فضحك رشدي قائلا بثقة: انتهى التقلب واستقر الرأي! - هل فاتحت أحدا بهذا الشأن؟ - كلا فيما عداها هي!
فخفق فؤاده خفقة عنيفة، وشرع خياله في استحضار صورة انفرادهما معا، وتهامسهما بهذا الشأن الخطير الجميل، ثم قطع تخيله بقوة، وقال بنبرات تنطق بالرضى: على بركة الله. - إذن أكل إليك تبليغ والدي بالأمر، ومن ثم نأخذ في الخطوات المتبعة.
فتريث أحمد قليلا ثم قال: سأخبر أبي ، أما الخطوات الأخرى فتحت شرط! - سمعا وطاعة. - ألا نشرع فيها قبل أن تسترد صحتك، وتستعيد وزنك السابق للمرض على الأقل!
فقال رشدي ضاحكا: هذا علي هين، ولن يطول انتظارنا.
ثم نهض قائما وهو يقول: أشكر لك والعقبى لك (ثم غير لهجته كمن تذكر شيئا جديدا) .. على فكرة! لماذا لا تفكر أنت أيضا في الزواج، أما كان ينبغي أن أبارك لك قبل أن تبارك لي؟
أيصارحه بما حال بينه وبين التفكير في الزواج؟! الفتى لا يدري مما يقول شيئا، ولذلك فهو يرميه بسهام مسمومة في غفلة وصفاء! وقد امتعض لتساؤله، وخاله لسان القدر يتهكم من شقائه بعد أن قضى به عليه. وقال كالمتهكم: مضى زمن الزواج! - مضى؟! - دع هذا يا رشدي، فأنت تعلم أنى امرؤ مشغول! والله لم يجعل لامرئ من قلبين في جوفه!
ومضى الشاب يهز رأسه أسفا، وأطرق الرجل، ولاحت في عينيه نظرة حزن عميق، واستسلام للقدر واليأس، سيتولى - هو - أمر زواج الشاب، فلا مناص من أن يحيك كفته بيديه، وفي ذلك ما فيه من ضروب الألم وفيه كذلك ما فيه من ألوان اللذة والعزاء، لن يخلو على الأقل من تلك اللذة الغامضة التي تؤلف بينه وبين الألم كما تؤلف بين الفراشة والنور، وفيه لذة الاستسلام إلى القضاء القهار، وفيه لذة التكفير عن مشاعره الباطنية التي لم يرتح إليها، وفيه أخيرا لذة لكبريائه الجريح.
32
وارتدى على أثر ذلك ملابسه، ومضى إلى الزهرة وقد فارقه ذلك الشعور بالأسف الذي يخامره كلما هم بالخروج عن عادة وحدته، واشترك في أحاديث الصحاب أكثر من ذي قبل - إذ كان جل حواره مع أحمد راشد وحده - واستسلم للضحك طويلا على غير عادته، وخطر له فجأة أن يشاركهم سهرتهم الأخرى التي سمع عنها دون أن يشهدها، وبدا له الخاطر مغريا فمال إليه بكل قلبه، بيد أنه تردد كالخائف ولم يدر كيف يقدم نفسه، ولم يغادره هذا الخاطر حتى نهض القوم للذهاب إلى حال سبيلهم، وكان من عادة المعلم نونو أن يمضي إلى بيته أولا ومن ثم يلحق بالصحاب في ندوتهم، فاتخذ منه رفيقا، وآتته شجاعته في الطريق فقال باستحياء: يا معلم. هلا اصطحبتني إلى الإخوان؟
فصفق الرجل بسرور وصاح به: هداك الله أخيرا!
अज्ञात पृष्ठ