلاك وأيست من شفائه القلوب، إلا أنه بدا وكأنه يجتاز مفازة الهلاك بسلام، لا لتحسن طرأ عليه، ولكن لأن الأيام تتابعت وهو يقاوم ويجالد دون أن يسقط، ثم مضت تخف ثورة السعال، وتنتظم ساعات نومه، وتتقبل معدته القليل من الطعام، واستطاع أخيرا أن يرقد على جنبه، وآذن كل أولئك بتحسن قريب في صحته، ولكن مضى مارس جميعا وهو على حاله من الضعف والإعياء، لم يكن يستطيع مفارقة الفراش بتاتا، وهزل هزالا محزنا حتى لم يعد في برده سوى جلد ذابل وعظم معروق، وبعث منظر ساقيه القشعريرة في النفوس، وضمر وجهه، وتقلص خداه، وغارت عيناه، وعلت محياه صفرة باهتة، وبدا رأسه أكبر من الواقع وعنقه رفيعا يكاد أن ينقصف من حمله. ولاحت في عينيه نظرة عميقة متجهمة تدل على التصبر والتجلد، والتألم والاستسلام، فلم تزل تعذب أحمد حتى أضنته، كان يطالعها في عينيه كلما عاده فلا تمحى من ذاكرته أبدا، وكانت تحمل فؤاده المرهف جميع ما تنطق به من التألم والتصبر، كانت تترك في قلبه جروحا لا تندمل، كان يطلع منها على عوالم الألم والمرض واليأس، رباه لكم قطعت فؤاده وفتتت كبده، ولكم أهاجت مجاري دموعه.
وفى مرة دخل حجرته فوجده قد استوى جالسا في الفراش، وأدلى ساقيه إلى الأرض، ولم تكن أمه في الحجرة، فخاف أن يكون ذلك مقدمة لمحاولات تشق عليه، فقال له بتوسل: أليس الأوفق أن تلزم الرقاد؟!
فغاضت من عينيه نظرة التألم العميقة، وحلت محلها نظرة جزع وبرم وقال بلهجة لم تخل من حدة: أخي، ألا ترى كيف تمضي الأيام وأنا بمكاني هذا لا أبدي حراكا! هكذا ألقى على الفراش بلا حول ولا قوة، طوال النهار وأكثر من نصف الليل، حتى يغلبني ذهول المخدر الذي نسميه نوما! .. أواه، ما أضيق الحياة ... لقد سئمت هذا الفراش، وضقت به ذرعا.
فلم يدر الآخر ماذا يقول، وألقت اللهجة الشاكية على روحه غبارا من الكدر، فقال برقة: صبرا يا رشدي، وما وراء الصبر إلا الفرج!
अज्ञात पृष्ठ