أما المسألة الأخرى التي أثارت هذه الحادثة ثائرتها فهي: أيكون من الممكن أن طاليس حسب حقيقة هذا الكسوف وتنبأ به كما سمع بذلك هيرودوت؟ شك المؤرخون الحديثون في ذلك. وفي هذه الأيام أنكر ج. جروت
10
أن العلم كان وقتئذ من التقدم بحيث يسمح بنبوءات مثل هذه وحسابات علمية إلى هذا الحد. لا أبغي أن أعارض هذا المؤرخ وهو حجة، ولكني أنبه إلى أنه يؤخذ من رواية هيرودوت عينها - صادقة كانت أو كاذبة - أنه في زمانه؛ أي بعد طاليس بقرن تقريبا كان الناس يعتقدون إمكان حساب الكسوف، هذا وحده يكفي في إثبات أن العلم كان متقدما إلى قدر الكفاية؛ فإن مثل هذا الفرض يشهد بتقدم هو غاية في الجد؛ لأنه لأجل أن يقبل العامي إمكان حساب الكسوف ويصدقه ويتحدث به لا بد من أن يكون العلماء قد وفوا الموضوع بحثا.
ومما لا جدال فيه أيضا أن شهرة طاليس بين تلك الشعوب كانت من الرفعة بحيث إنهم نسبوا إليه من غير تردد هذه المعجزة العلمية، ولقد قرر بلاين أن هيبارخس الرودسي أمكنه أن يضع فهرسا لكسوف الشمس وخسوف القمر مدة ستمائة عام. وفي زمن هذا الكاتب الروماني لم تكن الحسابات الفلكية لتخطئ مرة واحدة، حتى قيل: «إن هيبارخس كان يحضر مداولات الطبيعة.» وكان هيبارخس بعد طاليس بأربعمائة عام تقريبا، وربما كانت المسافة بين علم أحدهما وعلم الآخر متناسبة مع المسافة الزمنية بينهما؛ لأنه ليس في يوم واحد يمكن الوصول إلى نتائج علمية مضبوطة إلى هذا المقدار. فلست أرى من المستحيل في شيء أن طاليس في عهد أليات قد فتح باب علم بلغ به هيبارخس هذه الغاية البعيدة سنة 150 قبل الميلاد.
أعود إلى ما كنا فيه: بعد قليل عقد الصلح بين الليديين والميديين بوساطة سونيزيس ملك كيليكيا ولابينيوس ملك بابل، وزف أليات ابنته زوجة إلى أصطياغ بن كواكزاريس، وأقسم الطرفان على احترام المعاهدة. واتباعا لعرف هذه الشعوب قد فصد سفراء الصلح من الجانبين أذرعهم ومص كل فريق من دم الفريق الآخر. ولكن هذه المحالفة التي عقدت على أكمل ما يمكن من الإخلاص كانت طائر نحس على ليديا؛ إذ جرتها إلى حرب جديدة انكسرت فيها وفقدت وجودها.
ذلك أنه لما مات الملك أليات خلفه ابنه كريزوس الذي قدر عليه أن يكون آخر ملك لجنسه، وحقت بذلك نبوءة هاتف دلفوس. وكان كريزوس هذا الذي صار اسمه مرادفا للغنى أميرا من خير الأمراء الممتازين، ومع أنه كان شديد الإعجاب بكنوزه الوراثية التي جمعها أجداده الهيرقليون والميرمناديون لم يكن رجلا مترفا ولا ضعيفا كما يبدر للذهن عادة، فما كاد يلي الملك حتى فكر في أن يتم عمل أسلافه ويخضع نهائيا جميع المدائن الإغريقية على الشاطئ، فتجنى عليها بعلل مختلفة حقا أو باطلا بادئا فتحه بإيفيزوس، وعما قريب أخضع إلى سلطانه كل المستعمرات؛ إذ قهر يونيا وأيولس جميعا، ولكن كريزوس أحس أنه لم يصنع شيئا ما دامت الجزر خارجة عن قبضة يده، فجهز أسطولا ليجاوز عليه بجيشه البحر، ثم عدل عن هذه الغزوة التي هي قليلة الجدوى عند أمة كالليديين بنصيحة بياس البرييني، وفي رواية أخرى بنصيحة بطاقس الميتيليني؛ إذ جاء الحكيم إلى سرديس فسأله الملك عن ماجريات الحال في الجزائر، فأجاب بياس: «إن أهل الجزائر يتأهبون لمهاجمة سرديس في عشرة آلاف فارس.» فأجاب كريزوس: لتشأ السماء أن يركبوا هذا الشطط، فقال الحكيم: «أيها الملك، لك الحق أن ترغب في أن أهل الجزر يرتكبون خطأ كهذا، ولكن ما ظنك بما سيقولون من جانبهم عندما تأتيهم الأنباء أنك تفكر في غزوهم من طريق البحر؟» ففهم كريزوس الدرس على مرارته، وقنع بأن عقد عهد محالفة ومودة بينه وبين يونان الجزر.
