من غير النافع أن نعدد الأمثلة لأنها مستفيضة في جميع المؤرخين الذين لم أذكرهم، وليس من الضروري أن نذهب بالتمثيل بعيدا، فقد وضح أن الناس في إغريقا وفي آسيا الصغرى كانوا يستعملون الكتب في الأعمال العمومية والخصوصية على نحو ما نستعملها نحن تقريبا، وبوسائل أشبه ما تكون بوسائلنا من حيث المادة التي كان يسهل الحصول عليها من غير عناء، وأنهم يختمون الأوراق على نحو ما نختم أوراقنا بالطوابع الرسمية، وبالأختام التي يمكن تقليدها من غير أن تكسر ... إلخ.
وماذا كانت تلك المواد؟
تجيبنا على ذلك عبارة هيرودوت الصريحة؛ فإن ذلك المؤرخ العظيم للأزمان الأولى للعالم الإغريقي قال في عرض حديثه عن كيفية نقل «قدموس» الحروف الهجائية من فينيقيا إلى القارة عند اليونان ما يأتي:
يطلق اليونان على الكتب من قديم الزمان اسم الدفاتر أو الجلود؛ لأنهم لما لم يكن عندهم ورق في تلك الأزمان كانوا يستعملون للكتابة جلود المعزى والغنم، بل في أيامنا ما يزال كثير من المتوحشين يكتبون على الدفاتر أو جلود من هذا النوع.
20
وقد أتى هيرودوت بما لا يقل عن ذلك عجبا؛ فإنه ذكر أنه رأى بنفسه عند زيارته طيبة في بيوسيا في معبد أبولون الأسميني ثلاثة نصائب منقوشا عليها بالحروف التي كانت تستعمل في يونيا، وهذه النقوش بالغة في القدم إلى لايوس أبي أوديب؛ أي بعد قدموس بأربعة أجيال.
إن الكلمة التي يستعملها هيرودوت عبارة عن الكتب هي كلمة «ببلوس»، ودلالتها معروفة بصورة مضبوطة؛ فإن هذه الكلمة تدل على جزء معين من بردي مصر، ولم يترك تيوفراسط محلا لأقل شك في هذا الصدد ، فإنه في كتابه «تاريخ النباتات»
21
قد وصف النباتات المائية، وتبسط في وصف البردي الذي ينمو في ماء النيل، وعدد الاستعمالات المهمة المتنوعة التي يصلح لها البردي، وبعد أن قال: إن من الخشب تصنع المراكب، قال: ومن الببلوس تصنع الشرع والحصر والملابس أحيانا والنعال والحبال وأشياء أخرى كثيرة أهمها الكتب «ببليا» المعروفة عند الأجانب حق المعرفة. وعلى ذلك يكون معنى ببلوس الذي ذكره تيوفراسط هو ذلك الجزء من ساق البردي الذي لمرونته ومقاومته يقبل هذه الاستعمالات المختلفة بالنسج واللي.
وخلاف مكتبتي بيزيسطراط وبوليقراطس، فالثابت من الأدلة التفصيلية التي أتى بها أفلاطون أن الكتب في زمنه على المعنى الذي نفهمه نحن من هذا اللفظ كانت منتشرة جد الانتشار بآتينا. وقد روى سقراط نفسه في كتاب «فيدون» أنه سمع ذات يوم إنسانا يقرأ كتاب أنكساغوراس وفيه أن العقل هو نظام كل الأشياء ومبدؤها. ولما قرعته هذه الحكمة البالغة رجا أن يجد في أنكساغوراس حل كثير من النظريات بعدما سمع من براعة الابتداء، فجد في طلب مؤلفاته وهو يظن أنه سيتعلم منها علم الخير والشر، فقرأها على شوق الفهم، ولكنه كلما تقدم في القراءة خاب من رجائه؛ فألقى بها إلى جانب ليعود إلى تفكره الذاتي، إذا كان لسقراط كتب يراجعها ويتركها، كما يفعل بيننا عشاق العلم والحكمة سواء بسواء، يرجعون إلى كنوز دور الكتب فلا يجدون فيها شفاء الغلة الذي يطلبونه.
अज्ञात पृष्ठ