وكان ما قاله أرسطاغوراس عن المسافة حقيقة واقعة؛ فإن هيرودوت قد عدد بالضبط والعناية المائة والإحدى عشرة محطة الواقعة على الطريق الجميل الذي أنشأه دارا من سرديس إلى صوص على نهر كواسب أو كراسو البعيد جدا من مدينة بابل نحو الشرق، فكان 13500 غلوة أو 450 برزنجا، والبرزنج هو في المتوسط 30 غلوة، أو بعبارة أخرى 600 فرسخ، فكان لا بد للقيام بمشروع ضخم كهذا عبقرية إسكندر ومائتا عام حرب على مملكة الفرس الضخمة، ولم يكن لكليومين من خلقه ولا من زمانه ما يجرئه على معاناة أمثال هذه المشروعات.
ولما فشل أرسطاغوراس في إسبرطة قصد آتينا؛ لأنها صارت شيئا فشيئا أقوى مما كانت عليه منذ قلبت طغيان البيزستراتيين، وأخذت ترسل السفراء إلى أرتافرن مرزبان سرديس حتى لا يصغي إلى مزاعم هيبياس الذي التجأ إليه. ولما لم ينجح أرسطاغوراس في استمالة كليومين، ونجح في استمالة سكان آتينا، وعدتهم ثلاثون ألفا - كما ذكره هيرودوت بعبارة ملؤها التهكم؛ إذ ذكرهم بأن ملطية كانت مستعمرة لأجدادهم - فتقرر أن يرسلوا إلى يونيا عشرين سفينة لنصرتها، وكان ذلك - كما رواه أيضا هيرودوت - بداية الحرب التي فيها لبست الجمهورية حلل الفخر بتخليص الإغريق، والتي فيها لاقت دولة الفرس هزائم قاسية كانت طلائع لخرابها العاجل. وقد حمل أرسطاغوراس البيون أيضا على الثورة، وهم أولئك الذين أخرجوا من ضفاف إستريمون إلى فريجة بأمر دارا، وهربوا منها إلى شيوز، وسافروا من شيوز إلى لسبوس، ومنها إلى دوريسكوس، ومنها عادوا إلى بلدهم الأصلي.
لما وصلت السفن العشرون إلى إيفيزوس وانضم إليها خمس سفن أخرى من إريتريا، لاقوا إخوة أرسطاغوراس يقودون جند ملطية؛ لأن أخاهم أقام بالمدينة يباشر بنفسه حركة التعبئة، وقد ترك الجيش البري الأسطول في مياه إيفيزوس وتقدم هو على ساحل «قايستر» يجوس خلال طمولوس حتى وصل إلى سرديس، فأخذها من غير حرب تذكر وحرقها بغاية السهولة؛ لأن سطوح منازلها مغطاة بالقصب اليابس. ولم يتمكن أرتافرن إلا من الاستعصام هو وجنوده بالقلعة، وقد انزعج الفرس والليديون لما رأوا المدينة غنيمة النار، ولكنهم استجمعوا شجاعتهم وخرجوا إلى المحاربين وثبتوا أمامهم حتى اضطروهم إلى التقهقر نحو الشاطئ، ونهض الفرس المرابطون على الهالوس إلى المعركة فلم يجدوا اليونان في سرديس؛ فاقتفوا آثارهم إلى إيفيزوس حيث نالوا منهم نيلا في واقعة كبرى.
ولقد أخذ اليأس من الآتينيين كل مأخذ من جراء هذه الهزيمة؛ فانسحبوا على رغم رجاء أرسطاغوراس وإلحاحه، ولكنه هو لم ييأس، بل اعتمد على جنوده الخاصة وعلى مساعدة مدن هلسبون وقاريا وجزيرة قبرص العظيمة، وإذ ذاك كان أونيزيلوس طاغية سلامين منتقضا على الفرس.
لما علم دارا بما أتاه الآتينيون من المشاطرة في إحراق سرديس أقسم أن ينتقم منهم ويجزيهم على هذه الإساءة شر الجزاء، وأرسل هستيا بديا ليعيد اليونان إلى الطاعة بفضل دسائسه، ولم تكن مع ذلك أحوال اليونان بخير، بل إن قبرص سلمت بعد مقاومة شديدة، وقاريا التي كانت ثائرة ردت إلى الطاعة، وكلازومين سقطت في قبضة أرتافرن وأوطانيس، وكذلك سلمت كومة أوليد، فلم يستطع أرسطاغوراس احتمال هذه الخيبة؛ فانزوى في مرسين بلد حميه هستيا، وكان هيكاط الملطي يرى أن الأوفق لهم الالتجاء إلى جزيرة ليروس حيث يمكنهم البقاء حتى يعودوا إلى ملطية في الوقت المناسب. ولما سافر أرسطاغوراس إلى تراقيا قتل أمام قلعة وهلك جيشه.