لما ارتاح كريزوس واطمأن من هذه الجهة بحث في بسط سلطانه إلى جهة الشرق وفي آسيا الصغرى، وعما قليل وضع يده على جميع الشعوب النازلة إلى هنا من نهر هالوس دون ما وراءه، وهم الفريجيون، والميزيون، والمارياندينيون، والخالوبس، والبفلاغونيون، وتراقيوثينيا، وبيثينيا، والقاريون، والبمفيليون، حتى الدوريون واليونان والأيوليون، ولم يفلت من قبضته إلا كيليكيا وليكيا في الجنوب.
وكان نهر هالوس هو أحد الثلاثة أو الأربعة الأنهر التي تحدد هذه البقاع المسماة آسيا الصغرى وترويها، فهو ينبع من جبال أرمينية ويسير من الشرق إلى الجنوب الغربي، وينفرج على نحو زاوية قائمة ليتجه من الجنوب إلى الشمال فيصب في البحر الأسود شرقي سينوب وطن ديوجين، وبعد نهر هالوس ثلاثة أنهر أخر عظيمة النفع لتلك الجهات تتقاسم بينها شبه الجزيرة، جارية كلها إلى الغرب وصابة في البحر الأبيض المتوسط يوازي بعضها بعضا تقريبا، وهي المياندرس الذي يصب في خليج ملطية، والقاوصترس في خليج إيفيزوس، والهرموز في خليج أزمير إلى الشمال الغربي قليلا. وكان لكريزوس أن يفخر بأنه تفرد بالملك في آسيا الصغرى، وأنه وصل بالمملكة الليدية إلى حد من رفاهة العيش وقوة البأس لم يكن لها مثله من قبل، ولكن ذلك هو في الواقع كان السبب في خرابها.
في هذه الأثناء حصلت تغييرات وانقلابات عظيمة في الشرق وفي البلاد المجاورة للملكة الليدية المترامية الأطراف؛ فإن قيروش خرب مملكة أصطياغ صهر كريزوس، وقهر ملوك آشور، وعاهد ملك هرقانيا، وفكر في مهاجمة ليديا التي كان يظهر عليها أنها كانت متحدة مع أعدائه. وبعد أن بسط سلطانه على جميع البلاد شرقي نهر هالوس لم يكن هناك محل للتأخر عن عبور ذلك النهر، كذلك لم يكن لقوة الفرس الهائلة مدفع عن أن تمتد إلى البحر وأن تفتح شبه الجزيرة وكل ما تحويه من الشعوب، سواء في ذلك البرابرة والإغريق. ولقد أدرك كريزوس للحين خطر الموقف الذي يتهدده، فلما علم بهزيمة أصطياغ استكمل عدته للحرب بقدر ما يستطيع.
فما كاد يتعزى عن موت ابنه الذي قتل في حادثة في الصيد، ثم عزم على أن يقف تقدم الفرس بأن يحالف إغريق الشواطئ وجميع إغريق بيلوبونيز والغرب، ولهذه الغاية أرسل بادئ الأمر يستشير الوحي ليحصل على تأييد الآلهة والاعتقاد العام. وذهبت وفوده فعلا إلى دلفوس ودودون، وإلى أباس في فوكيد، وإلى غار طروفو نيوس، ومعبد أنفياراوس، ومعبد البرنشيد على مقربة من ملطية، بل إلى معبد المشتري آمون نفسه، وكان كريزوس يريد أن يضع لهم بادئ الأمر أسئلة يختبر بها صدقهم ثم يستفتيهم بعد ذلك بصورة منظمة في المسألة الكبرى؛ مسألة الحرب مع الفرس التي كانت تقلق باله، فوجد أن هاتفي دلفوس وأنفياراوس أكثر إخلاصا ، فحمل إليهما الهدايا الباهرة التي يمكن قراءة وصفها التفصيلي في هيرودوت الذي رأى بعض هذه النفائس الغالية في المحاريب.
अज्ञात पृष्ठ