ولما ظهرت سجاح اشتد هذا العداء، وادعت سجاح النبوة في بني تغلب في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وهي ترتبط ببني يربوع برابطة القرابة، فجمعت حولها جموعا من بني تغلب وبني نمر وبني إياد وبني شيبان، وتقدمت بهم إلى بلاد بني تميم، ويدل مجرى الوقائع على أنها ادعت النبوة قبل وفاة الرسول.
ماذا كانت تقصد سجاح بمسيرها جنوبا نحو بلاد تميم، هل أرادت أن تمهد السبل لتأسيس مملكة بين العراق ونجد تضم فيها قبائل بني تغلب، والبعض من بطون بكر وبني تميم؟ أو إنها أرادت الهجوم على المدينة، كما يروي سيف بن عمر؟ ثم هل شرعت في المسير قبل وفاة الرسول أو أن وفاته شجعتها على المسير؟ هذه أسئلة تصعب الإجابة عنها بصورة جازمة، والذي يلوح لنا أنها لم تكن تقصد لا هذا ولا ذاك، ولعلها برزت بالكهانة وأحسنت السجع فالتف حولها الناس، وأرادت أن تستغل نفوذها فسارت برجالها، وكلما مشت كثر أتباعها حتى أدى بها المسير إلى الدخول في أرض بني تميم، ومع ذلك فمن المحقق أنها بدخولها ديار بني تميم أرادت أن تستفيد من القرابة التي تربطها بهم، وهذه القرابة غير واضحة، ومن الرواة من يزعم أنها تميمية من بني يربوع وأخوالها من بني تغلب، ومنهم من يدعي أنها تغلبية، وبنو يربوع أخوالها.
والواضح من أخبار الرواة أنها دخلت بلاد بني تميم بعد وفاة الرسول، وكان دخولها مما زاد الشحناء بين رؤساء بني تميم، فأراد كل منهم أن يستغلها لمصلحته، والغريب في أمر بني تميم أنهم لم يخضعوا لرئيس واحد أسوة بالقبائل الأخرى؛ فكان لبني أسد رئيس ولبني حنيفة رئيس ولغطفان رئيس، وهلم جرا.
والغريب في ذلك أن الفرق كانت تعيش مستقلة بعضها عن بعض، وكانت تتقاتل بخلاف فرق القبائل الأخرى، ولعل الداعي إلى ذلك أنها كانت جسيمة لا يمكن لرئيس واحد السيطرة عليها، وأنها في بلاد جعلتها بمأمن من غزوات القبائل الأخرى، فلم تر الفرق والبطون حاجة إلى الوحدة.
ويظهر أن مالك بن نويرة استطاع أن يستميل سجاح إلى جانبه لقرابتها منه، وأراد أن يستغلها لمصلحته فيضرب بها الفرق المخالفة له ويرأس بني تميم بالقوة، أما هي فكانت تريد أن تستفيد منه للهجوم على المدينة، ومال وكيع بن مالك رئيس بني حنظلة إلى جانبه، وهكذا مالت شعب بني مالك إلى جانب سجاح.
وكانت الشحناء قبل ذلك شديدة بين رؤساء بني تميم كما نعلم، ولما ورد خبر وفاة الرسول عليهم أرسل بعضهم الصدقات إلى المدينة، وانتظر بعضهم ما يصنع البعض الآخر، ويروى أن قيس بن عاصم رئيس مقاعس والبطون قال: «وا ويلنا من ابن العكلية - يريد به الزبرقان - والله لقد مزقني، فما أدري ما أصنع، لئن أنا تابعت أبا بكر وأتيته بالصدقة لينحرنها في بني سعد فيسودني فيهم، ولئن نحرتها في بني سعد ليأتين بها أبا بكر فيسودني عنده.» فعزم قيس على توزيع الصدقات على مقاعس والبطون، ففعل وعزم الزبرقان على الوفاء بإرسال الصدقات إلى المدينة، وكانت النتيجة أن نشب القتال بين عوف والأبناء من جهة والبطون من جهة أخرى، وبين الرباب من جهة ومقاعس من جهة أخرى، وبين خضم وحنظلة وبين بهدى ويربوع.
ولما وصلت سجاح إلى الحزن أرض بني يربوع واتفقت مع مالك بن نويرة، والتحق بها وكيع بن مالك، شرع مالك ينفذ خطته ليرأس بني تميم، فبدأ بقتال الرباب وعوف والأبناء، فلم يظفر بهم؛ بل دارت الدائرة عليه وعلى سجاح، فوقع وكيع أسيرا بيد الرباب، وأرادت سجاح أن تجرب حظها مع بهدى وخضم من شعب بني عمرو، فكان نصيبها الخيبة أيضا، فلما لم تظفر بطائل تركت مالكا وانسحبت برجالها من بلاد بني تميم وسارت إلى اليمامة.
هذا هو الموقف حين كان خالد يجول ويصول في بلاد بني أسد، ولم يكن يجهله؛ لذلك لم يكد ينتهي من أمر بني أسد حتى تراه قد انتهز الفرصة وأمر جيشه بالمسير إلى أرض بني تميم دون أن ينتظر أمرا من الخليفة، وهكذا نراه يستعمل إبداعه ويسير جيشه نحو البطاح، برغم مخالفة الأنصار له، مدعين أن عهد الخليفة إليهم أن يقيموا بعد فراغهم من بزاخة إلى أن يكتب إليهم. إلا أن خالدا تقدم نحو البطاح قائلا لهم إنه هو الأمير، وإليه تنتهي الأخبار، وإن لم يأته أمر من الخليفة فإنه لا يريد أن يضيع الفرصة ما دام مالك بن نويرة بحياله، وشعب بني تميم نافرة منه؛ لذلك لم يتردد خالد في الذهاب إليه من دون الأنصار.
والواقع أن مالك بن نويرة بقي وحيدا بين بني تميم؛ لأن صفوان بن صفوان كان قد أرسل الصدقات إلى المدينة، وكذلك الزبرقان، أما قيس بن عاصم فكان عليه، وكذلك وكيع بن مالك لما سمع انتصارات خالد أرسل صدقات بني حنظلة إليه فبقي مالك حائرا ماذا يعمل، وكان بالبطاح مع رجاله من بني يربوع، والبطاح أرض دون الحزن، وهي ذات مراتع خصبة وفيها مياه كثيرة، فالقصيبة والبريدة من مواقعها.
وندم الأنصار على تخلفهم؛ لأنهم خشوا أن تصيب المسلمين مصيبة فيلاموا عليها، فأوفدوا رسولا إلى خالد يطلبون منه الإقامة إلى أن يلحقوا به، فأقام خالد حتى لحقوا به، فسار إلى البطاح والروايات غير متفقة في أمر مالك بن نويرة، ومن الروايات ما تزعم أن مالكا قاتل المسلمين برجاله من بني يربوع فقتل في القتال، ومنها ما يزعم أنه لما تأكد من الخيبة فرق رجاله وأمرهم بألا يقاتلوا المسلمين، ورجع إلى منزله، ولما قدم خالد البطاح بعث أربع سرايا إلى جهات مختلفة، فرجعت السرية التي كان يقودها أبو قتادة الأنصاري بمالك، والبعض من رجاله.
अज्ञात पृष्ठ