ولم يكن حظ هستيا بأحسن حالا من ذلك؛ فإن أرتافرن تظنن في أمره، واطلع على دسائسه ففر بعد عناء من سرديس إلى جزيرة شيوز فانتبذوه بفكرة أنه صنيعة الفرس، ولكنه بعد ذلك كسب جاذبيتهم بأن أظهرهم على ما فعل لإقامة ثورة اليونان؛ فحملوه إلى ملطية حيث قابله أهلها بفتور؛ لأنهم بعد أن نالوا حريتهم كانوا يخشون أن يعيد إليهم أيام طغيانه، ولما نفي من وطنه حصل من أهل لسبوس على بعض السفن يطوف بها جهة بيزنطة ينهب أموال الذين لا يريدون أن ينضموا إليه.
أخذت العاصفة التي أثارتها ثورة أرسطاغوراس تهمي على رأس يونيا التي لم تتقهقر أمام هذا الخطر المزعج. انعقد البانيونيون وقرر الحرب، ولم تكن هناك فكرة في حرب برية؛ فلم يؤلف جيش ما، وعولت ملطية على أن تتفرد بحماية أسوارها التي يهددها العدو، ولكنهم رتبوا أسطولا عظيما تجتمع سفنه في لادي؛ وهي جزيرة صغيرة قبالة ملطية، فاجتمعت إليه السفن من كل ناحية؛ حتى إن الأيوليين أرسلوا سبعين سفينة فكان الملطيون ومعهم ثمانون سفينة في الجناح الأيمن جهة الشرق، وكان مع البريينيين اثنتا عشرة سفينة، ومع الميونتين ثلاث، ومع أهل طية سبع عشرة، ومع الشيوزيين مائة سفينة، ومع الأريتريين ثمان، ومع الفوكيين ثلاث فقط كالميونتين، وكان مع أهل سموس في آخر الجناح الأيسر إلى جهة الغرب سبعون سفينة، فكان هذا الأسطول الكبير العدد في طاقته أن يقاوم حلفاء الفرس الذين هم الفينيقيون والقبارصة والصقليون والمصريون. ولكن تسلل الشقاق بين اليونان، وحقد بعضهم على بعض حتى يوم الوقيعة؛ فلم يتناصروا كما ينبغي. وكان السموسيون واللسبوسيون أول من فر من حومة القتال. ويكاد الشيوزيون أن يكونوا وحدهم هم الذين صلوا سعير الحرب وقاموا بواجبهم، ولكنهم كانوا أضعف من ألا يهزموا، وختمت الحرب بهزيمة تامة.
وكان دينيس - رئيس الفوكيين - بطلا مغوارا، وكانت عزيمته بحيث يضمن الظفر لو أطاعوا أمره، فلما انهزم لم يجد مناصا من الهرب على شواطئ فينيقيا، ومن هناك إلى صقلية حيث يشن الغارة على القرطجنيين والطرهينيين.
بعد هزيمة لادي حوصرت ملطية برا وبحرا؛ فأحسنت الدفاع عن نفسها، ولكنها أخذت عنوة بعد حصار مهلك؛ فذبحت رجالها وسبيت نساؤها وأطفالها، وسيق بهم أرقاء بأمر دارا إلى مصب نهر دجلة، واحتل الفرس المدينة والسهل الذي يحيط بها، وأعطوا بقية ما كان يتبعها من الأرض إلى بيدازيي قاريا. أما آتينا التي تخاذلت عن ملطية وتركتها، فإنها ألمت لمصائبها التي هي نذير بمصائب أدهى وأمر. ولقد صاغ هذه الواقعة المحزنة الشاعر المأسائي فرينشوس في رواية تمثيلية أبكت جميع شهود تمثيلها؛ فحكم على الشاعر بتغريمه ألف درهم، ومنعت الرواية منعا باتا.
ثم قصد الفرس جزيرة سموس، فلما رآهم أهلها ومعهم أقيس بن سيلوزون طاغيتهم القديم الذي كان نفاه أرسطاغوراس تفرسوا ما سينزل بهم القدر؛ فاستحبوا الرحيل من أوطانهم على أن يحتملوا ظلمه مرة أخرى؛ فهاجروا من جزيرتهم إلى قلقطة حيث كان يدعوهم إلى صقلية أهل زنكل. وكان السموسيون هم وحدهم اليونان الذين هاجروا هذه المرة هم والملطيون الذين استطاعوا أن يفروا من المذبحة. ودخل أقيس سموس تحت حماية الفرس الذين استثنوا معابد هذه المدينة وحدها من الإحراق اعتدادا بجميل السموسيين الذين تخاذلوا عن إخوانهم يوم لادي.
अज्ञात पृष्ठ