أما المعارك التي جرت بين الجيوش الرومانية وجيوش الأقوام المهاجرة، والقتال الذي نشب بين القياصرة والقواد المطالبين بالعرش، فأخبارها مفصلة في كتب التاريخ إلى حد أن الباحث فيها لا يرى مشقة في استقصاء الحوادث.
فمعركة «كانية» التي نشبت سنة 216 قبل الميلاد بين الجيش القرطاجني بقيادة هنبال والجيش الروماني، كانت ولا تزال مثالا ينسج القادة العظام على منواله تعبئة الجيش في ميدان المعركة، وهي بلا منازع معركة نموذجية تتوق نفس كل قائد إلى تقليدها.
والسبب في تدوين أخبار هذه المعركة تدوينا صحيحا، مع أنها نشبت قبل الفتوح العربية بعدة قرون، هو أن المؤرخين الذين أثبتوا أخبارها، إما أنهم اشتركوا فيها فعلا، وإما أنهم قادوها بأنفسهم، وإما أنهم عاشوا في زمن وقوعها؛ فالقائد زينوفون اليوناني الذي قاد العشرة الآلاف من بلاد بابل إلى بلاد اليونان راجعا بهم إلى بلاده سجل حوادث تلك الرجعة في كتابه «الزحف» (أناباسيس)، وهذا الكتاب لا يزال مرجع ثقة الباحثين العسكريين، وكذلك سجل يوليوس قيصر أخبار فتوحه في بلاد جرمانية في كتاب «الحروب الغالية».
أما المؤرخون العرب الأولون فلم يدونوا أخبار الغزوات النبوية وحروب الردة والفتوح التي تمت في النصف الأول من القرن الهجري إلا بعد انقضاء جيلين على أقل تقدير.
وأول من جمع الوثائق الباحثة في الغزوات والفتوح الأولى عروة بن الزبير، المتوفى سنة 94 هجرية؛ فإن عروة جمع تلك الوثائق في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان؛ أي بعد وفاة الرسول بستين سنة، ودونها دون إسناد. ويلي عروة في التدوين ابن إسحاق، المتوفى سنة 151 هجرية، مقتبسا معلوماته من عروة. أما ابن هشام المؤرخ للسير النبوية، فاستقى أخباره من ابن إسحاق، مع أنه توفي بعده بقرن ونصف قرن؛ أي سنة 213 هجرية. ويأتي بعده ابن سعد الواقدي الباحث في حروب الردة، والمدون للفتوح العربية في العراق وفي سورية، وتوفي سنة 230 هجرية، بعد أن عاش 62 سنة، ويليه المؤرخ المشهور الطبري، وهو بلا منازع أول مؤرخ عربي أثبت الأخبار التاريخية بطريقة علمية. وتوفي في سنة 310 هجرية بعد الفتوح العربية الأولى بقرنين ونصف قرن على أقل تقدير.
والحقيقة أن كتاب تاريخ الطبري هو العمدة في استقصاء أخبار الفتوح العربية، وهو المرجع الأول والأخير. وهكذا يتضح لك أن رواة الفتوح أو مؤرخيها لم يشتركوا في وقائع الفتوح، أو أنهم لم يعاصروا أولئك الفاتحين؛ بل إنهم دونوا أخبارها سماعا أو نقلا بعد مرور مدة غير يسيرة على الفتوح، وكان لزاما أن تأتي الأخبار ناقصة ومشوشة ومتناقضة، حتى أمسى الباحث فيها لا يهتدي إلى استنباط بعض الحقائق إلا بشق النفس. والذي يزيد البحث إشكالا كثرة الرواة الذين استند إليهم المؤرخون في تدوين الأخبار، وأنت تراهم يسخون برواية غثها ويبخلون بسمينها.
وثمة تناقض بين أخبار الرواة المنتمين إلى الديوان الحجازي والرواة المنتمين إلى الديوان العراقي، وكذلك نجد تناقضا في الروايات التي ينقلها المضري والربيعي واليماني والقيسي؛ لأن كلا من هؤلاء حاول أن ينسب مفخرة الموقعة إلى قبيلته، وقد يكون غير مشترك. (2) دار الحركات
إن الساحة التي جرت فيها الحركات تمتد من سواحل البحر الأحمر في الحجاز، وتنتهي في أرض الدهناء التي تفصل بين مقاطعة الحسا ومقاطعتي العارض والسدير، وهذه الساحة تتناول شمالي الحجاز وجبل شمر وبلاد نجد.
والأرض التي تتكون منها هذه الساحة صحراوية الوصف على العموم، والمياه فيها قليلة والغابات لا أثر لها فيها، وتتخللها واحات نبتت فيها أشجار النخيل وبعض أشجار الفاكهة، وقد تكونت في المنخفضات التي تنصرف إليها مياه الأمطار بسهولة؛ حيث تكثر الآبار الضحلة، وتقطع الوديان هذه الساحة، وتكاد تبدأ جميعا من هضبة نجد المرتفعة فتجري في جهات مختلفة، ويصب بعضها في البحر الأحمر، والبعض الآخر في خليج فارس أو في جهة الربع الخالي، والوديان يابسة على العموم، وهي ضيقة ووعرة عند اجتيازها المناطق الجبلية، وعريضة سهلة عند مرورها بالبادية.
وينبت في بعض أنحائها شجر الأثل والشوك والطلح وغير ذلك من الأشجار التي تتحمل العطش، وعندما تنزل الأمطار تجري إليها المياه من كل جانب، فتغطي الوديان سيول المياه الجارفة الجارية بسرعة، وتصب إما في البحر وإما في الأنفدة الرملية.
अज्ञात पृष्ठ