فإذا كان قارئ هذا الكتاب لم يحصل على تعليم مدرسي أو جامعي واف، فإنه سيجد هنا برنامجا وافيا لدراسة ذاتية يستطيع بها أن يرقي شخصيته وينمي ذهنه بحيث لن يأسف على ما فاته، وإذا كان القارئ من السعداء الذين حصلوا على تعليم جامعي، فإنه سيجد هنا أيضا ما يحثه على أن يكون طالبا مدى عمره، بل يجب على خريج الجامعة أن يذكر أن سرعة النمو في المعارف تجعل حتما عليه أن يتجدد بالدراسة الدائمة؛ فإن الطبيب الذي تخرج مثلا حوالي 1908 أو 1918، وبقي يمارس الطب إلى الآن، لا يكاد يجد دواء يوصف لمريض في الوقت الحاضر مما كان يعرف قبل 1918؛ لأن جميع الأدوية تقريبا جديدة، وحسبنا أن نذكر منها الفيتامينات، والهورمونات مثل الأنسولين، ثم المضادات الحيوية، ومجموعة السولفاناميد، وغيرها. هذا عدا الأمصال الواقية؛ فإن كل هذه الأشياء لم يعرفها في الجامعة، وهو إذا كان قد جمد وكف عن الدراسة عقب الجامعة فإنه قد عاش بعد ذلك جاهلا لحرفته.
وهكذا الشأن في سائر المعارف؛ فإنها دائمة التجدد، تطالب من تخصصوا فيها بمتابعة الدراسة، ولنذكر مثلا الطاقة الذرية.
والغاية من هذا الكتاب هي أن نوضح للقارئ ميزات الثقافة، وخير الأساليب التي يجب أن تتبع في تحصيلها؛ إذ لو عرف الشاب أن هناك لذة سامية في الدراسة والتوسع الذهني تزيد على ما يجد من لذة اللهو السخيف، أو حتى في القراءة جزافا، لما أهمل تثقيف ذهنه، ولما تأخر لحظة عن وضع البرنامج وتحمل التكاليف لهذا التثقيف.
وأرجو أن يجد القارئ هنا إيحاء وإرشادا معا، فينبعث إلى الدراسة، ويجد في الوقت نفسه نظاما يتبعه، وليس الغرض من هذا الكتاب التثقيف من أجل الحرفة، وإنما أرجو به أن أحمل الشاب على أن يتعود الدراسة وهو لا يزال في شبابه حتى إذا بلغ الخمسين أو الستين كانت عادته اللازمة التي تضعه في تساؤل استطلاعي طيلة حياته، وأحب أن أحمله أيضا على أن يحس أن الدراسة في الشباب تغير أمداء مستقبله، وتفتح له أبوابا في رقيه كانت تكون موصدة لولا هذه الدراسة.
المجتمع يربينا
لصديقي الأستاذ أحمد جمعة كتاب (لما يطبع) يدعو فيه دعوة غريبة عن أذهاننا، هي الاستغناء عن المدارس اكتفاء بالمجتمع؛ أي إن المجتمع يجب أن يربينا، وأننا لسنا في حاجة إلى مدارس ننتظم فيها تلاميذ كي نتعلم.
وغرابة هذه الدعوة تعود إلى أننا نشأنا في بيئة جعلت المدارس مألوفة في مجتمعنا، نكاد لا نجد مدينة بل قرية تخلو منها، ولكن لم تكن الحال كذلك قبل بضعة قرون، حين كانت المدارس قليلة لا تنشأ إلا في العواصم، وكان الناس يتعلمون الصناعات والفنون التي يحترفونها بالانتظام في «الطوائف»، والطائفة هي الجماعة التي كانت تتألف للاشتراك في الحرفة، يدخلها الصبي فيتعلم، ثم يتدرج إلى أن يصير عاملا، فمعلما.
وقد كان نظام الطوائف عاما في مصر إلى أيام إسماعيل باشا، كما كان عاما في أوروبا في القرون الوسطى، بل إن نظام الجامعات القائم الآن في أوروبا، وهو النظام الذي يجعل الجامعة مستقلة، إنما نشأ على غرار نظام الطوائف؛ لأن كل طائفة حرفية كانت مستقلة في قبول أعضائها وتربيتهم ومعاقبتهم، وكلمة جامعة تعني طائفة أو - كما نقول الآن - «نقابة».
ومن الحجج التي يقدمها أحمد جمعة على أن المدرسة غير ضرورية أن كثيرا من الزعماء والأدباء والعلماء لم يتعلموا في مدرسة ما، أو كان تعليمهم ناقصا، مثل داروين داعية التطور، بل مثل كمال أتاتورك، وستالين، وبرناردشو.
ولسنا هنا نقول بالاستغناء عن المدرسة، ولكنا مع ذلك يجب أن نعترف بأن في المجتمع الحسن فرصا كثيرة لتعليمنا نستطيع أن ننتفع بها في تثقيفنا، وكلنا يعرف أن «الورشة» أي المصنع الصغير، هي مدرسة فنية لجميع العمال الذين يعملون فيها، وكثيرا ما رأينا هؤلاء العمال يخرجون من الورشة كي يستقلوا ويعملوا ويكسبوا بما تعلموه فيها.
अज्ञात पृष्ठ